ومن خطبة له (عليه السلام): [ يذكر فيها أصناف الناس]
«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ
عَنُودٍ وَزَمَنٍ كَنُودٍ يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً وَيَزْدَادُ
الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً لا نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَلَا نَسْأَلُ عَمَّا
جَهِلْنَا وَلَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا وَالنَّاسُ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ مَنْ لا يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَكَلَالَةُ حَدِّهِ وَنَضِيضُ وَفْرِهِ وَمِنْهُمْ الْمُصْلِتُ
لِسَيْفِهِ وَالْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ وَالْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ قَدْ
أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَأَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ
يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا
لِنَفْسِكَ ثَمَناً وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ
الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَلَا يَطْلُبُ الْآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا
قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ
وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى
الْمَعْصِيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ
نَفْسِهِ وَانْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ فَتَحَلَّى
بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ
ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَلَا مَغْدًى وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ
الْمَرْجِعِ وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ
نَادٍّ وَخَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ وَدَاعٍ مُخْلِصٍ وَثَكْلَانَ
مُوجَعٍ قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ وَشَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ فَهُمْ فِي
بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَقُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ قَدْ وَعَظُوا
حَتَّى مَلُّوا وَقُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَقُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا فَلْتَكُنِ
الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ وَقُرَاضَةِ
الْجَلَمِ وَاتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ
بَعْدَكُمْ وَارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ
بِهَا مِنْكُمْ».
(شرح ابن ابي الحديد مج 1 ص 172 ط 1).
* * *
ضبط الألفاظ اللغوية:
«عنود»: أي جائر، «كنود»: شديد، «العتوّ»: التكبّر والتجاوز
عن الحدّ، «القارعة»: الداهية، «مهانة النفس»: ذلّها، و«كلّ السيف»: إذا لم يقطع،
«ونضيض وفره» أي قلّة ماله، و«المُصلت» من أصلت سيفه: إذا جرّده من غمده، «والمجلب»
من أجلب عليهم أي أعال عليهم، «والرجل» جمع رجال. «وأشرط نفسه» أعدّها للفساد في
الأرض و«حطام» الدنيا متاعها. و«الانتهاز» الاغتنام. و«المقنب» ما بين الثلاثين
والأربعين من الخيل. و«يفرعه» يعلوه. و«طامن ظهره» حناه وخفضه. و«شمّر» ثوبه قصره
ورفعه. و«زخرف» نفسه زيّنها. و«ضئولة» النفس حقارتها. و«المراح» مأوى الماشية
بالليل. و«الشريد» النافر. و«الناد» المنفرد. و«المقموع» المغلوب. و«المكعوم» من
شُدّ فاه. و«الضامرة» الساكنة. و«القرظ» ورق السلم يُدبغ به، و«الجلم» المقص يجزّ
به أوبار الابل، وقراضته ما يقع من قرضه وقطعه.
* * *
الشرح:
اعلم أنّ الزمان لما كان من الأسباب المعدّة لحصول ما يحصل
في عالم الكون والفساد من الشرور والخيرات، صحّ بذلك توصيف بعض الأزمنة بالخير،
فيقال: زمان خير وزمان عدل، لكثرة ما يكون فيه بشهادة الاستقرار من الخير وانتظام
حال الخلق ومواظبتهم على القوانين الشرعيّة والسنن النبويّة، وتوصيف بعضها بالشرّ،
فيقال: زمان جائر وزمان صعب شديد، لكثرة ما يقع فيه من الشرور والمفاسد، وعدم
انتظام أمر الخلق فيه من حيث المعاش أو المعاد.
[عصر علي (عليه السلام)]:
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن قوله صلوات الله عليه: «أيّها الناس
إنّا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن كنود» ذمّ لزمانه صلوات الله عليه بالجور والعدوان
والشدّة والكفران، من حيث غلبة الضلال ودولة الجهّال، واضمحلال الحقّ واستيلاء
الباطل، ورجوع أغلب الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أعقابهم القهقرى،
وارتدادهم عن الإمام الحقّ، واقتدائهم بالإمام الباطل، وعدم تمكّنه صلوات الله عليه
من إقامة المعروف وإزاحة المنكر، ومن ذلك نشأت الشرور والمفاسد التي عدّدها، وهي
أمور:
الأول: [انقلاب الموازين الخلقية] أنّه «يُعدّ فيه المحسن
مسيئاً» وذلك لغلبة الإساءة من حيث كثرة المسيئين وقلّة الاحسان لقلّة المحسنين،
فيعدّ المُسيءُ إحسان المحسن إساءة، كما أنّه يعدّ إساءة نفسه إحساناً، لكون السنّة
في نظره بدعة والبدعة سنّة، أو أنّه يحمل إحسان المحسن على الإساءة كحمله عبادته
على الرياء والسمعة، وإنفاقه على الخوف أو الرغبة في المجازاة، ونحو ذلك من الأمور
الناشئة من سوء الظنّ من أجل تنـزيله حال الغير منـزلة نفسه.
والثاني: [ازدياد الظلم] أنّه «يزداد الظالم فيه عتوّاً»
لقيام المقتضي لظلمه وعدم رادع له عن ذلك، فيزداد فيه شيئاً فشيئاً وحيناً فحيناً.
بيان ذلك: أنّ المقتضي لظلم الظالم هو نفسه الأمّارة بالسوء،
فلو كانت في زمان العدل تكون مقهورة تحت حكم الحاكم العادل، غير متمكّنة من القيام
والاقدام على الظلم والجور، ولما لم يتمكّن صلوات الله عليه في زمانه من قمع الباطل
حقّ التمكّن، لا جرم ازداد الظالم فيه على ظلمه وبلغ الغاية في استكباره وعتوّه
باقتضاء دواعي نفسه.
والثالث: [عدم الانتفاع بالعلم] أنّه «لا ننتفع بما علمنا»
والاتيان بصيغة المتكلم من قبيل «إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة» والمقصود به توبيخ
العالمين لتقصيرهم عن القيام بوظائف العلم، إذ الانتفاع العلم إنّما يكون إذا وافقه
العمل، لأنّ بالعلم والعمل كالروح والجسد يتصاحبان ويتكاملان معاً، وكلّ مرتبة من
العلم تقتضي عملاً معيّناً بحسبه، وكلّ عمل يُتهيّأ به لضرب من العلم.
وإلى ذلك أشار في رواية الكافي عن إسماعيل بن جابر، عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم،
والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه.(1)
فإن المراد بهتفه للعمل هو اقتضاء العمل واستدعاؤه له، ومن
ارتحاله عدم الانتفاع به أو زواله بالمرّة.
وفيه عن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: جاء رجل الى
علي بن الحسين (عليه السلام) فسأله عن مسائل فأجاب، ثمّ عاد ليسأل عن مثلها، فقال
علي بن الحسين (عليه السلام): مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا عِلم ما لا تعلمون ولمّا
تعملوا بما علمتم، فإنّ العلم إذا لم يُعمل به لم يزدد صاحبه إلاّ كفراً، ولم يزدد
من الله إلاّ بُعداً.(2)
والرابع: [عدم التعلم] أنّه «لا نسأل عمّا جهلنا» وهو توبيخ
للجاهلين المقصّرين في طلب العلم وسؤال العلماء لعدم معرفتهم فضل العلم وعدم رغبتهم
في العمل، ولذلك قال الإمام الصادق(عليه السلام) لحمران بن أعين في شيء سأله: إنّما
هلك الناس لأنّهم لا يسألون.(3)
وفي الكافي أيضاً عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن
يونس، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله): أُفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه.(4)
وعن الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد، رفعه عن أبي
حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه
ولو بسفك المُهج وخوض اللجج، إنّ الله تعالى أوحى إلى دانيال: إنّ أمقت عبيديّ إلي
الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وإنّ أحبّ عبيدي إليَّ
التقيّ الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحُلماء، القابل عن
الحكماء.(5)
والخامس: [الأمن من مكر الله] أنّه «لا نتخوّف قارعة»،
وداهية «حتّى تحلّ بنا» وهو توبيخ للغافلين والمشغولين بلذائذ الدنيا الحاضرة،
الغير الملتفتين إلى البليّات والدواهي النازلة.
[أصناف الناس]:
ثمّ إنّه صلوات الله عليه بعد شكايته من زمانه قسّم أهل
الزمان إلى أقسام خمسة، ووجه القسمة أنّ الناس إمّا مريدون للآخرة، وهم الذين
أفردهم بالذكر في مقابل الأقسام الأربعة، وأشار إليهم بقوله: «وبقي رجال غضّ
أبصارهم» (الخ). وإمّا مريدون للدنيا، وهؤلاء إمّا قادرون عليها بالسلطنة
والاستيلاء، وإمّا عاجزون عنها، وهؤلاء إمّا غير محتالين للدنيا أو محتالون لها،
والمحتالون إمّا مقصودهم من الاحتيال هو خصوص ملك الدنيا ومالها، أو الأعمّ من ذلك،
فهذه أقسام خمسة، أربعة منهم أهل الدنيا وواحد أهل الآخرة.
وأشار إلى الأولين بقوله: «فالناس على أربعة أصناف» الأوّل
«منهم» العاجز عن الدنيا غير المحتال لها، وهم «من لا يمنعه» من العلوّ و«الفساد في
الأرض إلاّ مهانة نفسه» وحقارتها و«كلالة حدّه» أي حدّ سيفه ووقوعه عن القطع وعدم
الحقيقة للمنظور اليه و«نضيض وفره» أي قلّة ماله. وهذه كلّها إشارة الى عدم تمكّن
هذا الرجل من الوصول إلى مطلوبه، وعدم قدرته على تحصيل مقصوده لانقطاع الأسباب دونه
مضافاً إلى ضعف نفسه.
والثاني «منهم» القادر على الدنيا بالسلطنة والاستيلاء وهو
«المُصلت بسيفه» الشاهر له «والمعلن بشرّه، والمجلب بخيله ورجله» وهو كناية عن جمعه
أسباب الظلم والغلبة والاستعلاء «قد أشرط نفسه» وأهلها للفساد في الأرض، و«أوبق
دينه لحطامٍ ينتهزه» ويغتنمه، وتشبيه مال الدنيا بالحطام لكونه قليل النفع بالنسبة
إلى الأعمال الصالحة الباقي نفعها في الآخرة، كما أنّ اليبس من النبات قليل المنفعة
بالقياس إلى ما تبقى خضرته، «أو مقنب» أي خيل «يقوده أو منبر يفرعه» ويعلوه.
وهذه الأوصاف المذكورة لهذا القسم مطابق المصداق مع خلفاء
بني أميّة وبني العباس، وأشار إلى خُسران هؤلاء في أفعالهم بقوله: «ولبئس المتجر أن
ترى الدنيا لنفسك ثمناً، وممّا لك عند الله عوضاً» كما قال تعالى: «مَنْ كانَ
يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا
لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرادَ الآْخِرَةَ وَسَعى
لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً».(6)
والثالث منهما: العاجز عن الوصول إلى الدنيا المحتال لها
بالسمعة والرياء، ويرائي بالزيّ والهيئة، وهو «من يطلب الدنيا بعمل الآخرة» لكون
همّه فيها «ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا» لعدم رغبته إليها أصلاً، والمراد بعمل
الدنيا ما يفعله المكلّف فيها، أو ما يصير بانضمام القربة والتوصّل إلى الطاعة طاعة
«قد طامن من شخصه» إظهاراً للتواضع، «وقارب من خطوه» إظهاراً للوقار، «وشمّر من
ثوبه» إظهاراً للطهارة والتنـزّه من النجاسة «وزخرف من نفسه» أي زيّنها للناس بزينة
الصُلحاء والأتقياء.
ومقصوده من ذلك كلّه أن يفتتن به الناس ويرغب إليه قلوبهم،
ويعظم قدره عندهم، ويروه أهلاً «للأمانة»، ويسكنوا إليه في أماناتهم، ويثقوا إليه
في أمورهم، فويل لهذا الرجل تحبّب إلى العباد بالتبّغض إلى الله، وتزيّن لهم بالشين
عند الله، وتحمّد إليهم بالتذمّم عند الله.
الرياء:
ندّد الإسلام بالرياء؛ لأنّ الرياء نقيصة في الدين، وعورة في
الخلق، ووصمة للرجولة، وهو إذا تفشّى بين الجماعة كان هزيمة للفضيلة، وسبّة
للقوميّة، ومحنة للإنسانيّة.
ولا أحسبك إذ تعرض للحديث عن هذه الخصلة واجداً من الناس
إلاّ نكيراً لها واشمئزازاً من التخلّق بها، حتّى ممّن غلبت على نفوسهم، والتاثت
بها أخلاقهم، يتنصّلون منها سراعاً، ويفرّون منها خفافاً، ممّا يدلّك على مباينتها
للفطرة، ونبوّها عن الشعور بالكرامة، والاحساس بالغيرة.
والرياء لا يكون في القول وحده، ولا في العبادة فحسب، وإنّما
يكون في القول والفعل، وفي العبادة وغيرها ممّا يجري بين الناس في شؤونهم.
وهو على تنوّعه غشّ يُطلى بلون الاخلاص، ونقص في النـزاهة
يسمّى كذباً باسم الكمال، ويُساق باطلاً في لفائف الحبّ والمروءة، وليس ذلك كلّه
إلاّ النفاق وإن تعددت الأشكال واختلفت المناحي، أو هو الكذب والخداع، وربّك لا
يحبّ الكذب من عباده، ولا يرضى لهم الخداع في قول ولا عمل، وإنّما يدعوهم إلى
النصح، والنصح هو الإخلاص في أجلى صوره، وينهاهم عن الرياء، والرياء هو الغشّ في
أبشع أشكاله.
وقد تنوّعت أساليب القرآن في التشنيع على المرائي والحطّ من
قيمته، ليربأ الناس بأنفسهم عن هذه المخزاة الشائنة، وتكون لهم العظة الزاجرة فيما
يقصّه علينا.
أرأيت إلى قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالآْخِرَةَ ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ».(7) فهذا أصدق تصوير للمرائي يتذبذب في عمله ويتابع
أغراضه، لا يصدر عن عقيدة، ولا يورد عن يقين، فإن ظنّ مبتغاه في الطاعة فهو مطيع،
وإن خاله في الغواية فهو غويّ.
وانظر إلى قوله تعالى يعيب على المنافقين تهاونهم في الصلاة،
ثمّ يجمع أوصافهم الذميمة في وصف واحد هو الرياء،: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ * وَ
يَمْنَعُونَ الْماعُونَ».(8)
وإليك تمثيل القرآن للمرائي بحجر صلب عليه شيء من التراب
قليل، فإذا أصابه المطر زال عنه التراب وبقي الحجر على جموده، لا ينبت فيه زرع، ولا
ينبع منه ماء، وهيهات أن يكون فيه نفع بعد ذلك إلاّ أن يُتّخذ موطئاً للأقدام أو
دريئة من القذر. يقول سبحانه وتعالى في ذلك: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ
النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ
عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ»(9) أي
لا ينتفع المراؤن بعملهم وإن جاز صنيعهم على الناس وراجت فيهم المدائح. على أنّ
القرآن في عشرات من مواضعه يندّد بالنفاق وأهله، والنفاق والرياء من قبيل واحد،
ويؤكّد لك هذا قول النبي (صلى الله عليه وآله): «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب،
وإذا وعد أخلف، واذا أوتُمن خان».(10)
فالكذب نفاق، والرياء كذب وتمويه وتضليل مفضوح، وليس من
المبالغة قوله (عليه السلام) في النهي عن الغشّ في القول أو العمل: «من غشّنا فليس
منّا»(11) فهذه براءة من الغاشّ، وإخراج له من عداد المسلمين.
وليس كذلك من المبالغة قوله:«الدين النصيحة»(12) وما النصيحة
التي عناها الرسول الأعظم إلاّ الإخلاص في العمل والرأي.
وما كان الرياء أو النفاق إن شئت بغيضاً إلى النفوس الكريمة
إلى هذا الحدّ، إلاّ لأنّه يبرز الناس في غير صورهم الحقيقيّة، ويشكّك بعضهم في
بعض، فتضيع الثقة التي هي رباط اجتماعيّ تتوفّر به القوى على إنهاض الشؤون، والحصول
على السعادة في الحياة، وإذا عصف الرياء بالثقة وذهب بالتضامن فتلك الفتنة في
الدين، والمذلّة في الحياة، والانحدار عن الرقيّ الذي ينشده الإسلام في تعاليمه إلى
مساقط الفوضى التي أنقذنا الله منها بشرائعه ورسله.
والناقصون في الكرامة يتنافسون في هذا كلّه حين يبتغون
الكمال من غير طريقه ويرغبون في العزّة اغتصاباً، فهم يصطنعون الرياء ويتّشحون
بالملق في أقوالهم، ليستدرجوا الناس إلى مدحهم، ويبتزّوا منهم الثناء عليهم، أو
يحصلوا على الثناء بسبب مشكور، وذلك شهوة النفوس الوضيعة، ومدى الهمّة الفاترة،
وظاهرة الخلق الهزيل، وبعض هذا ينأى بصاحبه عن جلال الإنسانيّة وشرف المروءة،
وأولئك هم القذى في العين والشجى في الحلق، وهم المرض الفتّاك بجسم الأمّة،
يُقعدونها عن الرقيّ، ويصدّونها عن السير.
وليت لنا من يقضي على هذه النـزعة بين الآخذين بها، ويكشف عن
قُبحها لمن يفرحون بها ويشجّعون عليها، فتهدأ نفوس آلمها ما ترى من وهن الأخلاق،
وتستريح قلوب يخزها نشوء الرياء واصطناع المتملّقين وامتهان الأعزاء الكرام النفوس.
وقد ورد في ذّم أهل الرياء والنفاق ولبس الصوف والثياب
المرقوعة لغير وجه الله أخبار كثيرة نستعرضها في هذا الفصل، ونذكر بعض ما ورد في
الرياء من الآيات والروايات، ونشير إلى أقسامه، وإلى الدواء النافع له، فالكلام في
مقامات أربعة.
المقام الأوّل: في تحقيق معنى الرياء والسمعة
فنقول: إنّ الرياء هو ترك الاخلاص بملاحظة غير الله فيه،
وأصله من الرؤية، كأنّه لا يعمل إلاّ إذا رأى الناس ورأوه، والسُّمعة ـ بالضمّ ـ
كالرياء، إلاّ أنّها تتعلّق بحاسّة السمع، والرياء بحاسّة البصر.
وعن الفارابي في ديوان الأدب: يقال «فعل ذلك رياء وسمعة» إذا
فعل ذلك ليراه الناس ويسمعوا به. وقال الغزالي في إحياء العلوم: الرياء مشتقّ من
الرؤية، والسمعة مشتقّة من السماع، وإنّما الرياء أصله طلب المنـزلة في قلوب الناس
باراءتهم خصال الخير، إلاّ أنّ الجاه والمنـزلة تُطلب في القلب بأعمال سوى الله،
واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنـزلة في القلوب بالعبادات وإظهارها، فحدّ
الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائي هو العابد، والمرائى هو الناس المطلوب
رؤيتهم بطلب المنـزلة في قلوبهم، والمرائى به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها،
والرياء قصد إظهار ذلك.(13)
أقول: والأولى ما ذكرناه، لكونه شاملاً للعبادات وغيرها
فعلاً وتركاً حسبما تعرفه في الأقسام الآتية، وما ذكره مختصّ بفعل العبادات فقط،
فلا يعمّ.
الثاني: في ذكر بعض ما ورد فيه من الآيات والأخبار
قال الله سبحانه: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ
عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ * وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ
».(14)
وقوله سبحانه:« يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلاَّ قَلِيلاً»(15) ومنه قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً»(16) ومنها
قوله تعالى: «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً
وَلا شُكُوراً».(17)
ومن الأخبار النبويّة قوله (صلى الله عليه وآله) وقد سأله
رجل: يا رسول الله فيم النجاة؟ فقال: أن لا تعمل بطاعة الله وتريد بها الناس.(18)
وفي الحديث: إنّ الله تعالى يقول للملائكة: إنّ هذا العمل لم
يُرد صاحبه به وجهي، فاجعلوه في سجّين.(19)
وقال (صلى الله عليه وآله): إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك
الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء؛ يقول الله تعالى إذا
جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤنهم في الدنيا فاطلبوا جزاءكم
منهم.(20)
وفي حديث شدّاد بن أوس: رأيت النبي (صلى الله عليه وآله)
يبكي، فقلت: يا رسول الله ما يُبكيك؟ فقال: إنّي تخوّفت على أمتّي الشرك، أما إنّهم
لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً، ولكنّهم يُراؤن بأعمالهم.(21)
وقال (صلى الله عليه وآله): إنّ النار وأهلها يعجّون من أهل
الرياء، فقيل: يا رسول الله كيف تعجّ النار؟ قال: من حرّ النار التي يعذَّبون
بها.(22)
وقال أيضاً: يُنادى المرائي يوم القيامة بأربعة أسماء: يا
كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، ظلّ سعيُك، وبطل عملُك، ولا خلاق لك، التمس الأجر
ممّن كنت تعمل له يا مخادع.(23)
وقال أيضاً: إن أوّل ما يُدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن،
ورجل قاتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله (عز وجل) للقاري: ألم أُعلمك
ما أنزلت على رسولي؟ فيقول: بلى يا ربّ، فيقول: ما عملت فيما به علمت؟ فيقول: يا
ربّ قمت به في آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله تعالى: كذبَت، وتقول الملائكة:
كذبت، ويقول الله تعالى: إنّما أردتَ أن يُقال «فلان قاري» فقد قيل ذلك.
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى: ألم أوسّع عليك حتّى لم
أدعك تحتاج إلى أحد؟ فيقول: بلى يا ربّ، فيقول: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل
الرحم وأتصدّق، فيقول الله تعالى: كذبتَ، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى:
بل أردتَ أن يُقال «فلان جواد» وقد قيل ذلك.
ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله، فيقول الله تعالى: ما فعلت؟
فيقول: أمرتَ بالجهاد في سبيل الله فقاتلتُ حتّى قُتلت، فيقول الله تعالى: كذبت،
وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردتَ أن يُقال «فلان جريءٌ شجاع» فقد
قيل ذلك، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أولئك الثلاثة شرّ خلق الله
يُسعّر بهم نارُ جهنّم.(24)
وقال أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه: «للمرائي أربع
علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أُثني
عليه، وينقص منه إذا لم يُثنَ عليه».(25)
وقال صلوات الله عليه لكميل بن زياد: تبذّل لا تشتهر، ولا
ترفع شخصك لتُذكر بعِلم، واسكت واصمت تسلم، تسرّ الأبرار وتغيظ الفجّار.(26)
وفي الوسائل عن الكليني بإسناده عن فضل أبي العباس، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: ما يصنع أحدكم أن يُظهر حَسَناً ويسرّ سيئاً؟ أليس
يرجع إلى نفسه فيعلم أن ذلك ليس كذلك، والله (عز وجل) يقول: «بَلِ الإِْنْسانُ عَلى
نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»،(27) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.(28)
وعن السكوني، عنه (عليه السلام) أيضاً قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائُرهم وتحسن فيه علانيتهم
طمعاً في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف،
يعمّهم الله بعقاب، فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.(29)
وعن البرقي في كتاب المحاسن، عن يحيى بن بشير النبّال عمّن
ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أراد الله (عز وجل) بالقليل من عمله
أظهره الله أكثر ممّا أراده به، ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه
وسهر من ليله، أبى الله إلا يقلّله في عين من سمعه.(30)
وروى الصدوق في كتاب عقاب الأعمال بإسناده عن علي بن جعفر،
عن أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه صلوات الله عليهم قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله): يؤمر برجال إلى النار، فيقول الله (عز وجل) لمالك: قل للنار لا
تحرق لهم أقداماً فقد كانوا يمشون بها إلى المساجد، ولا تحرق لهم وجوهاً فقد كانوا
يسبغون الوضوء، ولا تحرق لهم أيدٍ فقد كانوا يرفعونها بالدعاء، ولا تحرق لهم ألسنة
فقد كانوا يُكثرون تلاوة القرآن، قال: فيقول لهم خازن النار: يا أشقياء ما كان
حالكم؟ قالوا: كنّا نعمل لغير الله (عز وجل)، فقيل لنا: خُذوا ثوابكم ممّن
عملتم.(31)
وفي الوسائل عن الكليني باسناده عن جراح المدائني، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عز وجل): «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً»(32) قال: الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله، إنّما يطلب
تزكية النفس يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربّه، ثم قال: ما من
عبد أسرّ خيراً فذهبت الأيام أبداً حتّى يُظهر الله له خيراً، وما من عبد يسرّ
شرّاً فذهبت الأيام حتّى يظهر الله له شراّ.(33)
وعن السكوني، عنه (عليه السلام) أيضاً قال: قال النبي (صلى
الله عليه وآله): إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فاذا صعد بحسناته يقول
الله (عز وجل): اجعلوها في سجّين، إنّه ليس إيّاي أراد به.(34)
وعن علي بن عقبة، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: اجعلوا أمركم هذا لله، ولا تجعلوه للناس، فإنّه ما كان لله فهو لله،
وما كان للناس فلا يصعد إلى الله.(35)
[حديث معاذ عن النبي (صلى الله عليه وآله)]:
وفي عدّة الداعي لأحمد بن فهد الحلي عن الشيخ أبي جعفر محمد
بن أحمد بن علي القمي نزيل الري في كتابه (المنبي عن زهد النبي)، عن عبد الواحد،
عمّن حدّثه، عن معاذ بن جبل قال: قلت: حدّثني بحديث سمعته من رسول الله وحفظته من
دقايق ما حدّثك به، قال: نعم، وبكى معاذ.
ثم قال: بأبي وأمي حدّثني وأنا رديفه فقال: بينا نحن نسير إذ
رفع بصره إلى السماء فقال (صلى الله عليه وآله): الحمد لله الذي يقضي في خلقه ما
أحب، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيّك يا رسول الله وسيّد المؤمنين، قال: يا معاذ! قلت:
لبّيك يا رسول الله إمام الخير ونّبي الرحمة، قال (صلى الله عليه وآله) أحدّثك
شيئاً ما حدّث نبيّ أمّته، إن حفظته نفعك عيشك، وإن سمعته ولم تحفظه انقطعت حجّتك
عند الله.
ثم قال (صلى الله عليه وآله): إنّ الله خلق سبعة أملاك قبل
أن يخلق السماوات، فجعل في كلّ سماء ملكاً قد جلّها بعظمته، وجعل على كلّ باب من
أبواب السماء بوّاباً، فيكتب الحفظة عمل العبد من حين يُصبح الى حين يُمسي، ثم ترفع
الحفظة بعمله وله نور كنور الشمس، حتّى إذا بلغ سماء الدنيا فتزكّيه وتكثّره، فيقول
الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الغيبة، فمن اغتاب لا أدع عمله
يتجاوزني إلى غيري، أمرني بذلك ربّي.
قال (صلى الله عليه وآله): ثمّ يجيء الحفظة من الغد ومعهم
عمل صالح فتمرّ به وتزكّيه وتكثّره حتّى تبلغ السماء الثانية، فيقول الملك الذي في
السماء الثانية: قِفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنّما أراد بهذا العمل عرض
الدنيا، أنا صاحب الدنيا لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري وهو يحبّ الدنيا.
قال: ثمّ تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً بصدقة وصلة، فتعجب
به الحفظة وتجاوز به الى السماء الثالثة، فيقول الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه
صاحبه وظهره، أنا ملك صاحب الكبر، فيقول: انّه عمل وتكبّر على الناس، أمرني ربّي أن
لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري.
قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهو كالكوكب الدريّ في
السماء، له دويّ بالتسبيح والصوم والحجّ، فتمرّ به الى السماء الرابعة، فيقول لهم
الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وبطنه، أنا ملك العُجب؛ إنّه كان يعجب
بنفسه، وإنّه عمل وأدخل نفسه العجب، أمرني ربّي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري.
قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد كالعروس المزفوفة إلى أهلها،
فتمرّ به إلى ملك السماء الخامسة بالجهاد والصدقة ما بين الصلاتين، وكذلك العمل له
رنين كرنين الإبل، عليه ضوء كضوء الشمس، فيقول الملك: قِفوا أنا ملك الحسد، اضربوا
بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه، إنّه كان يحسد من يتعلّم أو يعمل لله
بطاعته، وإذا رأى لأحد فضلاً في العمل والعبادة حسده ووقع فيه، فيحملوه على عاتقه
ويلعنه عمله.
قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحجّ وعُمرة
فيتجاوز به إلى السماء السادسة، فيقول الملك: قفوا، أنا صاحب الرحمة اضربوا بهذا
العمل وجه صاحبه واطمسوا عينيه، لأنّ صاحبه لم يرحم شيئاً، إذا أصاب عبداً من عباد
الله ذنباً للآخرة أو ضرّاء في الدنيا شمت به، أمرني ربّي أن لا أدع عمله يجاوزني
إلى غيري.
قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد بفقه واجتهاد وورع وله صوت
كالرعد وضوء كضوء البرق ومعه ثلاثة آلاف ملك فتمرّ بهم إلى ملك السماء السابعة،
فيقول الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الحجاب، أحجب كلّ عمل ليس
لله، إنّه أراد رفعة عند القوّاد وذكراً في المجالس، وصيتاً في المدائن، أمرني ربّي
أن لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري ما لم يكن لله خالصاً.
قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به من صلاة وزكاة
وصيام وحجّ وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر كثير تشيّعه ملائكة السماوات والملائكة السبعة
بجماعتهم، فيطئون الحجب كلّها حتّى يقوموا بين يديه سبحانه فيشهدوا له بعمل ودعاء،
فيقول سبحانه: أنتم حفظة عمل عبدي، وأنا رقيب على ما في نفسه، إنّه لم يُردني بهذا
العمل، عليه لعنتي، فتقول الملائكة: عليه لعنتك ولعنتنا.
قال: ثم بكى معاذ، قال: قلت: يا رسول الله ما أعمل وأخلص؟
قال: اقتدِ نبيّك يا معاذ في اليقين، قال: قلت: أنت رسول الله وأنا معاذ، قال: فإن
كان في عملك تقصير يا معاذ، فاقطع لسانك عن إخوانك وعن حملة القرآن، ولتكن ذنوبك
عليك لا تحملها على إخوانك، ولا تُزكِّ نفسك بتذميم إخوانك، ولا ترفع نفسك بوضع
إخوانك، ولا تُراء بعملك، ولا تداخل من الدنيا في الآخرة، ولا تفحش في مجلسك لكي
يحذروك لسوء خُلقك، ولا تناجَ مع رجل وأنت مع آخر، ولا تعظم على الناس فتنقطع عنك
خيرات الدنيا، ولا تمزّق الناس فتمزّقك كلاب أهل النار، قال الله تعالى:
«وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً»(36) أفتدري ما الناشطات؟ إنّه كلاب أهل النار تنشط اللحم
والعظم. قلت: ومن يُطيق هذه الخصال؟ قال: يا معاذ أما إنّه يسيرٌ على مَن يسّر الله
تعالى عليه، قال: وما رأيت معاذاً يُكثر تلاوة القرآن كما يُكثر تلاوة هذا
الحديث.(37)
الثالث: في أقسام الرياء والوجوه المتصوّرة فيه
وهي كثيرة إلاّ أنّها منشعبة عن قسمين: أحدهما الرياء المحض،
والثاني الرياء المشوب.
أمّا الريّاء المحض: فهو أن لا يكون مراده بالعبادة إلاّ
الدنيا ورؤية الناس، كالذي يصلّي بين أظهر الناس، ولو كان منفرداً لكان لا يصلّي،
بل ربّما يصلّي من غير طهارة مع الناس، فهذا يجب أن يترك، لأنّه معصية لا طاعة فيه
أصلاً.
وأمّا الرياء المشوب فهو يَتصوّر على وجوه:
أحدها: أن يعقد على الاخلاص قلبه ثم يطرء الرياء ودواعيه،
مثل أن يفتتح الصلاة بالاقبال، فيدخل عليه داخل أو ينظر إليه ناظر، فيقول الشيطان:
ردّ صلاتك حسناً حتى ينظر إليك هذا الناظر بعين الوقار، فتخشع جوارحه ويحسن صلاته.
وذلك مثل ما روي أنّ رجلاً لا يقدر على الاخلاص في العمل،
فاحتال وقال: إنّ في ناحية البلد مسجداً مهجوراً لا يدخله أحد فأمضي إليه ليلاً
وأعبد الله فيه، فمضى إليه في ليلة ظلماء وكانت ذات رعد وبرق ومطر فشرع في العبادة،
فبينما هو في الصلاة إذ دخل عليه داخل فأحسّ به فدخله السرور برؤية ذلك الداخل له
وهو مشتغل بالعبادة في الليلة المظلمة، فأخذ في الجدّ والاجتهاد في عبادته إلى أن
جاء النهار، فنظر إلى ذلك الداخل فإذا هو كلب أسود قد دخل المسجد ممّا أصابه من
المطر، فندم الرجل على ما فعل وقال: يا نفس إنّي فررت من أن أشرك بعبادة ربّي أحداً
فوقعت أن أُشرك في عبادته كلياً وا أسفاً وأويلاً على هذا.
الثاني: أن يأتيه الشيطان من معرض الخير ويقول له: اعمل هذا
العمل ليقتدي بك الناس، فيحصل لك أجر مَن عمل به، وهذه المكيدة أعظم من الأولى،
وينخدع بها من لاينخدع بتلك، وهو عين الرياء، لأنّه إذا رأى هذه الحالة خيراً لا
يرتضي غيره تركها، فلم يتركها وهو في الخلوة، وليس أحد أعزّ على الإنسان من نفسه.
الثالث: أن يتنبّه العاقل لهاتين ويستحي من المخالفة بين
صلاته في الخلاء والملاء، فيحسّن صلاته في الخلوة ليطابق الجلوة، وهذا أيضاً من
الرياء، لأنّه حسّن صلاته في الخلوة ليحسن في الملاء، فكان نظره في عمله إلى الناس.
الرابع: أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته فيعجز الشيطان عن
إيقاعه في الرياء بأن يقول له: اخشع لأجلهم، ولكن يقول له: تفكّر في عظمة الله
وجبروته ومن أنت واقف بين يديه، واستحِ أن ينظر الله إلى قلبك وأنت غافل عنه، فيحضر
بذلك وتجتمع جوارحه ويظن أنّ ذلك عين الاخلاص وهو عين الرياء، فإنّ خشوعه لو كان
لنظره إلى عظمة الله لِمَ لم تكن حالته في الخلوة هكذا.
الخامس: أن يكمل العبادة على الاخلاص، لكن عرض له بعد الفراغ
حبّ إظهارها لتحصيل بعض الأغراض، وذلك بأن يخدعه الشيطان ويقول له: إنّك قد أكملت
العبادة الخالصة وقد كنت في ديوان المخلصين، ولا يقدح فيها ما يتجدّد، وإنّما ينضّم
إلى ما حصّله بها من الخير الآجل خير عاجل فيحدث به ويظهره، وهو أيضاً مُبطل للعمل
ومفسد له وإن سبق.
قال الصادق (عليه السلام): من عمل حسنة سرّاً كُتبت له
سرّاً، فإذا أقرّ بها مُحيت وكُتبت جهراً، فإذا أقرّ بها ثانياً مُحيت وكتبت رياء،
وفضل عمل السرّ على عمل الجهر سبعون ضعفاً، نعم لو تعلّق بإذاعته غرض صحيح ـ كما لو
أراد ترغيب الغير فيه إذا لم يمكن الترغيب بدونه ـ لم يكن به بأس.
السادس: أن يترك العمل خوفاً من الرياء، وهذا أيضاً من خدايع
إبليس اللّعين، لأنّ غرضه الأقصى ترك العمل، فإذا لم تجب إليه واشتغلت به فيدعوك
إلى الرياء وغيره، فإذا تركته فقد حصّلت غرضه.
قال ابن فهد في عدّة الداعي: ومثال ذلك من سلّم إليه مولاه
حنطة فيها قليل من المباين إمّا شعير أو مدر، وقال: خلّصها من التراب مثلاً ونقّها
منه تنقية جيّدة بالغة، فيترك أصل العمل ويقول: أخاف إن اشتغلت به ألاّ يخلص خلاصاً
صافياً، ويترك العمل من أصله.
السابع: أن يترك العمل لا لذلك بل خوفاً على الناس أن يقولوا
إنّه مرائي فيعصون الله تعالى به، وهذا أيضاً كسابقه رياء خفيّ؛ لأنّ ترك العمل
خوفاً من أن يُقال له «إنّه مرائي» عين الرياء، ولولا حبّه لمحمدتهم وخوفه من
مذمّتهم فما له ولقولهم إنّه مُراءٍ أو قولهم: إنّه مخلص؟ وأيّ فرق بين ترك العمل
خوفاً من قولهم: إنّه مراء وبين أن يحسن العمل خوفاً من قولهم: إنه مقصّر غافل؟ مع
ما في ذلك من سوء الظنّ بالمسلمين، ومن إطاعة الشيطان في ترك العمل.
الثامن: أن يكون ترك العمل إشفاقاً على المسلمين، بأن يقول
له إبليس اللعين: اترك العمل إشفاقاً على المؤمنين من وقوعهم في الاثم بظنّ السوء،
وتركك العمل إشفاقاً عليهم يقوم مقام العمل ويحصل لك بذلك الثواب؛ لأنّ نظر المصلحة
للمسلمين حسنة، فيعادل الثواب الحاصل من العمل، بل هو أفضل لأنّه متعدٍّ إلى الغير،
وهذا الخيال من غوائل النفس الأمّارة المايلة إلى الكسالة والبطالة، ومكيدة عظيمة
من الشيطان لمّا لم يجد إليك مسلكاً قَصَدك من هذا الطريق وزيّن لك هذا التنميق.
قال ابن فهد: ووجه فساده يظهر من وجوه:
أولاً: أنّه عجّل لك الوقوع في الاثم المتيقّن، فإنّك ظننت
أن يظنّوا بك أنّك مُراءٍ، وهذا ظنّ سوء، وعلى تقدير وقوعه منهم يلحقهم به إثم،
وظنّك هذا بهم أيضاً ظنّ سوء يلحقك به الاثم إذا لم يكن مطابقاً لما ظننت بهم وتركت
العمل من أجله، فعدلت من ظنّ موهوم إلى إثم معلوم، وحذراً من لزوم إثم لغيرك فأوقيت
فيه نفسك.
ثانياً: أنّك إذن وافقت إرادة إبليس بترك العمل الذي هو
مراده، وترك العمل والبطالة موجب لاجتراء الشيطان عليك وتمكنّه منك، لأنّ ذكره
تعالى والتولّي(38) في خدمته يقرّبك منه، وبقدر ما تقرب منه تبعد من الشيطان، وإنّ
فيه موافقة للنفس الأمّارة بميلها إلى الكسالة والبطالة، وهما ينبوع آفات كثيرة إن
كان لك بصيرة.
ثالثاً: ممّا يدلّك أنّ هذا من غوائل النفس وميلها إلى
البطالة، أنّك لمّا نظرت إلى فوات الثواب الحاصل لك من البطالة وإلى فوات وقوعهم في
الاثم، آثرتهم على نفسك بتخفيف ما يلزمهم من الاثم بسوء الظنّ وحرمت نفسك الثواب،
وتفكّر في نفسك وتمثّل في قلبك بعين الانصاف لو حصل بينك وبينهم في شيء من حظوظ
العاجلة منازعة، إمّا في دار أو مال، أو ظهر لك نوع معيشة تظنّ فيها فايدة وحصول،
أكنت تؤثرهم على نفسك وتتركه لهم؟ كلا والله، بل كنت تناقشهم مناقشة المشاقق،
وتستأثر عليهم فيما يظهر لك من أنواع المعيشة إن أمكنتك فرصة الاستيثار، وتقلي
الحبيب وتُقصي القريب.(39)
التاسع: أن يقول لك الشيطان: إذا كنت لا تترك العمل لذلك
فأخْفِ العمل فإنّ الله سيُظهره عليك، فإمّا إذا أظهرته فيمكن أن تقع في الرياء،
وهذا التلبّس عين الرياء لأنّ إخفاءك له كي يظهر بين الناس هو بعينه العمل لأجل
الناس، وما عليك إذا كان مرضيّاً عند الله تعالى أن يظهر للناس أو يخفى.
الرابع: في علاج الرّياء
وهو على ما ذكره الغزاليّ في إحياء العلوم: أنّ الإنسان يقصد
الشيء ويرغب فيه لظنّه أنّه خير له ونافع ولذيذ أمّا في الحال وأما في المآل، فإن
علم أنّه لذيذ في الحال ولكنّه ضار في المآل سهل عليه قمع الرغبة عنه، كمن يعلم أنّ
العسل لذيذ ولكن إذا بان له أنّ فيه سمّاً أعرض عنه، فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن
يعلم ما فيه من المضرّة.
ومهما عرف العبد مضرّة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه، وما
يحرم عنه في الحال من التوفيق، وفي الآخرة من المنـزلة عند الله، وما يتعرّض له من
العقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر، حيث يُنادى على رؤوس الخلائق: يا فاجر
يا غادر يا مرائي، أما استحييتَ إذ اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا، وراقبتَ قلوب
العباد، واستهزأتَ بطاعة الله، وتحببّتَ إلى العباد بالتبغّض إلى الله، وتزينّت لهم
بالشين عند الله، وتقرّبت لهم بالبعد من الله، وتحمّدت اليهم بالتّذمّم عند الله،
وطلبت رضاهم بالتعرّض لسخط الله، أما كان أحد أهون عليك من الله؟
فمهما تفكّر العبد في هذا الخزي، وقابل ما يحصل له من العباد
والتزيّن لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة، وبما يحبط عليه من ثواب الأعمال، مع
أنّ العمل الواحد به ربّما كان يترجّح ميزان حسناته لو خلص، فإذا فسد بالرياء حُوّل
إلى كفّة السيّئات فترجح به ويهوى إلى النار، فلو لم يكن في الرياء إلاّ إحباط
عبادة واحدة لكان ذلك كافياً في معرفة ضرره، وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة، فقد
كان ينال بهذه الحسنة علوّ الرتبة عند الله في زُمرة النبيّين والصدّيقين، وقد حُطّ
عنهم بسبب الرّياء ورُدّ إلى صف النعال من مراتب الأولياء، هذا مع ما يتعرّض له في
الدنيا من تشتّت الهمّ بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإنّ رضا الناس غاية لا تُدرك، فكّل
ما يرضى به فريق يسخط به فريق، ورضا بعضهم في سخط بعضهم، ومن طلب رضاهم في سخط
الله، سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه.
ثم أيّ غرض له في مدحهم وإيثار ذمّ الله لأجل حمدهم، ولا
يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً، ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة.
وأمّا الطمع فيما في أيديهم، فبأن يعلم أنّ الله هو المسخّر
للقلوب بالمنع والاعطاء، ولا رزّاق إلاّ الله، ومن طمع في الخلق لم يخلُ من الذلّ
والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخلُ عن المنّة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله
برجاء كاذب ووهمٍ فاسد قد يصيب وقد يخطي، وإذا أصاب فلا تفي لذّته بألم منّته
ومذّلته.
وأمّا ذمّهم فلم يحذر منه ولا يزيده ذمّهم شيئاً، فإذا قرّر
في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه، فإنّ العاقل لا
يرغب فيما يكثر ضرره ويقلّ نفعه، ويكفيه أنّ الناس لو علموا ما في بطنه من قصد
الرياء وإظهار الاخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سرّه حتى يبغّضه إلى الناس ويعرّفهم
أنّه مُراءٍ وممقوت عند الله، ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحبّبه إليهم
وسخّرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه.
كما روي أنّ رجلاً من بني إسرائيل قال: لأعبدنّ الله تعالى
عبادة أُذكر بها، فمكث مدّة مبالغاً في الطاعات، وجعل لا يمرّ بملأ من الناس إلّا
قالوا: مُتصنّع مُراءٍ، فأقبل على نفسه وقال: أتعبت نفسك وضيّعت عمرك في لا شيء،
فينبغي أن تعمل لله سبحانه، فغيّر نيّته وأخلص عمله لله تعالى، فجعل لا يمرّ بملأ
من الناس إلاّ قالوا: ورع تقيّ.
مع أنّ مدح الناس لا ينفعه وهو عند الله مذموم ومن أهل
النار، وذمّ الناس لا يضرّه وهو عند الله محمود ومن أهل الجنّة، فمن أحضر في قلبه
الآخرة ونعيمها المؤبّد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلّق بالخلق أيّام
الحياة مع ما فيها من الكدورات والمنغّصات، وكيف يرضى العاقل أن يجعل ثمن عمله مدح
الناس له وما في أيديهم من حطام الدنيا وزخارفها، مع أنّها على تقدير النيل لها ثمن
بخس ورضا الله سبحانه هو الجزاء الأوفى؟ فلو قيل لك: إنّ ههنا رجلاً معه جوهر نفيس
يساوي مائة ألف دينار وهو محتاج إلى ثمنه، بل إلى بيعه عاجلاً وإلى أضعافه ثمناً،
فحضر من يشتري منه متاعه بأضعاف ثمنه مع حاجته إلى الأضعاف، فأبى بيعه بذلك وباعه
بفلس واحد، ألست تحكم بسفاهة ذلك البايع ونقصان عقله؟
فحال المرائي بعينه مثل حال هذا البايع، فإنّ ما يناله العبد
بعمله من حطام الدنيا ومدح الناس له بالاضافة إلى ثواب الآخرة ومرضاة الله سبحانه
أقل من فلس في جنب ألف ألف دينار، بل أقلّ من نسبته إلى الدنيا وما فيها؛ هذا كلّه
هو الدواء العلميّ.
[الدواء العملي للرياء]:
وأمّا الدواء العمليّ: فهو أن يعوّد نفسه إخفاء العبادات
وإغلاق الأبواب دونها كما يغلق الأبواب دون الفواحش، حتّى يقنع قلبه بعلم الله
واطّلاعه على عبادته، ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غيره سبحانه.
ولذلك كان عيسى يقول للحوارييّن: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه
ولحيته ويمسح شفتيه بالزيت لئلاّ يرى الناس أنّه صائم، وإذا أعطى بيمينه فليخفِ عن
شماله، وإذا صلّى فليُرخِ ستر بابه فإنّ الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.(40)
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ في ظلّ العرش
ثلاثة يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: رجلان تحابّا في الله وافترقا عليه،
ورجل تصدق بيمينه صدقة فأخفاها عن شماله، ورجل دعته امرأة ذات جمال فقال: إنّي أخاف
الله ربّ العالمين.(41)
فلا دواء للرّياء مثل الاخفاء، وذلك يشقّ في بداية المجاهدة،
وإذا صبر عليه مدّة بالتكلّف سقط عنه ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما
يمدّ به عباده من حسن التوفيق والتأييد والتسديد، ولكن الله «لا يُغَيِّرُ ما
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ»(42) فمن العبد المجاهدة ومن الله
الهداية، ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب، والله لا يضيع أجر المحسنين،
«وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً».
* * *
|