ومن خطبة له (عليه السلام): [ يرغِّب فيها بالجهاد ويذّم أصحابه على تخاذلهم عنه ويذكر فيها أفعال جيش معاوية]

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ وَمُنِعَ النَّصَفَ أَلَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَنَهَاراً وَسِرّاً وَإِعْلَاناً وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَالِاسْتِرْحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَلَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلَا تُغِيرُونَ وَتُغْزَوْنَ وَلَا تَغْزُونَ وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَاللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعْقَبَتْ سَدَماً قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ وَلَكِنْ لا رَأْيَ لِمَنْ لا يُطَاعُ».

«شرح ابن أبي الحديد مج1، ص140، ط الاولى بمصر».

* * *

ضبط الألفاظ اللغوية:

«الجُنّة» ما استتر به من سلاح أو غيره، «وديّث» أي ذلّل، ومنه الديّوث الذي لا غيرة له، «والصَّغار»: الذلّ والضيم. «القماءة» الحقارة والذل، و«الإسهاب» ذهاب العقل، أي ذهب عقله من أذى يلحقه. «وأُديل الحق منه» أي غلبه عليه عدوه. «وسيم الخسف» أولاه ذُلاًّ وكلّفه المشقّة. «والنصف» الإنصاف. «والعُقر» في الشيء أصله ووسطه. «والتواكل» أن يكل كلّ واحد منهم الأموال إلى صاحبه ويعتمد عليه. وشنّ الغارة وأشنّها فرّقها عليهم من كلّ وجه. «وأخو غامد» هو سفيان بن عوف، وغامد قبيلة من اليمن وهي من الأزد. والأنبار بلد قديم من بلاد العراق على الفرات من الجانب الشرقي. و«المسالح» الحدود التي ترتّب فيها ذوو الأسلحة مخافة عادية العدوّ. و«المعاهَدة» ذات العهد وهي الذمّيّة. و« الحجل» ـ بفتح الحاء وكسرها ـ الخلخال. «والقُلب» ـ بالضمّ ـ سوار المرأة. «والرعاث» القرط، والرعاث أيضاً ضرب من الحلي. «والاسترجاع» قول «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، وقيل ترديد الصوت بالبكاء. «والاسترحام» مناشدة الرحم، أي قول «أنشدك الله والرحم»، «والوافر» التام، أي تامّين. «والكلم» الجرح. و«الترح» ضدّ الفرح. «والغرض» الهدف. «وحمّارة القيظ» شدّة حره. «ويسبخ الحر» يسكن ويفتر. «والقرّ» ـ بالضمّ ـ البرد. و«ربّات الحجال» «النساء، و«السدم» الحزن. و«القيح» الصّديد بلا دم. «والنّغب» الجرعة. «والتهمام» الهّم. «وأنفاساً» أي جرعة بعد جرعة. و«لله أبوهم» كلمة مدح، ولعلّها استعملت هنا للتعجّب. و«المراس» مصدر مارسه أي زاوله وعالجه. و«ذرّفت على الستّين» بتشديد الراء أي زدت.

الشرح:

هذه الخطبة النيّرة خطب بها صلوات اله عليه في أواخر عمره الشريف، وذلك بعد ما انقضت وقعة صفيّن واستولى معاوية على البلاد وأكثر القتل والغارة في الأطراف، وأمر سفيان بن عوف بالمسير إلى الأنبار وقتل أهلها.

 

[وصية معاوية الارهابية]:

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في المجلد الأول من كتابه شرح النهج ص144 ط1 بمصر، نقلاً عن كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي، عن ابن الكنود قال:

حدّثني سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية فقال: إنّي باعثك في جيش كثيفٍ ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتّى تمرّ بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جُنداً فأغِر عليهم، وإلاّ فامض حتّى تُغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتّى توغل في المدائن، ثمّ اقبل إلّي، واتّقِ أن تقرب الكوفة، واعلم أنّك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنّك أغرت على الكوفة، إنّ هذه الغارات ـ ياسفيان ـ على أهل العراق تُرعب قلوبهم، وتُفرح كلّ مَن له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كلّ من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممّن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كلّ ما مررتَ به من القرى، واحرب الأموال فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.

قال: فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال: أيّها الناس انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنّه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتُكم إن شاء الله، ثمّ نزل، قال: فوالذي لا إله غيره ما مرّت ثلاثة حتى خرجت في ستّة آلاف، ثمّ لزمت شاطئ الفرات فأغذذت السير حتّى أمرّ بهيت، فبلغهم أنّي قد غشيتهم فقطعوا الفرات، فمررت بها وما بها عريب كأنها لم تحلل قطّ، فوطئتها حتّى أمرّ بصدوداء ففرّوا فلم ألق بها أحداً، فأمضي حتّى أفتتح الأنبار وقد نذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إليّ فوقف لي، فلم أقدم عليه حتّى أخذت غلماناً من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي صلوات الله عليه؟ قالوا: عدّة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنّهم قد تبدّدوا ورجعوا إلى الكوفة، ولا ندري الذي يكون فيها قد يكون مائتي رجل، فنـزلت فكتّبت أصحابي كتائب ثم أخذت أبعثهم إليهم كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم ويطاردونه في الأزقّة، فلمّا رأيت ذلك أنزلت اليهم نحواً من مائتين وأتبعتهم الخيل، فلمّا حملت عليهم الخيل وأمامهم الرجال تمشي لم يكن شيء حتّى تفرّقوا وقُتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلاً، وحملنا ما كان في الأنبار من الأموال، ثمّ انصرفت، فوالله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقرّ للعيون ولا أسرّ للنفوس منها، وبلغني أنّها أرعبت الناس، فلمّا عدت إلى معاوية حدّثته الحديث على وجهه، فقال: كنت عند ظنّي بك، لا تنـزل في بلد من بلداني إلاّ قضيتَ فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت توليته ولّيتُك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني، قال: فوالله ما لبثنا إلاّ يسيراً حتّى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هراباً من عسكر علي صلوات الله عليه.

قال إبراهيم: كان اسم عامل علي صلوات الله عليه على مسلحة الأنبار أشرس بن حسّان البكري.

 

[معركة الأنبار]:

وروى إبراهيم عن عبد الله بن قيس، عن حبيب بن عفيف قال: كنت مع أشرس بن حسان البكريّ بالأنبار على مسلحتها إذ صبّحنا سُفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها، فهالونا والله وعلمنا ـ إذ رأيناهم ـ أنّه ليس لنا طاقة بهم ولا يد، فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرّقنا، فلم يلقهم نصفُنا، وأيم الله لقد قاتلناهم فأحسنّا قتالهم حتّى كرهونا، ثمّ نزل صاحبنا وهو يتلو قوله تعالى: « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ثمّ قال لنا: من كان لا يريد لقاء الله ولا يطيب نفساً بالموت، فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم، فإنّ قتالنا إيّاهم شاغل لهم عن طلب هارب، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار، ثمّ نزل في ثلاثين رجلاً، فهممتُ بالنـزول معه ثمّ أبت نفسي، واستقدم هو وأصحابه فقاتلوا حتّى قُتلوا 4 ، وانصرفنا نحن منهزمين.

قال إبراهيم: وقدم علج من أهل الأنبار على علي صلوات الله عليه فأخبره الخبر، فصعد المنبر فخطب الناس وقال: إنّ أخاكم البكري قد أصُيب بالأنبار وهو معتزّ لا يخاف ما كان، واختار ما عند الله على الدنيا، فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم، فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا، ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلّم متكلّم، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، فلما رأى صمتهم نزل وخرج يمشي راجلاً حتّى أتى النخيلة والناس يمشون خلفه، حتّى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين ونحن نكفيك، فقال: ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم، فلم يزالوا به حتّى صرفوه إلى منـزله، فرجع وهو واجم كئيب، ودعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف، وذلك أنّه أُخبر أنّ القوم جاؤا في جمع كثيف، فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف، حتّى إذا بلغ «عانات» سرّح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني، فاتبع آثارهم حتّى دخل أداني أرض قنسرين وقد فاتوهم، فانصرف.

قال: ولبث علي صلوات الله عليه تُرى فيه الكآبة والحزن حتّى قدم عليه سعيد بن قيس، وكان تلك الأيام عليلاً, فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد ومعه ابناه حسن وحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر، ودعا سعداً مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأه على الناس، فقام سعد بحيث يستمع علي صوته ويسمع ما يردّ الناس عليه، ثمّ قرأ الخطبة هذه،(1) انتهى قول ابن أبي الحديد.

 

[فضل الجهاد]:

قوله صلوات الله عليه:

«أمّا بعد فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه».

بيّن صلوات الله عليه في هذه الفقرات النيّرة عظمة الجهاد في الإسلام ومنافعه الخاصة والعامّة للمسلمين، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) _كما في رواية الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكونيّ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)_: «للجّنة باب يُقال له باب المجاهدين يمضون إليه، فإذا هو مفتوح وهم متقلّدون بسيوفهم والجمع والملائكة ترحبّ بهم».(2)

والمراد بخواصّ الأولياء المخلصون له في المحبّة والعبادة، ومن المعلوم أنّ الجهاد في سبيل الله لوجه الله لا لغرض آخر من خواص الكاملين في العبادة والخالصين في المحبّة.

وذلك لأنّ المرء المسلم إذا فارق أهله وأولاده وسلك إلى الجهاد مع علمه بأنّ العدّو لو قهره يقتله ويتملّك أمواله ويستبيح ذريّته، ومع هذه كلّها يوطّن نفسه على الصبر والثبات امتثالاً لأمر الله وطلباً لمرضاته سبحانه، فذلك الوليّ الكامل والمؤمن الخالص في مقام الإيمان والعبوديّة، وحقيق بأن يدخل في زمرة: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»(3) وأن يستبشر ببشارة: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالإِْنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».(4)

 

[ثواب وأجر الشهيد]:

والبشرى التي بشّر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهداء منهم بقوله: «للشهيد سبع خصال من الله: أوّل قطرة منه مغفور له كلّ ذنب، والثانية: يقع رأسه في حِجر زوجته من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة: يكسى من كسوة الجنّة، والرابعة: تبتدره خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه، والخامسة: أن يرى منـزله، والسادسة: يُقال لروحه: إسرح في الجنّة حيث شئت، والسابعة: أن ينظر في وجه الله (أي رحمته) وإنّها لراحة لكلّ نبّي وشهيد».(5)

وقال (صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح له قلبي، قال: يا محمد، من غزا غزوة في سبيل الله من أمّتك وما أصابته قطرة من الدماء أو صداع إلاّ كانت له شاهدة يوم القيامة، وللجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه وإذا هو مفتوح وهم متقلّدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة ترحّب بهم، ومن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً في نفسه وفقراً في معيشته ومَحقاً في دينه، إنّ الله تعالى أعّز أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها.(6) وقال: من بلّغ رسالة غازٍ كمن أعتق رقبة وهو شريكه في ثواب غزوته،(7) وقال: خيول الغزاة خيولهم في الجنة.(8) وقال: الخير كله في السيف، وتحت ظل السيف ولا يقيم الناس إلاّ السيف، والسيوف مقاليد الجنّة والنار.(9)

وقال (صلى الله عليه وآله): تكفّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلاّ جهاد في سبيله أو تصديق كلمته بأن يدخله الجنّة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة.(10)

وقال (صلى الله عليه وآله): لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.(11)

وقال يوم بدر: قوموا إلى جنّة عرضها السماوات والأرض ـ الحديث.(12)

وفي حديث آخر، قال: إنّ أبواب الجنة تحت ظلال السيوف.(13)

وقال: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلاّ تعجّلوا ثُلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تمّ لهم أجرهم.(14)

وروى الصدوق عن الصادق (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إنّي راغب في الجهاد. قال (صلى الله عليه وآله): جاهد في سبيل الله تعالى: فإنّك إن تُقتل كنت حيّاً عند الله تُرزق، وإن متّ فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت خرجت من الذنوب كما وُلدت ـ الحديث.(15)

وقال علي صلوات الله عليه: «الجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الكافرين، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنئ الفاسقين غضب لله، ومن غضب لله تعالى فهو مؤمن حقّاً».(16)

وقال صلوات الله عليه: «جهاد الهوى ثمن الجنّة، وجهاد النفس مهر الجنّة وأفضل الجهاد، فمن جاهدها ملكها، وهي أكرم ثواب الله لمن عرفها، وجهاد النفس بالعلم عنوان العقل، وجهاد الغضب بالحلم برهان النبل».(17)

وقال صلوات الله عليه: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث سريّة فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الاكبر؟ قال: جهاد النفس.(18)

وهو قهرها وبعثها على ملازمة الطاعات ومجانبة المنهيّات، ومراقبتها على مرور الأوقات، ومحاسبتها على ما ربحته وخسرته في دار المعاملة من السعادات، وكسر قوّتها البهيميّة والسبعيّة بالرياضات وغير ذلك، ثم قال (صلى الله عليه وآله): «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه».(19)

وبالتالي قد تحصّل ممّا ذكره صلوات الله عليه منافع الجهاد ومصالحه ومفاسد تركه ومعايبه، وفيه تحريض على القيام، وترهيب عن القعود عنه، فإنّه وإن كان شاقّاً على النفس في بادئ الأمر، من حيث كون أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة، وكون بقاء النفس للنفس مطلوباً إلاّ أنّه بعد ملاحظة ما يترتّب على القيام به من المنافع والثمرات، وعلى القعود عنه من المضارّ والعيوب، يسهل عليه القيام به، ويشري نفسه ابتغاء مرضات الله، كما قال تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».(20)

يعني أنّ الشيء ربّما كان شاقّاً عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل، وبالعكس، ولأجله حَسُن شرب الدواء المرّ في الحال لتوّقع حصول الصحّة في المستقبل، وحسن تحمّل الأخطار في الأسفار بتوقّع حصول الربح.

والجهاد كذلك، لأنّ تركه وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الانفاق، ولكن فيه أنواع من المضارّ الدنيويّة والأُخرويّة، كالذلّ والفقر والحرمان من الغنيمة ومحق الدين وطمع الأعداء، حيث إنّ العدّو إذا علم ميل نظرائه إلى الدعة والسكون قصد بلادهم وحاول قتلهم، فإمّا أن يأخذهم ويستبيح دماءهم وأموالهم ويسبي ذراريهم، وإمّا إن يحتاجوا إلى قتاله من غير إعداد آلة وسلاح.

وهذا يكون كترك مداواة المريض مرضه في أوّل ظهوره بسبب مرارة الدواء، ثمّ يصير في آخر الأمر مضطرّاً إلى تحمّل أضعاف تلك النفرة والمشقة، مضافاً إلى ما يفوته من الثمرات الجليلة في الدنيا والآخرة من الأمن وسلامة الوقت والفوز بالغنيمة وحلاوة الاستيلاء على الأعداء، والدرجات التي وعدها الله تعالى بقوله:

«فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً».

على أساس هذا النداء وهذه الدعوة إلى الجهاد، كان المسلمون في تشوّق عارم إلى الشهادة، وحنين دائم إلى الجنّة، واستهانة عجيبة بالحياة الدنيا. ولقد كان الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) متمّنياً للشهادة ويقول:

«والذي نفسي بيده لولا أنّ رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عنّي ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلّفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددتُ أن أُقتل في سبيل الله ثُم أُحيا ثمّ أُقتل، ثمّ أُحيا ثمّ أُقتل، ثمّ أُحيا ثم أُقتل.(21)

 

[جهاد عمير بن الحمام]:

وفي معركة بدر قال النبي (صلى الله عليه وآله): قوموا إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام: جنّة عرضها السماوات والأض!! بخ، بخ، فقال له النبي: ما يحملك على قول بخ، بخ؟ فقال: رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنّك من أهلها، فألقى عمير ما كان معه من زاد، وتقدّم من المعركة وهو يقول:

ركضاً إلى الله بغير زاد
والصبر في الله على الجهـاد

إلاّ التُّقى وعمل المعاد
وكـلّ زاد عُرضـة النفـاد

غير التقى والبرّ والرشاد(22)

وقاتل عمير حتّى قُتل.

 

[جهاد أنس بن النضر]:

ولمّا كان يوم أحد وانكشف المسلمون، مرّ أنس بن النضر بنفر قعود، فقال لهم: ما يُقعدكم؟ قالوا: قُتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهمّ إنّي أعتذر اليك ممّا صنعه المسلمون، وأبرأ اليك ممّا صنع المشركون، ثمّ تقدّم فاستقبله سعد بن معاذ فقال له: يا سعد، الجنّة وربّ النضر، إنّي أجد ريحها من دون أحد. قال أنس بن مالك ابن أخيه: فوجدناه في نهاية المعركة قد قُتل ومثّل به المشركون، ووجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فما عرفه أحد إلاّ أخته ببنانه.(23)

 

[جهاد عمرو بن الجموح]:

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، فلمّا أراد الخروج مع النبي إلى معركة أحد منعه بنوه وقالوا له: إنّ الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال له: يا رسول الله إنّ بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، ووالله إنّي لأرجو أن أُستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنّة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لبنيه: وما عليكم أن تدعوه، لعلّ الله (عز وجل) أن يرزقه الشهادة.

فخرج عمرو في الجيش ودعا ربّه قائلاً: اللهُمّ ارزُقني الشهادة، ولا تردّني إلى أهلي خزيان، فقُتل شهيداً في أُحد.(24)

وقُبيل القتال في أحد جاء عبد الله بن جحش إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إنّ هؤلاء القوم ـ يريد المشركين ـ قد نزلوا حيث ترى، وقد سألتُ الله الشهادة، وأنا أسألك أخرى يا رسول الله: أن تلي تركتي من بعدي، فقال له: نعم. فقاتل عبد الله حتى قتل، ودُفن مع حمزة في قبر واحد. وجاءت أخته حمنة بنت جحش، وكانت في الجيش تحمل الماء وتضمّد الجراح، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا حمن احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: خالك حمزة، قالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة، ثمّ قال لها: احتسبي. قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخوك عبد الله. قالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة. ثمّ قال لها: احتسبي. قالت: من يا رسول الله؟ قال: مصعب بن عمير. قالت: واحزناه. فقال: إنّ للزوج من المرأة مكاناً ما هو لأحد، ثمّ قال لها: لِم قلت هذا؟ فقالت: يا رسول الله ذكرت يُتم بنيه فراعني.(25)

ولمّا فاء المسلمون إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) يوم أحد كان أوّلهم عودةً ثلاثة: عبّاس بن عبادة، وخارجة بن زيد، وأوس بن أرقم، فنادى عبّاس: يا معشر المسلمين الله ونبيّكم، هذا الذي أصابكم بمعصية نبيّكم، وعدكم النصر فما صبرتم، ما عذرنا عند ربّنا إن أُصيب رسول الله ومنّا عين تطرف؟ ثمّ نزع مغفره وخلع درعه ليقاتل حاسراً، وقال لخارجة: هل لك فيهما؟ قال: لا، أنا أريد الذي تريد، فقاتلوا حتّى قتلوا جميعاً.(26)

 

[جهاد حارثة]:

وكان حارثة من شباب الأنصار، عاده رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه فطلب منه أن يدعو الله له أن يرزقه الشهادة، فدعا له. فلمّا قُتل في بدر وعلمت أمّه بمقتله قالت: والله لا أبكيه حتّى أسأل رسول الله، فلمّا قدم المدينة قالت له: يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي، فإن يكن في الجنّة صبرت، وإن يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ فقال: يا أم حارثة إنّها ليست جنّة واحدة ولكنّها جنان، وحارثة في الفردوس الأعلى. فرجعت وهي تضحك وتقول: بخ، بخٍ يا حارثة، هنيئاً لك الجنّة.(27)

عن شداد بن الهادي: أنّ رجلاً من الأعراب جاء فآمن بالنبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبيّ بعض أصحابه، فكانت غزاة غنم فيها النبيّ شيئاً فقسم، وقسم له، فقال: ما هذا؟ فقال: قسمته لك. فقال: ما على هذا اتّبعتك، ولكنّي اتّبعتك على أن أُرمى إلى ههنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ بسهم فأموت فأدخل الجنّة. قال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثمّ نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي محمولاً قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أهو هو؟ قالوا: نعم: قال: صدق الله فصدقه، ثم كُفّن في جُبّة النبي، ثمّ قدّمه فصلى عليه، فكان ممّا ظهر من صلاته: اللهمّ هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقُتل شهيداً، وأنا شهيد على ذلك.(28)

* * *

لم يلجأ الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) إلى القتال إلاّ مضطرّاً، وفي حدود الدفاع عن حريّة دعوته وعن كيان المسلمين، ويبين ذلك بوضوح من استعراض أشهر معاركه مع المشركين وأهل الكتاب، فقد كانت كلّها دفاعية أو مبادرة لا تّقاء هجوم مؤكّد.

أمّا مشركو قريش فقد كانت عداوتهم واضحة طول العهد المكّيّ، ولم ينتهِ هذا العهد حتّى كانوا قد بدأوا يحكّمون السيف، فتآمروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأجمعوا على قتله حتّى لا يتمّ انتقال الدعوة إلى المدينة.

«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ»(29) وبعد أن تمّت الهجرة كانت قريش تعدّ العدّة وتتحيّن الفرص للقضاء على الإسلام والمسلمين، ومن ثمّ كانت ظالمة معتدية منذ البداية، ويشير القرآن إلى ذلك تذكرة للمسلمين.

«أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».(30)

 

[معركة بدر]:

ومعركة بدر أُولى معاركهم مع المسلمين، كان عدوانهم فيها واضحاً لعدة أسباب:

أوّلاً: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يخرج بمن معه من أصحابه لقتال، ولمّا علم أنّ قريشاً أقبلت في جيش كبير لقتاله شاور المسلمين، ولو كان خروجه من المدينة للقتال ما شاورهم.

ثانياً: أنّ قريشاً خرجت من مكّة بحجّة إنقاذ قافلة لها يقودها أبو سفيان من عدوان المسلمين، ولكنّ القافلة وصلت سالمة إلى مكّة، وبعث أبو سفيان إليهم يخبرهم بنجاة القافلة ويطلب منهم الرجوع، ولكنّ أبا جهل أصرّ على مواصلة السير قائلاً: لا والله لا نرجع حتّى نرد بدراً فنُقيم ثلاثاً، ننحر الجُزر ونطعم الطعام ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، فلا تزال العرب تهابنا أبداً. فلمّا علم أبو سفيان بقوله قال: واقوماه!! ترأّس أبو جهل فبغى، والبغي منقصة شؤم.(31)

ثالثاً: أنّ عدداً من زعماء قريش كانوا يرون عدم القتال لعدم وجود ما يبرّره، وقد عاد من الطريق الأخنس بن شريق في مائة من بني زهرة.

رابعاً: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث إليهم عمر بن الخطاب بعد وصولهم إلى بدر يقول لهم: «ارجعوا فإنّه إن يلي هذا الأمر مني غيركم أحبّ إليّ من أن أليه منكم».

فقال حكيم بن حزام أحد زعمائهم: قد عرض نصفاً فاقبلوه، والله لا تُنصرون عليه بعد ما عرض من النصف. فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم. ومن ثمّ لم يكن للمسلمين بدّ من القتال رغم أنّهم كانوا في قلّة من العدد والعدّة.(32)

وأمّا معركة أُحد فكانت هجوماً من قريش على المدينة للأخذ بثأر معركة بدر، ذوكان من رأي النبي عدم الخروج والدفاع عنها من داخلها، ولكنّ الأغلبيّة رأت الخروج للقاء العدو قبل مداهمتها، فخرجوا والتقوا بهم في أُحد بالقرب من المدينة.

وأمّا معركة بني المصطلق فسببها أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) علم أنّ الحارث بن أبي صرار جمع لحربه جمعاً كبيراً من قومه ومن قبائل العرب، وأنّهم قد تهيّئوا للمسير إلى المدينة، فبادرهم النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الخروج، فلمّا وصل إليهم بعث إليهم يعرض عليهم الإسلام فأبوا وقاتلوا.

وغزوة الأحزاب كانت حصاراً للمدينة، حاصرها المشركون في عشرة آلاف مقاتل، وانضمّ إليهم يهود بني قريظة من داخلها.

ويتّضح بغي المشركين وعدوانهم من النشيد الذي كان ينشده النبي مع المسلمين وهو يعمل معهم في حفر الخندق، وهو نشيد يفيض ثقة بالله وتوكّلاً عليه وتنـزّهاً عن البغي والعدوان:

لاهمّ(33) لولا أنت ما اهتدينا
فأنزلن سكينة علينا
إنّ الأُلى لقـد بغـوا علينـا

 

ولا تصدّقنا ولا صلّينا
وثبّت الأقدام إن لاقينا
وإن أرادوا فتنــةً أبينـا(34)

كما يبيّن إصرار المشركين على القضاء على الإسلام والمسلمين من الرسالة التي بعث بها أبو سفيان النبي (صلى الله عليه وآله) أثناء الحصار: «باسمك اللهمّ فإنّي أحلف باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا وإنّا نريد ألاّ نعود أبداً حتّى نستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علّمك هذا؟! فإن نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم أُحد».(35)

 

[صلح الحديبية]:

وفي الحديبية تجلّى حبّ النبي (صلى الله عليه وآله) للسلم ورغبته عن القتال؛ وذلك أنّه في السنة السادسة من الهجرة خرج من المدينة ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه يريد مكّة لزيارة المسجد الحرام ومعهم الهدي لهذا الغرض، وخاف المسلمون من عدوان قريش فقالوا للنبي: لو حملنا يا رسول الله السلاح معنا، فإن رأينا من القوم ريباً كنا معدّين لهم، فقال: لست أحمل السلاح، إنّما خرجت مُعتمراً.

ونزل المسلمون بالحُديبية على بعد تسعة أميال من مكّة، وجاء بديل بن ورقاء سفيراً من قريش، فبلغ النبيّ أنّها أجمعت على قتاله ومنعه من زيارة المسجد الحرام، فقال له النبي: إنّا لم نأتِ لقتال أحد، إنّا جئنا لنطوف بالبيت، فمن صدّنا عنه قاتلناه.

وبعث النبي (صلى الله عليه وآله) إلى قريش يقول لها: إنّا لم نأتِ لقتال، وإنّما جئنا زوّاراً للبيت معظّمين لحرمته، ومعنا الهدي ننحر وننصرف، فقالوا للرسول: لا يدخل محمّد علينا أبداً.

ثمّ جاء سهيل بن عمرو إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض عليه شروطاً للصلح بعثته بها قريش، وقد قبلها النبي (صلى الله عليه وآله)، ورأى المسلمون فيها إجحافاً بهم، وقال عمر بن الخطاب رادّاً على رسول الله: يا رسول الله ألسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، فقال: علام نعطي الدنيّة في ديننا؟ فقال: أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني، وجعل عمر يردّد ذلك حتّى قال له أبو عبيدة ابن الجراح: ألا تسمع ـ يا ابن الخطاب ـ رسولَ الله يقولَ ما يقول! تعّوذ بالله من الشيطان واتّهم رأيك.

ودعا النبي (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب صلوات الله عليه لكتابة المعاهدة، وكره المسلمون ذلك وداخلهم أمر عظيم، ولكنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أمر عليّاً بالكتابة، وبدأ يملي عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: ما نعرف الرحمن، اكتب ما نكتب «باسمك اللهمّ»، فضاق المسلمون وصاحوا: والله ما نكتب إلاّ الرحمن، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعليّ: اكتب «باسمك اللهمّ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنّك رسول الله ما خالفناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فضّج المسلمون وارتفعت الأصوات وقالوا: لا نكتب إلاّ محمد رسول الله، وإلاّ فالسيف بيننا، علام نعطي الدنيّة في ديننا؟ فأمرهم النبي بالسكوت، واستمر في إملاء المعاهدة كما طلب سهيل، ثم عاد المسلمون إلى المدينة دون زيارة المسجد الحرام في ذلك العام.

ولمّا نقضت قريش عهد الحديبية، سار إليهم النبي (صلى الله عليه وآله) في عشرة آلاف وعسكر بجيشه قرب مكّة، وجاءه العبّاس بن عبد المطلب وقد أردف خلفه أبا سفيان بن حرب وغيرهما فأسلموا وعادوا إلى مكّة بأمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أهلها، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكّة، وأعطى أهلها الأمان وصفح وعفى عنهم.

وكذلك معركة حنين، فسببها أنّ مشركي هوازن وثقيف ومعهم بعض القبائل قد تجهّزوا لحرب المسلمين، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) بجيشه للقائهم قبل هجومهم على مكّة، وفي وادي حُنين باغتوا المسلمين بالهجوم وكادوا يظهرون عليهم لولا ثبات النبي (صلى الله عليه وآله) في جماعة من أصحابه.

إلى هنا ننهي الموضوع ومن أراد الوقوف على التفصيل أكثر من هذا، فليرجع إلى الجزء الثالث من كتابنا «الجواهر الروحيّة».

* * *

(1) شرح نهج البلاغة 2: 85 - 88.

(2) الكافي 5: 2/ ح2.

(3) يونس: 62.

(4) التوبة: 111.

(5) عوالي اللئالي 3: 182 و183/ ح4.

(6) الكافي 5: 2/ ح2.

(7) عوالي اللئالي 3: 183/ ح5.

(8) الكافي 5: 3/ ح3.

(9) الكافي 5: 2/ ح1.

(10) الجهاد لعبد الله بن المبارك: 81.

(11) الجامع الصغير للسيوطي 2: 410/ ح7287.

(12) مسند احمد 3: 136؛ تفسير الدرّ المنثور 2: 72.

(13) تفسير الدر المنثور 1: 248.

(14) صحيح مسلم 6: 47.

(15) أمالي الشيخ الصدوق: 547/ ح729.

(16) الكافي 2: 50 و51/ ح1.

(17) مستدرك الوسائل 11: 139؛ نمرر غرر الحكم، الحكمة 4773.

(18) الاختصاص للمفيد: 240؛ مشكاة الانوار: 431.

(19) أمالي الصدوق:553/ ح470.

(20) البقرة: 216.

(21) صحيح البخاري 3: 203؛ سنن ابن ماجة 2: 620/ ح2753.

(22) مسند احمد 3: 136 و137؛ البداية والنهاية لابن كثير 3: 338.

(23) صحيح البخاري 3: 205؛ اسد الغابة 1: 131 و132.

(24) السنن الكبرى للبيهقي 9: 24.

(25) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 15: 18.

(26) شرح نهج البلاغة 14: 257.

(27) فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل 1: 38؛ مسند احمد 3: 124.

(28) المعجم الكبير للطبراني 7: 271؛ البداية والنهاية 4: 218.

(29) الانفال: 30.

(30) التوبة: 13.

(31) شرح نهج البلاغة 14: 107 و108 باختلاف يسير.

(32) شرح نهج البلاغة 14: 122.

(33) أي: اللهمّ.

(34) بحار الانوار 20: 199.

(35) النـزاع والتخاصم للمقريزي: 57.