الكلمة التاسعة قولة عليه السلام: الشرف بالعقل والادب لا بالحسب والنسب.

اقول: الشرف العلو في المرتبة، وما العقل فقد عرفت حقيقته واقسامه ومراتبه، واما الادب فهو اصلاح القوة العملية بجماع مكارم الاخلاق، واما الحسب فهو الكفاية من المال وما يجرى مجراه وان كان قد يراد به ما يؤثر من المكارم ايضا ولكنه بهذا المعنى يكون من اجزاء الشرف، والنسب الاصل.

واما بيان هذا الحكم انك قد علمت ان الكمال الذى يخص الانسان على قسمين، وذلك لانك علمت ان لنفسه قوتين، نظرية وعملية فلذلك كان كمال احداهما وهى النظرية تحصيل المعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وكان كمال الاخرى وهى العملية وغايتها نظم الامور وترتيبها فإذا حصل للانسان الكمال في هاتين القوتين فقد سعد السعادة التامة، اما كماله النظرى فان يحصل لنفسه المعقولات الاولى التى هي العلوم الاولية المعدة لتحصيل المعقولات الثانية وينتهى في الترقي الى درجة العقل المستفاد كما قررناه، واما كماله بحسب قوته العملية فهو الكمال الخلقى ومبدؤه من ترتيب قواه وافعاله الخاصة بها حتى لا تتغالب (1) وتتسالم فيه بحسب تمييز قوته النظرية مترتبة منظومة كما ينبغى وينتهى الى الترتيب المدينى (2) الذى يترتب فيه الافعال والقوى بين الناس حتى ينتظموا كذلك (3) الانتظام ويسعدوا سعادة مشتركة كما وقع ذلك في الشخص الواحد فإذا الكمال الاول بمنزلة الجزء الصوري والكمال الثاني بمنزلة الجرء المادى ولاتمام لاحدهما دون الاخر (4) فان بالعمل يتم العلم والمبدأ بلا تمام ضائع، والعلم مبدء للعمل والتمام بلا مبدء ممتنع، وفى كلام علي عليه السلام: " العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فان اجابه والا ارتحل " وهو يحقق ما قلناه، فإذا بلغ الانسان الى النهاية في هاتين المرتبتين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا ج د: " حتى تتغالب ".

(2) - ج د: " الدينى.

(3) - ج د " ذلك ".

(4) - ج د: " الا بالاخر ".

 

[ 66 ]

فقد فاز الفوز التام إذ (1) صار عالما صغيرا فتصور حقائق الموجودات وتمثلت في ذاته ثم حصل على فضيلة العدالة بجميع اجزائها وانواع اجزائها فحصل على الوسط الحقيقي المعبر عنه في الرموز الالهية بالصراط المستقيم فلم يفته من النعيم شئ إذا استعد بهذا الكمال لجوار رب العالمين إذا عرفت ذلك فاعلم انه عليه السلام عبر بالعقل عن الكمال الاول وبالادب عن الكمال الثاني، وينبغى ان يعلم (2) انه لا فخر ولا مباهاة الا بهذه الفضائل فقط، واما الفخر الوهمي كافتخار من يفتخر بما جمع من مال أو بما سبق له من الاسلاف لانهم كانوا على شئ من انواع الفضائل أو عليها كلها فليس بفخر، اما بالمال فلان الشرف الحقيقي لا يعتبر الا بالكمال النفساني الباقي ابدا فالفخر والمباهاة ليس الا به.

والمال ليس كذلك اما اولا فلانه ليس بفضيلة نفسانية فلا يكسب سعادة اخروية بل ربما اكسب ضدها وإذا كان خارجا عن نفس الانسان كان المباهى به مباهيا بأمر خارح عنه، ومن باهى بما هو خارج عنه فقد باهى بما لا يملكه.

واما ثانيا فلانه غير باق وكيف يبقى ما هو معرض للافات والزوال في كل لحضة وليس صاحبه منه على ثقة في وقت من الاوقات، وإذا كان كذلك فترى انه مما لا (3) يستحق ان يباهى (4) به ويفخر واصدق الامثال فيه قوله تعالى: واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب (الى قوله) فأصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم اشرك بربي احدا (5) وقوله: واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا (6) وقد اشتمل القرآن والسنة النبوية لذلك (7) على امثلة كثيرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " إذا ".

(2) - ب د: " تعلم ".

(3) - كلمة " لا " ليست في اب.

(4) - د: " لا يباهى " فالكلمة في موضع من نسخة " د " زائدة ومن نسختي " اب " ساقطة.

(5) - اشارة الى سبعة آيات في سورة الكهف (من آية 32 - 38).

(6) آية 45 من سورة الكهف.

(7) - ج د: " كذلك ".

 

[ 67 ]

واما الفخر بالنسب فغاية ما يدعيه المفتخر المتشرف به إذا كان صادقا ان آباءه واسلافه كانوا قد جمعوا الفضائل وحصلوا على الكمالات التى بها الفخر والشرف لكن انظر إليه لو حضر اسلافه وقالوا: الفضل الذى تدعيه فينا هو لنا دونك فنحن مستبدون به فما الذى فيك منه مما ليس في غيرك ؟ فانك تجده حينئذ مفحما مسكتا خجلا غير حاصل على شئ، واليه الاشارة بقوله عليه السلام: لا تأتوني بأنسابكم وائتوني بأعمالكم.

وحكى عن مملوك كان لبعض الحكماء انه افتخر عليه بعض رؤساء زمانه فقال له المملوك: ان افتخرت على بفرسك فالحسن والفراهة للفرس لالك، وان افتخرت ببزتك (1) وآلاتك (2)، فالحسن لهما دونك، وان افتخرت بأبائك فالفضل كان لهم (3) دونك، فإذا كانت المحاسن والفضائل كلها خارجة عنك وانت منسلخ منها وقد رددناها على اهلها بل لم تخرج عنهم حتى ترد إليهم (4) فانت من ! ؟ (5) وحكى عن بعض الحكماء انه دخل على بعض الاغنياء وكان يحتشد في الزينة (6) ويفتخر بكثرة ماله وآلاته وحضرت الحكيم بصقة فتنخع بها والتفت في البيت يمينا وشمالا فوجد البيت كله مزينا بالالات المستحسنة فلم يجد لها موضعا فبصق في وجه صاحب البيت، فلما عوتب على ذلك قال: نظرت الى البيت وجميع ما فيه فلم اجد اقبح منه فبصقت عليه، وهذا يكون استحقاق الخالين (7) من الفضائل النفسية المفتخرين بالامور الخارجية الوهمية:

من كان مفتخرا بالمال والنسب * فانما فخرنا بالعلم والادب

لاخير في رجل حر بلا ادب * لاخير فيه ولو يمشى على الذهب

ولهذا السر صدق عليه السلام في مقاله الصادر عن كماله: الشرف بالعقل والادب لا بالحسب والنسب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج: " بنزلك " د: " بمنزلك ".

(2) -: " وبالائك ".

(3) - ا ب: " فيهم ".

(4) - ب ج د: " عليهم ".

(5) - كذا في النسخ: وكان القياس ان يقال: من انت ؟ فكأنه كان اصطلاحا خاصا مستعملا في مقام التحقير هكذا.

(6) - ج د: " يحتسد في الرتبة ".

(7) - ج د: " استخفاف الحالين "

 

[ 68 ]

 

الكلمة العاشرة قوله عليه السلام: لا تنظر الى من قال وانظر الى ما قال.

اقول: المراد بالنظر ههنا الاعتبار العقلي لا النظر بالبصر فانه غير لائق ههنا وذلك انه لما كان الفخر الابدي والشرف السرمدي انما هو بالتحلى بالكمالات العقلية والفضائل الخلقيه بعد التخلي عن ادناس اضدادها ونزع اطمار مقابلاتها، وكان ما يعد في العرف كمالا ونقصانا ويظن في الظاهر جمالا وقباحة (1) من حسن البزة ونضارة الوجه وقبح منظرهما وما يعتبر من مشخصات الشخص اللازمه له في الوجود وما يصحبها من عز وذل، وفقر وغنى، وشرف بيت وخسة، ورفعة اصل ودناءه، وغير ذلك امورا وهمية واحكاما خيالية صيراليها من متابعة النفس للقوة الشهوية وغفلتها عن الكمال الحقيقي والنقصان البائر، وكانت العناية الالهية قد اقتضت ان (2) القوة النطقية معربة عما يحصل في ضمير الانسان ومفهمة لما في ذهنه مما لا يطلع عليه غيره من الكمالات والنقصانات النفسانية المدلول عليها بالالتزام من مخاطباته، والمستنبطة بالانتقالات الفكرية من اقواله ومحاوراته، لاجرم حق لذوى العقول ان يلاحظوا بنواظر بصائرهم ما يقول القائل حين يقول، فيستدلوا (3) ينظم قوله وترتيب الفاظه واستلزامها للحكم النفسية والاداب الخلقية على كمال عقله، وبضد ذلك على نقصان عقله، ويكون ذلك سببا لفهم مقداره وادراك وزنه، وانه هل هو في حيز الملائكة المقربين، أو في مرابض البهائم، وبين ذلك، ولا ينظروا الى من قال أي الى الشخص من حيث انه ذلك الشخص والى الامور المشخصة له والكمالات المزينة لذلك الشخص التى انما تعد كمالا في بادى الرأى فإذا اعتبرت حقيقتها كانت وبالا، والمنهى عنه ههنا هو النظر الاول إليها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " قباحا " وهو بالضم مصدر بمعنى القباحة.

(2) - " ان " ليست في ب ج د، وكان الاولى ان تكون العبارة هكذا " ان تكون ".

(3) - ا ج د: " ويستدلوا ".

 

[ 69 ]

الحاكم بكونها من الكمالات التى ينبغى ان تقتنى فانه يجب على العاقل ان لا ينظر (1) الى الشخص من حيث انه موصوف بتلك الكمالات الوهمية ولا يعتبره ويلتفت (2) إليه (3) من هذه الجهة، وكذلك لا يعتبره من حيث انه ذو فقر ومسكنة أو في اطمار ورثاثه حال أو انه ليس من الاصول الشريفة والاباء المعرقة (4) فيرفضه لذلك ويستنقصه فان المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، ولا يغرنك جل تحته دبر (5) فان ما يعد في الظاهر كمالا لو كان هو الكمال الحقيقي لكان الاحق به والاولى سيد المرسلين والكامل من عباد الله ولما منح البعداء عن واهب الكل من ذلك الكمال مثقال خردلة، والتاليان باطلان فالمقدم كذلك اما الملازمة فلان العناية الالهية جلت عن وضع الاشياء الافى مواضعها، واما التاليان فظاهر البطلان بل يعتبره (6) من اقواله المستلزمة لنقصانه أو كماله فيحكم عليه بأحدهما بعد الاختبار فيكبره ويكرمه أو يحتقره ويهينه عن سهام بصيرة خرقت استار غيبه ولمحت اسرار لبه، والله تعالى هو الموفق.

الكلمة الحادية عشر قوله عليه السلام: إذا تم العقل نقص الكلام (7) .

اقول: سر هذه الكلمة ظاهر مما سبق وذلك ان النفس كلما ازدادت علوا في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " ان ينظر ".

(2) - ب: " يلفت ".

(3) - في النسخ " عليه " (4) - من قولهم: اعرق فلان أي صار عريقا في الكرم.

(5) - ا: " وبر " ب " دبره " وفى كتب اللغة: دبر البعير كفرح فهو دبر أي صار ذا دبرة وهى بالتحريك قرحة الدابة والبعير ومنه المثل المعروف: هان على الاملس ما لاقى الدبر، والانثى دبرة ودبراء.

(6) - ج تعتبره " (بصيغة الخطاب) وكذا في الافعال الاتية.

(7) نقل السيد الرضى (ره) هذه الكلمة في نهج البلاغة في باب الكلم القصار وشرحها ابن ميثم (ره) ضمن شرحه لذلك الكتاب هكذا (ص 588 من الطبعة الاولى): " تمام العقل يستلزم كمال قوته على ضبط القوى البدنية وتصريفها

 

[ 70 ]

مراتب الكمال كان ضبطها للقوة المتخيلة اشد فكان الكلام الصادر عنها اقل وجودا إذ لا يصدر عنها حينئذ كلمة الا عن ترو وتثبت ومراجعة لعقلها في كيفية وضع تلك الكلمة واستلاحة ما تؤول إليه وما يلزم عنها من المفهومات وتمييز احتمالاتها وحركة الفكر (1) في استحضار السبب الموجب للكلام حتى تصير الكلمة الخارجة مهذبة مميزة محكمة متقنة لا يكون منها حذر ولا يلحق بسببها ضرر، وإذا كانت كلمة تامة العقل موقوفة الوجود على هذه الشروط الكثيرة والاسباب البعيدة فلابد وان تكون اقلية الوجود وتزداد اقلية وجودها بحسب زيادة درجات العقل الى ان يصير السكوت في موضعه والكلام في موضعه ملكة وخلقا للعاقل، وهذا بخلاف ناقص مراتب العقل فانه كلما كان عقله انقص كان خروج الكلام منه اكثر واقبح، وذلك لقلة ضبط القوة العاقلة للمتخيلة وعدم مراجعة العقل العملي للقوة النظرية في استنباط الاراء الصالحة والاقوال المصلحية وذلك لنقصان درك القوة النظرية وبالجملة لاقلية الشروط الموجبة لقله الكلام، والعلة كلما كانت ابسط كان صدور المعلول عنها اقرب واسرع، وبالله التوفيق .

 

الكلمة الثانية عشر قوله عليه السلام: لا داء أعيا من الجهل.

اقول الداء المرض والاعيا (2) الذى لا دواء له كأن الاطباء عيوا عن دوائه، والجهل قد يراد به عدم العلم عما من شأنه ان يعلم كالانسان، وقد يراد به الاعتقاد الجازم الغير المطابق الحاصل من شبهة (3) الدليل، والمعنى الاول عدمي ويقابل العلم تقابل العدم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بمقتضى الاراء المحمودة الصالحة ووزن ما يبرز الى الوجود الخارجي عنها من الاقوال والافعال بميزان الاعتبار، وفى ذلك من الكلفة والشرائط ما يستلزم نقصان الكلام بخلاف مالا يوزن ولا يعتبر من الاقوال.

" (1) - ب: " خ ل: الفعل ".

(2) - ا ب: " العياء ".

(3) - ج د: " شبه ".

 

[ 71 ]

والملكة ويسمى جهلا بسيطا والثانى وجودي ويقابل العلم تقابل التضاد ويسمى جهلا مركبا، واطلاق لفظ الجهل بحسب الاشتراك اللفظى، واعلم ان الداء قد يكون بدنيا وقد يكون نفسانيا وعلى الحالين فقد يكون ذا عياء وقد لا يكون، ثم النفس وان كانت ذات ادواء كثيرة غير ان اشدها عياء واقواها سببية للبعد عن الرحمة الالهية هو داء الجهل المركب خصوصا ما كان منه مضادا للعلم بالصانع تعالى وصفاته فانه لا يرجى له صلاح ولا يتوقع لصاحبه (1) فلاح، وهو المنبع (2) لاكثر الامراض النفسانية وذلك انك لما (3) عرفت ان الكمال الدائم والسعادة التامة للنفس انما هو بحصول العلم بمباديها وتصور الحظرة الالهية كما هي بحسب الامكان فاعرف ان النقصان اللازم والشقاوة الثابته انما هي بحصول الاعتقادات المضادة لذلك اليقين وتمكنها من جوهر النفس لعدم امكان اجتماعهما، واما الجهل البسيط فيمكن علاجه إذا كان غير مناف للعلم الذى هو سبب السعادة وكذلك سائر الامراض النفسانية بعد ان تكون للنفس المسكة (4) التامة بمباديها العالية فان اكثرها تكون اما حالات غير متمكنة من جوهر النفس أو هيئات مستفادة من الامزجة فتزول بزوالها، واما سائر الامراض البدنية فانه وان كان فيها مالا يمكن علاجه لكن تفاوت ما بين الموتين (5) بتفاوت ما بين المريضين (6) وتفاوت ما بين المريضين (7) بتفاوت ما بين الغايتين من صحتهما وعافيتهما، وعرفت ان غاية عافية النفس هو تحصيل الكمال الباقي وغاية صحة البدن في الغالب كمال فان فان بصحته للنفس كمالا ما يكون باقيا (و) كان ذلك مشروطا بصحتها عن داء الجهل حتى لو كان متمكنا من جوهرها لكان كل سعى بدنى عليها وبالا ونقصانا وخيبة وخسرانا ولو كان اشكل مرض بدنى حاصلا (8) مع صحة النفس عن ذلك المرض لما ضرها ذلك في معادها إذ لا تخلو مع ذلك من استفادة كمال ما، والوصول الى سعادة تليق بها لو فقدت (9) بسبب ذلك المرض علما وكمالا ما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) -: " لعلاجه ".

(2) - في النسخ: " المنع ".

(3) - ب: " إذا " (4) - ج د: " الملكة ".

(5) -: " الوجهين " د: " المرتبتين ".

6 و 7 - ج د: " المرضين " في كلا الموردين.

(8) - كذا.

(9) - ب " فقد "

 

[ 72 ]

فقد تحقق ان داء الجهل أعيا كل داء، واما كان الداء من حيث هو غير ملائم للطبع وكان الداء الذي هو الجهل اعيا الادواء واعسرها برء واكثرها مضرة على الانسان كان في هذه الكلمة تنبيه له على انه يجب عليه ان يجتهد في حسم اسباب هذا الداء في الابتداء قبل استحكامه وتمكنه من جوهر نفسه ويبالغ في ان لا يعرض له فان الصحة قبل المرض انفع منها بعده، وطريق ذلك الحسم ان يلازم الاعمال الجميلة التى توجب كمال النفس من اول زمانه ويتخير لنفسه افضل الاطباء بحسب اجتهاده فان لم يفعل واستعرض شيئا من تلك الاسباب قبل تمكن الداء الذى تلك اسبابه وتنبه لطلب العلاج فليرض نفسه بلجام الصبر وليلفتها بمقود الندم وليجرها بالتمرين والتعويد الى ان ينقى لوح نفسه من مقدمات ذلك المرض ثم ليغذها (1) بالعلوم اليقينية وملازمة الاعمال الجميلة فانها سترجع الى الصحة التامة اللذيذة والسعادة الدائمة ويكون في غاية الغبطة والسرور ابدا فقد صدق بحر العلم والفضائل: لا داء أعيا من الجهل.

الكلمة الثالثة عشر قوله عليه السلام: لامرض أضنى من قلة العقل.

وفى نسخة: اخفى من قلة العقل.

اقول: الضنى مخامرة المرض كلما ظن المريض انه برأ انتكس (2) واما العقل فقد عرفته وهو مقول بحسب الاشتراك اللفظى على القوة التى بها يكون التمييز بين الامور الحسنة والقبيحة والسعى في مصالح البدن وتدبير المعاش وهى المسماة عقلا عمليا، وعلى القوة التى بها يكون تكميل جوهر النفس (وهى المسماة) عقلا بالفعل، وعلى درجات استعداد هذه القوة لتباين حدودها وحقائقها وقد اومأنا الى ذلك غير مرة وإذا عرفت ذلك فنقول: قد تطلق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " ليعدها ا: " ليبعدها ".

(2) - ب ج: " منكس " وفى اللغه: " انتكس المريض عادته العلة بعد النقة ".

 

[ 73 ]

قلة العقل على النقصان الحاصل من جميع هذه المراتب لكن المقصود الظاهر والنقصان البائر (1) المذموم بحسب العرف هو النقصان في العقل بالملكة اعني الاستعداد الذى يكون لدرك المعقولات وفى العقل العملي اعني الاستعداد للتميز بين الامور الحسنة والقبيحة، وان كان قد يكون النقصان ههنا تابعا للنقصان الاول وهذا التخصيص بحسب المفهوم من هذه الكلمة والا فقد تطلق قلة العقل ايضا على عادم الغريزة وعلى العقل الهيولانى، والسبب في ذلك هو اختلال امر القوى النفسانية، اما لضعف الارواح الحاملة لها وقلة كميتها أو لسوء تركبها وامتزاجها وخروجه عن الاعتدال الذى تتمكن النفس من تصريف القوى معه فيكون سبب عدم تمكن النفس من تصريف تلك القوى فيما يصلحها فيكون بسببه قصور استعدادها لقصور آلتها، وقد يكون السبب في قلة تدبير امر المعاش واصلاح الدنيا ونقصان الاستعداد لذلك هو التفات النفس في غالب احوالها الى الوجهة الحقيقية واصلاح امر المعاد وقطع العلائق الجسمانية فيسمى صاحبها في العرف ابله ومغفلا أي سليم الصدر قليل الاهتمام بشأن الدنيا غافل عن طلبها قليل العقل لكيفية اكتسابها وهم الذين قال صلى الله عليه وآله فيهم: أكثر اهل الجنة البله، لكن هذا المعنى غير مراد ههنا لان المرض ليس بمضن فضلا ان يكون اضنى من غيره إذا عرفت ذلك فنقول: اما اطلاقه عليه السلام المرض على النقصان المذكور من استعداد النفس فاطلاق مجازى لان المرض من الكيفيات المختصة ببدن الحيوان ووجه المناسبة ان الكيفية المسماة بالمرض لما كانت مانعة من السعي في مصالح البدن وما يتعلق به وكان نقصان استعداد النفس في المراتب المذكورة مانعا لها من قبول تمام الفيض الالهى الذى من شرطه تمام الاستعدادات لا جرم اطلق عليه السلام لفظ المرض عليه، وهى استعارة حسنه وانتقال لطيف لا يصدر مثله الا عن مثل ذلك الذهن الصافى المتوقد.

واما اثبات المطلوب من هذه الكلمة وهو انه لامرض اضنى من هذا المرض فيستدعى اولا بيان ان الضنى من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج: " الباتر " د: " الباطن " وفى هامشه: " الباتر ".

 

[ 74 ]

يطلق على هذا المرض واطلاقه ايضا مجازى وذلك ان الضنى من عوارض الامراض البدنيه وقد بينا وجه التجوز بلفظ المرض فكذلك يطلق عارض المرض البدني على عارض هذا المرض لمكان المشابهة، وبيانها ان المرض البدني كما يشتد ويخامر البدن حتى كلما ظن المريض انه برأ نكس (1) فكذلك للمذكور (2) في درجات الاستعداد (3) مرض قد يشتد ويخامر نفسا قام بها حتى كلما ظنت انه قد كمل عقلها وتم استعدادها فهى منتكسة (4) في ذلك المرض ناقصة العيار عند صحة الاعتبار.

واما انه اضنى من سائر الامراض فلان خوف المرض وقوة ضرره تابع لشرف الجزء المريض وخطره وكلما كان المرض اقرب الى جزء شريف كان خوفه اكثر وخطره اكبر وكان اشد واضنى من غيره وعرفت ان النفس هي الجزء الاشرف من الانسان بل هي تمام الانسان وان صحتها وكمالها هو المطلوب الاصلى من خلقها والسبب الغائي من وجودها فاعرف ان مرضها اشد مرض واضناه ونقصانها ارذل نقصان وارداه، وتجد كل مرض بالنسة إليه صحة وكل الم بالقياس الى المه راحة.

واما على الرواية الثانية: وهو انه اخفى الامراض فلا شك فيه وخصوصا بالقياس الى من لحقه وتعلق به فان نقصان صاحب هذا المرض به هو الموجب لاعتقاده انه كامل فكل من كان استعداده للفضل انقص كان اعتقاده الوهمي لكماله اقوى وازيد، شعر:

كدعواك (5) كل يدعى صحة العقل * ومن ذا الذى يدرى بما فيه من جهل؟!

وكل من كان استعداده للفضل ازيد كان اعترافه بالعجز عن الوصول اتم، والسبب في ذلك محبة النفس للكمال من حيث هو وغفلة نفس الاول عن نقصانها فيعتقد ان الكمال لها لازم، واطلاع الثاني على عيب نفسه وحاجتها الى التكميل من نقصانها ومعرفتها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - من قولهم: " نكس المريض مجهولا = عاوده المرض كأنه قلب الى المرض ".

(2) ا: " فلذلك المذكور " (بالام بعد الفاء).

(3) - ج: " الاستعدادات (4) - ا: " متنسكة " ب ج د: " منكسة ".

(5) - ا: " البيت مطلع قصيده للمتنبي (انظر طبعة صادر ص 441).

 

[ 75 ]

بقدر ما هي محتاجة إليه من الكمال وشرفه وعزته، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب (1).

الكلمة الرابعة عشر قوله عليه السلام: نعمة الجاهل كروضة في مزبلة.

اقول: النعمة في الاصل هي المال وقد كثر استعماله حتى قيل في كل كمال يلحق الانسان انه نعمة اما بحسب الاشتراك اللفظى أو المعنوي والروضة مستنقع الماء ومنبت الخضر، والمزبلة موضع الزبل ومرماه والمقصود الذاتي من هذه الكلمة بيان ان الجاهل وان حصل على النعمة (2) الدنياوية بأجمعها فهى غير لائقة به وهو غير صالح لان يكون محلا لها ومع ذلك فلابد ان تزول عنه وتقرير ذلك ان النعمة قد تكون نعمة باقية وهى الكمال النفساني، وقد تكون نعمة فانية وهى الكمال البدني، وعلى التقديرين فقد تحصلان معا للانسان الواحد وقد يخلو منهما وقد يحصل له احداهما دون الاخرى والاول آخذ بطرفي السعادتين، هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب، وان له عندنا لزلفى وحسن مآب (3)، والثانى حاصل على خسران الصفقتين، خسر الدنيا والاخرة وذلك هو الخسران المبين (4)، والثالث ان حصل على النعمة الباقية فهو في عيشة راضية في جنة عالية (5)، وان اشتمل على النعمة الفانية فقط فامه هاوية (6)، الذى جمع مالا وعدده يحسب ان ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة (7)، والاشارة في هذه الكلمة الى صاحب هذه النعمة.

واما تشبيهه عليه السلام لهذه النعمة بالروضة الكائنة في المزبلة فبيانه من وجهين:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - آية 8 سورة آل عمران.

(2) - ا: " وان حصل له النعمة ".

(3) - آية 39 و 40 سورة ص.

(4) - ذيل آية 11 سورة الحج وصدرها: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فان اصابه خير اطمأن به وان اصابته فتنة انقلب على وجهه ".

(5) - آية 21 و 22 سورة الحاقة.

(6) - آية 9 سورة القارعة.

(7) - آيه 2 و 3 و 4 سورة الهمزه.

 

[ 76 ]

احدهما - ان المزبلة لا يبقى الماء فيها بل عن قليل تكون يبسا لا نداوة فيها فكذلك الجاهل تكون نعمته معرضة (1) للزوال فهى ان لم تزل في حياته فلابد من زوالها بموتة.

الثاني - ان المزبلة لما كانت محل النجاسة كانت غير لائقة لاستنقاع الماء المنتفع به فيها فكذلك الجاهل ذو المال لما كان غير واضع للاشياء مواضعها من حيث انه جاهل وغير مصرف لذلك المال كما ينبغى وفى الوجه الذى ينبغى لعدم العلم بالوجوه والمصارف لاجرم كان غير لائق لان يكون محلا لها إذا كان غير منتفع بها بوجه.

ويحتمل وجها آخر وذلك ان العادة في الروضة ان تعشب وتخضر بسبب استنقاع الماء فيها فربما تبقى هذه الاعشاب وتلك الخضرة زمانا لجودة الارض وحفضها للنداوة وانما وزاد ما ينتفع به الحيوان فإذا كانت الروضة في مزبلة لم تكن لائقة للانتفاع بخضرتها في مسرة وابتهاج وغير ذلك ولم يكن للحيوان عليها اعتماد في مرعى فكذلك حال الانسان مع النعمة الحاضرة ان كان عالما بمصارفها واضعا لها في مواضعها كان كروضة في ارض حرة (2) ينتفع هو بها (فيدخر) في الدنيا والاخرة حمدا (3) جميلا وثوابا جزيلا وينتفع غيره بنضارة خضرتها ونداوة (4) عشبتها (5)، وان كان جاهلا غير واضع لها في مواضعها كان كالروضة في مزبلة غير منتفع بها، وهذه الوجود محتملة لبيان هذا المثل وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (6).

الكلمة الخامسة عشر قوله عليه السلام: اغنى الغنى العقل.

اقول: الغنى قد يطلق ويراد به عدم الحاجة، وقد يطلق ويراد به حصول الامور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا في جميع النسخ.

(2) - ب: " حر ".

(3) - ا: " حميدا ".

(4) - ب ج: " لذاذة.

(5) - ب ج: " عشبها ".

(6) - ذيل آية 21 سورة الحشر.

 

[ 77 ]

المحتاج إليها ويقابله الفقر بمعنين، وعلى التقديرين فانه مقول بحسب التشكيك على جزئياته إذ منه ما هو اشد ومنه ما هو اضعف، اما العقل فقد عرفت اقسامه ومراتبه وحقائق تلك المراتب، وإذا كان كذلك فنقول: المراد من الكلمة بيان ان اشد درجات الغنى العقل، المراد بالغنى حصول الامور المحتاج إليها ههنا، فان اعظم الامور المحتاج إليها واشرفها درجة في حصول الكمال بها هو العقل إذ كان سبب السعادتين وبه تنال المقاصد الكلية وبه تحصل الكمالات الحقيقية دون ما يحتاج إليه من مال وغيره، ويمكن ان يفسر الغنى أيضا ههنا بعدم الحاجة الا انا نحتاج (1) الى زيادة اضمار إذ الاستعداد المسمى عقلا ليس بعدم الحاجة بل مستلزم لعدم الحاجة الى حصوله بعد حصوله فيصير التقدير: اقوى درجات الغنى لازم عن حصول العقل، الا انه جعل المحمول ههنا نفس العقل لما (2) ان حمل الملزوم مستلزم لحمل اللازم واعلم: انا لانعنى ان بمجرد حصول العقل يحصل الغنى المطلق بل يحتاج الى قيد آخر به يحصل ثمرة العقل المطلوبة من افاضته بالعناية الازلية وهو ان يعتنى باصلاح القوى البدنية وتطويعها للقوة العاقلة وتصريفها بحسب اوامرها ونواهيها فانك ان لم تفعل ذلك لم تخلص لذوقك حلاوة ثمرة عقلك من شوب مرارات ثمرات طاعات تلك القوى، ولم تصف لك بها لذة عن كدورات لحقت من متابعة الهوى، والله ولى توفيقنا، واياه نستعين على قهر الشياطين، وهو حسبنا (3).

الكلمة السادسة عشر قوله عليه السلام: احمق الحمق الفقر (4).

اقول: الحمق نقصان العقل ويقال بحسب التشكيك على درجات النقصان فان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " الا ان يحتاج " فلعله: " الا انه يحتاج ".

(2) - ب ج: " كما ".

(3) - ج: " وهو حسبنا ونعم الوكيل ".

(4) - يقرب منه قوله (ع) الاخر: " واكبر الفقر الحمق " وهو مما نقله الشريف الرضى (ره) في نهج البلاغة وشرحه ابن ميثم (ره) ضمن ماشرحه فمن اراده فلينظر شرح نهج البلاغة (ص 585 من الطبعة الاولى).

 

[ 78 ]

منها ما هو اشد، ومنها ما هو اضعف، والفقر يطلق ويراد به الحاجة الى المال، ويطلق ويراد به الحاجة الى الفضائل النفسانية، والاستعداد الذى به يكون ادراك الامور الكلية الاولية وما فوقه من الدرجات وان كانت الحاجة اعم من ذلك، وقد يراد به عدم المحتاج إليه في الوجهين، واعلم ان تقدير القضية على هذا الوجه: اشد درجات العقل نقصانا هو الفقر فموضوع القضية قولنا: اشد درجات العقل نقصانا، ومحمولها: الفقر، والمراد بالفقر ههنا الحاجة الى الفضائل والاستعداد المذكور، وحينئذ يلوح لك صدق هذه القضية فان اشد درجات نقصان العقل عدم الاستعداد المذكور المستلزم للخلو عن الفضائل النفسانية، وقد يحمل الفقر ههنا على المعنى وهو الحاجة الى المال أو عدمه الا ان ذلك المعنى لا يحمل على اشد درجات نقصان العقل بانه هو، فان الحاجة ليس نفس نقصان العقل بل يحتاج الى اضمار شئ آخر في ايضاح هذه القضية حتى يصير التقدير: اشد درجات نقصان العقل لازم عن الفقر الا انه لما كان حمل الملزوم يستلزم حمل اللازم اكتفى في الكلام مراعاة للوجازة بحمل الملزوم.

واما علة هذا الحكم فلان العقلاء اتفقوا على ان المال مهذب لصاحبه وموجب لزيادة العقل ومنشط 1) لاكتساب الملكات الفاضلة عند استعماله في الوجوه التى ينبغى ولذلك قالت الحكماء: ان المال انما جعل زيادة في القوة (2) والرأى وضربوا لذلك الامثال كالمثل المشهور في كتاب كليلة ودمنة في الباب الثالث منه على لسان الجرذ الذى زعموا انه كان في بيت الناسك (3) وإذا كان كذلك علمت ان الحاجة الى المال المسمى فقرا عند تحققه في محل يستلزم خلو ذلك المحل عن تلك الكمالات النفسانية مع ما يلزم الفقر من حيث هو فقر من عدم مقاومة النفس للهوى وانقيادها لقبائح اللذات ومن ارتكاب الرذائل الردية كالحسد والمهانة وانقهار (4) النفس وانفعالها فيما يطلب منها مما يوجب السقوط في مواقع (5) التهم والدخول فيما لا ينبغى المستلزم كل ذلك نقصان العقل ورداءته، وحينئذ يتضح المعنى على هذا التقدير الا ان في هذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا د: " ينشط ".

(2) - ا: " للقوة ".

(3) - انظر باب الحمامة المطوقة.

(4) - ا " انتهار ".

(5) - في النسخ: " ومواقع ".

 

[ 79 ]

الوجه تعسفاما، ومع ذلك فان لقائل ان يقول: ان الفقر بالمعنى المذكور وان اوجب نقصانا للعقل الا انه لا يكون اشد نقصان، ويمكن ان يقال: ان الاشدية ههنا اضافية أي ان الدرجة من النقصان التى يوجبها الفقر بالنسبة الى ما هو اضعف منها، وفيه ما فيه من التكلف.

الكلمة السابعة عشر قوله عليه السلام: افقر الفقر الحمق (1).

اقول: قد عرفت ان الفقر يطلق على الحاجة المذكورة الى طرفي المال والفضيلة النفسانية وعلى عدم الامور المحتاج إليها اطلاقا في كل معنى من هذه الثلاثة على جزئياته بحسب التشكيك فان درجات الفقر متفاوتة بالشدة والضعف، وإذا عرفت ذلك فنقول: المقصود من هذه الكلمة الحكم بان اشد درجات الفقر هو نقصان العقل وعلة هذا الحكم انه لما كان بين درجة الفقر التى هي الحاجة الى المال والتى هي الحاجة الى الفضائل النفسانية من التفاوت بالشدة والضعف ما يكاد يوجب الحكم بانه لانسبة بينهما ولا اشتراك فلا جرم صح حمل الحمق على اشد الفقر حملا بانه هو، إذ الحمق في الحقيقة اشد فقر يفرض كما علمت، وهاتان الكلمتان آخذتان بمجامع الحسن لفظا ومعنى فانظر ايها الاخ الى هذا الامام الفاضل سلام الله عليه كيف جمع في هاتين الكلمتين بين الوجازة والجزالة، شعر:

وهل فيه عيب لمن عابه ؟ ! * سوى انه رجل فاضل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - اشرنا في ذيل الكلمة السابقة الى ما في نهج البلاغة مما يقرب من ذلك فان شئت فراجع شرح نهج البلاغة للشارح (ره) ص 585 من الطبعة الاولى.

 

[ 80 ]

 

الكلمة الثامنة عشر قوله عليه السلام: الحكمة ضالة المؤمن (1).

اقول: قد عرفت اقسام الحكمة وحقائقها، والضالة ما ضاع من البهيمة للذكر والانثى، والايمان في اللغة التصديق، وفى عرف الشريعة عبارة عن التصديق بكل ما علم مجئ الرسول به ضرورة وهو مذهب المحققين من المتكلمين كأبى الحسن الاشعري واتباعه، (والمؤمن من اتصف بصفة التصديق) (2) ويقابله الكافر لمن لم يتحقق (3) فيه هذه الكل وعليه رأى ابى حنيفة، وعند جمهور المعتزلة والسلف الصالحين رضى الله عنهم انه اسم للمطيع.

ولما كانت الطاعة عندهم (4) لا يتحقق الا باجزاء ثلاثة، التصديق بالقلب لما جاء به الرسول، والاقرار باللسان، والعمل بالاركان، كان الايمان ايضا كذلك فالمؤمن لا يستحق اطلاق هذا الاسم عندهم الا إذا تحققت فيه هذه الاجزاء الثلاثة فهى اجزاء ماهية الايمان ويقابله الفاسق لمن اخل بشئ من هذه الاجزاء إذ يمتنعون من تسمية التارك لاحدها مؤمنا لعدم ماهية الايمان منه، ويخصون اسم الكافر بتارك الكل أو (5) الجاحد ظاهرا (6) وان عمل لان العمل مترتب على التصديق وعليه الامام الشافعي رضى الله عنه (7) من الفقهاء وإذا عرفت ذلك فاعلم انه عليه السلام حكم بانها ضالة المؤمن وشبهها بالضالة من وجهين: احدهما - ان من شأن الضالة ان صاحبها ينشدها ويطلبها ويجتهد فيها بالجعل وغيره

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - نقلها الشريف الرضى (ره) في نهج البلاغة وقال الشارح ابن ميثم (ره) في شرحها (ص 590 من الطبعة الاولى): " استعار لفظ الضالة للحكمة بالنسبة الى المؤمن باعتبار انها مطلوبة الذى يبحث عنه وينشده كما ينشد الضالة صاحبها ".

(2) - كأن مثل العبارة سقطت من هنا بقرينة ذكر الكافر بعده بعنوان المقابلة ولعله " والمؤمن من تحققت فيه هذه الصفة ".

(3) - ب: " يتحقق فيه ".

(4) - ب: " عنهم ".

(5) - ج د: " و ".

(6) - ب ج: " ظاهر ".

(7) - كلمة الترضى في ب فقط.

 

[ 81 ]

فكذلك طالب الحكمة يجتهد في طلبها بحسب البرهان ويبالغ في التفتيش عن كيفية المسالك في طلبها ويلتمس معرفتها من أفواه الاستاذين من العلماء وأهل المعارف كما يلتمس صاحب الضالة ضالته من أفواه المنشدين والعارفين بها وبمظانها فلا جرم كانت ضالة بالنسبة إليه.

الثاني - انه لما كان من شأن الضالة ان لا تنفك عن أحد وجهين، اما ان يجدها طالبها ويفوز بمقاصده وخاصة ان كان متقربا بطلبها الى من هو أعلى منه متوقعا على وجدانها الحباء (1) والمنحة، واما ان لا يجدها فيبقى في الاسف والخوف والحرمان فكذلك الحكمة لما كان من شأنها انه اما انه يجدها طالبها أو ليس، فان وجدها فقد فاز بالمقاصد الكلية وحصل على الاغراض الباقية، وان لم يجدها وهو متقرب بها الى نيل رضا الله تعالى ومستعد بها لقبول نعمه الباقية في جواره المقدس فقد حصل على الخيبة وضياع السعي وحرمان ما الحكمة الى نيله وسيلة فكانت بالحقيقة ضالة واي ضالة.

واما تحصيص المؤمن بها فلان غير المؤمن اما غير المصدق واما العاصى، اما غير المصدق فتكذيبه ينافى طلبه لان الجزء الاشرف من الحكمة هو معرفة الصانع والمكذب بوجوده كيف يطلب معرفته ؟ ! وكذلك عصيان العاصى حال عصيانه (2) مناف لطلبه وهو ظاهر، فهذا هو المفهوم من هذه الكلمة، والله تعالى يجعل خاتمة سعينا في طلبها وجدانا لها، ويرشدنا على منشديها، ويدلنا على معرفتها والعارفين (3) بها عن صدق، والمطللعين على اسرارها بيقين وهو (4) الموفق.

الكلمة التاسعة عشر قوله عليه السلام: المرء عدو ما جهله(5).

اقول: العداوة بغض صادق يهتم معه بجمع (6) الاسباب الموذية للمبغوض ومحبة فعل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - الحباء بالكسر بمعنى العطاء بالفتح.

(2) - " عصيانه " ليس في نسخة ا.

(3) - " معرفتها العارفين ".

(4) - ا: " والله ".

(5) - وفى معناه ما نقله الشريف الرضى (ره) في الباب الثالث من نهج البلاغة بهذه العبارة:

 

[ 82 ]

الشر الذى يمكن فعلة به، واما الجهل فقد عرفت اقسامه وحقائقها والمقصود اثبات العداوة للجاهل مع ما يجهله بالمعنيين المذكورين للجهل وبيانة هو ان القوة الوهمية غير مدركة للامور المعقولة بل انما تدرك المحسوسات وتوافق الحس وتتبعه في احكامه من (1) المحسوسات حقه (2) ويصدقها العقل فيها ولمطابقتها العقل كانت الهندسيات وما يجرى مجراها سديدة الوضوح لا يكاد فيها اختلاف في الآراء إذ (3) لا يعارض العقل في شئ منها واما المعقولات الصرفة فهى منكرة لها ومكذبة بها لقصورها عن ادراكها، ولذلك كانت احكامها فيها كاذبة يكذبها العقل فيها كحكمها بان كل موجود فلابد وان (4) يكون في جهة لما (5) ان كل محسوس كذلك فكذب العقل ذلك بما ان بعض الموجودات ليس كذلك كالباري تعالى (6) فإذا (7) عرفت ان هذه القوة لاحظ لها في ادراك المعقولات الصرفة وانها منكرة لها ومائلة بمقتضى طبعها وفطرتها الى الامور المحسوسة فنقول: ان الجاهل بالشئ ان كان جهله به بسيطا كان السبب في بغضه له ومقابلته بالانكار قصور قوته العاقلة عن ادراكه ومطاوعتها للقوة الوهمية التى هي بمقتضى جبلتها منكرة له وغير قابلة للتصديق به الا في صورة محسوس 8)، وان كان مركبا كان السبب في ذلك البغض والنفار هو مساعدة القوة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

" الناس اعداء ما جهلوا " وقال شارح هذا الكتاب الحاضر في شرح العبارة في شرح نهج البلاغة ما نصه (ص 603 من الطبعة الاولى): " الجهل بالشئ مستلزم لعدم تصور منفعة العلم به فيحصل الجاهل من ذلك على اعتقاد انه لا فائدة في تعلمه فيستلزم ذلك مجانبته له ثم يتأكد تلك المجانبة والبعد بكون العلم اشرف فضيلة يفخر بها اهله على الجهال ويكون لهم بها الحكم عليهم وانتقاصهم وحطهم عن درجة الاعتبار مع اعتقاد الجهال لكما لهم ايضا لذلك فيشتد لذلك مجانبتهم للعلم واهله وعداوتهم لهذه الفضيلة ".

(6) ب ج: " بجميع ".

(1) - ب ج د: " في ".

(2) - كذا في جميع النسخ.

(3) - ا: " و ".

(4) - ج د: " فلابد ان ".

(5) ا: " كما ".

(6).

ب ج: " عز اسمه ".

(7) - ب ج: " وإذا ".

(8) - ج د: " محسوسة ".

 

[ 83 ]

العاقلة للقوة الوهمية على الانكار لقصورها عن الاطلاع على ذلك الامر مع زيادة اقوى وهى تكيف النفس بالاعتقاد الثابت الجازم المضاد لحصول ذلك المعقول ولذلك كانت عداوة من تلبس بظاهر الشريعة ممن يدعى التفقه والزهد وليس به للمحققين واصحاب الانظار الدقيقة وجمع العلوم الجليلة اشد واقوى من عداوة العوام والخالين من العقائد المضادة للعلم حتى ربما أطلقوا الفتيا باباحة دمائهم وأوهموا الملوك بالاباطيل الصادرة عن عقائدهم الفاسدة التى ربما كان اكثرها متأكدا بالحسد في الرتب الحاصلة عن ذلك العلم والكمال انهم كفار يضلون الخلق ويفسدون في الارض بغير الحق، وهؤلاء لا يرجى صلاحهم ولا - ينتظر فلاحهم.

واما الاولون فهم وان عادوا ما جهلوا وأبغضوا ما لم يتصوروه فانهم ربما انقادوا بالتعويد والممارسة وجذب المؤدب الحاذق بلطافته الى سبيل الخير إذ (1) كان فطام النفس عن رضاع لبان الوهم وان كان صعبا لكنه ممكن بحسب التدريج والتعويد فقد لاح لك سر قوله عليه السلام: المرء عدو ما جهله.

الكلمة العشرون قوله عليه السلام: قلب الاحمق في فيه ولسان العاقل وراء قلبه (2).

اقول: قد سبق ان المراد بالقلب في عرف اهل العرفان النفس ثم ليس المقصود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " إذا ".

(2) - في الباب الثالث من نهج البلاغة وهو باب الكلم القصار (انظر شرح ابن ميثم (ره) شارح هذه الكلمات على ذلك الكتاب ص 585 من الطبعة الاولى).

" وقال عليه السلام: لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الاحمق وراء لسانه، قال السيد (ره): وهذا من المعاني العجيبة الشريفة والمراد به ان العاقل لا يطلق لسانه الابعد مشاورة الروية ومؤامرة الفكرة، والاحمق يسبق حذفات لسانه وفلتات كلامه على مراجعة فكره ومماحضة رأيه فكأن لسان العاقل تابع لقلبه وكأن قلب الاحمق تابع للسانه.

 

[ 84 ]

ههنا ان القلب نفسه في الفم فإذا هو ما يقوم بالنفس من التصورات وجودها (1) في الفم عبارة عن ظهورها في العبارة اللسانية الخارجه من الفم، وكذلك ليس المقصود من لسان العاقل هو هذه اللحمة المخصوصة فانا لو قلنا: ان المراد بالقلب ايضا اللحمة المخصوصة لم يكن اللسان وراء لها بل المقصود العبارة إذ يطلق عليها انها لسان ايضا كما يقال: اللسان الفارسى مخالف للعربي، واليه الاشارة بقوله تعالى: واختلاف ألسنتكم والوانكم (2) وليس المقصود هو هذا الشكل اللحمى، ثم ليس المقصود من الوراء ايضا الجهة الحسية فان النفس لاجهة لها حتى يتعين لها وراء، بل الجهة العقلية، ولا من النفس ايضا ذاتها بل تصوراتها الصادرة عن الافكار الصادقة، وحينئذ يصير تقدير الكلمة هكذا: الاسرار القائمة بنفس الاحمق وما ينبغى منه ان لا يظهره موجود في فمه اي عبارته اللسانية، واما العاقل فعبارتة بما (3) يتكلم به تابع لتصوراته العقلية الصادرة عن الافكار الصادقة.

واما السبب في تكلم الاحمق بالجزاف وبما لا ينبغى هواما عدم الفكر في استنباط الواجب فيما يجب ان يفعل من الامور الانسانية أو رداءة تلك الافكار لقصور استعداد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروى عنه هذا الكلام بلفظ آخر وهو: قلب الاحمق في فيه ولسان االعاقل في قلبه.

واقول: انه استعار لفظ الوراء في الموضعين لما يعقل من تأخر لفظ العاقل عن رويته ومن تأخر روية الاحمق وفكره فيما يقول عن بوادر مقاله من غير مراجعة لعقلة والمعنى ما اشار إليه السيد (ره) وعلى الرواية الاخرى فأراد ان ما يتصوره الاحمق هو في فيه اي يبرز على لسانه من غير فكر واما نطق العاقل فمخزون في عقله لا يخرج الا عن روية صادقة، ولفظ القلب في الاول مجاز فيما يبرز من تصرواته في الفاظه ولفظ اللسان مجاز في الفاظه الذهنية ".

(1) - ج: " ووجودها ".

(2) - من آية 22 سورة الروم وتمامها: " ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لايات للعالمين ".

(3) - ا: " لما ج د: " مما ".

 

[ 85 ]

النفس عن الترتيب الصحيح فهى لقصورها غير مطلعة على قصورها بل معتقدة للكمال ومع ذلك فإذا لم يتوقف تحريكها وفعلها على فكر ولاترو كان كل ما يتصوره مبذولا مذاعا (1) سواء كان مما يجوز ابداؤه اولا يجوز.

واما العاقل فلما كانت افعاله واستنباطه للواجب موقوفا على الافكار الصحيحة والنظر والتروى لاجرم كانت اقواله المعبر عنها بلسانه تابعة لافكار عقله فكان لسانه وراء قلبه، والله الموفق للصواب.

الكلمة الحادية والعشرون قوله عليه السلام: ظن العاقل كهانة.

اقول: الظن هو الاعتقاد باحد النقيضين فان كان مطابقا للمعتقد كان ظنا صادقا وان لم يطابقه كان كاذبا، وصدق هذا الاعتقاد وكذبه تابعان لصحة ترتيب الامارات و فسادها وصدقها وكذبها، فان ترتيب الامارات الصادقة ترتيبا صحيحا على القانون الذي يجب رعايته في صحة القياس استلزم ذلك الترتيب افاضة الظن الصادق على الذهن وان اختل قيد من تلك القيود لم يحصل اولم يحصل مطابقته للمعتقد وهو قابل للشدة والضعف وتنتهى مراتبه في القوة الى الجزم وفى الضعف الى الشك، ويستعان في طلب قوته بكثرة الامارات وجمعها والنظر فيها، وقد يحصل هذا الاعتقاد عن كثرة التخيلات بسبب اليبس العارض لمزاج الروح الحامل للقوة المتخيلة فتخف حركتها بسبب ذلك ويقل ضبط النفس لها لفساد آلتها ولكنه يكون ظنا كاذبا ولا عبرة به.

واما الكهانة فهى ضرب من الاطلاع على الامور الغيبية وقد علمت كيفية السبب في الاطلاع عليها غير ان الاثار الصادرة عن الكاهن ضعيفة قليلة بحسب ضعف استعداده وقلته ولذلك لا تتمكن في الغالب من الاخبار بشئ من غير سؤال بل يحتاج الى سؤال باعث له على التلقى والاعداد لنفسه بالحركة وغيرها مما يدهش الحس ويحير الخيال كما حكيناه عند بيان السبب فعندما يعتنى الوهم ويتوكل بذلك الطلب فكثيراما يعرض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " مبددا لا مراعى ".

 

[ 86 ]

للكاهن اتصال ويكون لمح الغيب، تارة بضرب من الظن القوى، وأخرى بجنى خطاف (1) اوهاتف لا يرى (2).

واذ قد بان لك ان الكهانة ضرب من تلقى المغيبات فنقول: ان ظن العاقل في اغلب احواله يكون بحسب نظره في الامارات الصادقة الكثيرة فتتعود نفسه بالاستعداد بذلك لسرعة الانتقال من المبادئ الى المطالب، وقد يكون العاقل ذا قوة قدسية فيكون استعداده اتم واقوى فيكاد يخطئ، اولا يكون ظنه مطابقا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - اشارة الى قوله تعالى: " الا من خطف الخطفة، الاية " (سورة الصافات، 10).

(2) - اعلم ان للشارح (ره) كلاما نفسيا في بيان معنى الكاهن والساحر ذكره في شرح نهج البلاغة في شرح قول امير المؤمنين (ع): " فانها تدعوا الى الكهانة " فمن اراده فليراجع الكتاب (ص 195 - 194 من الطبعة الاولى).

فليعلم ايضا ان الشارح (ره) يشير بما قال هنا الى ما ذكره ابن سيناء في اشارة من اشارات اواخر الشفاء فلا بأس بذكر كلامه وهو قوله: " اشارة - انه قد يستعين بعض الطبائع بافعال يعرض منها للحس حيرة وللخيال وقفة فتستعد القوة المتلقية للغيب تلقيا صالحا وقد وجه الوهم الى غرض يعينه فيتخصص بذلك قوله مثل ما يؤثر عن قوم من الاتراك انهم إذا فزعوا الى كاهنهم في تقدمة معرفة فزع هو الى شد حثيث جدا فلا يزال يلهث فيه حتى يكاد يغشى عليه ثم ينطق بما يخيل إليه والمستمعة يضبطون ما ينطق له ضبطا حتى نبهوا عليه تدبيرا ومثل ما يستنطق في هذا المعنى بتأمل شيئ شفاف مرعش للبصر برجرجته أو مدهش اياه بشفيفه، ومثل ما يشغل بتأمل لطخ من سواد براق، وباشياء تترقرق وباشياء تمور فان جميع ذلك ما يشغل الحس بضرب من التحير، ومما يحرك الخيال تحركا محيرا كأنه اجبار لاطبع، وفى حيرتهما احتيال فرصة الخلسة المذكورة، واكثر ما يؤثر هذا ففي طباع من هو بطباعه الى الدهش اقرب وبقبول الاحاديث المختلطة اجدر كالبله من الصبيان، وربما اعان على ذلك الاسهاب في كلام المختلط لمسيس الحس وكل ما فيه تحيير وتدهيش فإذا اشتد توكل الوهم بذلك الطلب لم يلبث ان يعرض ذلك الاتصال فتارة يكون لمحان الغيب ضربا من ظن قوى، وتارة يكون شبيها بخطاب من جنى أو هتاف من غائب، وتاره يكون مع تراء من شئ للبصر مكافحة حتى يشاهد صورة الغيب مشاهدة".

 

[ 87 ]

كما ان الكاهن يكاد ان لا يكون تلقيه للامور الغيبية صادقا، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الاستعدادات في الظان والكاهن فأطلق عليه السلام لفظ الكهانة على ظن العاقل تجوزا حسنا للمشاركة في ان كل واحد منهما يتلقى بقوة استعداده الافاضة وان اختلفت اسباب ذلك الاستعداد، والمقصود بيان شرف ظن العاقل بتشبيهة بالكهانه، وتسمى العرب مثل هذا الظان ألمعيا، قال الشاعر (1):

الالمعى الذى يظن بك الظن * كأن قد رأى وقد سمعا

والله ولى التوفيق.

الكلمة الثانية والعشرون قوله عليه السلام: من نظر اعتبر.

اقول: هذه شرطية متصلة قد اثبت عليه السلام فيها ان الاعتبار لازم للنظر ولنبين حقيقة النظر والاعتبار فنقول: النظر والفكر عبارة عن حركة النفس بالقوة الفكرية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - يريد بالشاعر الاوس بن حجر فان البيت من قصيدة له يرثى بها فضالة بن كعب ابن كلدة، اولها: ايتها النفس أجملي جزعا * ان الذى تحذرين قد وقعا (الى ان قال):

ان الذى جمع السماحة * والنجدة والبر والتقى جمعا

الالمعى الذى يظن بك * الظن كأن قدر أي وقد سمعا

(الى ان قال) :

اودى فلا تنفع الاشاحة من * امر لمن قد يحاول البدعا

والبيت مما استشهد به في المختصر والمطول لاثبات ان " الذى يظن بك، الى آخره " وصف كاشف عن معنى الا لمعى فان معنى الالمعى ما يستفاد من الوصف المذكور.

 

[ 88 ]

متوجهة بها من المطالب مترددة في المعاني الحاضرة عندها طالبة مبادئ تلك المطالب الموصلة إليها حتى يظفر بالحد الاوسط منها ويضعه (1) مع طرفي المطلوب احد الاوضاع المخصوصة التى يستلزم المطلوب فيرجع منها إليه وان كان قد يطلق على غير هذا المعنى، واما الاعتبار فهو مأخوذ من العبور وهو المجاوزة والتعدى من شئ الى شئ، ولما كان السالك بالنظر متجاوزا بقدم فكره المبادئ الى المطالب لا جرم كان معتبرا وإذا عرفت ذلك لاح لك حينئذ وجه الملازمة بين النظر والاعتبار وان من نظر النظر التام بشروطه الصحيحة فلابد وان (2) يعتبر.

فان قلت: المراد من الاعتبار ليس هو العبور بل الاتعاظ والانزجار بدليل قوله تعالى: وان لكم في الانعام لعبرة (3) وقوله تعالى: ان في ذلك لعبرة لاولى الابصار (4) ؟ قلت: لا نسلم بل الاعتبار حقيقة فيما ذكرنا بدليل انه يقال: اعتبر فاتعظ فتعليل (5) الاتعاظ بالاعتبار والناظر في كيفية خلقة الانعام وفى خلق السماوات والارض عابر بحركته الفكرية في ترتيب دليل من خلقها على وجود الصانع وحكمته الى ذلك المطلوب الا ان الاتعاظ لما كان من لوازم ذلك العبور حتى إذا تقررت في النفس حقائق الاشياء وما يجب ان يقتنى فتطلبه وما ينبغى ان يترك فتجتنبه مما هو ضار لها في امر معادها فحينئذ تنزجر عن متابعة هواها فيما يوجب لها العذاب الاليم وذلك معنى اتعاظها، والى ذلك اشير في التنزيل الالهى: انما يخشى الله من عباده العلماء (6) الذين لمحوا بلواحظ افكارهم عواقب الامور ونتائج المقدمات فلازموا خشية الله تعالى وانزجروا عن متابعة الهوى لاجرم اطلق في موضع آخر لفظ العبرة والاعتبار على الاتعاظ مجازا من باب اطلاق اسم الملزوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " تضعه ".

(2) ج: " فلا بدان ".

(3) - صدر آيتين وهما 66 سورة النحل و 21 سورة المؤمنين.

(4) - ذيل آيتين، 13 سورة آل عمران و 44 سورة النور.

(5) - ا ب د " فتعلل ".

(6) - من (وسط) آية 28 سوره الفاطر.

 

[ 89 ]

على لازمه وصار هذا المجاز لحسنه متداولا كثيرا ما يعتبر به عن الاتعاض لظهور معنى الاتعاظ فربما التبس على من لم يفرق بين المعنيين انه حقيقة في الاتعاظ دون غيره والتحقيق هو ما ذكرناه.

وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب النظر إذ (1) كان لا يحصل الاعتبار المؤدى الى نيل المطالب العلية والسعادة الابدية المستلزم للانزجار عن النواهي المردية والاتعاظ (2) عن المطارح الشقية، وما لايتم الواجب الذاتي الا به كان اولى بوجوب الوجود والله الموفق للصواب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " إذا ".

(2) - يشبه في بعض النسخ: " الايقاظ ".