[ 217 ]

 

القسم الثالث

في اللواحق والتتمات

 

وفيه فصلان

 

الفصل الاول

في بيان ان عليا عليه السلام كن مستجمعا لجميع الفضائل الانسانية

 

وفيه بحثان:

 

البحث الاول

في بيان كماله بحسب القوى النظرية

قد علمت ان كمال القوة النظرية انما هو باستكمال الحكمة النظرية وهى كما علمت استعداد النفس الانسانية بتصور المعارف الحقيقية والتصديق بالحقائق النظرية بقدر الطاقة البشرية ولاشك ان هذه الدرجة كانت ثابته له عليه السلام على أتم ما يمكن فان ادراكه (ع) لهذه الاشياء ادراك بحسب قوته الحدسية القدسية وادراك كثير الحكماء لها ادراك فكرى محتاج الى كلفة ومشقة يستلزم أغلاطا عظيمة لا يخلو عنها الا آحاد الحكماء: فأين احدهما من الاخر ؟ ! وبيان ذلك ببيان انه عليه السلام كان سيد العارفين بعد سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، وقبله نبين انه كان استاذ العالمين.

فههنا إذا مقامان: المقام الاول - انه كان استاذ البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وبيانه انا بحثنا العلوم بأسرها فوجدنا أعظمها وأعمها العلم الالهى وقد رأينا في خطبه عليه السلام من أسرار التوحيد والنبوات والقضاء والقدر وأحوال المعاد ما لم يأت في كلام أحد من أكابر - العلماء وأساطين الحكمة، ثم وجدنا جميع فرق الاسلام تنتهى في علومهم إليه، أما

 

[ 218 ]

المتكلمون فإما معتزلة، وانتسابهم إليه ظاهر، وذلك ان المباحث المتعلقة بأصول الفقه والمسائل الفقهية وكثير من ظواهر الشريعة موافقة لاصول المعتزلة وقواعدهم في اثبات الحسن والقبح العقليين في افعاله تعالى وبنائهم على ذلك استحالة التكليف بالمحال وغير ذلك مما هو مسطور في كتبهم واكثر اصول المعتزلة مأخوذ من ظواهر كلامه عليه السلام في التوحيد والعدل وان كانت لها أسرار أخرى، واما أشعرية ومعلوم ان استاذهم أبو الحسن الاشعري وهو تلميذ أبى على الجبائى وهو منتسب الى امير المؤمنين عليه السلام الا ان ابا الحسن تنبهه لما وراء أذهان المعتزلة وطالع كتب الحكمة فخالف أستاذه في مواضع تعلمها (1) من مذهبه وعبر عنها بعبارات توافق ظاهر الشريعة وزعم بذلك انه عند (2) المتكلمين وليس معهم الا اسمه.

واما الشيعة فانتسابهم إليه ظاهر، واما الخوارج وان كانوا على غاية من البعد عنه الا انهم ينتسبون الى مشايخهم وهم كانوا تلامذة على عليه السلام.

وأما المفسرون فرئيسهم ابن عباس رضى الله عنه وقد كان تلميذا لعلى عليه السلام.

وأما الفقهاء فأكابرهم كانوا يأخذون عنه الاحكام وتذكر ما قال عمر غير مرة حيث يقع في المسائل المشكلة فيفرج عنه: لولا على لهلك عمر، وكونه أفضل الامة في ذلك ظاهر ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أقضاكم على، والاقضى لابد وان يكون أفقه واعلم بقواعد الفقه وأصوله.

وقال عليه السلام: لو كسرت (3) لى الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الانجيل بانجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل ولا سماء ولا أرض ولا ليل ولانهار الا أنا أعلم فيمن نزلت وفى أي شئ نزلت، وذلك يدل على كمال علمه بالاحكام وعدم نظير له في ذلك.

واما الفصحاء فمعلوم ان جميع من ينسب الى الفصاحة بعده يملاون أوعية أذهانهم من ألفاضة ويضمنونها (4) كلماتهم وخطبهم ليكون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " يعلمها " (من دون نقطه) فيمكن ان يقرأ " يعلمها ".

(2) - كذا ولعله كان: " من ".

(4) - المشهور فيه: " ثنيت ".

(5) - ا: " يضمونها ".

 

[ 219 ]

منها (1) بمنزلة درر (2) العقود، والامر في ذلك ظاهر، واما النحويون فأول واضع للنحو هو أبو الاسود الدؤلى، وكان ذلك بارشاده عليه السلام له الى ذلك وكان بدؤ - ذلك ان أبا الاسود سمع رجلا يقرأ: ان الله برئ من المشركين ورسوله (بالكسر) فأنكر ذلك وقال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور اي من نقصان الايمان بعد زيادته وراجع في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: نحوت ان اضع للعرب ميزانا يقومون به لسانهم فقال عليه السلام: انح نحوه، وارشده الى كيفية ذلك الوضع وعلمه اياه.

واما علماء الصوفية وأرباب العرفان فنسبتهم إليه في تصفية الباطن وكيفية السلوك الى الحق الاول ظاهره الانتهاء إليه.

وأما علماء الشجاعة والممارسون للاسلحة والحروب فهم ايضا منتسبون إليه في ذلك فثبت بما قررنا انه عليه السلام كان استاذ الخلق وهاديهم الى الحق وذلك وان دل على كماله في قوته النظرية فهو دال ايضا على كمال قوته العملية.

المقام الثاني انه عليه السلام كان سيد العارفين بعد رسول الله صلى الله عليه آله وذلك ببيان انه كان قد تسنم درجة الوصول وتحقيق ذلك انك علمت في الاصول المتقدمة ان الوصول انما يحق (3) إذا غاب العارف عن نفسه فلحظ جناب الحق من حيث انه هو فقط وان لحظ نفسه من حيث هي لاحظه لامن حيث هي متزينة بزينة الحق ثم انه قد وجد في كلامه واشاراته ما يستلزم حصول هذه المرتبة وذلك من وجوه: الاول - قوله عليه السلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، وقد عرفت ان ذلك اشارة الى ان كل كمال نفساني متعلق بالقوة النظرية قد (4) حصل له بالفعل وذلك يستلزم تحقق الوصول التام الذى ليس في قوة الاولياء زيادة عليه.

الثاني - قوله عليه السلام مناجيا لربه: اللهى ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رغبه في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعباده فعبدتك، وهذا الكلام يدل على انه عليه السلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " فيها ".

(2) - ج: " در ".

(3) - د: " يتحقق ".

(4) - ب ج: " فقد ".

 

[ 220 ]

قد حذف كل ما سوى الحق تعالى عن درجة الاعتبار ولم يلحظ معه غيره وذلك هو الوصول التام.

الثالث - لما سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربك باامير المؤمنين ؟ - فقال عليه السلام: أفأ عبد ما لا ارى ؟ ! قال: وكيف تراه ؟ - قال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركة القلوب بحقائق الايمان، وقد عرفت ان القلوب في عرفهم عبارة عن النفوس الانسانية، وادراكها نيلها ووصولها الى ساحة عزته، وذلك يدل على انه عليه السلام كان من الواصلين.

الرابع - انه عليه السلام وصف موضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وكيفية تربيته وارشاده وتعليمه له في آخر خطبته المسماة بالقاصعة، قال عليه السلام مخاطبا للقوم: وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وانا وليد ويضمنى الى صدره ويكنفني في فراشه ويمسنى جسده ويشمني عرفه وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه وما وجد لى كذبة في قول ولاخطلة في فعل، ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر امه، يرفع لى في كل يوم علما من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يحاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيرى ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحى والرسالة وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنه الشيطان حين نزل الوحى عليه صلى الله عليه وآله فقلت: يارسول الله ما هذه الرنه ؟ - فقال: هذا الشيطان قد ايس من عبادته انك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، الا انك لست بنبى وانك لوزير (1) وانك لعلى خير.

والاستدلال بهذا الكلام من وجوه: الاول - انه لا نزاع في انه عليه السلام كان في أصل الخلقة في غاية الذكاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا في النسخ ولكن في نهج البلاغة: ولكنك وزير ".

 

[ 221 ]

والاستعداد لكمال العلوم وفى غاية الحرص، ولا نزاع ان محمدا صلى الله عليه وآله كان أفضل الفضلاء وأعلم العلماء فإذا اتفق لمثل هذا التلميذ الكامل ان يصحب مثل هذا الاستاذ الفاضل ويكونان في غاية الحرص، التلميذ في التعلم والاستاذ في التعليم وكان قد سبق له ن اتصل بخدمته من زمان صغره الى آخر عمره كما أشار إليه وعلى الوجه الذى أشار إليه فان العقل يضطر الى الحكم بان ذلك التلميذ يبلغ مبلغا عظيما في الكمال، ويصل الغاية القصوى من العلم.

الثاني - قوله عليه السلام: أرى نور الوحى - الى قوله - قد أيس من عبادته، وذلك انه عليه السلام رأى بعين بصيرته الصور الالهية أمثال الانوار البهية كما عرفت من انزعاج المتخيلة الى تلك الصور المقتنصة للعقل وتشبيحها وحطها الى الحس المشترك بصور خيالية وكذلك انحط الى حسه النفحات الربانية في مثال ريح محسوسة في غاية الذكاء ونهاية اللذه كريح المسك الاذفر وان كان فرقان (1) ما بينهما فرقان مابين الشامين والمشمومين وكذلك سمع رنه الوهم حال قهر العقل له وانزعاجه خلفه واستتباعه اياه حال انفلاته الى التوجه نحو القبلة الحقيقية واقتناص الصور القدسية (3) وحقيقة ذلك الرنان ان العقل متصور (4) في تلك الحال ما وقع للوهم من انجذابه الى خلاف مقتضى طبعة فتصور المتخيلة حينئذ وتشبه ما أدركه العقل من أحواله معه بصوره شخص شرير بعيد عن قبول الخير قهر على المتابعة فيه فتألم (5) فصاح (6) فتحطه في تلك الصورة وما يصحبها من الامثال المحسوسة الى الحس المشترك فيدرك هناك الصوت (7) المسمى بالرنان وذلك يدل على وصوله واتصاله بأرباب حظيرة القدس وقرب مزلته من تناول صور الوحى وان صدق انه دون درجة النبوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " فرقا ".

(2) - ب ج: " انقلابه.

(3) - ب ج د: " المقدسة.

(4) - ج: " يتصور ".

(5) - ب: " فيألم " ج " فتالم ".

(6) - ب: " وضاح " ج: " فصاح ".

(7) - ب: " الصورة ".

 

[ 222 ]

الثالث - قول النبي صلى الله عليه وآله (1) انك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى الا انك لست بنبى، ولا اشكال ان النبي (ص) كان له اتصال بالحق تعالى والوصول التام الذى وصفناه وكان ذلك الاتصال حاصلا لعلى وان كان دون درجة النبوة، فان للاتصال بالجناب المقدس درجات لا تتناهى، ولذلك قال: انك لست بنبى.

الرابع - قوله عليه السلام يصف السالكين الواصلين (2):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - هو من أواخر الخطبة القاصعة المروية في نهج البلاغة كما صرح به الشارح (ره).

(2) - قال الشارح (ره) في شرح هذا الكلام الشريف المروى في نهج البلاغة (ص 403 من الطبعة الاولى): اقول: هذا الفصل من اجل كلام له (ع) في وصف السالك المحقق الى الله وفى كيفية سلوكه المحقق وأفضل أموره فأشار باحياء عقله الى صرف همته في تحصيل الكمالات العقلية من العلوم والاخلاق وأحيا عقله النظرى والعملي بها بعد الرياضة بالزهد والعبادة واشار باماتة نفسه الى قهر نفسه الامارة بالسوء وتفريغها بالعبادة للنفس المطمئنة بحيث لا يكون لها تصرف على حد طباعها الا بارسال العقل وباعثه فكانت في حكم الميت عن الشهوات والميول الطبيعية الذى لا تصرف له من نفسه.

وقوله (ع): حتى دق جليله اي حتى انتهت به اماتته لنفسه الشهوية الى ان دق جليله وكنى (ع) بجليله عن بدنه فانه اعظم ما يرى منه، ولطف غليظه اشارة الى لطف بدنه ايضا ويحتمل ان يشير به الى لطف قواه النفسانية بتلك الرياسة وكسر الشهوة فان اعطاء القوة الشهوية مقتضى طباعها من الانهماك في المأكل والمشارب مما يثقل البدن ويكدر الحواس ولذلك قيل: البطنة تذهب الفطنة وتورث القسوة والغلظة، فإذا اقتصرت على حد العقل بها لطفت الحواس عن قلة الابخرة المتولدة عن التملى بالطعام والشراب ولطف الملطف ذلك ما غلظ من جوهر النفس بالهيئات البدنية المكتسبة من متابعة النفس الامارة بالسوء كلف المرآة بالصقال حتى يصير ذلك اللطف مسببا لاتصالها بعالمها واستشرافها لانوار من الملا الاعلى.

وقوله (ع) وبرق له لامع كثير البرق اشار (ع) باللامع الى ما يعرض للسالك عند بلوغ الارادة بالرياضة به حدا ما من الخلسات الى الجناب الاعلى فيظهر له انوار الهية شبيهة بالبرق في سرعة لمعانه واختفائه وتلك اللوامع مسماة عند أهل الطريقة بالوقت وكل وقت فانه محفوف بوجد إليه قبله ووجد عليه بعده لانه لما ذاق تلك اللذة ثم فارقها

 

[ 223 ]

قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعت به الابواب الى باب السلامة ودار - الاقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة بما استعمل قلبه وارضى ربه.

ومن تأمل لطائف هذه الكمات واستلاح بمرآة سره أسرار هذه الرمزات علم انه عليه السلام كان من سادات العارفين ورؤساء الواصلين والمراد ان العارف قد أحيا عقله باستعمال مادة الحياة التى هي العلوم والسعى في تحصيلها، وامات نفسه الاماره بالسوء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حصل فيه حنين وانين الى ما فات منها ثم ان هذه اللوامع في مبدا الامر تعرض له قليلا فإذا امعن في الارتياض كثرت فأشار باللامع الى نفس ذلك النور وبكثرة برقة الى كثرة عروضه بعد الامعان في الرياضة ويحتمل ان يكون قد استعار لفظ اللامع للعقل الفعال ولمعان ظهوره للعقل الانساني، وكثرة بروقه اشارة الى كثرة فيضان تلك الانوار الشبيهة بالبروق عنه عند الامعان في الرياضة وقوله (ع): فأبان له الطريق اي ظهر له بسبب ذلك ان الطريق الحق الى الله هي ما هو عليه من الرياضة وسلك به السبيل اي كان سببا لسلوكه في سبيل الله إليه وقوله (ع) وتدافعته الابواب اي أبواب الرياضة اي أبواب الجنة اي تطويع النفس الامارة والزهد الحقيقي والاسباب الموصلة اليهما كالعبادات وترك الدنيا فان كل تلك ابواب يصير منها السالك حتى ينتهى الى باب السلامة وهو الباب الذى إذا دخله السالك تيقن فيه السلامة من الانحراف عن سلوك سبيل الله بمعرفته ان تلك هي الطريق وذلك الباب هو الوقت الذى اشرنا إليه وهو اول منزل من منازل الجنة العقلية، وقوله (ع): وثبتت رجلاه بطمأ نينة بدنه في قرار الامن والراحة فهى قرار الامن متعلق بثبتت وهو اشارة الى الطور الثاني للسالك ما دام في مرتبة الوقت فانه يعرض لبدنه عند لمعان تلك البروق شدة اضطراب وقلقه يحس بها خلسة لان النفس إذا فاجأها أمر عظيم اضطربت وتقلقلت فإذا كثرت الغواشى الفتها بحيث لا تنزعج عنها ولا تضطرب لورودها عليها البدن بل تسكن وتطمئن لثبوت قدم عقله في درجة اعلى من درجات الجنة التى هي قرار الامن والراحة من عذاب الله.

وقوله (ع) بما استعمل قلبه وارضى ربه تعالى فالجار والمجرور متعلق بثبتت ايضا اي وثبتت رجلاه بسبب استعمال قلبه ونفسه في طاعة الله وارضائه بذلك الاستعمال وبالله التوفيق ".

 

[ 224 ]

بتطويعها للقوة العاقلة كما عرفت أسباب التطويع وكيفيته، حتى دق جليله اي صغر جسمه ونحف من تحمل أعباء الرياضة والقيام بها، ولطف ما كان غليظا كثيفا من هيئاته البدنية الردية فصارت نفسه مرآة مجلوة فبرق فيها بارق العزة وهو الوقت في عرف أرباب العرفان كما عرفته، وكونه كثيرا اشارة الى ما ذكرنا من ان تلك اللوامع لا تزال تزداد وتكثر الى ان تغشاه في غير حال الارتياض.

وقوله: فأبان له الطريق وسلك به السبيل، اي انه اهتدى لمعارج القدس بتلك البروق بعد ان كان غير مهتد لها، وسلك به السبيل الاقصد بعد ان كان في اسر متخيلته في حال ارتياضة تسوقه في سبل مختلفة بحسب اختلاف محاكاتها للامور الوهمية قبل الاطلاع باشراق تلك اللوامع على السبيل الواضح ولذلك قال: وتدافعت به الابواب اي الابواب المتخيلة انها هي المسالك الصحيحة قبل الاشراف على باب السلامة المؤدى الى دار المقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه اشارة الى انقلاب - وقته سكينة ولا تستفزه غواشية في قرار الامن عن الوجدين المحفوف بهم الوقت، وعن روع - استفزاز تلك الغواشى والراحة من مجاذبة النفس الامارة إذ صارت في اسر النفس المطمئنة مقهورة تأتمر بأوامرها وتنزجر بنواهيها، بما استعمل قلبه وأرضى ربه بامتثال أمر ربه في الاعمال المتقدمة في درجات السلوك.

وهذه اللطائف مما يوضح انه عليه السلام كان مطلعا اطلاعا حقيقيا على هذه المقامات واقفا (1) على أعلى درجاتها واصلا الى منتهاها وغايتها.

الخامس - انك ستعرف في الفصل الثاني ان شاء الله تمكنه عليه السلام من الاطلاع على المغيبات والقدرة على الاتيان بخوارق العادات، ومعلوم ان ذلك من خواص الواصلين.

 

البحث الثاني

في بيان كماله عليه السلام في القوة العملية

قد عرفت ان كمال القوة العملية انما هو بكمال الحكمة العملية وهى استكمال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " واقعا ".

 

[ 225 ]

النفس بكمال الملكة التامة على الافعال الفاضلة حتى يكون الانسان ثابتا على الصراط المستقيم متجنبا لطرفي الافراط والتفريط في جميع أفعاله، ثم علمت ان اصول الفضائل الخلقية ثلاثة.

الاول - الحكمة الخلقية وهى الملكة التى تصدر عنها (1) الافعال المتوسطة بين الجربزة والغباوة اللذان هما طرفا الافراط والتفريط، ولما ثبت انه عليه السلام كان من رؤساء الواصلين وجب ان يكون مستلزما لهذه الفضيلة إذ هي من صفات العارفين، وان لا يكون وافقا دونها على حد الغباوة والا لما كان واصلا، وان لا يكون متجاوزا لها الى طرف الجربزة لان الخبث يمنع صاحبه عن الترقي الى درجه الكمال ويأبى طبعه الا الشر.

الثاني العفة وقد علمت انها الملكة الصادرة عن اعتدال حركة القوة الشهوية بحسب تصريف العقل العملي لها على قانون العدل.

ونبين ان هذه الملكة كانت ثابته له عليه السلام من وجوه: الاول - انه كان أزهد الخلق في الدنيا وفيما عدا القبلة الحقيقية وأقدر على حذف الشواغل الملفتة (2) عن لقاء الله وكل من كان كذلك كان أملك لهواه من غيره اما المقدمة الاولى فمعلومة بالتواتر عن احواله وصفاته وأما الثانية فضرورية أيضا.

الثاني - قوله عليه السلام مخاطبا لربه (3): ما عبدتك رهبة من عقابك ولارغبة في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

وقد عرفت ان ذلك كما يستلزم اثبات الوصول في حقه فكذلك هو مستلزم لاثبات هذه الملكة له لان كل من قدر على حذف ما سوى الحق الاول وتنحيته (4) عن القصد فلابد وان يكون زمام شهوته بيد عقله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - النسخ: " عنه ".

(2) - كذا والشارح (ره) كثيرا في شرح نهج البلاغة ايضا لكنى لم أجده في اللغة.

(3) - من الاحاديث المسلمة الواردة في الكتب المعتبرة المعروفة.

(4) - ب: " يتجنبه " ج د: " تجنبه ".

 

[ 226 ]

الثالث - قوله عليه السلام في رواية ضرار بن ضمرة الضبابى لمعاوية وقد سأله عن أمير المؤمنين (ع) قال (1) لقد رايته في بعض مواقفه وقد ارخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ويقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - قال ابن ميثم (ره) في شرح نهج البلاغة في شرح هذه العبارة مانصه (ص 588): اقول: كان هذا الرجل من اصحابه (ع) فدخل على معاوية بعد موته (ع) فقال: صف لى عليا فقال: أو تعفينى عن ذلك فقال: والله لتفعلن فتكلم بهذا الفصل فبكى معاوية حتى اخضلت لحيته والضباب بطن من فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، والسدول جمع سدل وهو ما اسبل على الهودج، والتململ التقلقل من الالم والهم، والسليم الملسوع والوله اشد الحزن وقد نظر عليه السلام الى الدنيا بصورة امرأة تزينت وتعرضت لوصوله إليها مع كونها مكروهة إليه فخاطبها بهذا الخطاب، واليك من اسماء الافعال اي تنحى، وعنى متعلق له بما فيه من معنى الفعل، واستفهامه عن تعرضها به وتشوقها إليه استفهام انكار لذلك منها واستحقار لها واستبعاد لموافقه اياها على ما تريد، ولا حان حينك اي لاقرب وقتك اي وقت انخداعي لك وغرورك لى.

وقوله (ع): هيهات اي لابعد ما تطلبين منى ثم امرها بغرور غيره وهو كناية عن انه لا طمع له في ذلك منه الا انه اراد منها غرور غيره وهذا كمن يقول لمن يخدعه وقد اطلع على ذلك منه: اخدع غيرى، اي ان خداعك لا يدخل على.

ثم خاطبها خطاب الزوجة المكرهة منافرا لها فأخبرها بعدم حاجته إليها، ثم أنشا طلاقها ثلاثا، لتحصل البينونة بها مؤكدا لذلك بقوله: لا رجعة لى فيها، وهو كناية عن غاية كراهيتها، واكد طلاقها لميله (ع) الى ضرتها التى هي مظنة الحسن والبهاء.

ثم اشار الى المعايب التى لاجلها كرهها وطلقها وهى قصر العيش اي مدة الحيوة فيها ويسير الخطر اي قلة قدرها ومحلها في نظره ثم حقارة ما يؤمل منها، وثم تأوه من امور، احدها - قلة الزاد في السفر الى الله تعالى قد علمت انه التقوى والاعمال الصالحة وهكذا شأن العارفين في استحقار أعمالهم.

الثاني - طول الطريق الى الله ولا شئ في الاعتبار اطول مما لا يتناهى.

الثالث - بعد السفر وذلك لبعد غايته وعدم تناهيها.

الرابع - عظم المورد واول منازله الموت ثم البرزخ ثم موقف القيامة الكبرى والله المستعان.

وروى: " وخشونة المضجع "، وهو القبر ".

 

[ 227 ]

يادنيا يادنيا اليك عنى، ابى تعرضت ام الى تشوقت (1) لا حان حينك هيهات غرى غيرى لا حاجة لى فيك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير وخطرك يسير واملك حقير فآه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظم المورد.

وهذا صريح موضح لاثبات ملكة العفة له وقمع الشهوة بالكلية والمراد ههنا بالسفر السفر في الله الا السفر الى الله كما عرفت الفرق بينهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - وقال ابن ابى الحديد في شرحه ضمن ما قال: (ج 4 من طبعة مصر ص 276): " والتململ والتملل ايضا عدم الاستقرار من المرض كأنه على ملة وهى الرماد الحار وتشوفت ويروى بالقاف (يريد انه بالفاء وفى رواية اخرى بالقاف).

وقوله: لا حان حينك، دعاء علهيا لاحضر وقتك كما تقول: لا كنت فاما ضرار بن ضمره فان الرياشى روى خبره ونقلته انا من كتاب عبد الله بن اسماعيل بن احمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة قال: دخل ضرار على معاوية وكان ضرار من صحابة على عليه السلام فقال له معاوية: يا ضرار صف لى عليا قال أو تعفينى ؟ - قال: لااعفيك، قال ما أصف منه وكان والله شديد القوى بعيد - المدى يتفجر العلم من انحائه والحكمة من ارجائه، حسن المعاشرة سهل المباشرة، خشن المأكل قصير الملبس، غزيز العبرة طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، وكان فينا، يجيبنا إذا سألنا ويبتدئنا إذا سكتنا، ونحن مع تقريبه لنا اشد ما يكون صاحب لصاحب هيبة لا نبتدئه الكلام لعضمته، يحب المساكين ويقرب اهل الدين وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وتمام الكلام مذكور في الكتاب.

وذكر عمر بن عبد العزيز في كتاب الاستيعاب هذا الخبر فقا ل: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا يحيى بن مالك بن عائذ قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر وحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا العكلى عن الحرمازى عن رجل من همدان قال قال معاوية لضرار الضبابى: يا ضرار صف لى عليا قال: اعفنى يا امير المؤمنين قال: لتصنفه قال: اما إذ لابد من وصفه، كان والله بعيد المدى شديد القوى،

 

(1) - قرئ بالقاف والفاء فمن اراد التحقيق فليراجع شروح نهج البلاغة.

 

[ 228 ]

الرابع - قوله عليه السلام في صفة المخلص من عباد الله (1) فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان اول عدله ان نفى الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، ولا يدع للخير غاية الا أمها ولا مظنة الا قصدها قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائدة وامامه يحل حيث ثقله وينزل حيث كان منزله.

ومن أنصف من نفسه علم ان هذا الكلام لا يصدر عنه وهو مرتكب بخلافه وذلك يستلزم اثبات الملكة المذكورة له.

الخامس - قال ابن عباس رضى الله عنه (2) دخل على امير المؤمنين عليه السلام بذى قار وهو يخصف نعله فقال لى: ما قيمة هذه النعل ؟ - فقلت: لا قيمه لها، قال: والله لهى أحب الى من امرتكم الا ان اقيم حقا أو ادفع باطلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته، غزير العبرة طويل الفكرة، يعجبه من الباس ما قصر ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استفتيناه، ونحن والله مع تقريبه ايانا وقربه منا لانكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيتة في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ويقول: يادنيا غرى غيرى، أبى تعرضت ام الى تشوفت ؟ هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشه الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله ابا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ - قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها ".

(1) - من أراد شرحه فليراجع ج 2 من شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد، ص 226 من طبعة مصر وص 214 - 216 من شرح ابن ميثم من الطبعة الاولى في سنه 1276.

(2) - من اراد ان يقف على شرح هذا الكلام فليراجع شرح نهج البلاغة لشارح هذه الكلمات (ابن ميثم - رحمه الله -) انظر ص 149 من الطبعة الاولى وشرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد (ص 176 من ج 1 من طبعة مصر)

 

[ 229 ]

وذلك يستلزم اعراضه عن المطلوبات الفانية الا إذا كانت تؤدى الى الخيرات الباقية وهو عين العفة.

السادس - دعاء النبي صلى الله عليه وآله له: اللهم أدر الحق مع على حيث دار (1): ومن كان الحق ملازما لطبيعة حركاته استحال ان يلزمها باطل لاستحالة ان يلزم الطبيعة الواحدة لازمان متقابلان أو مختلفان فاستحال ان يكون متبعا للهوى البته وهو معنى العفة وهذا القدر قطرة من بحر التنبهات على لزوم هذه الملكة له، وبالجملة فالخوض في اثبات هذه الملكة له يشبه الاستدلال في موضع الضرورة.

الثالث - الشجاعة وثبوتها له عليه السلام معلوم بالضرورة حتى صار يضرب مبالغة في حق الرجل الشجاع وإذا عرفت عن هذه الاصول الثلاثة ثابتة له اتم ما يمكن، وثبت أنها مستلزمة لفضيلة العدالة علمت ثبوت العدالة له اكمل مما هي لسائر الخلق ويؤده قول الرسول صلى الله عليه آله: أقضاكم على (2)، والقضاء محتاج الى العدل ومشروط به.

واما أنواع هذه الفضائل فانت عند الانصاف واعتبار درجته وتصفح كلماته واقوال الرسول صلى الله وآله في حقه سيما قوله: اللهم أدر الحق مع على حيث، دار تجده مستكملا لها عالما بكيفية اقسامها مزكيا نفسه بها ويراها (3) وجوه حركاته وتصرفاته لانها الحق، وتجده خاليا من انواع الرذائل المحتوشة لها لعدم امكان اجتماع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - من اراد ان يقف على شئ من طرق هذا الحديث فليراجع غاية المرام للسيد هاشم البحراني (ره) فان الباب الخامس والاربعين من ذلك الكتاب في نقل قول النبي (ص): على مع الحق والحق مع على، وقوله (ص): اللهم ادر الحق معه حيث دار وفيه، اربعه عشر حديثا من طرق العامة، والباب السادس والاربعين من الكتاب في نقل احاديث الخاصة في ذلك (انظر ص 540 - 536).

(2) - من الاحاديث المتواترة بين الفريقين.

(3) - ب: " وتراها " وعلى هذه النسخة لا يستقيم الكلام الا بوجود كلمة " في " قبل لفظة " وجوه ".

 

[ 230 ]

الاضداد ولولا كراهة التطويل لا وضحنا ان كل نوع من أنواع الفضائل ثابت له على اكمل الوجوه.

واما القسم الثاني والثالث من اقسام الحكمة وهما الحكمة المنزلية والسياسية فقد علمت ان فائدتهما ان يعلم الانسان وجه المشاركة التى ينبغى ان يكون بين اشخاص الناس ليتاونوا على مصالح الابدان ونظام مصالح المنزل والمدنية وقد كان عليه السلام في ذلك العلم سباق غايات وصاحب آيات ويكفيك في معرفة ذلك منه اما على سبيل الجملة فلان الشريعة المصطفوية متضمنة لهاتين الحكمتين على اتم الوجوه واكملها بحيث ترجع اكابر الحكماء إليها في تعلمها، ومعلوم ان امير المؤمنين عليه السلام كان متمسكا بها ومقررا لها وباسطا لاسرارها الكلية ومفصلا لاشراتها الجميلة ولم يغير منها حرفا ولم يقصر فيها عن غاية وذلك مستلزم ثبوتهما له على اكمل وجه واتمه اما على سبيل - التفصيل فعليك في معرفة ذلك انه كان اكمل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في هذا العلم بمطالعة عهوده الى عماله وولاته وامرائه وقضاته من كتاب نهج البلاغة وخصوصا العهد الذى كتبه للاشتر النخعي فان فيه لطائف من تدبير امر المدن ونظام أحوالها لا تهتدى لحسنها وإذا تأملته لم تجد عليه مزيدا في هذا الباب، هذا مع ما تواتر من رجوع المتقدمين له المعترف بحسن تدبيرهم ويالتهم الى استشارته في امورهم وتعرف كيفية تدبير العساكر والحروب والمصالح الكلية والجزئية والفيئ الى احكامه من الاخبار الكثيرة.

من ذلك قوله عليه السلام لما استشاره عمر في الخروج من المسلمين الى غزو الروم (1):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - نقله الشريف الرضى - رضى الله عنه - في باب الخطب من نهج البلاغة وصدره بهذه العبارة " ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج الى غزو الروم بنفسه " (انظر ج 2 شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد من طبعة مصر، ص 389).

 

[ 231 ]

وقد توكل الله لاهل هذا الدين باعزاز الحوزة، وستر العورة، والذى نصرهم وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حى لا يموت، انك متى تسر الى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا يكن للمسلمين كانفة دون أقصى بالادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث عليهم (1) رجلا محربا (2) وتحفز (3) معه أهل البلاء والنصيحة فان اظهر الله فذاك ما تحب وان تكن الاخرى كنت ردء للناس ومثابة للملمين (4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - في نهج البلاغة: " إليهم ".

(2) - قال شارح الكلمات ابن ميثم (ره) في شرحه لنهج البلاغة (ص 267 من الطبعة الاولى): " والمجرب بكسر الميم الرجل صاحب حروب " وقال ابن ابى الحديد في شرحه: " رجل محرب اي صاحب حروب " لكن قال ابن الاثير في النهاية: " وفى حديث على - رضى الله عنه - فابعث رجلا محرابا اي معروفا بالحرب عارفا بها والميم مكسورة وهو من ابنية المبالغة كالمعطاء، ومنه حديث ابن عباس قال في على رضى الله عنهما: ما رأيت محرابا مثله " وقال الفيروز آبادى في القاموس: " ورجل حرب ومحرب ومحراب شديد الحرب شجاع " وقال الزبيدى في شرحه مانصه: " (ورجل حرب) كعدل (ومحرب) بكسر الميم (والمحراب) اي (شديد الحرب شجاع) وقيل: محرب ومحراب صاحب حرب، وفى حديث على - كرم الله وجهه - فابعث عليهم رجلا محربا اي معروفا بالحرب عارفا بها والميم مكسورة وهو من ابنية المبالغة كالمعطاء من العطاء، وفى حديث ابن عباس قال في على: ما رايت محربا مثله، ورجل محرب محارب لعدوه ".

(3) - قال ابن ابى الحديد في شرحه: " حفزت الرجل واحفزه = دفعته من خلفه وسقته سوقا شديدا " وقال ابن ميثم في شرحه: " حفز كذا اي دفعه وحفزه ضمه الى غيره ".

(4) - قال ابن ابى الحديد في شرحه: " فان قلت " فما بال رسول الله (ص) كان يشاهد الحروب بنفسه ويباشرها بشخصه ؟ - قلت: ان رسول الله (ص) كان موعودا بالنصر وآمنا على نفسه بالوعد الالهى في قوله: والله يعصمك من الناس، وليس عمر كذلك.

فان قلت: فما بال امير المؤمنين (ع) شهد حرب الجمل وصفين والنهروان بنفسه فهلا بعث اميرا محربا وأقام بالمدينة ردء ومثابة ؟ - قلت عن هذا جوابان، احدهما - انه (ع) كان عالما من جهة النبي (ص) انه لا يقتل في هذه الحروب، ويشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافه: تقاتل بعدى

 

[ 232 ]

فانظر الى هذا الرأى الصائب بعين بصيرتك تجده كافلا لمحاسن تدابير الرياسات مقتضيا لنظام الحركات المدنية كاشفا لمصالح الملك مستلزما لكونه عليه السلام أفضل المتقدمين في هذا الشأن.

ومنها قوله عليه السلام (1): والله لقد علمت (2) تبليغ الرسالات، واتمام العدات، وتمام الكلمات، وعندنا أهل البيت ابواب الحكم وضياء الامر.

ولا شك ان من علم تبليغ الرسالات وادائها وكانت عنده ابواب الحكمة كان اولى الخلق بتدبير احوال الخلق واقدرهم على نظم امورهم (3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الناكثين والقاسطين والمارقين.

وثانيهما - يجوزان يكون غلب على ظنه ان غيره لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه ولم يجد اميرا محربا من اهل البلاء والنصيحة لانه (ع) هكذا قال لعمر واعتبر هذه القيود والشروط فمن كان من اصحابه (ع) محربا لم يكن من اهل النصيحة له، ومن كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا فدعته الضرورة الى مباشرة الحرب بنفسه ".

اقول: قد عمل أمير المؤمنين (ع) هذا العمل في غير حرب الجمل وصفين والنهروان ويكشف عن ذلك ما نقله السيد الرضى (رض) في نهج البلاغة (ج 2 شرح ابن ابى الحديد ص 259 من طبعة مصر) بهذه العبارة " ومن كلام له عليه السلام وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا مليا فقال (ع) ما بالكم امخرسون انتم ؟ ! فقال قوم منهم: يا امير المؤمنين ان سرت سرنا معك، فقال (ع): ما بالكم لاسددتم لرشد ولاهديتم لقصد افي مثل هذا ينبغى ان اخرج وانما يخرج في مثل هذا رجل ممن ارضاه من شجعانكم وذوى بأسكم ولا ينبغى لى ان ادع الجند والمصر وبيت المال (الى ان قال) وانما انا قطب الرحى تدور على وانا بمكانى فإذا فارقته استحار مدارها واضطربت ثفالها (الى آخر ما قال) ".

(1) - هو صدر كلام له (ع) نقله السيد الرضى (ره) في نهج البلاغة (انظر شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد ص 260 من المجلد الثاني من طبعة مصر).

(2) - قال ابن ابى الحديد: " رواها قوم: لقد علمت، بالتخفيف وفتح العين، والرواية الاولى احسن ".

(3) - قال ابن ميثم (ره) في شرحه لنهج البلاغة في شرح هذا الكلام مانصه (ص 284

 

[ 233 ]

ومنها قوله عليه السلام على علم تدبير الحروب: فقدموا الدارع، واخروا الحاسر، وعضوا على الاضراس، فانه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فانه أمور للاسنة، وغضوا الابصار، فانه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الاصوات، فانه أطرد للفشل، ورأيتكم فلا تميلوها، ولا تخلوها، ولا تجعلوها الا بأيدي شجعانكم والمانعين الدمار منكم، فان الصابرين على نزول - الحقائق هم الذين يحفون براياتهم ويكتنفونها حفافيها ووراءها وامامها لا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها.

وهو مذكور في كتاب نهج البلاغة (1).

وكذلك قوله عليه السلام في هذا المعنى في بعض ايام صفين (2):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من الطبعة الاولى): " اقول: صدر الفصل بذكر فضيلته وهى علمه بكيفية تبليغ الرسالات وادائها، وعلمه باتمام الله تعالى ما وعد به المتقين في دار القرار فتمام وعده ان لا خلف فيه، وتمام اخباره ان لا كذب فيها، وتمام اوامره ونواهيه اشتمالها على المصالح الخالصة والغالبة وهكذا ينبغى ان يكون اوصياء الانبياء وخلفائهم في ارض الله وعباده ثم اردف ذلك بالاشارة الى فضل اهل البيت عاما واراد بضياء الامر انوار العلوم التى يبتنى عليها الامور والاعمال الدينية والدنيويه وما ينبغى ان يهتدى الناس به في حركاتهم من قوانين الشريعة وما يستقيم به نظام الامر من قوانين السياسات وتدبير المدن والمنازل ونحوهما إذ كان كل امر شرع فيه على غير ضياء من الله ورسوله أو احد اهل بيته وخلفائه الراشدين فهو محل التيه والزيغ عن سبيل الله ".

فمن اراد باقى الكلام وشرحه فليراجع شرح نهج البلاغة.

(1) - هو مذكور في نهج البلاغة في باب الخطب فان اردت شرحه فراجع شرح ابن ابى الحديد (ج 2 ص 266 من طبعة مصر) أو شرح شارح تلك الكلمات ابن ميثم (ره) على نهج البلاغة (ص 286 من الطبعة الاولى).

(2) - هو ايضا مذكور في نهج البلاغة (انظر شرح ابن ميثم (ره) ص 182 من الطبعة الاولى) وان اردت ان تراجع شرح ابن ابى الحديد فراجع ج 1 ص 476 من طبعة مصر.

 

[ 234 ]

معاشر المسلمين استشعروا الخشية، وتجلببوا الكينة، وعضوا على النواجذ، فانه أنبى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللامة، وقلقلوا السيوف في أغمادها، والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظبى، وصلوا السيوف بالخطى.

وعند تأمل هذه الكلمات تجده عليه السلام قد أحاط بعلم تدبير الحرب وانتظام أمور الجند.

واما رجوعهم الى احكامه الصائبة وتنبيهاته عليه السلام لهم على الاغلاط العظيمة ففى مواضع كثيرة يطول بتفصيلها الكلام ويخرج عن الغرض كقضية (1) المجهضة (2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج: " كقصة ".

(2) - ج: " المجهصة " (بالصاد المهملة) وهى تصحيف قطعا، قال الطريحي (ره) في مجمع البحرين: " الجهاض بالكسر اسم من: أجهضت الناقة والمراة ولدها اجهاضا = أسقطته ناقص الخلق، ومنه المجهض = المسقطة للحمل، والولد مجهض بفتح الهاء وجهيض " فكأنها اشارة الى ما نقله الاثار وحملة الاخبار ضمن قضاياه الغريبة، قال العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار في " باب قضاياه صلوات الله عليه وما هدى قومه (ع) إليه مما أشكل عليهم من مصالحهم " نقلا عن مناقب ابن شهر اشوب (ص 479 من طبعة امين الضرب): " أبو القاسم الكوفى والقاضى النعمان في كتابيهما: عمر بن حماد باسناده عن عبادة بن الثابت قال: قدم قوم من الشام حجاجا فأصابوا أدحى نعامة فيه خمس بيضات فشووهن وأكلوهن ثم قالوا: ما أرانا الا وقد أخطانا والصيد أصبنا ونحن محرمون، فأتوا المدينة وقصوا على عمر القصة فقال: انظروا الى قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فاسألوهم عن ذلك ليحكموا فيه فسألوا جماعة من الصحابة فاختلفوا في حكم ذلك فقال عمر: إذا اختلفتم فههنا رجل كنا أمرنا إذا اختلفنا في شئ فيحكم فيه فأرسل الى امراة يقال لها عطية فاستعار منها اتانا فركبها وانطلق بالقوم معه حتى اتى عليا وهو بينبع، فخرج إليه على فتلقاه ثم قال له: هلا أرسلت الينا، فنأتيك ؟ - فقال عمر: الحكم يوتى في بيته فقص عليه القوم فقال على (ع) لعمر: مرهم فليعمدوا الى خمس قلائص من الابل فليطرقوها للفحل فإذا أنتجت أهدوا ما نتج منها جزاء عما اصابوا، فقال عمر: يا أبا الحسن ان الناقه قد

 

[ 235 ]

وقضية المرأة زنت وهى حامل (1) فأمر عمر برجمها، وقضية المرأة التى ولدت لستة اشهر فأمر عمر ايضا برجمها حتى نبه عليه السلام على ان ذلك أقل مدة الحمل بقوله تعالى: وحمله وفصالة ثلاثون شهرا، وقد علم ان مدة الفصال سنتان فقال عمر في هذا المواضع:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تجهيض ؟ - فقال على: وكذلك البيضة قدتمرق، فقال عمر: فلهذا أمرنا ان نسألك بيان - قال الجوهرى: مدحى النعامة موضع بيضها وادحيها موضعها الذى تفرخ فيه وهو أفعول من: دحوت: لانها تدحوه برجلها ثم تبيض فيه، واجهضت الناقة اي اسقطت، ومرقت البيضة اي فسدت، وقال الميداني في مجمع الامثال وشارح اللباب وغيرهما: في المثل السائر: في بيته يؤتى الحكم، هذا ما زعمت العرب عن ألسن البهائم قال: ان الارنب التقطت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها وانطلقا يختصمان الى الضب فقالت الارنب: يا ابا الحسل فقال، سميعا دعوت، قالت: اتيناك لنختصم اليك، قال: عادلا حكمتما، قالت، في بيته يؤتى الحكم، قالت: وجدت تمرة:، قالت: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب قال لنفسه بغى الخير قالت: فلطمتة: قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني قال: حرا تنتصر، قالت: فاقض بيننا، قال حدث حدثين امراة فان ابت فأربعة، فذهبت أقواله كلها امثالا، انتهى ".

(1) - هذه القضية في كتب معتبرة كثيرة راجع لبعض طرقه تاسع البحار (ص 483 من طبعة امين الضرب) فان اردت ملاحظة عدة من طرقها راجع تمام " باب قضاياه صلوات الله عليه وما هدى قومه إليه مما اشكل من مصالحهم " ص 475 - 499 من المجلد المذكور.

وانما نشير الى موضع من موارد نقلها قال العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار في " باب قضاياه (ع) وماهدى قومه إليه مما أشكل عليهم " (ص 479 من طبعة امين الضرب): " قب (اي مناقب ابن شهر اشوب) وكان الهيثم في جيش فلما جاء جاءت امرأتة بعد قدومه بستة اشهر بولد، فأنكر ذلك منها وجاء به عمر وقص عليه فأمر برجمها فأدركها على (ع) من قبل ان ترجم ثم قال لعمر: اربع على نفسك انها صدقت ان الله تعالى يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، وقال: والوالدات يرضعن اولادهن حولين

 

[ 236 ]

لولا على لهلك عمر، وبلفظ آخر لا عشت لمشكلة لا تكون لها يا ابا الحسن (1).

وجزيئات هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه مقنع لمن سلك طريق السداد وتنحى عن (سبيل العناد)، والله ولى التوفيق والعصمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاملين فالحمل والرضاع ثلاثون شهرا، فقال عمر: لولا على لهلك عمر، وخلى سبيلها وألحق الولد بالرجل.

شرح ذلك اقل الحمل اربعون يوما وهو زمن انعقاد النطفة واقله لخروج الولد حيا سته اشهر، وذلك لان النطفة تبقى في الرحم اربعين يوما، ثم تصير علقة اربعين يوما، ثم تصير مضغة اربعين يوما، ثم تتصور في اربعين يوما، وتلجها الروح في عشرين يوما، فذلك سته اشهر فيكون الفطام في اربعة وعشرين شهرا، فيكون الحمل في سته اشهر ".

(1) - قال العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار في باب قضاياه بعد نقل حديث فيه " فقال عمر: معضلة وليس له الا أبو الحسن " (ص 495 من طبعة امين الضرب) مانصه: " بيان - قال الجزرى في النهاية: العضل المنع والشده يقال: أعضل بى الامر إذا اضاقت عليك فيه الحيل ومنه حديث عمر: اعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن، وروى معضلة (اي بتشديد الضاد) اراد المسألة الصعبة أو الخطبة الضيقة المخارج من الاعضال والتعضيل ويريد بأبى الحسن على ابن ابى طالب (ع) انتهى ".

اقول: يشبه كلام ابن الاثير من جهه نجم الائمة الرضى (ره) في شرح الكافية لابن الحاجب وذلك انه قال في مبحث لا التي لنفى الجنس مانصه (ص 111 من طبعة تبريز سنة 1374: " وعلم انه قد يؤول العلم المشتهر ببعض الخلال بنكرة فينتصب وينزع منه لام التعريف ان كان فيه نحو: لا حسن، في الحسن البصري، وكذا لاصعق في الصعق، أو مما اضيف إليه نحو لا امرء قيس ولا ابن زبير، ولا يجوز هذه المعاملة في لفظي عبد الله وعبد الرحمن إذ الله والرحمن لا يطلقان على غيره تعالى حتى يقدر تنكيرهما قال: لا هيثم الليلة للمطى، وقال:

ارى الحاجات عند ابى حبيب * نكدن ولا امية في البلاد

ولتاويلة بالمنكر وجهان اما ان يقدر مضاف هو مثل فلا يتعرف بالاضافة لتوغله في الابهام