حرف اللاّم

215 لنا حقّ ، فإنّ أعطيناه ، و إلاّ ركبنا أعجاز الإبل ، و إن طال السّرى . 1 قال السيّد الرضيّ رضى اللّه عنه : و هذا القول من لطيف الكلام و فصيحه ،

و معناه : أنّا إن لم نعط حقّنا كنّا أذلاّء ، و ذلك أنّ الرديف يركب عجز البعير ، كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما . 2 انتهى .

قد فسّر كلامه عليه السلام على وجهين : أحدهما أنّ راكب عجز البعير يلحق مشقّة و ضررا ، و هذا قريب ممّا فسّره الرضيّ . و الثاني أنّ راكب عجز البعير إنّما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير ، و راكب الظهر متقدّم على راكب العجز ، فأراد أنّا إذا منعنا حقّنا تأخّرنا و تقدّم

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 22 .

( 2 ) نهج البلاغة ، ص 472 .

[ 178 ]

غيرنا علينا ، فكنّا كالراكب رديفا لغيره ، و أكّد المعنى على كلا التفسيرين بقوله : « و إن طال السرى » السرى : سير الليل ، أي المشقّة .

و هذا الكلام قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيّام ، و قيل : قاله يوم الشورى . 1 216 لا قربة بالنّوافل إذا [ ما خ ل ] أضرّت بالفرائض . 2 هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته و يمكن أن يحمل على مجازه ، فإن حمل على حقيقته فمعناه : لا يصحّ التنفّل ممّن عليه قضاء فريضة فاتته ، و هذا مذهب كثير من الفقهاء . و أمّا إذا حمل على مجازه فإنّ معناه : يجب الابتداء بالأهمّ و تقديمه على ما ليس بأهمّ ، نحو أن تقول لمن توصيه : لا تبدأ بخدمة حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك ، فإنّك إنّما تروم القربة للملك بالخدمة ، و لا قربة إليه في تأخير خدمة ولده و تقديم خدمة غلامه .

217 لسان العاقل وراء قلبه ، و قلب الأحمق وراء لسانه . 3 قال الرضيّ ( ره ) : و هذا من المعاني العجيبة الشريفة ، و المراد به أنّ العاقل لا يطلق لسانه إلاّ بعد مشاورة الرويّة ، و مؤامرة الفكرة ،

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 133 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 39 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 40 .

[ 179 ]

و الأحمق تسبق حذفات لسانه ، و فلتات كلامه ، مراجعة فكره ،

و مما خضة رأيه ، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه ، و كأنّ قلب الأحمق تابع للسانه . 1 قال : و قد روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر ، و هو قوله عليه السلام :

218 قلب الأحمق في فيه ، و لسان العاقل في قلبه . 2 و معناهما واحد . انتهى .

الكلام في العقل و الحمق أكثر من أن يذكر و نحن نذكر ها هنا نبذا يسيرا على حسب دأبنا في هذا الشرح .

قالوا : كلّ شي‏ء إذا كثر رخص إلاّ العقل ، فإنّه كلّما كان أكثر كان أعزّ و أغلى . 3 و كان عبد الملك يقول : أنا للعاقل المدبر أرجى منّي للأحمق المقبل . 4 قيل لبعضهم : العقل أفضل أم الجدّ ؟ فقال : العقل من الجدّ . 5 و قال أرسطو : العاقل يوافق العاقل ، و الأحمق لا يوافق العاقل ،

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، ص 476 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 41 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 159 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 159 .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 18 160 .

[ 180 ]

و الأحمق 1 كالعود المستقيم الذي ينطبق على المستقيم ، فأمّا المعوجّ فإنّه لا ينطبق على المعوجّ و لا على المستقيم . 2 قلت : و منه قول الطغرائيّ في « لاميّة العجم » :

و شان صدقك عند الناس كذبهم
و هل يطابق معوجّ بمعتدل

3 قال هشام بن عبد الملك يوما لأصحابه : إنّ حمق الرجل يعرف بخصال أربع : طول لحيته ، و بشاعة كنيته ، و نقش خاتمه ، و إفراط نهمته .

فدخل عليه شيخ طويل العثنون ، فقال هشام : أمّا هذا فقد جاء بواحدة فانظروا أين هو من الباقي ، قالوا له : ما كنية الشيخ ؟ قال : أبو الياقوت ، فسألوه عن نقش خاتمه ، فإذا هو : وَ جَاؤُوا عَلَى قَميصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ 4 فقيل له : أي الطعام تشتهي ؟ قال : الدبّاء 5 بالزيت ، فقال هشام : إنّ صاحبكم قد كمل . 6 و أرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا له في حلبة ، فجاء سابقا ، فقيل له :

سمّه باسم يعرف به ، فقام ففقأ عينه ، و قال : قد سمّيته الأعور ، فقال

-----------
( 1 ) كذا في المتن . و الصحيح : و لا أحمق ، كما في شرح ابن أبي الحديد .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 160 .

( 3 ) معجم الأدباء 10 67 .

( 4 ) سورة يوسف ( 12 ) 18 .

( 5 ) الدبّاء : القرع .

( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 18 160 161 .

[ 181 ]

شاعر يهجوه :

رمتني بنو عجل بداء أبيهم
و أيّ عباد اللّه أنوك من عجل

أ ليس أبوهم عار عين جواده
فأضحت به الأمثال تضرب بالجهل

1 و كان عبد الملك بن هلال عنده زنبيل مملوء حصا للتسبيح ، فكان يسبّح بواحدة واحدة ، فإذا ملّ طرح اثنتين اثنتين ، ثمّ ثلاثا ثلاثا ،

فإذا ازداد ملاله قبض قبضة و قال : سبحان اللّه عددك فإذا ضجر أخذ بعرا الزنبيل و قلّبه ، و قال : سبحان اللّه بعدد هذا . 2 وصف بعضهم إنسانا أحمق ، فقال : و اللّه للحكمة أزلّ عن قلبه من المداد عن الأديم الدهين . 3 4 و من حمقى العرب و جهلائهم كلاب بن صعصعة ، خرج إخوته يشترون خيلا ، فخرج معهم ، فجاء بعجل يقوده ، فقيل له : ما هذا ؟

فقال : فرس اشتريته ، قالوا : يا مائق 5 هذه بقرة ، أما ترى قرنيها

-----------
( 1 ) العقد الفريد 7 173 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 164 .

( 3 ) الدهين فعيل من الدهن . منه ( ره )

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 165 .

( 5 ) المائق : الأحمق .

[ 182 ]

فرجع إلى منزله فقطع قرنيها ، ثمّ قادها ، فقال لهم : قد أعددتها فرسا كما تريدون ، فأولاده يدعون بني فارس البقرة . 1 و استعمل معاوية عاملا من كلب ، فخطب يوما ، فذكر المجوس ،

فقال : لعنهم اللّه ينكحون أمّهاتهم ، و اللّه لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمّي ، فبلغ ذلك معاوية ، فقال : قبّحه اللّه أترونه لو زادوه فعل و عزله . 2 و شرد بعير لهبنّقة و اسمه يزيد بن شروان فجعل ينادي : لمن أتى به بعيران ، فقيل له : كيف تبذل ويلك بعيرين في بعير فقال : لحلاوة الوجدان . 3 219 لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ، و لو صببت الدّنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني .

و ذلك أنّه قضي فانقضى على لسان النّبيّ الأمّيّ صلّى اللّه عليه و آله ، أنّه قال : يا عليّ ، لا يبغضك مؤمن ، و لا يحبّك منافق . 4 جمّاتها بالفتح : جمع جمّة ، و هي المكان يجتمع فيه الماء . و هذه استعارة لمجتمع المال .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 165 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 166 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 166 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 45 .

[ 183 ]

و الخيشوم : أقصى الأنف ، و مراده عليه السلام من هذا الفصل إذكار الناس ما قاله فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو : لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك منافق .

220 لا غنى كالعقل ، و لا فقر كالجهل ، و لا ميراث كالأدب ، و لا ظهير كالمشاورة . 1 قال بزرجمهر الحكيم : ما ورثّت الاباء ابناءها شيئا أفضل من الأدب ، لأنّها إذا ورّثتها الأدب اكتسبت بالأدب المال ، فإذا ورثّتها المال بلا أدب اتلفته بالجهل ، و قعدت صفرا من المال و الأدب . 2 و كان يقال : عليكم بالأدب ، فإنّه صاحب في السفر ، و مؤنس في الوحدة ، و جمال في المحفل ، و سبب إلى طلب الحاجة . 3 و سيأتي مثل هذا الكلام بعد هذا .

221 اللّسان سبع ، إن خلّي عنه عقر . 4 قالت الحكماء : النطق أشرف ما خصّ به الإنسان ، لأنّه صورته المعقولة الّتي باين بها سائر الحيوانات ، و لذلك قال سبحانه : خَلَقَ

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 54 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 187 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 188 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 60 .

[ 184 ]

الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ 1 ، و لم يقل : « و علّمه » بالواو ، لأنّه سبحانه جعل قوله : « علّمه البيان » تفسيرا لقوله : « خلق الإنسان » ، لا عطفا عليه ، تنبيها على أنّ خلقه له هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهّم مرتفعا لارتفعت إنسانيّته ، و لذلك قيل : ما الإنسان لو لا اللسان إلاّ بهيمة مهملة ، أو صورة ممثّلة . 2 قالوا : و الصمت من حيث هو صمت مذموم ، و هو من صفات الجمادات ، فضلا عن الحيوانات ، و كلام أمير المؤمنين عليه السلام و غيره من العلماء و الحكماء في مدح الصمت محمول على من يسي‏ء الكلام ، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين و الدّنيا ، كما ورد في الخبر : إنّ الإنسان إذا أصبح قالت أعضاؤه للسانه : اتّق اللّه فينا ، فإنّك إن استقمت نجونا ، و إن زغت هلكنا . 3 222 لا تستح من إعطاء القليل ، فإنّ الحرمان أقلّ منه . 4 أراد بقوله : أقلّ منه ، أي أحقر بالاعتبار ، و هذا نوع من الحثّ على الإفضال و الجود لطيف .

سئل أرسطو : هل من جود يستطاع أن يتناول به كلّ أحد ؟ قال :

-----------
( 1 ) سورة الرحمن ( 55 ) 3 4 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 196 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 197 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 67 .

[ 185 ]

نعم ، أن تنوي الخير لكلّ أحد . 1 223 لا ترى الجاهل إلاّ مفرطا أو مفرّطا . 2 العدالة هي الخلق المتوسّط ، و هو محمود بين مذمومين ، فالشجاعة محفوفة بالتهوّر و الجبن ، و الذكاء بالغباوة و الجربزة ، و لجود بالشحّ و التبذير ، و الحلم بالجمادية و الاستشاطة ، و على هذا كلّ ضدّين من الأخلاق فبينهما خلق متوسّط ، و هو المسمّى بالعدالة ، فلذلك لا يرى الجاهل إلاّ مفرطا و هو الجهل المركّب أو مفرّطا و هو الجهل البسيط كصاحب الغيرة ، فهو إمّا أن يفرط فيها ، فيخرج عن القانون الصحيح فيغار لا من موجب ، بل بالوهم و بالخيال و بالوسواس ، و إمّا أن يفرّط فلا يبحث عن حال نسائه و لا يبالي ما صنعن ، و كلا الأمرين مذموم ، و المحمود الاعتدال .

224 لا يستقيم قضاء الحوائج إلاّ بثلاث : باستصغارها لتعظم ،

و باستكتامها لتظهر ، و بتعجيلها لتهنؤ . 3 اشترط في استقامة الحوائج ثلاث شرائط :

أحدها : استصغار قاضي الحاجة لها ليعرف بالسماحة و كبر

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 212 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 70 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 101 .

[ 186 ]

النفس فيعظم عطاؤه و يشتهر .

الثانية : أن يكتمها ، فإنّ طباع الناس أدعى إلى إظهار ما استكتم ،

و أكثر عناية به من غيره .

الثالثة : أن يعجّلها لتهنؤ ، أي لتكون هنيئة ، و ذلك لأنّ الإبطاء بقضاء الحاجة ينغّصها على طالبها ، فتكون لذّتها مشوبة بتكدير بطؤها .

و لهذا قالوا : و خير الخير ما كان عاجله . 1 و كان يقال : المنع أروح من التأخير . 2 و قال خالد بن صفوان : لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ، و لا تطلبوها إلى غير أهلها ، و لا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء . 3 225 لا يترك النّاس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلاّ فتح اللّه عليهم ما هو أضرّ منه . 4 مثال ذلك إنسان يضيّع وقت صلاة الفريضة عليه ، و هو مشتغل

-----------
( 1 ) و في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال : إنّ اللّه يحبّ من الخير ما يعجّل . ( الكافي 2 142 )

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 258 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 258 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 106 .

[ 187 ]

بمحاسبة وكيله و مخافته على ماله ، خوفا أن يكون خانه في شي‏ء منه ،

فهو يحرص على مناقشته عليه ، فتفوته الصلاة .

226 لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلاّ من لا يصانع ، و لا يضارع ، و لا يتّبع المطامع . 1 المصانعة : بذل الرشوة ، و في المثل : من صانع بالمال ، لم يحتشم من طلب الحاجة . 2 و يضارع : يتعرّض لطلب الحاجة ، و يجوز أن يكون من الضراعة ، و هي الخضوع .

227 لا مال أعود من العقل ، و لا وحدة أوحش من العجب ، و لا عقل كالتّدبير و لا كرم كالتّقوى ، و لا قرين كحسن الخلق ، و لا ميراث كالأدب ،

و لا قائد كالتّوفيق ، و لا تجارة كالعمل الصّالح ، و لا زرع 3 كالثّواب ، و لا ورع كالوقوف عند الشّبهة ، و لا زهد كالزّهد في الحرام ، و لا علم كالتّفكّر ،

و لا عبادة كأداء الفرائض ، و لا إيمان كالحياء و الصّبر ، و لا حسب كالتّواضع ،

و لا شرف كالعلم ، و لا عزّ كالحلم ، و لا مظاهرة أوثق من المشاورة . 4 أمّا المال فإنّ العقل أعود منه ، لأنّ الأحمق ذا المال طالما ذهب

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 110 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 274 .

( 3 ) في النهج : و لا ربح .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 113 .

[ 188 ]

ماله بحمقه ، فعاد أحمق فقيرا ، و العاقل الذي لا مال له طالما اكتسب المال بعقله .

و أمّا العجب فيوجب المقت ، و من مقت أفرد عن المخالطة و استوحش منه .

و لا ريب أنّ التدبير هو أفضل العقل ، لأنّ العيش كلّه في التدبير .

و أمّا التقوى فقد قال اللّه تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقَاكُمْ . 1 و أمّا الأدب فقالت الحكماء : ما ورّثت الآباء أبناءها كالأدب . 2 و أمّا التوفيق فمن لم يكن قائده ضلّ .

و أمّا العمل الصالح ، فإنّه أشرف التجارات ، فقد قال اللّه تعالى :

هَلْ أدُلُّكُمْ عَلى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليم . 3 ثمّ عدّ الأعمال الصالحة .

و أمّا الثواب فهو الربح الحقيقيّ ، و أمّا ربح الدنيا فشبيه بحلم النائم .

و أمّا الوقوف عند الشبهات فهو حقيقة الورع .

و لا ريب أنّ من يزهد في الحرام أفضل ممّن يزهد في المباحات ،

-----------
( 1 ) سورة الحجرات ( 49 ) 13 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 277 .

( 3 ) سورة الصفّ ( 61 ) 10 .

[ 189 ]

كالمآكل اللذيذة ، و الملابس الناعمة .

و قد وصف اللّه أرباب التفكّر فقال : وَ يَتَفكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَ الأَرضِ 1 و قال : أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا . 2 و لا ريب أنّ العبادة بأداء الفرائض فوق العبادة بالنوافل .

و الحياء مخّ الإيمان ، و الصبر رأس الإيمان .

و التواضع مصيدة الشرف ، و ذلك هو الحسب .

و أشرف الأشياء العلم ، لأنّه خاصّة الإنسان ، و به يقع الفصل بينه و بين سائر الحيوان .

و المشهورة من الحزم ، فإنّ عقل غيرك تستضيفه إلى عقلك .

و من كلام بعض الحكماء : إذا استشارك عدوّك في الأمر فامحضه النصيحة في الرأي ، فإنّه إن عمل برأيك و انتفع ندم على تفريطه في منا و أتك ، و أفضت عداوته إلى المودّة ، و إن خالفك و استضرّ عرف قدر أمانتك بنصحه ، و بلغت مناك في مكروهه . 3 228 لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي . الإسلام هو التّسليم ، و التّسليم هو اليقين ، و اليقين هو التّصديق ، و التّصديق هو

-----------
( 1 ) سورة آل عمران 191 .

( 2 ) سورة الأعراف 185 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 277 .

[ 190 ]

الإقرار ، و الإقرار هو الأداء ، و الأداء هو العمل . 1 حاصل هذا الترتيب يؤول إلى نتاج أنّ الإسلام هو العمل بمقتضى أوامره ، و هو تفسير بخاصّة من خواصّه .

229 لا يكون الصّديق صديقا حتّى يحفظ أخاه في ثلاث : في نكبته ، و غيبته ، و وفاته . 2 النكبة ما تصيب الإنسان من حوادث الدهر ، من قصر و مرض إلى غير ذلك .

قال الشاعر :

و كان أخلاّئي يقولون مرحبا
فلّما رأوني مقترا مات مرحب

3 230 لكلّ امرى‏ء عاقبة حلوة أو مرّة . 4 هكذا وجد في كثير من النسخ ، و وجدوا أيضا في بعض النسخ :

« لكلّ أمر » و هو الأليق . 5

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 125 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 134 .

( 3 ) حكي أنّه سمع رجل هذا الشعر ، فقال : خطأ الشاعر ، إنّ مرحبا لم يمت و إنّما قتله عليّ بن أبي طالب عليه السلام . منه ( ره ) .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 151 .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 18 361 .

[ 191 ]

و على كلّ حال فمعناه ظاهر .

231 لكلّ مقبل إدبار ، و ما أدبر ، و ما أدبر فكأن [ كأن خ . ل ] لم يكن . 1 هذا معنى قد استعمل كثيرا ، فمنه :

ما طار طير و ارتفع
إلاّ كما طار وقع

2 و قول الشاعر :

بقدر العلوّ يكون الهبوط
و إيّاك و الرّتب العاليه

3 و في أمثال العجم : فوّاره چون بلند شود سرنگون شود . 4 قال بعض الحكماء : حركة الإقبال بطيئة ، و حركة الإدبار سريعة ،

لأنّ المقبل كالصاعد من مرقاة إلى مرقاة ، و مرقاة المدبر كالمقذوف به من علو إلى أسفل . 5 232 لا يعدم الصّبور الظّفر و إن طال به الزّمان . 6 قالت الحكماء : الصبر ضربان : جسميّ و نفسيّ ، فالجسمي تحمّل المشاقّ بقدر القوّة البدنيّة ، كالصبر على المشي و رفع الحجر ، و الصبر على المرض و احتمال الضرب و القطع ، و ليس ذلك بفضيلة تامّة ، و أمّا

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 152 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 363 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 363 .

( 4 ) امثال و حكم دهخدا ج 2 1149 . و هذا نظير : خسوف البدر عند تمامه .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 18 363 .

( 6 ) نهج البلاغة ، الحكمة 153 .

[ 192 ]

النفسيّ ففيه تتعلّق الفضيلة ، و هو ضربان : صبر عن مشتهى ، و يقال له :

عفّة ، و صبر على تحمّل مكروه أو محبوب . و تختلف أسماؤه بحسب اختلاف مواقعه ، فإن كان في نزول مصيبة لم يتعدّ به اسم الصبر ،

و يضادّه الجزع و الهلع و الحزن ، و إن كان في محاربة سمّي شجاعة و يضادّه الجبن ، و إن كان في إمساك النفس عن قضاء و طر الغضب سمّي حلما ، و يضادّه الاستشاطة . و إن كان عن فضول العيش سمّي قناعة و زهدا ، و يضادّه الحرص و الشره ، إلى غير ذلك .

فهذه كلّها أنواع الصبر ، و لكن اللفظ العرفيّ واقع على الصبر الجسمانيّ ، و على ما يكون في نزول المصائب ، و ينفرد باقي الأنواع بأسماء تخصّها . 1 233 للظّالم البادي غدا بكفّه عضّة . 2 هذا من قوله تعالى : وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ 3 ، و إنّما قال : « للبادي » لأنّ « من انتصر بعد ظلمه فلا سبيل عليه » . 4

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 366 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 186 .

( 3 ) سورة الفرقان ( 25 ) 27 .

( 4 ) هذا مأخوذ من الآية الكريمة : وَ لَمنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبيلٍ [ سورة الشورى ( 42 ) 41 ]

[ 193 ]

234 لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . 1 قال ابن ميثم : و ذلك كالوضوء بالماء [ المغصوب ] ، و الصلاة في الدار المغصوبة . و يحمل النفي هنا على نفي جواز الطاعة ، كما هو المنقول عنه و عن أهل بيته عليهم السلام . و عند الشافعيّ : قد يصحّ الطاعة و النفي لفضيلتها . 2 235 لا يعاب المرء بتأخير [ بأخذ خ . ل ] حقّه ، إنّما يعاب من أخذ ما ليس له . 3 236 اللّجاجة تسلّ الرّأي . 4 أي : تأخذه و تذهب به . و هذا قريب من قوله عليه السلام : « لا رأي لمن لا يطاع » 5 ، و ذلك لأنّ عدم الطاعة هو اللجاجة ، و هو خلق يتركّب من خلقين : أحدهما الكبر ، و الآخر الجهل بعواقب الأمور .

237 لا خير في الصّمت عن الحكم ، كما أنّه لا خير في القول

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 165 .

( 2 ) شرح ابن ميثم 5 335 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 166 . قال ابن ميثم في شرح هذه الحكمة : أخذ الحقّ قد يكون واجبا لمن هو له و قد يكون مندوبا ، و أقلّه أن يكون مباحا و لا حرج في أمر المباح . و أمّا أخذ ما ليس له فظلم و هو من أقبح الرذائل التي يعاب بها المرء .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 179 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الخطبة 27 ، ص 71 .

[ 194 ]

بالجهل . 1 هذان طرفا تفريط و إفراط ، و الحقّ العدل هو النطق بالحكمة و فيه الخير كلّ الخير .

و كان يقال : ما الإنسان لو لا اللسان إلاّ بهيمة مهملة ، أو صورة ممثّلة . 2 238 لم يذهب من مالك ما وعظك . 3 هذا مثل قولهم : إنّ المصائب أثمان التجارب . 4 و في أمثال العجم : هر ضررى عقلى را زياد مى‏كند . 5 239 لا يزهّدنّك في المعروف من لا يشكره لك ، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشي‏ء منه ، و قد تدرك من شكر الشّاكر أكثر ممّا أضاع الكافر ، و اللّه يحبّ المحسنين . 6 نهى عن الزهد في المعروف بسبب عدم شكر المحسن إليه .

240 لتعطفنّ الدّنيا علينا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها ،

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 182 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 19 9 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 196 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 15 .

( 5 ) أمثال و حكم دهخدا ج 4 1931 .

( 6 ) نهج البلاغة ، الحكمة 204 .

[ 195 ]

و تلا عقيب ذلك : وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . 1 الشماس : مصدر الشمس الفرس إذا صنع من ظهره ، و الضروس :

الناقة السّيئة الخلق تعضّ حالبها ليبقى لبنها لولدها ، و ذلك لفرط شفقتها عليه .

و هذا إشارة إلى دولتهم في آخر الزمان عجّل اللّه فرجهم .

241 ليس من العدل القضاء على الثّقة بالظّنّ . 2 أي من كان عندك ثقة معروفا بالأمانة فحكمك عليه بالخيانة عن ظنّ خروج عن العدل و هو رذيلة الجور .

242 لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيّرت أشياء . 3 المداحض : المزالق . و استواء قدميه كناية عن ثباته و تمكّنه من إجراء الأحكام الشرعيّة على وجوهها ، و ذلك لأنّه في خلافته لم يتمكّن من تغيير شي‏ء من أحكام الخلفاء قبله ، و كان له في بعضها رأي غير ما رأوه ، و لهذا قال لقضاته : « اقضوا كما كنتم تقضون حتّى يكون للنّاس جماعة » . 4

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 209 ، و الآية الكريمة في سورة القصص ( 28 ) 5 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 220 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 272 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 161 .

[ 196 ]

243 لا تجعلوا علمكم جهلا ، و يقينكم شكّا . إذا علمتم فاعملوا ، و إذا تيقّنتم فأقدموا . 1 أمرهم بالعمل على وفق اعلمهم ، و الإقدام على وفق يقينهم ،

و نهاهم عن ترك العمل .

244 ليست الرّويّة مع الإبصار 2 ، فقد تكذب العيون أهلها ، و لا يغشّ العقل من انتصحه [ استنصحه خ . ل ] . 3 هذا تنبيه على وجوب إعمال الفكر فيما ينبغي ، و أنّ العقل هو مستند الحواسّ و هو الناقد البصير و الناصح الشفيق الّذي لا يغشّ من استنصحه .

« فقد تكذب العيون أهلها » أي قد يكذب الأحكام الوهميّة على مدركات العيون كالحكم بكون القطرة النازلة خطّا مستقيما ، و الشعلة الّتي تدار بسرعة كالدائرة و نحوه .

245 لو لم يتوعّد اللّه [ سبحانه ] على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكرا لنعمه . 4

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 274 .

-----------
( 2 ) في النهج : ليست الرويّة كالمعاينة مع الإبصار .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 281 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 290 . قال ابن ميثم : و مقتضى الكلمة أنّه لو لم يتوعّد اللّه على معصيته لكان يجب تركها شكرا له ، أي لأجل شكره فكيف و قد

[ 197 ]

246 لا تصحب المائق ، فإنّه يزيّن لك فعله ، و يودّ أن تكون مثله . 1 المائق : الشديد الحمق ، و إنّما يزيّن لك فعله لأنّه يعتقد فعله صوابا بحمقه ، فيزيّنه لك كما يزيّن العاقل لصاحبه فعله لاعتقاد كونه صوابا .

و قوله عليه السلام : « و يودّ أن تكون مثله » ، و ذلك لأنّ كلّ أحد يودّ أن يكون صديقه مثل نفسه في أخلاقه و أفعاله ، إذ كلّ أحد يعتقد صواب أفعاله و طهارة أخلاقه و لا يشعر بعيب نفسه ، كما تخفى عن العاشق عيوب المعشوق .

247 لا يصدق إيمان عبد ، حتّى يكون بما في يد اللّه [ سبحانه ] أوثق منه بما في يده . 2 هذا كلام في التوكّل .

قال بعض العلماء : لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل ، فتضيّع أمر آخرتك ، و لا تنال من الدّنيا إلاّ ما كتب اللّه لك . 3 248 لو رأى العبد الأجل و مسيره 4 ، لأبغض الأمل توعّد مع ذلك عليها فبالأولى أن يجب تركها . ( شرح ابن ميثم 5 391 ) .

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 293 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 310 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 19 216 .

( 4 ) في النهج : و مصيره .

[ 198 ]

و غروره . 1 أي لو كان الأجل بصورة سائر محسوس فشاهد العبد سيره به الى الموت ، و علم غايته لقطع آماله الدنيويّة ، و لم يغترر بها .

و كان يقال : وا عجبا لصاحب الأمل الطويل و ربما يكون كفنه في يد النسّاج و هو لا يعلم . 2 249 لكلّ امرى‏ء في ماله شريكان : الوارث و الحوادث . 3 أخذه الرضيّ رضى اللّه عنه فقال :

خذ تراثك ما استطعت فإنّما
شركاؤك الأيّام و الورّاث

لم يقض حقّ المال إلاّ معشر
نظروا الزمان يعيث فيه ، فعاثوا

4 و من كلامه عليه السلام : بشّر مال البخيل بحادث أو وارث . 5 250 للظّالم من الرّجال ثلاث علامات : يظلم من فوقه بالمعصية ،

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 334 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 19 250 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 335 .

( 4 ) ديوان الشريف الرضيّ 1 228 . و العيث : الفساد .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 19 251 .

[ 199 ]

و من دونه بالغلبة ، و يظاهر القوم الظّلمة . 1 لا بدّ لكلّ ظالم من اجتماع هذه العلامات الثلاث فيه .

قال كمال الدين بن ميثم : ظلمه لمن فوقه عصيان اللّه و تعدّيه لحدوده العادلة ، و الثانية مستلزمة للأولى و الثالثة مستلزمة للأوليين . 2 251 لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أحد سوءا ، و أنت تجد لها في الخير محتملا . 3 بهذا المضمون وردت روايات كثيرة .

و قال الشاعر :

إذا ما أتت من صاحب لك زلّة
فكن أنت محتالا لزلّته عذرا

4 252 لا تسأل عمّا لم يكن 5 ، ففي الّذي قد كان لك شغل . 6 قال كمال الدين بن ميثم : أمر عليه السلام بالسلو عمّا لا يكون من زيادة رزق و نحوه من المطالب الدنيويّة بما قد كان و وقع من المطالب الّتي

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 350 .

( 2 ) شرح ابن ميثم 5 414 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 360 .

( 4 ) لسالم بن وابصة ، أمالي القالي 2 224 .

( 5 ) في النهج : لا يكون .

( 6 ) نهج البلاغة ، الحكمة 364 .

[ 200 ]

أعطيها الإنسان . 1 قلت : يمكن أن يكون لكلامه عليه السلام معنى آخر و هو المنع عن المسائل الّتي لم تقع و لم تتّفق بل السؤال عن المطالب الّتي اتّفقت و وقعت ، فإنّها أكثر من أن تحصى و كفى بها شغلا ، و هذا ظاهر .

253 لا شرف أعلى من الإسلام ، و لا عزّ أعزّ من التّقوى ، و لا معقل أحسن من الورع ، و لا شفيع أنجح من التّوبة ، و لا كنز أغنى من القناعة ، و لا مال أذهب للفاقة من الرّضى بالقوت . و من اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الرّاحة ، و تبوّأ خفض الدّعة . و الرّغبة مفتاح النّصب ، و مطيّة التّعب ،

و الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التّقحّم في الذنوب ، و الشّرّ جامع لمساوئ العيوب . 2 استعار للورع لفظ المعقل باعتبار تحصّن الإنسان به من عذاب اللّه .

قوله عليه السلام : « و لا شفيع . . . » الى آخره ، و ذلك لاستلزام التوبة العفو عن جريمة التائب .

« انتظم الراحة » ، أي في سلك الراحة من الهمّ بطلب الدّنيا و مجاذبة أهلها .

-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم 5 419 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 371 ، و في النهج : جامع مساوئ العيوب .

[ 201 ]

« و تبوّأ خفض الدعة » ، أي اتّخذ لين السكون مباءة و مرجعا .

« و الرغبة مفتاح » ، أي الرغبة في الدّنيا تفتح باب التعب على الراغب ، و النصب كتعب لفظا و معنى .

و التقحّم : الدخول بسرعة .

254 لا تأمننّ على خير هذه الأمّة عذاب اللّه ، لقوله سبحانه : 1 فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ 2 و لا تيأسنّ لشرّ هذه الأمّة من روح اللّه لقوله سبحانه 3 : إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ . 4 5 قال كمال الدين بن ميثم : أدّب السامع بهذين الأدبين محتجّا بعموم الآيتين ، و لفظ المكر مستعار لإمهال اللّه ، ثمّ أخذه فهو في صورة المكر و الخداع ، و المراد ظاهر 6 انتهى .

255 لا تقل ما لا تعلم ، بل لا تقل كلّ ما تعلم ، فإنّ اللّه سبحانه قد فرض 7 على جوارحك كلّها فرائض يحتجّ بها عليك يوم

-----------
( 1 ) في النهج : لقوله تعالى .

( 2 ) سورة الأعراف ( 7 ) 99 .

( 3 ) في النهج : لقوله تعالى .

( 4 ) سورة يوسف ( 12 ) 87 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 377 .

( 6 ) شرح ابن ميثم 5 431 .

( 7 ) في النهج : فإنّ اللّه فرض .

[ 202 ]

القيامة . 1 نهى عليه السلام عن قول ما لا يعلم ، لأنّه كذب أو محتمل للكذب ، أو لأنّه قول بالجهل فيجب الاحتراز فيه . و أمّا النهي عن قول كلّ ما يعلم فلجواز أن يكون فيه مضرّة لنفسه أو لغيره كإذاعة سرّ يستلزم أذاه أو أذى من أسرّه إليه و نحو ذلك .

و لهذا قيل : ما كلّ ما يعلم يقال .

256 للمؤمن ثلاث ساعات : فساعة يناجي فيها ربّه ، و ساعة يرمّ فيها معايشه 2 ، و ساعة يخلّي فيها 3 بين نفسه و بين لذّتها فيما يحلّ و يجمل . و ليس للعاقل أن يكون شاخصا إلاّ في ثلاث : مرمّة لمعاش ، أو حظوة 4 في معاد ، أو لذّة في غير محرّم . 5 رمّ المعاش : إصلاحه . و الشاخص ، أي الراحل و الذاهب من بلد إلى بلد . و الحظوة بالحاء المهملة و الظاء المعجمة أي عمل لمعاد و هو العبادة و الطاعة .

قسّم عليه السلام زمان المؤمن العاقل إلى ثلاثة أقسام بحسب ما ينبغي له

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 382 .

( 2 ) في النهج : يرمّ معاشه .

( 3 ) ليست « فيها » في النهج .

( 4 ) في النهج : خطوة .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 390 .

[ 203 ]

بمقتضى الحكمة العمليّة ، و الرأي الحقّ . قسم في العبادة و المناجات و هو المطلوب بنفسه و قسم في تحصيل المعاش ، و قسم ثالث في تخليته بين النفس و لذّاتها المباحة و هذان القسمان مرادان للأوّل ، إذ لا يمكن بدونهما .

و إلى الأمور الثلاثة يرجع قوله عليه السلام : « و ليس للعاقل . . . » إلى آخره .

257 لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك ، و بلاغة قولك على من سدّدك . 1 ذرب اللسان : حدّته ، أي قبيح لمن يحصّل من إنسان علما و فائدة أن يستعين بها عليه ، كأن يتفاصح على من علّمه الفصاحة ، و هذا كمن ينعم على إنسان بسيف فإنّه يقبح منه أن تقتله بذلك السيف ظلما قبحا زائدا على ما لو قتله بغيره .

قال الشاعر :

أعلّمه الرماية كلّ يوم
فلمّا استدّ ساعده رماني
2
و كم علّمته نظم القوافي
فلمّا قال قافية هجاني

3 258 لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين : العافية و الغنى . بينا تراه

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 411 .

( 2 ) قال السعدي الشيرازيّ : [ كليّات ، ص 101 ]

كس نياموخت علم تير از من
كه مرا عاقبت نشانه نكرد

( 3 ) محاضرت الأدباء 1 46 . و فيه : اشتدّ ، بدل : استدّ .

[ 204 ]

معافى إذا سقم ، و بينا تراه غنيّا إذ افتقر . 1 قد قال الشعراء في هذا المعنى كثيرا ، و منها قول الشاعر :

و ربّ غنيّ عظيم الثراء
أمسى مقلاّ عديما فقيرا

و كم بات من مترف في القصور
فعوّض في الصبح عنها القبورا

2 و قال آخر :

و إذا ما أعارك الدهر شيئا
فهو لا بدّ آخذ ما أعارا

3 259 ليس بلد بأحقّ بك من بلد . خير البلاد ما حملك . 4 ما حملك أي ما حمل مؤونتك ، و وجدت فيه صلاح معاشك فأمكنك الإقامة به .

قال الشاعر :

لي عن بلاد الأذى و الهون متّسع
ما بين حرّ و بين الدار من نسب5

 

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 426 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 20 71 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 20 71 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 442 .

( 5 ) البيت لعليّ بن مقرّب البحرانيّ ، انظر شرح ابن ميثم 5 455 .

[ 205 ]