(ص 561- 586) الفصل الثاني والعشرين ما بعد رسول الله (ص) احداث ما بعد الوفاة: القسم الاول: السقيفة* السقيفة والسياسة: 1- السقيفة: المؤتمر وجدول الاعمال. 2- السقيفة والصراع الاجتماعي والسياسي: أ-الصعيد النفسي. ب- الصعيد السياسي. ج- الصعيد الاجتماعي. د – صراع المصالح. 3- الاسلام والضغوط المتقاطعة. 4-وفاة النبي (ص) وانتقال السلطة. 5- لعبة السقيفة ولعبة الخلافة. 6- السقيفة والجماعات السياسية* القسم الثاني: صيانة القرآن: 1- شخصية علي (ع) والقرآن الكريم. 2- المصحف الحق المحفوظ بين الدفتين. 3 ـ تلاميذ الامام (ع). 4 ـ علّة تضارب الاقوال حول جمع القرآن. --------------------- أحداث ما بعد الوفاة كانت وفاة رسول الله (ص) صدمة عظيمة لافراد المجتمع المدني، الا ان الموت لم يكن غائباً تماماً عن اذهانهم. فقد لمّح النبي (ص) مرات عديدة في حجة الوداع وفي غدير خم وفي المدينة بعد رجوعه اليها من ان اجله قد دنا، وانه ينتظر اللحظة التي يلبي فيها نداءَ ربه. وقد اوصى بالخلافة لعلي (ع)، فلينم قرير العين متنعماً (ص) بلقاء ربه. ولكن الاحداث لم تجرِ كما خُطط لها، بل اتخذت منحىً خطيراً للغاية عندما انعقدت السقيفة دون علم علي (ع)، وفي اللحظة التي كان يضع فيها رسول الله (ص) في مثواه الاخير. فكانت السقيفة من اعظم احداث فترة ما بعد الوفاة، وكان جمع القرآن من قبل الامام (ع) المحطة الثانية في تلك الحقبة الزمنية الحاسمة. ولذلك فقد قسّمنا احداث هذا الفصل الى قسمين : السقيفة، وصيانة القرآن الكريم.
القسم الاول: السقيفة ذكر صاحب كتاب «الامامة والسياسة» ان رسول الله (ص) لما قُبض طلب العباس عم النبي (ص) مبايعة الامام (ع)، فقال «لعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه : أبسط يدك أبايعك، فيقال : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله (ص)، ويبايعك أهل بيتك، فإن هذا الامر اذا كان لم يقل... وقد كان العباس (رض) لقي ابا بكر فقال : هل اوصاك رسول الله بشيء ؟ قال : لا. ولقي العباس ايضاً عمر، فقال له مثل ذلك. فقال عمر : لا. فقال العباس لعلي رضي الله عنه : ابسط يدك أبايعك ويبايعك اهلُ بيتك»[1]. إجتماع الانصار الى سعد بن عبادة : واجتمعت الانصار (رض) الى سعد بن عبادة، فقالوا له : ان رسول الله (ص) قد قُبض. فقال سعد لابنه قيس : اني لا استطيع ان أسمع الناس كلاماً لمرضي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهم. فكان سعد يتكلم، ويحفظ ابنه قوله، فيرفع صوته، لكي يسمع قومه. فكان مما قال، بعد ان حمد الله واثنى عليه : يا معشر الانصار إن لكم سابقة في الدين وفضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب. ان رسول الله (ص) لبث في قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم الى عبادة الرحمن، وخلع الاوثان. فما آمن به من قومه الا قليل. والله ما كانوا يقدرون ان يمنعوا رسول الله (ص)، ولا يعرفوا دينه، ولا يدفعوا عن أنفسهم، حتى اراد الله تعالى لكم الفضيلة، وساق اليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة ورزقكم الايمان به وبرسوله (ص)، والمنع له ولاصحابه والاعزاز له ولدينه، والجهاد لاعدائه. فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه منكم، وأثقله على عدوكم من غيركم، حتى استقاموا لامر الله تعالى طوعاً وكرهاً، واعطى البعيد المقادة صاغراً داحراً حتى اثخن الله تعالى لنبيه بكم الارض، ودانت باسيافكم له العرب، وتوفاه الله تعالى وهو راض عنكم وبكم قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الامر، فإنكم أحق الناس واولاهم به. فاجابوه جميعاً : أن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت توليتك هذا الامر، فأنت مقنع ولصالح المؤمنين رضا[2]. إسراع قريش الى السقيفة : فأتى الخبر الى ابي بكر، ففزع اشد الفزع، وقام ومعه عمر، فخرجا مسرعين الى سقيفة بني ساعدة. فلقيا ابا عبيدة بن الجراح، فانطلقوا جميعاً ، حتى دخلوا سقيفة بني ساعدة، وفيها رجال من الاشراف، معهم سعد بن عبادة، فاراد عمر ان يبدأ بالكلام. وقال : خشيت ان يقصر ابو بكر عن بعض الكلام. فلما تيسر عمر للكلام، تجهز ابو بكر وقال له : على رسلك، فستُكفى الكلام. فتشهد ابو بكر، وقال : ان الله جل ثناؤه بعث محمداً (ص) بالهدى ودين الحق، فدعا الى الاسلام، فأخذ الله تعالى بنواصينا وقلوبنا الى ما دعا اليه. فكنا معشر المهاجرين اول الناس اسلاماً، والناسُ لنا فيه تبع. ونحن عشرة رسول الله (ص)، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنساباً، ليست قبيلة من قبائل العرب الا وقريش فيها ولادة. وأنتم ايضاً والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله (ص)، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى وشركاؤنا في دين الله عز وجل وفيما كنا فيه من سراء وضراء. والله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه، فأنتم أحب الناس الينا، واكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لامر الله عز وجل ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين، وهم أحق الناس فلا تحسدوهم، وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة. والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين، وأنتم أحق الناس ألا يكون هذا الامر واختلافه على ايديكم، وأبعد ان لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى اليهم. وإنما ادعوكم الى ابي عبيدة أو عمر، وكلاهما قد رضيتُ لكم ولهذا الامر، وكلاهما له أهل. فقال عمر وابو عبيدة : ما ينبغي لأحد من الناس ان يكون فوقك يا ابا بكر، انت صاحب الغار ثاني اثنين. وأمرك رسول الله (ص) بالصلاة !! فأنت أحق الناس بهذا الامر. النقاش بين الانصار والمهاجرين: فقال الانصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله اليكم، وإنا كما وصفت يا أبا بكر والحمد لله، ولا احد من خلق الله تعالى أحب الينا منكم، ولا أرضى عندنا ولا أيمن ولكنا نشفق مما بعد اليوم. ونحذر ان يغلب على هذا الامر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منا ورجلاً منكم بايعنا ورضينا. على انه إذا هلك اخترنا آخر من الانصار فاذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين ابداً ما بقيت هذه الامة. كان ذلك أجدر أن يعدل في امة محمد (ص) وان يكون بعضنا يتبع بعضاً، فيشفق القرشي ان يزيغ فيقبض عليه الانصاري، ويشفق الانصاري ان يزيغ فيقبض عليه القرشي. فقام ابو بكر، فحمد الله واثنى عليه وقال : ان الله تعالى بعث محمداً (ص) رسولاً الى خلقه، وشهيداً على امته ليعبدوا الله ويوحدوه وهم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى، يزعمون انها لهم شافعة، وعليهم بالغة نافعة. وانما كانت حجارة منحوتة، وخشباً منجورة، فاقرأوا ان شئتم : (انكم وما تعبدون من دون الله...)[3] ، (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله...)[4] ، وقالوا : (...ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى...)[5]. فعظم على العرب ان يتركوا دين آبائهم، فخص الله تعالى المهاجرين الاولين رضي الله عنهم بتصديقه، والايمان به، والمواساة له والصبر معه على الشدة من قومهم، وإذلالهم وتكذيبهم إياهم وكل الناس مخالف عليهم، زار لهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وإزراء الناس بهم واجتماع قومهم عليهم. فهم اول من عبدَ الله في الارض، واول من آمن بالله تعالى ورسوله (ص)، وهم اولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه الا ظالم. وانتم يا معشر الانصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الاسلام، رضيكم الله تعالى أنصاراً لدينه ولرسوله، وجعل إليكم مهاجرته. فليس بعد المهاجرين الأولين احدٌ عندنا بمنـزلتكم، فنحن الامراء، وانتم الوزراء، لا نفتات دونكم بمشورة، ولا تنقضي دونكم الامور. مناقشة الحباب بن المنذر: فقام الحباب بن المنذر، فقال: يا معشر الانصار: املكوا عليكم أيديكم، فإنما الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجير مجير على خلافكم، ولن يصدر الناس الا عن رأيكم. أنتم اهل العز والثروة وأولو العدد والنجدة، وانما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد عليكم رأيكم، وتقطع اموركم. انتم اهل الايواء والنصرة، واليكم كانت الهجرة. ولكم في السابقين الاولين مثل ما لهم، وأنتم اصحاب الدار والايمان من قبلهم. والله ما عبدوا الله علانية الا في بلادكم، ولا جمعت الصلاة الا في مساجدكم، ولا دانت العرب للاسلام الا بأسيافكم، فأنتم اعظم الناس نصيباً في هذا الامر وإن ابى القوم، فمنا امير ومنهم امير. فقام عمر، فقال : هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد. إنه والله لا يرضي العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيهم، وأولو الامر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين. من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن اولياؤه وعشيرته، الا مدل بباطل، او متجانف لإثم، او متورط في هلكة. فقام الحباب بن المنذر، فقال : يا معشر الانصار : املكوا على ايديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا واصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر، فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الامر عليهم. فأنتم والله اولى بهذا الامر منهم، فإنه دان لهذا الامر ما لم يكن يدين له بأسيافنا. اما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة[6]. والله لا يرد عليّ أحدٌ ما أقول الا حطمت أنفه بالسيف. قال عمر بن الخطاب : فلما كان الحباب هو الذي يجيبني، لم يكن لي معه كلام، لانه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله (ص)، فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسوؤه ابداً[7]. ثم قام ابو عبيدة، فقال : يا معشر الانصار أنتم اول من نصر وآوى، فلا تكونوا اول من يبدل ويغيّر. مخالفة بشير بن سعد ونقضه لعهدهم : ولما رأى بشير بن سعد ما اتفق عليه قومه من تأمير سعد بن عبادة، قام حسداً لسعد بن عبادة. وكان بشير من سادات الخزرج، فقال : يا معشر الانصار، أما والله لئن كنا اولى الفضيلة في جهاد المشركين، والسابقة في الدين، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكرم لأنفسنا، وما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضاً من الدنيا. فان الله تعالى ولي النعمة والمنة علينا بذلك. ثم ان محمداً رسول الله (ص) رجل من قريش، وقومه أحق بميراثه، وتولي سلطانه. وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الامر أبداً، فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم بيعة ابي بكر : ثم قام ابو بكر على الانصار، فحمد الله تعالى واثنى عليه، ثم دعاهم الى الجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وقال : إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين : أبي عبيدة بن الجراح، أو عمر فبايعوا من شئتم منهما، فقال عمر : معاذ الله ان يكون ذلك وأنت بين أظهرنا، أنت أحقنا بهذا الامر، وأقدمنا صحبة برسول الله (ص)، وأفضل منا في المال، وانت أفضل المهاجرين وثاني اثنين، وخليفته على الصلاة ! والصلاة افضل اركان دين الاسلام، فمن ذا ينبغي ان يتقدمك، ويتولى هذا الامر عليك ؟ أبسط يدك أبايعك. فلما ذهبا يبايعانه سبقهما اليه بشير الانصاري فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير بن سعد، عُقُّك عُقاقُ ما اضطرك الى ما صنعت ؟ حسدت ابن عمك على الإمارة ؟ قال : لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً لهم. فلما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وهو من سادات الخزرج، وما دعوا اليه المهاجرين من قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير : لئن وليتموها سعداً عليكم مرة واحدة، لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، ولا جعلوا لكم نصيبا فيها ابداً، فقوموا فبايعوا ابا بكر، فقاموا اليه فبايعوه ! فقام الحباب بن المنذر الى سيفه فأخذه، فبادروا اليه فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم، حتى فرغوا من البيعة. فقال : فعلتموها يا معشر الانصار، اما والله لكأني بابنائكم على ابواب ابنائهم، قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء. قال ابو بكر : أمنا تخاف يا حباب ؟ قال : ليس منك أخاف، ولكن ممن يجيء بعدك[8]. قال ابو بكر : فإذا كان ذلك كذلك، فالأمر اليك والى اصحابك، ليس لنا عليك طاعة. قال الحباب : هيهات يا ابا بكر، اذا ذهبت انا وانت، جاءنا بعدك من يسومنا الضيم. تخلّف سعد بن عبادة عن البيعة : فقال سعد بن عبادة : اما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض، لسمعتم مني في اقطارها زئيراً يخرجك أنت واصحابك، ولألحقتك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع، خاملاً غير عزيز. فبايع الناس ابو بكر حتى كادوا يطئون سعداً. فقال سعد : قتلتموني. فقال عمر بن الخطاب : اقتلوه قتله الله. فقال سعد : احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياماً. ثم بعث اليه ابو بكر : أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس، وبايع قومك. فقال : اما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بمن معي من اهلي وعشيرتي. لا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، وأعلم حسابي. فلما أتي بذلك ابو بكر من قوله، قال عمر : لا تدعه حتى يبايعك، فقال لهم بشير بن سعد : إنه قد أبى ولجّ، وليس يبايعك حتى يُقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه، وأهل بيته وعشيرته، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس، فلا تفسدوا على أنفسكم أمراً قد استقام لكم، فاتركوه فليس تركه بضارّكم، وانما هو رجل واحد. فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدا لهم منه. فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع بجمعتهم[9]، ولا يفيض بإفاضتهم. ولو يجد عليهم أعواناً لصال بهم، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم، فلم يزل كذلك حتى مات ابو بكر، وولي عمر بن الخطاب، فخرج الى الشام فمات بها، ولم يبايع لاحد. وقد اقام بحوران ومات سنة 15 وقيل سنة 14 وقيل سنة 11، وقد وُجِد ميتاً على مغتسله وقد اخضرّ جسده. وقيل ان قبره بالمنيحة قرية من غوطة دمشق وهو المشهور. بنو هاشم وامية والبيعة : واجتمعت بنو هاشم عند بيعة الانصار الى علي بن ابي طالب (ع)، ومعهم الزبير بن العوام، وكانت امه صفية بنت عبد المطلب. وانما كان يعدّ نفسه من بني هاشم. وكان علي (ع) يقول : ما زال الزبير منا حتى نشأ بنوه، فصرفوه عنّا. واجتمعت بنو امية على عثمان، واجتمعت بنو زهرة الى سعد وعبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين. فلما أقبل عليهم ابو بكر وابو عبيدة وقد بايع الناس ابا بكر قال لهم عمر : ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتى، قوموا فبايعوا ابا بكر، فقد بايعته وبايعه الانصار. فقام عثمان بن عفان ومن معه من بني امية فبايعوه. وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا. واما علي (ع) والعباس بن عبد المطلب ومن معهما من بني هاشم فانصرفوا الى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام، فذهب اليهم عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم، فقالوا : انطلقوا فبايعوا ابا بكر، فابوا. فخرج الزبير بن العوام بالسيف. فقال عمر : عليكم بالرجل فخذوه، فوثب عليه سلمة بن أسلم، فأخذ السيف من يده، فضرب به الجدار. وانطلقوا به فبايع. إباية الامام (ع) بيعة ابي بكر: وقد ورد في روايات القوم ان علياً (ع) اُتي به الى ابي بكر وهو يقول : انا عبد الله واخو رسوله، فقيل له بايع ابا بكر. فقال : انا احق بهذا الامر منكم، لا ابايعكم وانتم اولى بالبيعة لي. أخذتم هذا الامر من الانصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (ص)، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم اولى بهذا الامر منهم لمكان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلموا اليكم الإمارة. وأنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار نحن اولى برسول الله حياً وميتاً فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من انفسكم، واعرفوا لنا من الامر مثل ما عرفت الانصار لكم، والا فبؤوا بالظلم وانتم تعلمون. فقال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع، فقال له علي (ع) : احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً. ثم قال (ع) : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. فقال له ابو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك. فقال ابو عبيدة بن الجراح لعلي (ع) : يابن عمّ إنك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم، ومعرفتهم بالامور. ولا ارى ابا بكر الا اقوى على هذا الامر منك، واشد احتمالاً واضطلاعاً به. فسلِّم لابي بكر هذا الامر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء، فأنت لهذا الامر خليق وبه حقيق، في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك ودينك، وعلمك وفهمك، وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي (ع) : الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته الى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه. فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به. لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الامر منكم ما كان فينا الا القارىء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الامور السئية، القاسم بينهم بالسوية. والله انه لفينا، لا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بعداً. فقال بشير بن سعد الانصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الانصار منك يا عليّ قبل بيعتها لابي بكر، ما اختلف عليك اثنان. قال : وخرج علي (ع) يحمل فاطمة بنت رسول الله (ص) على دابة ليلاً في مجالس الانصار ـ مجالس نسائهم على الاغلب ـ تسألهم النصرة، فكانوا يقولون : يابنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو ان زوجك وابن عمك سبق الينا قبل ابي بكر ما عدلنا به، فيقول علي (ع) : أفكنت أدع رسول الله (ص) في بيته لم ادفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟ فقالت فاطمة : ما صنع ابو الحسن الا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم[10]. تغير السياسة بعد السقيفة : قال الطبرسي (من اعلام القرن السادس الهجري) وهو يتحدث عن مسارعة القوم االى تقرير ولاية الامر، وآل البيت (ع) مشغولون بتجهيز رسول الله (ص) : وبعثوا الى عكرمة بن ابي جهل وعمومته الحارث بن هشام وغيرهم فأحضروهم، وعقدوا لهم الرايات على نواحي اليمن والشام، ووجهوهم من ليلهم، وبعثوا الى ابي سفيان فارضوه بتولية يزيد بن ابي سفيان. ولما بايع الناس ابا بكر قيل له : لو حبست جيش اُسامة واستعنت بهم على من يأتيك من العرب ؟ وكان في الجيش عامة المهاجرين. فقال اُسامة لابي بكر : ما تقول في نفسك انت ؟ قال : قد ترى ما صنع الناس[11]، فانا أحبّ ان تأذن لي ولعمر. قال : فقد أذنتُ لكما. وخرج اُسامة بذلك الجيش، حتى اذا انتهى الى الشام عزله ابو بكر واستعمل مكانه يزيد بن ابي سفيان، فما كان بين خروج اُسامة ورجوعه الى المدينة الا نحو من اربعين يوماً. فلما قدم المدينة قام على باب المسجد ثم صاح : يامعشر المسلمين، عجباً لرجل استعملني عليه رسول الله (ص) فتأمّر عليّ وعزلني[12].
الدلالات العلمية للنصوص كان اجتماع السقيفة ـ دون ادنى ريب ـ اجتماعاً سياسياً عاصفاً حدد سياسة الدولة التي بناها رسول الله (ص)، لسنين طويلة قادمة. ونظرة معمّقة للاجتماع تكشف لنا حقيقة انه لا الدين ولا اخلاقه السامية كانتا الاصل في مداولة الحاضرين ونقاشهم، بل كانت الحدّة القَبلية طاغية على ذلك الاجتماع الحاسم. وهنا نقاط لابد من الاشارة اليها : 1 ـ لم يكن بين وصية رسول الله (ص) لعلي (ع) يوم الغدير بالولاية وبين وفاته (ص) الا سبعون يوماً. وتلك مدة قصيرة زمنياً لا يمكن الادعاء فيها بنسيان خطبته (ص) في حجة الوداع ووصاياه فيما يتعلق بالولاية. 2 ـ كان النـزاع بين المهاجرين والانصار حول الخلافة ـ في وقت كان فيه رسول الله (ص) مسجى في داره ـ يمثّل عدم رسوخ الدين في قلوبهم، وتحكم النـزعات الجاهلية فيهم، واندفاعهم نحو السلطة اكثر من اندفاعهم نحو الدين. وفلسفة التنازع ذاتها توحي بعدم فهم الدين ولا ادراك دوره الاجتماعي في بسط الانسجام والتآخي وانكار الذات. 3 ـ ان اجتماع قريش في السقيفة بتلك الصورة لم يكن اجتماعاً تلقائياً، بل كان ينمّ عن تخطيط مسبق. ويدلُّ عليه الانسجام التام في المواقف الحساسة تلك من الانصار. 4 ـ كانت فلسفة «نحن الامراء وانتم الوزراء»، و«لايجتمع سيفان في غمد واحد» التي جاءت بها قريش في السقيفة تثير الكثير من الاسئلة الحساسة دون جواب لحد الآن. فكيف تم توزيع الادوار السياسية تلك ؟ وما هو المسوغ الشرعي لذلك ؟ وما هو المقياس فيه ؟ 5 ـ مقدار العداوة والرفض والتحدي والاحتجاج من قبل سعد بن عبادة من جهة في مواجهة بعض رموز قريش من جهة اخرى يثبت ان تلك القضية بينهما كانت لا تقبل حلاً وسطاً. وكذلك كان موقف الزبير بن العوام والحباب بن المنذر. 6 ـ كان موقف علي (ع) موقفاً شريفاً ينمُّ عن عصمته وامامته وشرفه الاعلى في الدين. فقد احتج عليهم احتجاجاً شرعياً بان لا يُخرِجوا سلطان محمد (ص) عن داره ـ اي عمن كان اهلٌ للولاية ـ وذكّرهم بانهم سلبوا الولاية غصباً من اهل البيت (ع). ولكنهم احتجوا بصغر سنه (ع) وعدم معرفته بالامور، الا انهم تناسوا انه هو الذي خلّفه رسول الله (ص) في تبوك على المدينة، وبلّغ عنه سورة براءة، واوصى به يوم الغدير. واحتج عليهم بان اهل بيت النبوة (ع) ليس فيهم الا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالِم بسنن رسول الله (ص)... وهي صفات كافية للادارة الدينية للمجتمع الاسلامي. 7 ـ كان موقف الانصار موقف ذهول، لانهم في البداية وبعد ان تنكروا لاهل البيت (ع) طمحوا بالخلافة لانفسهم. وعندما تبين لهم دهاء قريش السياسي استسلموا لها. وتظاهروا بانهم لم يسمعوا احتجاج علي وفاطمة (عليهما السلام). السقيفة والسياسة كانت الاجواء السياسية الطاغية على اجتماع السقيفة مدعاة لدراسة الفلسفة السياسية عند العرب، وطبيعة الضغوط القَبلية التي لا ترى الا السلطة وشهوتها مداراً للحياة الاجتماعية. ولذلك ولدت السقيفة صراعاً لم يسبق له مثيل في تأريخ العرب الاسلامي، بقيت آثاره الى اليوم. بل تبقى آثاره السلبية الى يوم القيامة. 1 ـ السقيفة : المؤتمر وجدول الاعمال كان اجتماع السقيفة الذي تم خلال الفترة التي انشغل بها علي (ع) وبنو هاشم بتجهيز النبي (ص) ودفنه، مؤتمراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد كان اجتماعاً لافراد جاءوا بدعوة ـ على الاغلب تأريخياً ـ من اجل مناقشة هدف محدد في فترة زمنية قصيرة جداً. وكانت آلية ذلك الاجتماع اعطاء صلاحية قانونية للبرنامج السياسي المطروح وهو خلافة رسول الله (ص)، وطريقة مثلى لاقناع الاطراف الاخرى بصلاحية ابو بكر، حتى لو استخدمت القوة في ذلك. وكان المؤتمر ايضاً، وبحضور شخصيات مثل عمر وابو بكر وابو عبيدة والحباب بن المنذر وسعد بن عبادة وبشير بن سعد ومجموعة من الانصار والمهاجرين، ساحة عمل لتوحيد الآراء بابعاد الوصي الذي عيّنه رسول الله (ص) وهو علي (ع) والتمهيد لخلافة ابو بكر باعتباره احق الناس بهذا الامر. خصائص اجتماع السقيفة : ولاجتماع السقيفة خصائص مهمة لابد من ملاحظتها، وهي : اولاً : جمع اجتماع السقيفة كل الافراد الذين كانوا يطمحون سياسياً للامارة. والذي كان يوحدهم في الاجتماع ويجمع شملهم هو الامل بالفوز بذلك المقعد الحساس، وهو مقعد الخلافة والامارة. ولذلك تكررت الفاظ تدلّ على ذلك الامر، منها : «انتم احقُ الناس به»، و«منا امير ومنكم امير»، و«نحن الامراء وانتم الوزراء». ولذلك فانهم تناسوا خطبة رسول الله (ص) يوم الغدير القائلة بخلافة علي (ع) : «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»[13]، وغزوة تبوك : «اما ترضى ان تكون مني بمنـزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي»[14]. ولم يبرز في ذلك الاجتماع الصاخب ولا صوت واحد يذكّرهم بما قاله لهم رسول الله (ص) في غدير خم قبل سبعين يوماً فقط. وهذا يعني بالنتيجة ان اجتماع السقيفة كان يحمل رباطاً يربطهم جميعاً وهو رباط الطموح الشخصي بالخلافة. فكان كلٌ يتمناها لنفسه. ثانياً : لم يكن اجتماع السقيفة اجتماعاً تشاورياً بين الخبراء يؤدي الى الخروج بمبنى عقلائي. ولو كان كذلك لاسترجعوا في اذهانهم وصايا رسول الله (ص)، واقروا ولاية علي بن ابي طالب (ع). ولكنه كان اجتماعاً من اجل السيطرة والتحكم بالمقدرات، ولذلك رُفِع السيف اكثر من مرة، واُسكِت اكثر من فرد، وتهاوت الافكار من اقصى الطموح بالخلافة للانصار الى مستوى : منا امير ومنكم امير، الى القبول بخلافة المهاجرين. وكان اجتماعاً يتناغم فيه زعماء قريش بعضهم لصالح بعض. وكان الحباب بن المنذر اشدهم في المعارضة المسلحة وكذلك سعد بن عبادة. بينما اخذ الحسد بشير بن سعد مأخذه منه. ولو استعرضنا ذلك الاجتماع سريعاً، لادركنا بان القضية كانت تمثل صراعاً من اجل اشغال المقعد الاعلى في الدولة الدينية التي اسسها رسول الله (ص). فلابد اذن من تلخيص ما دار في الاجتماع عبر النقاط التالية : **سعد بن عبادة (من الانصار) : 1 ـ انتصاره للانصار ومدحه اياهم. 2 ـ ادانته للمهاجرين ووصمهم بانهم قلّة مستضعفة في وطنها وغير قادرة على دفع الاذى عن رسول الله (ص). 3 ـ زعمه بان الانصار احق بالخلافة من المهاجرين. **دخول عمر، وابو بكر، وابو عبيدة الجراح. **ابو بكر : 1 ـ انتصاره للمهاجرين ومدحه اياهم. 2 ـ مدحه الانصار، ولكنه وضعهم بموضع الوزراء بينما وضع المهاجرين بموضع الامراء. 3 ـ دعوته بالخلافة لابي عبيدة الجراح او عمر. **عمر وابو عبيدة : 1 ـ انتصارهما لابي بكر وطرح اسمه على مستوى الامارة والخلافة. **الانصار : 1 ـ موافقتهم على ما قاله عمر وابو عبيدة وابو بكر. 2 ـ تحذيرهم ممن يأتي بعدهم من امراء قريش. 3 ـ اقتراحهم بجعل امير من الانصار وامير من المهاجرين. **ابو بكر : 1 ـ انتصاره مرة اخرى للمهاجرين ومدحهم. 2 ـ تلميحه لاول مرة بافضلية المهاجرين على الانصار لانهم اول من عَبَدَ الله تعالى في الارض. 3 ـ مدحه الانصار، وتكراره بان المهاجرين هم الامراء والانصار هم الوزراء. **الحباب بن المنذر (من الانصار) : 1 ـ تصريحه الخطير بان المهاجرين تحت ظل الانصار وفي خيمتهم. 2 ـ اقتراحه بان القوم اذا رفضوا الانصار فالبديل هو : منا امير ومنهم امير. **عمر : 1 ـ معارضة فكرة «منا امير ومنكم امير»، وتثبيت افضلية المهاجرين على الانصار. **الحباب بن المنذر : 1 ـ مخالفة عمر صراحة والاستخفاف به. 2 ـ طرح فكرة «إجلاء الانصار» من المدينة لاول مرة. 3 ـ طرح فكرة احقية الانصار في الخلافة. 4 ـ اول بوادر استخدام لغة القوة (السيف). **عمر : 1 ـ تعذر عمر بان منازعة كانت بينه وبين الحباب، فنهاه النبي (ص) عنه. 2 ـ ملاسنة بين عمر والحبّاب. **ابو عبيدة : 1 ـ تحذير شديد للانصار. 2 ـ موقف ثابت بجنب المهاجرين. **بشير بن سعد (من الانصار):، 1 ـ حسد زميله سعد بن عبادة. 2 ـ تثبيت حق قريش والمهاجرين في الخلافة. 3 ـ تحذير قومه «الانصار» من مخالفة المهاجرين. **ابو بكر : 1 ـ يطرح اسم عمر وابي عبيدة مرة اخرى. 2 ـ عمر وابو عبيدة يقدمانه للخلافة. 3 ـ يبايعه بشير بن سعد، ثم عمر وابي عبيدة. **الحباب : 1 ـ اول اشتباك مسلح، ويُنزع منه السيف. 2 ـ يرفض البيعة، ويتنبأ برجوع المشاعر الجاهلية الى الابناء. **سعد بن عبادة : 1 ـ رفض البيعة، وعمر يهدد بقتله. 2 ـ يبقى معارضاً لهم حتى مات. وهذا العرض المختصر يُظهر بان نظريات المناصفة في الحكم او الاستفراد بالسلطة لطرف دون آخر كانت تطرح بكل قوة. وهو امرٌ غريب، لان موضوعاً خطيراً كهذا كان ينبغي ان يتم فيه التشاور، لا ان تكون لغة القوة والسيف هي السائدة. ثالثاً : لم يكن جدول اعمال السقيفة تبادل الآراء بهدوء من اجل الوصول الى افضل الحلول، على افتراض وجود مشكلة يُراد حلُّها. بل ان الجو النفسي والفكري كان جو ارهاب وتحدي وعنف لفظي مثلّه قول عمر لسعد بن عبادة : اقتلوه قتله الله. او قول عمر للحباب بن المنذر : اذاً ليقتلك الله ! فاجابه بحدة : بل اياك يقتل. ومخاوف الحباب بن المنذر من المصير القاتم على احفاده من خلافة قريش وممن يأتي بعدها. وعلى اية حال، فان الاجتماع لم يغيّر رأياً من الآراء، بقدر ما جعل اصحاب الدهاء السياسي يسيطرون على الطرف الآخر من الذين لم يكونوا يملكون القوة اللازمة في لوي عنق الطرف الاقوى. ولو كان اجتماعهم اجتماع دين وتقوى في الصورة والمحتوى، لتوصل الى اتفاق مبدئي في الالتزام بوصايا رسول الله (ص). ولكن النتيجة كان مخططاً لها قبل الاجتماع، وهي تجاهل دور الوصي (ع) تماماً والتركيز على الخليفة المنتَخب. ولذلك كان النقاش يدور حول الامارة والوزارة وتبادل الآراء، ولم يكن محوره اقوال رسول الله (ص) ولا فعله حول الامامة والولاية اصلاً. رابعاً : كان اجتماع السقيفة مؤتمراً جمع اغلب اطراف الصراع الاجتماعي في عصر الاسلام عدا بني هاشم، فقد عزلوا تماماً عن مجرى الاحداث. فقد حضر الاجتماع في سقيفة بني ساعدة : سعد بن عبادة شيخ الانصار، وبشير بن سعد من سادات الخزرج، وبعضاً من رؤوساء الاوس كأسيد بن حضير، وابو بكر وعمر وابو عبيدة من قريش. ثم اجتمعت بنو امية على عثمان، واجتمعت بنو زهرة الى سعد وعبد الرحمن بن عوف. وكان بنو امية وبنو زهرة على وفاق مع ما حصل في السقيفة. وكان هؤلاء جميعاً يمثلون التيارات المختلفة في المدينة، وهو تيار الانصار «الاوس والخزرج» والمهاجرين «قريش وبني امية». ولم يعرف تأريخياً : هل حضر المنافقون سقيفة بني ساعدة في ذلك الوقت ام لا ؟ وكان ذلك التخاطب جزءً من الاتصال اللفظي بين اطراف الصراع. فقد كان تقسيماً للادوار، فكان عمر اكثر الافراد اندفاعاً في اقناع الناس على بيعة ابو بكر. وقد وصف الامام (ع) هدفه بالقول : «احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً»[15]. وكان بشير بن سعد يطمح الى شيء من تلك الامارة، ولذلك كان يقدم لهم النصح والمشورة. وكان ابو عبيدة ـ بدهائه السياسي ـ يحاول ابعاد علي (ع) عن خلافة رسول الله (ص) بالقول : «ان ابا بكر اقوى على هذا الامر منك». بينما وصف المغيرة بن شعبة ابا عبيدة الجراح بانه من دهاة قريش[16]. خامساً : اُريد لاجتماع السقيفة ان يُؤسس لاجواء ذهنية اجتماعية لتقبل إبعاد الامام (ع) عن الخلافة والقبول بخلافة الخليفة الجديد. واجتماعٌ من ذاك القبيل جمع تيارات سياسية واجتماعية مختلفة يمكن ان يحقق هذا الهدف. خصوصاً وانه حصل خلال انشغال الامام (ع) بتغسيل النبي (ص) ودفنه. فقد كان ابعاد علي (ع) وبنو هاشم مقصوداً، حتى يتم لهم ما ارادوا. وكان حضور قريش مخططاً، ولم يكن امراً عفوياً. الا ان اللافت للنظر ان علياً (ع) عندما كان يكلّم الانصار او عندما كانت فاطمة الزهراء (ع) تكلم نسائهم، كانوا يتظاهرون بانهم لو سمعوه في البداية لما اختلف عليه (ع) اثنان. وهذا يقرّب احد احتمالين : أ ـ الاحتمال الاول : ان وفاة رسول الله (ص) قد اذهلتهم، وانستهم ما اوصاهم (ص) به، وهو بعيد. لان المصيبة العظيمة تجعل الامة تفكر بما قاله قائدها قبل وفاته، لا ان تنسى المبادئ التي جاء بها. ب ـ الاحتمال الثاني : خلال مرض رسول الله (ص) وانتظار جيش اسامة اوامر التحرك، قامت بعض اطراف الصراع بعمليات منظّمة لتهيئة الاجواء الذهنية لإبعاد الناس عن ولاية علي (ع). والا، كيف يُفسَّر سكوت الناس عن ولاية الامام (ع) ولم يكن بين غدير خم (18 ذي الحجة) واحداث السقيفة (28 صفر) الا سبعون يوماً. فهل يستطيع الناس ان ينسوا ما قاله لهم خاتم الانبياء (ص) واوصاهم به خلال شهرين وعشرة ايام ؟ مع انهم كانوا يحفظون عنه (ص) الحديث في الامور الجزئية الثانوية فضلاً عن الامور الرئيسية. سادساً : هيأ رسول الله (ص) لاُسامة جيشاً كبيراً قبل ايام من وفاته (ص)، وكان في الجيش وجوه الانصار والمهاجرين، وفيهم عمر وابو بكر. فكيف التئم جمع السقيفة في يوم وفاة رسول الله (ص) وهو لا يزال مسجى لم يدفن بعد ؟ الم يكن من وظيفة سعد بن عبادة وبشير بن سعد وابو عبيدة وابو بكر وعمر والحباب وغيرهم الذهاب الى جيش اسامة ؟ لقد سمعنا علل عمر وابو بكر وقرأناها، فما هي علل الآخرين ؟ وهي بمجموعها تجعل الانسان يشك في مصداقية هؤلاء الذين كان يأمرهم رسول الله (ص) بالذهاب الى الجيش، ويتعللون بمختلف العلل للبقاء في المدينة بانتظار موت النبي (ص). فاين شرعية اجتماع السقيفة من كل ذلك ؟ 2 ـ السقيفة والصراع الاجتماعي والسياسي: وعبّرت السقيفة عن مقدار الصخب السياسي الذي يولده اجتماع يفتقر الى المبادئ الدينية في التعامل مع الاحداث الكبرى كحادثة وفاة النبي (ص) والولاية من بعده. فمحدودية المقاعد العليا لادارة امور الامة جعل القوم يتبارون في لوي عنق بعضهم الآخر من اجل الفوز بتلك المقاعد، محاولين حذف الطرف الديني الاول في المعادلة الاجتماعية وهو علي بن ابي طالب (ع) وصي رسول الله (ص). قال الامام (ع) متحدثاً عن مرحلة وفاة رسول الله (ص) وما بعدها : «فلما مضى عليه السلام، تنازعَ المسلمونَ الامرَ من بعدهِ»[17]. وهذا التنازع يعبّر عن عدم تحكيم الدين في قضية كبرى كقضية الولاية من بعده (ص). وهنا لابد من دراسة هذا التنازع على الصعيد النفسي، والسياسي، والاجتماعي، والشخصي. أ ـ الصعيد النفسي : والصراع النفسي يعكس حالة يعيشها الانسان، يتجاذبه فيها دافعان كلٌ يدفعه الى اتجاه معاكس. وكان واقع السقيفة يعبر عن تلك الحالة، فكل من حضر ذلك الاجتماع كان يعيش معركة نفسية بين اتجاهين متضادين. الاول : ان يكون هو المرشح للخلافة، او على الاقل ان يكون المرشح من طائفته. والثاني : هو ان يتنازل لغيره ـ الاقوى ـ لمبايعته. وكان سعد بن عبادة طامحاً لولاية الامر، الا ان قوة الطرف الثاني المتمثل بقريش جعلته يرضخ للامر الواقع. وكان بشير بن سعد يتمناها لنفسه ولا يريدها لزميله سعد بن عبادة، فتنازل الى ابي بكر. وكان عمر وابو عبيدة يتمنونها لنفسيهما، الا ان طريقهما كان لابد ان يمر بابي بكر. والحباب بن المنذر كان يريد ذلك، ولكنه اُجبر على التراجع وهكذا. وهذا الصراع النفسي لم يكن ليمثل الدين او قيمه السياسية باي حال من الاحوال. ذلك ان الدين يربي الانسان على التضحية والايثار، وإذلال المؤمن نفسه لاخيه. وبكلمة، فان الدين يلغي الصراع النفسي عند الانسان. لانه يذكّره دائماً بالجزاء الالهي والقرب من المولى والنعيم الابدي الدائم. ولو كان الاجتماع دينياً لكان اجتماعاً اخوياً قدّم كلُّ طرف للآخر كل العون اللازم لتسلم المسؤولية الاجتماعية. وقد قال تعالى في محكم كتابه : (انما المؤمنون اخوة...)[18] ، و(...اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين...)[19]. ولكن حدّة المواجهات اللفظية بين المجتمعين في سقيفة بني ساعدة لم تبقِ شكاً بان الجو السائد في ذلك الاجتماع كان يولّد حالات من القلق والحذر من المجهول عند البعض. وهو بدوره يولد صراعاً نفسياً داخل الانسان بين التكلم والسكوت. فقول الحق له ثمن باهظ في تلك الظروف الحرجة. وقد تكون حياة الانسان ثمناً. وهنا ضاع الحق في ذلك الاجتماع الصاخب الذي كان هدفه تكريس الخلافة والسلطة في طرف دون آخر. فالافراد الذين تكلموا باسم الانصار او باسم المهاجرين، انما تكلموا بسبب الميول التي كان يولدها الانتماء للجهة التي كانوا ينتمون اليها ولم يكن الدين هو المقياس. بل لو كان الدين هو المقياس لكان لذلك الاجتماع وضعاً آخر. ب ـ الصعيد السياسي : ولاشك ان للعمل السياسي صراعه المعروف. ذلك ان المقاعد العليا التي يطمح الناس في حيازتها محدودة وقليلة في العدد. فالصراع بين التيارات المختلفة نحو السلطة امرٌ طبيعي في مجتمع تحكمه الاعراف الاجتماعية التي تقرر طبيعة الاذعان للحاكم اياً كان منهجه. ولكن المجتمع الديني ـ نظرياً على الاقل ـ يرفض ذلك اللون من الصراع، لان استلام الحكم ينبغي ان يتم عن طريق التعيين عبر كفاءة استثنائية سُميت بالعصمة في الدين. ونظرة علمية للنشاط السياسي في السقيفة وما دار فيها، يدعونا للاخذ باحد احتمالين، وهما : الاحتمال الاول : ان النقاش الذي دار يومئذ في سقيفة بني ساعدة كان منسجماً مع اهداف الدين ومتكاملاً مع طموحاته في استمرار الطريق الشرعي. وهذا الاحتمال يكذبه الواقع الذي قرأناه للتو، ويكذبه ايضاً طبيعة النقاش والحدة في التعامل مع الاطراف المشاركة. الاحتمال الثاني : ان وضع السقيفة كان يعبّر عن عمق الصراع السياسي بين الفئات التي حضرت الاجتماع، وهذا الاحتمال اقرب الى الواقع منه الى الاحتمال الاول. ذلك ان العلاقات قد تقطعت بين بعض الاطراف، وانسحبت تلك الاطراف من العملية بكاملها، كما في حالة سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر وغيرهم، مع ان موضوع بني هاشم لم يُطرح اصلاً في الاجتماع. وكأنه يعني ان حدة الصراع كانت تقتضي ان يكون هناك اتفاقٌ على عدم الاتفاق. بمعنى ان العلاقة المبدأية بين القوى الفاعلة في المجتمع لم تكن علاقة انسجام واقرار بمبدأ واحد، فيما يخص الولاية على اقل التقادير. بل ان الفهم السائد في اجواء السقيفة كان يقتضي الصراع ثم كبح جماح الطرف الاضعف. ولم يكن يقتضي التفاهم على وصية رسول الله (ص) مثلاً، التي كانت اصل الانسجام الاجتماعي المفترَض في المجتمع المتدين. ومن الطبيعي، فان تجمع ذلك العدد من الطامحين للمقاعد السياسية في تلك البقعة الصغيرة وفي ذلك الزمن القصير الحساس، كان مدعاةً لصراع اجتماعي وعدم انسجام مبدئي حول من يخلف رسول الله (ص). فقد كان لكل طرف من تلك الاطراف اهداف ووظائف غير قابلة للاندماج مع وظائف الآخرين، في خليط سياسي مضطرب وغير متجانس. فبينما كان الامام (ع) يسعى من اجل ديمومة الشريعة وتطبيق احكام السماء في المجتمع الديني، كانت الاطراف الاخرى تحاول الفوز بالسلطة ـ باي ثمن ـ على حساب طموحات الدين. ولا نستغرب ان تكون هناك علاقة ما، بين القوى المتصارعة، مهما كان الصراع مخرباً. فلا نستغرب ان يستشير الخليفة الاول او الثاني ـ لاحقاً ـ علياً (ع) في امور الشرع والدولة عندما كانا يُمتحنان في ذلك. فالصراع هنا لا يكسر جميع الجسور بينهم. لانه لو تكسرت الجسور، فهذا يعني ان حرباً اهلية ستشتعل. وهو الذي قال (ع) : «فرأيتُ راجعة الناس قد رجعت.......»[20]. ولكن ابقاء الجسور بين الاطراف المتصارعة قائماً يعني السيطرة بطريقة ما على ذلك الصراع. بينما تكسرت تلك الجسور لاحقاً في حروب الجمل وصفين والنهروان. شروط الصراع : وكما ان للحكم الديني شروطه الموضوعية وعلله السماوية، فان للصراع السياسي شروطاً موضوعية ايضاً، منها : اولاً : التنافس : فلو لم تكن هناك رغبة قوية في تحقيق الاهداف المرسومة من قبل جميع الاطراف، لما حصل التخاصم والصراع. فالتنافس هو مبدأ الصراع، عندما تكون الاهداف المتعاكسة لا تقبل التمازج ولا الاندماج ولا التوحد تحت راية واحدة. والتنافس في بعض الحالات يؤدي الى الخير، كما في قوله تعالى : (وسارعوا الى مغفرة من ربكم...)[21] والمسارعة تقتضي التنافس. وقوله تعالى : (...وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)[22]. فلا يمكن اعتبار كل صور التنافس صراعاً. بل ان التنافس على الخير يؤدي الى اكمال العمل، والاسراع في اتمامه على الاقل. ولكن المشكلة تتعمق عندما يكون التنافس بين اطراف لايريد بعضها الخير للآخر، فتصبح المنافع الذاتية والمصالح اهداف تدفع الاطراف للتخاصم والتنازع. ويعبّر الصراع الاجتماعي الذي حصل في السقيفة عن وضع خاص لمنافسة كانت فيها الاطراف المتصارعة تعلم ان اهدافها المتعاكسة غير قابلة للاندماج، وتعلم ايضاً ان المواقع السياسية التي سوف يحوز عليها طرف دون آخر سينفرد بها الطرف المنتصر، وستبقى كذلك دون قابلية على اندكاك مصالح الطرف المنتصر مع مصالح الطرف المنهزم. ثانياً : الاهداف المستقلة : ان التنافس الخارجي بين الافراد ـ اذا سسُلِبَ عنه مفهوم الخير ـ يعبّر عن حرب بين الضمائر ايضاً. ذلك ان الاهداف المستقلة تتصادم، ويحاول كل طرف انهاء طموحات الطرف الآخر في السلطة والرياسة. خصوصاً اذا كانت المبادئ التي تؤمن بها تلك الاطراف متناقضة تماماً وغير قابلة للتعايش. ومن هنا نفهم ان الاحداث التي اعقبت وفاة رسول الله (ص) تشير الى ان الامور كانت تسير بهذا الاتجاه، فلم تكن هناك اهداف مشتركة تعمل على تحقيقها الاطراف المختلفة. فلم تكن ـ في الصورة الكلية ـ مساحة للتفاهم والمشاركة. نعم، كانت هناك امنيات للمشاركة في السلطة والحكم والتعاون في ذاك المجال. وقد مثلها ـ بوضوح ـ رأي الاوس في السقيفة وفيهم أسيد بن حضير : لئن وليتموها سعداً عليكم مرة، لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، ولا جعلوا لكم نصيباً فيها ابداً. فقوموا فبايعوا ابا بكر. فقاموا اليه فبايعوه. فكأن الاصل في الفضيلة ان يكون لهم في السلطة نصيباً. وإن لم يكن اليوم فليكن غداً. وهذا يعني انهم كانوا يفهمون اساليب اللعبة السياسية حتى على اختلافهم بمضمون الاحداث، ولكن الاطار العام كان متفق عليه. وكان الامام (ع) واعياً الى ذلك. ولذلك قال (ع) مخاطباً عمر عندما جادله بالبيعة لابي بكر : «احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً». ولذلك كانت رؤوس قريش تطمح لوظائف عليا في الادارة، وقد قرأنا انهم بعثوا الى عكرمة بن ابي جهل وعمومته الحارث بن هشام وغيرهم فاحضروهم، وعقدوا لهم الرايات الى نواحي اليمن والشام ووجهوهم من ليلهم. وبعثوا الى ابي سفيان فارضوه بتولية يزيد بن ابي سفيان. فاللعبة السياسية التي اقرَّ عليها المجتمعون في السقيفة كانت تمولهم بالوظائف الاجتماعية والادوار السياسية وامتيازات السلطة. وقد كان القسم الاعظم من فهم تلك العملية السياسية يرجع الى الاعراف السياسية القَبلية عند العرب في الدهاء والمكر وفهم المتغيرات. فكانت الرواسب السياسية لما قبل الاسلام عاملاً من عوامل فهم قواعد اللعبة، دون الاخذ بالفهم الديني الجديد في الولاية والحاكمية الشرعية. ثالثاً : آليات التفاهم : ان اهم آلية في تعامل الرؤوس خلال اجتماع السقيفة هو استخدام القوة والتهديد حتى يرضخ الطرف الآخر صاغراً لارادة الطرف الاقوى. وهنا كان الاتفاق نابعاً عن الاكراه والعنف، لا عن الاقناع والرضا. وقد انتصرت قريش وارغمت الانصار وغيرهم بقبول الواقع الجديد. ثم استخدمت قريش شتى اساليب الضغط والاكراه ضد علي (ع) وبني هاشم من اجل حملهم على الرضوخ لمطالب الوضع الجديد. ولم يكن امام الامام (ع) الا المقاومة السلمية ضدهم، ذلك انه (ع) لو استخدم اسلوب المقاومة المسلحة ـ وهو بطل الابطال ـ لدخل في حرب لا تحمل شروطاً موضوعية، وغير قابلة للتجانس مع مجتمع حديث عهد بالدين. ولذلك قال (ع) : «اما والله لقد تقمصها (لبسها كالقميص) فلانٌ، وانه ليعلَمُ أنَّ محلِّيَ منها القُطبِ من الرحا، ينحدرُ عني السيلُ، ولا يرقى اليَّ الطيرُ، فسدلتُ دونها ثوباً (اي ارخيتُ دونها ثوباً)، وطويتُ عنها كَشْحاً (ملتُ عنها)، وطفِقتُ أرتئي بين ان أصُولَ بيد جذَّاءَ (مقطوعة)، او اصبِرَ على طخية (ظلمة) عمياءَ، يَهرمُ فيها الكبيرُ، ويشيبُ فيها الصغيرُ، ويكدحُ فيها مؤمنٌ حتى يلقى ربَّهُ، فرأيتُ ان الصبرَ على هاتا أحجى (اي ألزم)، فصبرتُ وفي العينِ قذىً، وفي الحلْقِ شَجاً (ما يعترض الحلق من عظم ونحوه)...»[23]. ويفهم من وقائع السقيفة انهم اتفقوا ـ جبراً او اختياراً ـ وبغياب بني هاشم على إبعاد اهل بيت النبوة (ع). ولذلك فقد توحدوا ظاهراً تحت راية الخلافة، خوفاً من ان ترجع الولاية الشرعية الى اهلها فيصبحوا تابعين لا متبوعين. ولم تكن هناك حاجة لكتابة آليات التفاهم، بل انها كانت تتخذ اشكالاً مختلفة مثل : اقتله قتله الله، او اتخاف منا يا حبّاب ؟ ، او عقد الرايات للذين تعاونوا معهم في انجاز الامر، او تولية من كانوا يرونه يستحق الولاية على الامصار. رابعاً : تغييب القانون : ان وظيفة القانون او التشريع في مجتمع ما هو منع الصراع او حل مشكلته او تحديده بحدود ضيقة. وذلك يتم بطرق عديدة لنظام العقوبات الجنائية، او نظام الاخوة الدينية، او نظام الوصية والاستخلاف الشرعي. وفي ضوء ذلك نفهم تأكيد رسول الله (ص) على الاستخلاف في غزوة تبوك ويوم الغدير وخلال مرضه (ص) وتكراره الارادة النبوية ـ التي هي امتداد للارادة الالهية ـ بولاية علي (ع). وهذا يعني ان التشريع الاسلامي حاول منع الصراع الاجتماعي المتوقع على قضية الولاية والحاكمية. ونحن نفهم ان التشريع يفترض بان المكلفين لابد ان يطبقوا التكاليف الشرعية، وبضمنها الولاية الشرعية التي اعلنها رسول الله (ص). فالشريعة قانون الهي ملزِم لجميع الاطراف، كما قال تعالى : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم...)[24]. ويمكننا عدّ القانون الشرعي اداة رابطة بين الوسيلة والهدف. فالولاية الشرعية التي اعلنها رسول الله (ص) في غدير خم هي وسيلة لهدف اسمى وهو الامتثال لامر الله سبحانه وبناء المجتمع الديني العادل الذي تطبّق فيه الحدود وتُقام فيه العدالة الحقوقية والاجتماعية بين الناس. ولكن القانون الشرعي في تلك المسألة الخطيرة كان قد غُيّبَ في اجتماع السقيفة، وبذلك اوجدوا للصراع الاجتماعي بين الحق والباطل شروطاً موضوعية من اجل ان يستمر الى يوم القيامة. ج ـ الصعيد الاجتماعي : ويمثل الصراع على الصعيد الاجتماعي معركة محتدمة حول الوجود والعدم. فليس من اهداف الاطراف المتصارعة فرض اعراف معينة تتبناها فحسب، بل ان من اهداف الصراع محاولة الطرف القوي حذف الطرف الآخر من المعادلة الاجتماعية. ولذلك حاولت قريش حذف علي (ع) بكل ما يمثله من قيم ومبادئ وبطولة واخلاق وفهم للشريعة. لان متطلبات بقائها في السلطة كان يقتضي ذلك. ولذلك، فانهم انكروا لابي تراب (ع) كل فضيلة. والى ذلك اشار (ع) في احدى خطبه: «اللهم اني استعديك على قريشٍ ومن أعانَهُم! فإنهم قطعوا رَحِمي وصَغّروا عظيمَ منـزلتي، واجمعوا على منازعتي أمراً هو لي. ثم قالوا: ألا إنَّ في الحقِّ أن تأخُذَهُ، وفي الحقِ ان تتركَهُ»[25]. ولولا طموحات القوم السياسية لما اصبح الصراع ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية عند المسلمين. حتى ان السلام المؤقت بين قريش وائمة الهدى اصبح ـ في واقع الامر ـ شكلاً من اشكال الصراع بين الحق والباطل. فكلما انفسح المجال لاظهار الحق والتعرض للباطل، كان ذلك. واصبحت التركيبة الاجتماعية للمسلمين منذ واقعة السقيفة ولحد اليوم تركيبة مبنية على اساس صراع الضمائر بين الحق والباطل. فالضمير الشيعي الامامي اصبح مرهفاً يبكي مظلومية علي (ع)، ومظلومية الزهراء (ع) ومظلومية بقية الاوصياء (ع)، بينما بقي ضمير الاغلبية الصامتة جاهلاً شروط الصراع وظروفه التأريخية. (تليها ص 587- 610) اللاحق صفحة التحميل الصفحة الرئيسية [1] الامامة والسياسة – ابن قتيبة ج 1 ص 21. [2] قال الطبري في (تأريخه): ثم انهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله (ص) الاولون، ونحن عشيرته واولياؤه، فعلام تنازعونا هذا الامر بعده. فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذاً: منا امير ومنكم امير، ولن نرضى بدون هذا الامر ابداً. فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا اول الوهن. [3] سورة الانبياء: الآية 98. [4] سورة يونس: الآية 18. [5] سورة الزمر: الآية 3. [6] الجذعة: الفتية. والجذع من الابل ما استكمل الاربع ودخل في السنة الخامسة من العمر. والانثى جذعة. [7] وفي (تأريخ الطبري): فقال عمر: إذاً ليقتلك الله! فقال: إياك يقتل. [8] قال الجوهري في كتاب (السقيفة): لقد صدقت فراسة الحباب، فإن الذي خافه وقع يوم الحرة (سنة 63 هـ) وأخذ من الانصار ثأر المشركين يوم بدر (شرح النهج ج 1 ص 313). [9] أي لا يصلي الجمعة معهم. [10] (الامامة والسياسة) ج 1 ص 21- 30. و(تأريخ الطبري) ج 3 ص 202. و(شرح نهج البلاغة) ج 2 ص 266. و(مروج الذهب) ج 2 ص 329. [11] يعني تنصيبه خليفة المسلمين. [12] (اعلام الورى) – الطبرسي ج 1 ص 271- 272. [13] (اُسد الغابة) ج 3 ص 307، ج 5 ص 205. [14] (الخصائص) ص 14. رواها النسائي باسناده عن سعد بن ابي وقاص. [15] (الامامة والسياسة) ج 1 ص 29. [16] (تهذيب الكمال) – المزي ج 9 ص 364. [17] (نهج البلاغة) – كتاب 62 الى اهل مصر ص 580. [18] سورة الحجرات: الآية 10. [19] سورة المائدة: الآية 54. [20] (نهج البلاغة) – كتاب رقم 62 ص 580. [21] سورة آل عمران: الآية 133. [22] سورة المططفين: الآية 26. [23] (نهج البلاغة) – خطبة 3 ص 35. [24] سورة الاحزاب: الآية 36. [25] (نهج البلاغة) – خطبة 172 ص 303.
|