(ص 587 - 610)

مباني الصراع الاجتماعي :

          ولم يكن الاحتدام حول السلطة والرئاسة ناشئاً عن فراغ، بل كان له مباني فلسفية واجتماعية يمكن تلخيصها بالنقاط التالية :

          اولاً : المبنى الذاتي للصراع. ويُقصد بالمبنى الذاتي ان فكرة العداوة والكره والبغض انما هي امور ذاتية، لكنها تتدخل بشكل مباشر في تصميم صورة الصراع مع الطرف المقابل. وبتعبير آخر ان قريشاً كانت تكرهُ علياً (ع) لانه افجعهم في الجاهلية، فقتل آبائهم واخوانهم، ولا يمكن لهم ان يغفروا له ذلك، بعد عشرة اعوام فقط من معركة بدر الكبرى. فقواعد العداوة المتأصلة عند قريش ضد بني هاشم وبطولتهم الفائقة ضد المشركين والتي تمثلت بعلي (ع) وحمزة وابو طالب والعباس وجعفر ونحوهم، كانت كافية لبناء صرح من العداء والبغض ضدهم. ولاشك ان الصراع لا يتوقف عند المبنى الذاتي بل هناك مبنى موضوعي وهو حب السلطة والسيطرة على مقدرات الدولة العظيمة التي انشأها الاسلام.

          والمبنى الذاتي للصراع ـ وهو كره علي (ع) ـ يجعل ذلك الصراع محطة لتصادم المشاعر المتعاكسة. فقد كان كره اهل البيت (ع) متأصلاً في نفوس قريش لحجم ما قُتل من مشركيهم. فقد قتل علي (ع) في بدر نصف ما قتله جيش الاسلام، وقتل في اُحد ابطال قريش، وقتل في الاحزاب عمرو بن عبد ود، وقتل العديد منهم في معركة ذات السلاسل وغيرها مما ذكرناه في الصفحات الماضية.

          ثانياً : المبنى الاثري للصراع. وهو ان لصراع السقيفة آثار على تركيبة المجتمع، على الصعيد الديني والسياسي والمالي. ولذلك فقد مزقت السقيفة وحدة الامة، وفصلت الحاكمية على المسلمين الى دينية شرعية ودنيوية مخالفة للدين ومفاهيمه العظيمة في العدالة والانصاف.

          ثالثاً : المبنى الفكري للصراع. ولكل صراع مبنى فكري تستند عليه الاطراف المتناوئة. وكلما كانت المباني الفكرية اكثر تبايناً وتعاكساً كان الصراع اشد واقوى. وقد كان الخلاف جوهرياً بين الطرفين. فأهل البيت (ع) يؤمنون بالعصمة والامامة، وقريش تؤمن بالقيادة الدنيوية او الخلافة القرشية. ويؤمن اهل البيت (ع) بالنص والوصية من النبي (ص)، بينما تؤمن قريش باللعبة السياسية. ويؤمن اهل البيت (ع) بتحكيم الدين في كل مورد من موارد الحياة، بينما كانت قريش تهتم بالسلطة والرئاسة.

د ـ صراع المصالح :

          كيف يمكن الاطمئنان بان المكلّف باعلى المناصب في الدولة، وهو الخليفة غير  المُعيّن من قبل النبي (ص)، يؤدي وظيفته دون ملاحظة مصالحه المالية الخاصة به ؟ او بتعبير آخر كيف يمكن ضمان اخلاص الفرد المكلف بالوظيفة دون حيازة امتيازات السلطة ؟

امتيازات السلطة :

          لاشك ان السلطة تفتح ابواباً لامتيازات واسعة في الملكية والخدمات والطاعة من قبل الناس. وتفتح ابواباً لتقسيم المناصب الحكومية كمنصب قائد الجيش او ولي الاقليم او جامع الخراج. فاذا لم تكن هناك ضوابط دينية لتحديد تلك الامتيازات، واذا لم تكن هناك عين دينية فاحصة يستشعرها الحاكم او السلطان، فان مقداراً هائلاً من الثروة الاجتماعية سوف ينحاز الى جهة الحاكم وحاشيته وافراد عائلته.

          والسيطرة على السلطة هي من أكثر الطرق السياسية اماناً في حفظ مصالح الطبقة الحاكمة. واثر تلك السيطرة لا يعدُّ ـ في نظر العرف المحكوم بالسلطة ذاتها ـ سلوكاً اجرامياً كالسرقة او الرشوة. فالسارق او المرتشي يعاقب ويقطع او يعزر او يسجن. ولكن الفرد الذي يقتحم النظام الاجتماعي على طريقة السقيفة لا يعاقب، لان الجناية مختلفة تماماً عن تلك.

          ولو افترضنا ان الحاكم بنى جسراً بين الوظيفة العامة والفائدة الشخصية، لاصبح ذلك الجسر اعظمُ امتياز له. ذلك ان الحاكم اصبح يحقق كل طموحاته الشخصية في الثروة والخدمات وطاعة الناس. وهذا يسمى بالمصطلح الحديث بـ «الفساد الاداري». ولكن الاسلام جاء ليحارب هذا النوع من الفساد. ولذلك جعل الاسلام الوظيفة العامة، كالخليفة فضلاً عن قائد الجيش او ولي الاقليم او جامع الخراج او من دونهم تتم عن طريق التعيين وليس الانتخاب. ولاشك ان للتعيين شروطه الموضوعية فيما يتعلق بالاخلاص والايمان والتفاني ونكران الذات والتعلق بالله سبحانه وترك الدنيا. وقد عاش امير المؤمنين (ع) ذاته ايام خلافته وقبلها ضمن تلك الشروط في الزهد والعبادة والاتصال بالله سبحانه.

          وهذا يعني انه جعل وظيفته العامة خالصة لوجه الله وخدمة الجماعة، ولم يضف الى نفسه اية فائدة. بل كان يحرم نفسه من المباحات. ولكن كان ذلك صعباً على الذين دخلوا حلبة الصراع الاجتماعي في السقيفة واستلموا الامارة لاحقاً، فانهم لم يستطيعوا ان يتخلصوا من دوافعهم ورغباتهم في الفائدة الشخصية.

من مصاديق الامتياز :

          ولاشك ان نشوء الدولة الاسلامية في المدينة ونمو مواردها العظيمة كان يشجع دهاة العرب على ذلك اللون من الصراع. فقد كانت امتيازات السلطة عظيمة جداً في عيون الافراد، مهما كان وضعهم النفسي او الاقتصادي او الاجتماعي. ومن تلك الامتيازات :

          1 ـ اعتماد الدولة على وظائف الافراد في قيادة الجيش، وادارة الولايات، وتحصيل الخراج، وتنظيم الغنائم ونحوها.

          2 ـ توسع التجارة وبضمنها المواد التي يحتاجها الجيش من سلاح وخيول وطعام وكساء ونحوها. ويكفيك ان تعلم، بان المسلمين عندما افتتحوا افريقيا وجاءوا بغنائمها، اخذ عثمان خمسه فوهبه لمروان بن الحكم. فاي تجارة عظيمة كان يسيّرها ذلك المبلغ الهائل ؟

          3 ـ القطائع الكبيرة من الاراضي والبساتين التي كانت الدولة تملكها بالانفال او غيرها. خذ فدكاً مثالاً لذلك. فقد وهبها رسول الله (ص) لابنته فاطمة الزهراء (ع)، ولكن الخليفة الاول سلبها منها، ثم ارجعها الخليفة الثاني ـ بعد سنين من وفاة فاطمة ـ لاهل البيت (ع)، ثم اخذها الخليفة الثالث ومنحها لمروان بن الحكم وبقيت في يد مروان وبنيه الى ان تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها وردها الى اهل البيت (ع) ثم اخذها الخليفة بعده، ثم ردها المأمون الى اهل البيت (ع)، وهكذا دواليك. وهذا التداول لقطعة واحدة من الارض يدلُّ على ان ثروتها كانت هائلة.

          4 ـ بروز بيت المال كمصدر من مصادر الثروة الاجتماعية. فتكدس الثروة في بيت المال كان يعني ان الخلافة ستكون محط الصراع بين الاطراف الطامحة، محاوِلة عزل القوة الحقيقية التي كان يُراد لها ادارة الامور.

          ولو قُدّر لامير المؤمنين (ع) بتولي امر الولاية، لاختلف الوضع التأريخي والاجتماعي للامة. فقد كان الامام (ع) :

          أ ـ يحمل جانباً اخلاقياً رسالياً عظيماً، خصوصاً في باب نكران الذات. فقد اثبت خلال حياته مع رسول الله (ص) انه لا يحلم بتحقيق مصلحة مالية او دنيوية ضيقة، بل كان همه تطبيق الدين.

          ب ـ لم يستثمر الامام (ع) اياً من الغنائم التي كانت تقع من نصيبه، بل كان يهبها للفقراء وذوي الحاجة. فاميرٌ من هذا النمط لا يظلم احداً على حساب آخر، ولا يُضيف لنفسه ما ليس له.

          ج ـ عندما هرولت الخلافة اليه (ع) لاحقاً لم يوظفها لمساعدة عشيرته، بل ساوى بين الناس. فهذا اخوه عقيل كان فقيراً وجاء يطلب مالاً حمى له الحديدة، وقال له : «اتخاف من نار صنعها الانسان للعبهِ ولا اخاف من نار فجرها الجبار لغضبه».

          اذن نستنتج، من كل ما سبق ذكره، ان مشكلة صراع المصالح مشكلة معقدة لا يمكن علاجها ببساطة. ذلك لان الصراع هو نتاج للمجتمع المتشابك بالعلاقات والمؤسسات والشخصيات، ونتاج حتمي لضعف الايمان بالدين الجديد 

3 ـ الاسلام والضغوط المتقاطعة :

          ان ما تم في السقيفة وما بعدها من ظواهر يمكن ان يُسمى بالضغوط المتقاطعة. ومعنى الضغوط المتقاطعة هو ان اجتماع 28 صفر سنة 11 للهجرة كان يعبّر عن استحالة تمازج اتجاهين او دافعين غير قابلين للتمازج اصلاً. فالدافع الاول كان سياسياً بحتاً يطمح بالخلافة والسلطة الدنيوية وكان يمثله اندفاع قريش نحو السلطة وانتصارها على الانصار. والدافع الثاني كان دافعاً دينياً من اجل تثبيت حكم الشريعة واحقاق الحقق وإنصاف الرعية وكان يمثله النص النبوي امام الملأ يوم الغدير باستخلاف علي بن ابي طال (ع) على الامة خلافة شرعية صحيحة.

          ويمكننا تقسيم الضغوط المتقاطعة الى قسمين :

الاول : الضغط السياسي الذي كان يريد من الامام (ع) تغيير موقفه المبدئي وبدائله التي كان يعتقدها من قضية الولاية. وكان يمثله قول عمر له (ع) : انك لست متروكاً حتى تبايع. فكان الامام (ع) ثابتاً صلباً في موقفه ذلك، لانه ليس من وظيفته المساومة على امر كان قد حدده له رسول الله (ص) على مرأى ومسمع من الملأ. ولذلك فان الامام (ع) لم يبايع الخليفة الاول تحت اي شرط من الشروط. ونحن نشكك بكل الروايات التي ذكرت خلاف ذلك.

الثاني : الضغط السياسي الذي كان يريد من الامام (ع) المشاركة في الحكم باعتباره جزءً من المجموعات العاملة في المجتمع. وهذا الضغط لم يحصل اصلاً، لان علياً (ع) لم يكن مجموعة تعمل للاسلام. بل كان يمثل كل الاسلام الذي نزل على قلب محمد (ص). فكان الامر يتطلب اما الاقرار بوصية رسول الله (ص) والاذعان لعلي (ع) بالولاية المطلقة، واما سلب تلك الولاية بالاصل ومحو اسم علي (ع) من كل اجتماع ونقاش يحصل بين الاطراف المتصارعة في ذلك الزمان. والذي حصل هو الامر الثاني، ولذلك لم يرد اسم علي في اجتماع السقيفة الذي انعقد بعد سبعين يوماً فقط من يوم الغدير. بل ان الانصار احتجوا بانهم لو سمعوا كلامه (ع) قبل بيعة ابي بكر لبايعوه. ولكن، اين كانت الانصار يوم تبوك، ويوم الغدير، وايام مرض رسول الله (ص) ؟

          واحتجت قريش بانه حديث السن ولا يملك تجربة كبار القوم. ولو كان السن هو المقياس، فلِمَ أمرّ رسول الله (ص) اُسامة ـ الذي كان شاباً حدثاً ـ على جيش فيه الكثير من فضلاء الصحابة كبار السن ؟

          وهنا كانت الضغوط المتقاطعة لاطراف التخاصم الاجتماعي تحاول كسر الاختيار الشخصي وحجب الحرية الفردية في النظر والتفكر وابداء الرأي. فالضغوط السياسية والاجتماعية اذن ضغوط حقيقية في العالم الاجتماعي. هنا بالذات، كسرت تلك الظروف التي خلقتها السقيفة، الحقيقة الموضوعية ـ وهي ولاية الامام (ع) ـ عند المسلم العادي. فالفرد البسيط الذي سمع كلام رسول الله (ص) يوم الغدير وآمن بان الولاية ستكون لعلي (ع) واعتبر تلك المسألة حقيقة موضوعية، بدأ ـ بفضل الضغط الاجتماعي الذي سببته اجواء السقيفة ـ بتقبل صورة شخص آخر غير الخليفة الذي اوصى به رسول الله (ص). ولذلك بدأ الناس ـ رويداً رويداً وتحت مطرقة الاكراه والاستغفال ـ بمبايعة الخليفة الجديد الذي لم يوصَ به الدين الحنيف اصلاً.

تأثير الضغوط المتقاطعة :

          لاشك ان للضغوط المتقاطعة تأثيراً عظيماً على الانسان والمجتمع. فتأثيرها على الفرد ينّصبّ على تغيير مواقفه العملية السابقة، حتى لو كان يؤمن بها. وهنا ينكسر الاختيار الشخصي وتتحقق درجة من درجات الاكراه، فيتبدل سلوك الانسان. وكان ذلك واضحاً بعد السقيفة، فقد تبدلت سلوكيات الافراد تجاه الولاية، ظاهرياً على الاقل، الا من ثبت من القلّة من اصحاب رسول الله (ص) كابي ذر وعمار والمقداد وسلمان ونحوهم. بينما كانت الاكثرية من المسلمين صامتة وغير قادرة على زحزحة الوضع.

          اما تأثيرها على المجتمع فيتبلور في الفكرة التالية، وهي : ان نتيجة الضغوط المتقاطعة سوف ينتصر طرف سياسي على الاطراف الاخرى الفاعلة في المجتمع. والطرف المنتصر يحاول جاهداً ـ وبكل ما اوتي من قوة ـ التقليل من انجازات الطرف المقابل. ولذلك نفهم اسباب طمس ذكر علي (ع) واهل البيت (ع)، ومحاولة اهماله اهمالاً تاماً خلال السنوات الخمس والعشرين القادمة.

          ولكن ينبغي الاستدراك هنا بان تأثير الضغوط المتقاطعة في تلك الفترة لم يكن مؤبداً ولا شاملاً للمجتمع. بل ان التأريخ شهد لاحقاً وبعد عقود عديدة قيام انتفاضات وثورات عديدة حاولت تحطيم الطرف الظالم. في نفس الوقت كانت هناك شريحة اجتماعية قد آمنت بوصية رسول الله (ص) يوم الغدير، وآمنت بعلي (ع) اماماً شرعياً على المسلمين وولياً عليها. وبقت تلك الشريحة صابرة مدة خمسة وعشرين سنة حتى تهيأ لها الظرف الاجتماعي المناسب لاعلان الولاية الشرعية مرة اخرى بكل قوة على الملأ، والدفاع عنها بقوة السلاح.

4 ـ وفاة النبي (ص) وانتقال السلطة :

          لا يمكن القبول بان ما حصل في السقيفة من نتائج، هو تخويلٌ شرعيٌّ لادارة مجتمع المسلمين ولا يمكن عدّه اجازة شرعية لاستلام مقاليد الحكم. بل يمكن اعتباره انتقالاً للسلطة من يد سابقة الى يد لاحقة. واذا كان رسول الله (ص) يحكم بالشرعية المستمدة من السماء، فان الذين انتقلت اليهم السلطة عنوة لم يكن يملكون اي شيء من ذلك الامر. فكيف حاول التأريخ اضفاء شرعية على ذلك الانتقال ؟

          لا يمكن ان تكون عملية الانتقال شرعية الا ان يوصي الحاكم الاول وهو رسول الله (ص) الى الحاكم الثاني، او على الاقل يُمضي انتقال السلطة الشرعية من يده الشريفة الى اليد الثانية. اما ان يجتمع القوم ويقررون، دون رضا رسول الله (ص)، فهنا يصبح الانتقال انتقالاً غير شرعياً ولا ملزِماً. ولذلك فان الامام (ع) لم يبايع الخليفة الاول. واذا كان هذا غير كافياً فلابد من اضافة نقطة ثالثة وهي ان رسول الله (ص) اوصى للامام (ع) يوم الغدير بالولاية. فمخالفة القوم لوصية رسول الله (ص) تجعل عملية الانتقال تلك عملية غير شرعية ولا عقلية ايضاً.

          واذا اقررنا بان القرآن الكريم كان ولا يزال دستوراً لدولة الاسلام، فان القرآن يأمر المؤمنين بطاعة اولي الامر : (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم...)[1]. اذن فان دستور الدولة الاسلامية يأمر المسلمين بطاعة الله ورسوله وولي الامر من بعده. فكان الرسول (ص) بحكم وظيفته التبليغية مأموراً بان يوصي لرجل آخر بالولاية، حتى يكون انتقال السلطة الشرعية انتقالاً شرعياً تطمئن له النفوس. وهذا عين ما حصل قبل غزوة تبوك. وحصل ايضاً ـ وبصورة أعمّ ـ يوم الغدير حين اوصى النبي (ص) لعلي (ع) بالولاية الشرعية على المسلمين. ذلك ان انتقال السلطة من النبي (ص) الى الامام (ع) يعني انتقال وظائف السلطة الشرعية بينهما، خصوصاً في قضايا القتال والجهاد، وتطبيق الحدود، واحقاق الحقوق والالزام من واجبات ونحوها، واحكام الشريعة بصورتها الكلية الشمولية.

          وانتقال السلطة الدينية التي خطط لها رسول الله (ص) وفي تلك الفترة بالذات لا يعني انتقال السلطة التنفيذية فقط، بل كان يعني انتقال السلطة التشريعية والقضائية ايضاً. ذلك ان العصمة في الدين تعكس القدرة الاستثنائية على ادراك ملاكات الاحكام، والمصالح والمفاسد، ادراكاً واقعياً حقيقياً.

          وهنا يكون الولي الذي اوصي له بالقول : «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» قائداً حقيقياً في التنفيذ والتشريع والقضاء. خصوصاً وان الوضع الاستثنائي الذي كان يعيشه الاسلام من حيث وجود المنافقين، والذين دخلوا الاسلام حديثاً، والذين آمنوا ظاهراً ولم يؤمنوا باطناً، يتطلب تكثيف الإرادة الشرعية فيما يتعلق بالادارة الاجتماعية والسلطة الشرعية في يد واحدة قادرة على اداء تلك الوظائف مجتمعة. ولذلك خاطبهم الامام (ع) بعد انتهاء السقيفة : «...لنحن احق الناس به، لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الامر منكم. ما كان فينا الا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الامور السئية، القاسم بينهم بالسوية»[2].

5 ـ لعبة السقيفة ولعبة الخلافة :

          يتداول المفكرون في علم السياسة اراءً حول نظرية تسمى بنظرية اللعبة، وهي نظرية سياسية تدرس سلوك المشاركين في لعبة استراتيجية سياسية تخص المجتمع وادارته الاجتماعية. وجوهر النظرية يكشف ان المشارك في تلك اللعبة لا يعتمد في النتيجة على افعاله فقط، بل ان النتيجة تعتمد ايضاً على دور المشاركين الآخرين ومصالحهم المتوازية مع مصالحه الذاتية والاجتماعية. ومع ان العملية تتطلب صراعاً من اجل المصالح الشخصية، الا انها تتطلب تعاوناً ومشاركة ايضاً.

          واذا اخذنا السقيفة كمصداق من مصاديق نظرية اللعبة السياسية، لرأينا بان ذلك المصداق ينطبق على الصورة الكلية. فصورة الصراع الظاهرية كانت بين الانصار والمهاجرين. وكان في الانصار سعد بن عبادة والحباب بن المنذر، وكان في الجهة المقابلة وجوهاً من قريش. حيث كان الصراع على اوجّه بينهما، الى حد انه وصل الى العنف وشهر السلاح.

          واما اوجه التعاون فقد كانت بين بشير بن سعد (من الخزرج) وأسيد بن حضير (من الاوس) من الانصار من جهة وبين قريش من جهة اخرى. وكان هناك تعاوناً آخر بعد انتهاء السقيفة بين بني امية وعلى رأسهم عثمان وبني زهرة وعلى رأسهم سعد وعبد الرحمن بن عوف من جهة وبين قريش من جهة اخرى. وكان هناك صراعاً آخر بين الزبير بن العوام من جهة وبين قريش ايضاً، انتهى الى تسليم الزبير وتجريده من سلاحه.

          وهذه كلها لا تعطي انطباعاً عن سلوك شرعي تحكمه نظرية «الاخوة» في الدين. بل كانت مصداقاً من مصاديق نظرية اللعبة السياسية بين الاطراف. فهي كانت مبرراً لسلوك فيه الكثير من ادوات التعاون والصراع والاقحام بين اناس ليسوا اهلاً للمواقع الحساسة الخطيرة في المجتمع الاسلامي الجديد. وهنا كانت قوانين تلك اللعبة السياسية بعيدة عن الاجواء الشرعية التي نزل بها الدين الحنيف.

          ولاشك ان اقتراح الانصار في السقيفة الذي كان موجهاً للمهاجرين : «منا امير ومنكم امير»، كان يُراد به حكومة ائتلافية تجتمع فيها قوتان في الوقت الذي تُزحزح فيه القوة الشرعية الرئيسية وهي قوة علي (ع) وبنو هاشم. ولكن ذلك المسعى فشل، لان قريش كانت مندفعة نحو الاستفراد بالسلطة، او على الاقل المشي وراء نظرية «نحن الامراء وانتم الوزراء». ذلك ان النظرية الاخيرة جعلت الخيارات معروفة لدى الطرفين. الا ان الطرف الاقوى حاز على كل مكتسبات اللعبة، واصبح منهم الامراء والوزراء معاً. وهكذا خسر الانصار كل المكتسبات التي كانوا يطمحون بتنميتها.

          واهم ما في لعبة السقيفة من نتائج هو ان الطرف الذي اختار اهدافه بصراحة وتسرع، قد خسر في نهاية الاجتماع. ذلك ان الذي يختار اهدافه بتلك الطريقة الواضحة ـ وهي طريقة الانصار الذين ارادوها لهم في البداية ثم ساوموا على ان يكون منا امير ومنكم امير ـ لابد ان يفشل. فالذي يكشف اوراقه من البداية، في الوقت الذي لا يعرف اساليب الطرف المقابل واهدافه، سيخسر تلك الجولة. ذلك لان الطرف الثاني كان يملك خيارات اوسع واهداف غير معلنة ووسائل اقناع وتخطيط مسبق لايقاع الطرف الاول في الفخ. وهكذا وقع الانصار في فخ «اذا هلكنا جميعاً فسيأتي بعدنا من يسومنا الضيم». وكان رد الخصم على ذلك هو ان قريشاً ـ اباً عن اب ـ افضل منهم في المال والدين والخلافة على الصلاة، فهي احق بميراث رسول الله (ص) ! اتركوا الامر لقريش وسوف تروون كيف تحافظ على عهدها معكم. وهكذا تمت تلك الجولة وانتصرت فيها قريش على الانصار، لوجهين :

الاول : ارتكب الانصار اعظم الاخطاء السياسية عندما طرحوا رأيهم واهدافهم من البداية على طرف محنك سياسياً. ولم يتأنوا قليلاً وينتظروا ما سيقول خصمهم.

الثاني : لم يكن اندفاع الانصار نحو الخلافة كاندفاع قريش القوي الشرس، وكان قول الانصار : منا امير ومنكم امير، اول الوهن واول التنازل امام خصم قوي. فاستغلت قريش ذلك وطالبتهم بان يكونوا وزراءً لقريش، وهي التفاتة سياسية قوية لم يحسب لها الانصار حساباً. وهنا استخدمت قريش استراتيجية محكمة في التعامل مع الانصار، بينما اعتمد الانصار على مجرد الحظ في قطف ثمار الخلافة.

          في ذلك الاجتماع، كان ابو بكر يفحص ذكاء الانصار وقدراتهم السياسية، ولذلك كان يخاطبهم بلغة فيها لون من الرقة والهدوء، وكان يقدم عمر وابو عبيدة للخلافة مع ان كل الدلائل كانت تشير الى انه كان يريدها لنفسه. اما عمر، فقد حاول تجنب مواجهة الحباب بن المنذر بدعوى ان رسول الله (ص) نهاه عن منازعته. مع ان عمر كان الحربة التي كانت توجهها قريش لكل من خالفها. فكان شديداً فظاً اقرب الى الهجوم اللفظي منه الى الهدوء. ولم يشتهر عنه انه كان شجاعاً في الحروب، بل كان على العكس من ذلك.

          ان اجتماع السقيفة لم يكن يحمل جنبة اقناعية او انتخابية. فقد كُبِّل سعد بن عبادة واُخرج بالقوة، واُخرج الحباب بن المنذر بالقوة، واجبروا الزبير بن العوام على البيعة، ومسحوا ايادي الناس على يد ابو بكر. وهكذا كانت بيعة اكراه، وليس بيعة تصويت او اقناع. وكان لسان علي (ع) ينطق مخاطباً اولئك الذين لم يفهموا روح الدين بعد :  «فاطفِئوا ما كمَنَ في قلوبِكُم من نيرانِ العصبيةِ، واحقادِ الجاهلية. فانما تلك الحمِيَّةُ تكونُ في المسلمِ، من خطراتِ الشيطانِ ونخواتهِ، ونزعاتهِ ونفثاته»[3]. وكان اهمّ ما في السقيفة: إبعاد علي (ع) عن مقعد الولاية الشرعية.

          وبكلمة، فقد كانت «شجرة» القرار السياسي في السقيفة بيد قريش، وكان قراراً عمودياً ترأسه عمر بن الخطاب. وفسح المجال لابي بكر وابي عبيدة بالكلام، ولذلك خاطبه امير المؤمنين (ع) : «احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً». ولذلك، فان قريش لم تغير استراتيجيتها في السقيفة اصلاً، ولم تساوم كما حاول الانصار المساومة بفكرتهم اليتيمة : «منا امير ومنكم امير». وهكذا قُدِّر للدهاء السياسي القرشي والحنكة السياسية بالنجاح في اول معركة سياسية بعد وفاة النبي (ص).

6 ـ السقيفة والجماعات السياسية :

          يطلق لفظ «الجماعة السياسية» على مجموعة محدودة من الافراد توحدّها المصالح والرؤى المشتركة. وقلنا : مجموعة محدودة، لانها فعلاً محدودة العدد، فلا يمكن اطلاق لفظ الجماعة السياسية على الجيش مثلاً. و«الجماعة السياسية» هنا غير مصطلح «الجماعة» في الفقه والروايات.

          ولاشك ان الجماعات السياسية في المدينة كانت فاعلة بقوة خلال مرض النبي (ص) ووفاته. وكان من تلك الجماعات : جماعة الاوس وجماعة الخزرج من الانصار، وجماعة قريش من المهاجرين، وجماعة المنافقين، وجماعة اليهود، والاعراب ربما شكلوا جماعة، وكثير من الذين دخلوا الاسلام حديثاً ولا يزالوا حديثي عهد بالواجبات والتكاليف.

          ولكن ما الذي يجعل الجماعة السياسية تؤثر بفعالية على آراء الآخرين وتغير سلوكهم ؟ وما الذي يعطي بعض الافراد ملكة التسلط على الآخرين فكرياً ؟

          وتقريب الجواب يتلخص في الموارد التالية :

          1 ـ يمتلك البعض من الافراد دهاءً سياسياً فريداً من نوعه. فاذا تم له ذلك فان الجماعة تلتئم من حوله بصورة طبيعية. فالافراد ـ على الاغلب ـ يحبون القوي الذي يجلب لهم امتيازاً في السلطة والاجتماع .

          2 ـ ان الجماعة السياسية تمدُّ الفرد الذي يسيطر عليها وله ملكة الدهاء، بالوان الدعم السياسي والاجتماعي والامني. وهنا يكون التعاونُ متبادلاً ومنسّقاً، لان الطموحات مشتركة. ولكن ذو الملكة والدهاء يضبط امور الجماعة السياسية بحنكته وبطشه.

          3 ـ ان القدرة على السيطرة على جماعة سياسية صغيرة قد تتحول الى قدرة اوسع في السيطرة على النظام الاجتماعي كلياً. خصوصاً اذا توفرت الظروف المناسبة والشروط الموضوعية لذلك. واستقراءً للتأريخ نجد ان الذين يصلون الى مراتب الرئاسة والحكم والسلطة غالباً ما يمارسوا خلال حياتهم نشاطاً ضمن جماعة سياسية.

          ومن المؤكد، فان الجماعات السياسية الفاعلة في المدينة في السنة العاشرة بعد الهجرة ساهمت بشكل مؤثر في التقليل من اهمية وصية رسول الله (ص) في غدير خم، وساهمت في التقليل من اهمية الولاية الشرعية. والا، فاننا لا نستطيع ان نستوعب الافكار التأريخية المفككة. فكيف يوصي النبي (ص) بالولاية لعلي (ع) في غدير خم، ثم ينسى الناس تلك الوصية بعد سبعين يوماً فقط من اصدارها ؟

          فلاشك ان تأثير تلك الجماعات السياسية على آراء الناس كان يؤدي الى تغيير سلوكهم، كرهاً او اختياراً. فكانت المحاولات السياسية لخلق بديل للنبي (ص) في الولاية غير علي (ع) ـ مع شيء من الترغيب والترهيب ـ اقصر الطرق للسيطرة على الوضع السياسي ومساندة ما تم في السقيفة من نتائج. وبذلك فقد ساهمت الجماعات السياسية في المدينة على اكراه الناس على رأي لم يتبنوه اصلاً في حياة رسول الله (ص).

          وعندما رأى امير المؤمنين (ع) ما حصل في السقيفة من انتخاب القوم لرجل من قريش، وابعاده (ع) عن حقه في الولاية، قرر ان يلتزم الصمت والصبر بعد ان بحّ صوته في نقاشهم ومحاججتهم، فكان يقول : «...فرأيتُ ان الصبرَ على هاتا احجى (ألزم). فصبرتُ وفي العينِ قذىً، وفي الحلقِ شجاً، ارى تُراثي (اي ميراثي) نهباً...»[4].

          وكان عليه (ع) ان يتجه فوراً لحفظ القرآن وصيانته من يد التحريف. فقد رأى من الناس ما رأى عند وفاة النبي (ص) فأقسم (ع) ان لا يضع عن ظهره رداءه حتى يصون القرآن. فلزم بيته حتى تأكد من جمعه واطمئنت نفسه الى ذلك. ولذلك فاننا سنتناول في هذا القسم من الفصل : صيانة القران. وهو موضوع غير منفصل عن موضوع جمع القرآن الذي بحثناه في الفصل التاسع.

 

*****

القسم الثاني : صيانة القرآن

          ذكرنا في الفصل التاسع ان علياً (ع) مع كتابٌ آخرون كتبوا القرآن الكريم في حياة رسول الله (ص) في صحف وبأمر منه (ص) مباشرة. ثم جُمعت تلك الصُحف على ترتيب النـزول. وعند وفاة رسول الله (ص) وتخاصم القوم في السقيفة، تولى امير المؤمنين (ع) فحص القرآن المكتوب وجمعه بشكل نهائي. وقد ورد في بعض الروايات ان علياً (ع) جمع القرآن بعد وفاة النبي (ص). ولعل المقصود من هذا الجمع العرفي لا الجمع الاصطلاحي. اي جمع الصحف المكتوبة الموجودة عنده (ع) بأمر رسول الله (ص) وتدقيقها.

          فنقل السيوطي في «الاتقان» عن ابن حجر : انه قد ورد عن علي (ع) انه جمع القرآن على ترتيب النـزول عقب موت النبي (ص) اخرجه ابن ابي داود. وفي «شرح الكافي» للمولى صالح القزويني عن كتاب «سليم بن قيس» : ان علياً (ع) بعد وفاة النبي (ص) لزم بيته ]مدة ثلاثة ايام[ وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلفه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه كله. وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه، والمحكم والمتشابه.

          والمستفاد من ذلك ان مكوث علي (ع) في بيته ثلاثة ايام[5] كان من اجل التأكد من وجود القرآن مكتوباً بكامله. فيكون الامر من قبيل مراجعة نصوص القرآن المجيد. والا، فانه لو لم يكن مكتوباً لتعذرت كتابته في تلك الفترة القصيرة.

          وبعد ان اشار الشيخ المفيد (ت 413 هـ ) في أثريه «الارشاد» و«الرسالة السروية» بان علياً (ع) قدّم في مصحفه المنسوخ على الناسخ قال : «وكتب فيه تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل». يقول الشهرستاني في مقدمة تفسيره : «كان الصحابة متفقين على ان علم القرآن مخصوص لاهل البيت (ع) إذ كانوا يسألون علي بن ابي طالب (ع) : هل خصصتم اهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن ؟[6] فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على اجماعهم بان علوم القرآن مخصوصة بهم (ع).

          ومع كل ذلك فقد حُذف اسم علي (ع) من باب جمع القرآن من مصادر مدرسة الصحابة عدا ما شذّ. فقال البخاري فيمن جمع القرآن على عهد النبي (ص) : ابيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابو زيد. وروى في موضع آخر : مكان أبيّ بن كعب : ابا الدرداء. وقال السيوطي في «الاتقان» نقلاً عن ابن ابي داود بسند حسن! انهم خمسة : معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وابو الدرداء، وابو ايوب الانصاري.

          وعن ابن سيرين انهم اربعة : معاذ، وابيّ، وابو زيد، وابو الدرداء او عثمان او هو مع تميم الداري. وخرّج البيهقي وابن ابي داود عن الشعبي انهم ستة : أبيّ، وزيد بن ثابت، ومعاذ، وابو الدرداء، وسعد بن عبيد، وابو زيد، ومجمع بن جارية.

          نعم، قد انصف صاحب «الفهرست» محمد بن اسحاق «ابن النديم»، فساق اسم علي (ع) فيمن جمعوا القرآن، وكذلك فعل الخوارزمي في مناقبه فقال : جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) : علي بن ابي طالب (ع)، وأبيّ بن كعب.

          ولكن علماؤنا اتفقوا على ان علياً (ع) هو اول من جمع القرآن، وتم تدقيقه بعد وفاة رسول الله (ص). والمشهور في مدرسة الصحابة انه تأخر عن بيعة ابي بكر انشغالاً او تشاغلاً بالقرآن ! قال السيد شرف الدين : «الاجماع قائم على ان ليس لهم في العصر الاول تأليف أصلاً واما علي (ع) وخاصته فانهم تصدّوا لذلك في القرن الاول، واول شيء سجله امير المؤمنين (ع) كتاب الله العزيز، فانه بعد الفراغ من امر النبي (ص) آلى على نفسه ان لا يرتدي الا للصلوة او يجمعه، فجمعه مرتباً على حسب ترتيبه في النزول، واشار الى عامه وخاصه، ومطلقه ومقيّده، ومجمله ومبينّه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وآدابه وسننه. ونبّه على اسباب النزول في آياته البينات، واوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات. وكان ابن سيرين يقول : لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم...»[7].

 

آثار الصيانة

          كان لصيانة القرآن الكريم والاعتناء بسلامته من كل تحريف من مهمات الامام (ع) الرئيسية. فهو وإن تألم لما آلت اليه اوضاع المسلمين بعد وفاة النبي (ص)، الا انه لم يألُ جهداً في الحفاظ على كتاب الله المجيد مصوناً بين الدفتين. وكان له (ع) ذلك. فقد بقي القرآن الكريم محفوظاً طبقاً للوعد الالهي : (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون)[8] 

1 ـ شخصية علي (ع) والقرآن الكريم:

          ويؤيد اهتمام علي (ع) بجمع القرآن الكريم زمن رسول الله (ص)، المساجلة بينه (ع) وبين طلحة. قال طلحة : ما أراك ياابا الحسن أجبتني عما سألتك عنه من القرآن الا تظهره للناس ؟ قال (ع) : ياطلحة عمداً كففتُ عن جوابك، فاخبرني عما كتب عمر وعثمان أقرآن كله ام فيه ما ليس بقرآن ؟ قال طلحة : بل قرآن كله. قال : إن اخذتم بما فيه نجوتم من النار، ودخلتم الجنة...»[9]. ووجه الدلالة ان علياً (ع) كان يخشى ان تترك الثقافة الاجتماعية الوثنية التي تربى عليها البعض من الذين اسلموا لاحقاً آثارها على القرآن. ولكن عندما اطمئن الى صحة جمعه قال : إن اخذتم بما فيه نجوتم من النار. وهذا دليل على ان القرآن محفوظ بين الدفتين لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف.

          وشخصية كعلي (ع) اهتمت بالقرآن منذ نزوله، تعلم ان المخرج من الفتن هو كتاب الله. فهو القائل (ع) عندما سُئل بان اُناساً يخوضون في الاحاديث في مسجد رسول الله (ص) : «اما اني قد سمعتُ رسول الله (ص) يقول : ستكون بعدي فتن. قلتُ : وما المخرج منها ؟ قال : كتاب الله. كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. هو الذي من تركه من جبار قصمه الله. ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله. فهو حبل الله المتين. وهو الذكر الحكيم. وهو الصراط المستقيم. وهو الذي لا تزيغ به الاهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً. هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به اجر، ومن دعا اليه هدي الى صراط مستقيم»[10].

          وقوله (ص) : «هو الذي من تركه من جبار قصمه الله» فيه دلالة على ان ترك العمل بالقرآن الكريم واحكامه يكون فيه هلاك الجبارين. وقوله (ص) : «وهو الذي لا تزيغ به الاهواء، ولا تلتبس به الألسنة». يعني ان الاهواء لا تستطيع ان تغيّر معاني القرآن والفاظه. فالقرآن هو الفصل والحكم العدل بين الحق والباطل.

          وقريبٌ منه قول امير المؤمنين (ع) في صفة القرآن : «ثم انزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم اركانه[11]، وشفاءً لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الاسلام وبنيانه[12]، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينـزفه المنتزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدىً لمن ائتم به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلْجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطيةً لمن أعمله، وآية لمن توسَّم، وجُنّةً لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى وحكماً لمن قضى»[13].

          وهذه المعاني الجليلة تحتاج بعضاً من التدبر، فقوله (ع) : «ثم انزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه...» اي لا تنتهي معانيه، فان موارد النزول لا تخصص الوارد، بل ان معانيه عامة تنطبق على كل زمان ومكان. وقوله (ع) : «ومنهاجاً لا يضلّ نهجه» انه كتاب هداية ورحمة للعباد. وقوله (ع) : «وينابيع العلم وبحوره» يعني ان مصادر العلم التي تحتاجها الامة في سيرها المتواصل الى ابد الدهر قد اجتمعت في القرآن.

2 ـ المصحف الحق المحفوظ بين الدفتين :

          وعلى اي تقدير، فقد بقى القرآن الذي كتبه امير المؤمنين (ع) هو المصحف الحق الذي حفظ ما بين الدفتين، وكان مصداقاً لقوله تعالى: (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون)[14]. وهناك دليلان على ذلك :

الاول : ما رواه ابن طاووس (ت 664 هـ ) في كتاب «سعد السعود» نقلاً عن كتاب ابي جعفر محمد بن منصور ورواية محمد بن زيد بن مروان في اختلاف المصاحف : ان القرآن جمعه على عهد ابي بكر «زيد بن ثابت» وخالفه في ذلك «أبيّ» و«عبد الله بن مسعود» و«سالم» مولى ابي حذيفة. ثم عاد عثمان فجمع المصحف برأي مولانا علي بن ابي طالب (عليه السلام). واخذ عثمان مصاحف ابيّ، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى ابي حذيفة فغسلها ] وفي بعض النسخ : فاحرقها [ . وكتب عثمان مصحفاً لنفسه، ومصحفاً لاهل المدينة، ومصحفاً لاهل مكة، ومصحفاً لاهل الكوفة، ومصحفاً لاهل البصرة، ومصحفاً لاهل الشام»[15].

الثاني : ما ذكره الشهرستاني في مقدمة تفسيره برواية سويد بن علقمة، قال : سمعتُ علي بن ابي طالب (ع) يقول : ايها الناس، الله الله اياكم والغلو في امر عثمان، وقولكم حرّاق المصاحف. فوالله ما حرقها الا من ملأ من اصحاب رسول الله (ص). جمعنا وقال : ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها : يلقي الرجلُ الرجلَ فيقول قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يجرّ الى الكفر. فقلنا بالرأي. قال : اريد ان اجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان مَن بعدكم اشد اختلافاً. فقلنا : نعمَ ما رأيت. فارسل الى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، قال : يكتب احدكما ويُملي الآخر، فلم يختلفا في شيء الا في حرف واحد في سورة البقرة، فقال احدهما : «التابوت»، وقال الآخر : «التابوه» واختار قراءة زيد بن ثابت لانه كتب الوحي[16]. وفيما ذكره الشهرستاني دلالات :

          1 ـ ان علياً (ع) كان شاهداً ومشرفاً على كتابة القرآن في عهد عثمان، ولذلك فقد فصلّ في طبيعة الكتابة والاملاء والاخذ بقراءة زيد بن ثابت.

          2 ـ ان علياً (ع) اكد ان «زيد بن ثابت» كان كاتباً للوحي، كما كان امير المؤمنين (ع) ذاته. وقد كان اختياره لكتابة الوحي مع علي بن ابي طالب (ع) حتى لا تختلف الامة من بعد رسول الله (ص) في القرآن كما اختلفت في ولاية اهل البيت (ع)، كما ذكرنا ذلك سابقاً.

3 ـ تلاميذ الامام (ع) :

          وذكر ابن طاووس (ت 664 هـ ) في «سعد السعود» انه : اشتهر بين اهل الاسلام ان ابن عباس كان تلميذ علي (ع). وذكر محمد بن عمر الرازي في كتاب «الاربعين» : ان ابن عباس رئيس المفسرين كان تلميذ علي بن ابي طالب (ع).

          وكان للامام (ع) تلميذ آخر هو ابو الاسود الدُّؤلي الذي تعلّم اصول النحو من امير المؤمنين (ع). فقد كانت العرب في البادية تنطق بكلام فصيح، وتنشد اشعاراً بليغة، وتفقه فصاحة القرآن وبلاغته الاعجازية. ولكن اختلاط الامم الاخرى بالعرب ابرزت اللحن على لسان الفصحاء من العرب. ولذلك اشار الامام (ع) على الدؤلي بكتابة النحو حفظاً على سلامة القرآن وصيانته. قيل للدؤلي : من اين لك هذا العلم ؟ يعنون النحو. فقال : لقنتُ حدوده من علي (ع)[17].

          وكان للدؤلي تلاميذ في علم النحو منهم : يحيى بن يعمر العدواني قاضي خراسان، ونصر بن عاصم الليثي، وهما اللذان وضعا النقط افراداً وازواجاً لتمييز الاحرف المتشابهة بالاسلوب الذي نتداوله اليوم وهو ما يسمى بالاعجام. فقد بات صعباً على القارئ التمييز بين (ننشزها) بالراء المعجمة او (ننشرها) بالراء المهملة، او (لتكون آية لمن خلفك) بالفاء او (لمن خلقك) بالقاف.

          اما ابو الاسود الدؤلي فقد قام باعراب القرآن بعد ان سمع قارئ يقرأ قوله تعالى : (ان الله بريءٌ من المشركين ورسوله) بكسر اللام بدل فتحها. فاعظم ابو الاسود ذلك وقال : عز وجه الله ان يبرأ من رسوله. فأمر كاتباً من الكتاب وقال له : خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فاذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه، واذا كسرتهما فانقط واحدة اسفله، واذا ضممتهما فاجعل النقطة بين الحرف، فإن تبعت شيئاً من هذه الحركات غنّةٌ[18] فانقط نقطتين، واخذ يقرأ القرآن بالتأني والكاتب يضع النقط، وكلما أتم الكاتب صحيفةً اعاد ابو الاسود نظره عليها، واستمر على ذلك حتى اعرب المصحف كله، وجرى الناس على طريقته[19]. وكانت الحركات تُكتب بلون مختلف. فالسواد للحروف والحمرة للاشكال او الحركات بطريقة النقط.

          وبكلمة، فان علياً (ع) لم يألُ جهداً في حفظ القرآن وصيانته. فقد جهد في صيانة القرآن المجيد عن طريق الكتابة المباشرة، وجمع السور والآيات المتفرقة، وترتيب القرآن، ووضع قواعد النحو من اجل ان لا يختلط على الناس فُوضع الاعراب والاعجام[20]، وعلّم الناس تفسير القرآن والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه. وكان من قبل قد قاتل المشركين ثم قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعد، من اجل ان يبقى القرآن محفوظاً بين الدفتين الى يوم القيامة.

4 ـ علّة تضارب الاقوال حول جمع القرآن:

          تضاربت الاقوال في مدرسة الصحابة، بشكل ملحوظ، في قضية جمع القرآن. ولاشك ان احاديث جمع القرآن بعد وفاة رسول الله (ص) كانت متناقضة ومتضاربة ومخدوشة من جهات شتى، بالاضافة الى كونها اخبار آحاد لا تفيد علماً. ومن تلك الروايات :

          1 ـ روى ابن ابي شيبة باسناده عن علي. قال : «اعظم الناس في المصاحف اجراً ابو بكر. ان ابا بكر اول من جمع ما بين اللوحين»[21].

          2 ـ روى محمد بن سيرين. قال : «قُتِلَ عمر ولم يُجمع القرآن»[22].

          3 ـ روى الحسن : «ان عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل : كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة. فقال : انا لله، وأمر بالقرآن فجمع فكان اول من جمعه في المصحف»[23].

          4 ـ روى زيد بن ثابت. قال : «ارسل اليَّ ابو بكر، مقتل اهل يمامة. فاذا عمر بن الخطاب عنده، قال ابو بكر : ان عمر أتاني. فقال : ان القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، واني اخشى ان يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، واني ارى ان تأمر بجمع القرآن.

          قلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ؟ قال عمر : هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد : قال ابو بكر : انك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (ص) فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان اثقل علي مما امرني من جمع القرآن.

          قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله (ص) ؟ قال : هو والله خير، فلم يزل ابو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري، للذي شرح له صدر ابي بكر وعمر. فتتبعت القرآن اجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع ابي خزيمة الانصاري، لم اجدها مع احد غيره : (لقد جاءكم رسولٌ من انفسكم عزيزٌ عليه  ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فان تولوا فقل حسبي اللهُ لا إله الا هو عليه توكلتُ وهو رب العرش العظيم)[24] ، حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند ابي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر»[25].

          5 ـ روى مصعب بن سعد، قال : «قام عثمان يخطب الناس. فقال : ايها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وانتم تمترون في القرآن، تقولون قراءة اُبيّ، وقراءة عبد الله، يقول الرجل والله ما تقيم قراءتك. فاعزم على كل رجل منكم كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به. فكان الرجل يجيء بالورقة والاديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة. ثم دخل عثمان ودعاهم رجلاً رجلاً، فناشدهم لسمعت رسول الله (ص) وهو أمّله عليك، فيقول : نعم. فلما فرغ من ذلك عثمان. قال : من أكتب الناس ؟ قالوا : كاتب رسول الله (ص) زيد بن ثابت. قال : فايُّ الناس اعرب ؟ قالوا : سعيد بن العاص. قال عثمان : فليمل سعيد، وليكتب زيد. فكتب زيد. وكتب مصاحف ففرقها في الناس. فسمعت بعض اصحاب محمد (ص) يقول : قد احسن»[26].

          وتلك الروايات متناقضة في ذاتها، فهي مرة تذكر ان الخليفة الاول جمع القرآن، واخرى ان الخليفة الثاني قد جمعه، وثالثة ان الخليفة الثالث تصدى لجمعه. وهي روايات موضوعة تخدش اصل الاسلام، لانه كيف يتم لدين سماوي البقاء خالداً دون ان يُحفظ كتابه الالهي الذي اعجز البشرية لحد اليوم عن الاتيان بمثله ؟

          وتلك الروايات معارضة لروايات اخرى دلّت على ان القرآن الكريم قد كُتب في عهد رسول الله (ص). فقد روى الطبراني، وابن عساكر عن الشعبي، قال : «جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) ستة من الانصار : اُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وابو الدرداء، وسعد بن عبيد، وابو زيد. وكان مجمع بن جارية قد اخذه الا سورتين او ثلاث»[27].

          وروى قتادة، قال : «سألتُ انس بن مالك : مَن جمع القرآن على عهد النبي ؟ قال : اربعة كلهم من الانصار : اُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابو زيد»[28].

          «ولعل قائلاً يقول وان المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين. وهذا القول دعوى لا شاهد عليها. أضف الى ذلك ان حفاظ القرآن على عهد رسول الله (ص) كانوا اكثر من ان تحصى اسماؤهم، فكيف يمكن حصرهم في اربعة او ستة ؟! وان المتصفح لاحوال الصحابة، واحوال النبي (ص) يحصل له العلم اليقين بان القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله (ص) وان عدد الجامعين له لا يستهان به.

          واما ما رواه البخاري باسناده عن انس، قال : مات النبي (ص) ولم يجمع القرآن غير اربعة : ابو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابو زيد، فهو مردود مطروح، لانه معارض للروايات المتقدمة، حتى لما رواه البخاري نفسه. ويضاف الى ذلك انه غير قابل للتصديق به. وكيف يمكن ان يحيط الراوي بجميع افراد المسلمين حين وفاة النبي (ص) على كثرتهم، وتفرقهم في البلاد، ويستعلم احوالهم ليمكنه ان يحصر الجامعين للقرآن في اربعة، وهذه الدعوى تخرص بالغيب، وقول بغير علم.

          وصفوة القول : انه مع هذه الروايات كيف يمكن ان يصدق ان ابا بكر كان اول من جمع القرآن بعد خلافته ؟ واذا سلمنا ذلك فلماذا امر زيداً وعمر بجمعه من اللخاف، والعسب، وصدور الرجال، ولم يأخذه من عبد الله ومعاذ واُبيّ، وقد كانوا عند الجمع احياء، وقد امروا بأخذ القران منهم، ومن سالم ؟ نعم ان سالماً قد قتل في حرب اليمامة، فلم يمكن الاخذ منه. على ان زيداً نفسه كان احد الجامعين للقرآن على ما يظهر من هذه الرواية، فلا حاجة الى التفحص والسؤال من غيره، بعد ان كان شاباً عاقلاً غير متهم كما يقول ابو بكر. أضف الى جميع ذلك ان اخبار الثقلين المتضافرة تدلنا على ان القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله (ص)...»[29].

          ولاشك «ان هذه الروايات معارضة بالكتاب، فان كثيراً من آيات الكتاب الكريمة دالة على ان سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وان السور كانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين واهل الكتاب. فان النبي (ص) قد تحدى الكفار والمشركين على الاتيان بمثل القرآن، وبعشر سور مثله مفتريات، وبسورة من مثله. ومعنى هذا : ان سور القرآن كانت في متناول ايديهم.

          وقد اُطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة، وفي قول النبي (ص) : «اني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي». وفي هذا دلالة على انه كان مكتوباً مجموعاً، لانه لا يصح اطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور. بل ولا على مما كتب في اللخاف، والعسب، والاكتاف، الا على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة. فان لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب اذا كان مجزءاً غير مجتمع، فضلاً عما اذا لم يكتب، وكان محفوظاً في الصدور فقط»[30].

          اذن نستنتج مما ذُكر بان القرآن الكريم قد كُتب في حياة رسول الله (ص) وجُمع، جمعه علي بن ابي طالب (ع) وعددٌ آخر من صحابة رسول الله (ص). وعند وفاة النبي (ص) قام الامام (ع) بصيانة ما كان عنده من صحف كانت تشكل كل آيات القرآن المجيد محفوظاً بين اللوحين. اما الروايات المتناقضة حول جمع القرآن، فهي انما وُضعت من اجل اعطاء فضل الجمع للذين كانت المصلحة السياسية آنذاك تقتضي ان يُفضَّلوا على غيرهم. وقد حاولوا الغاء دور علي (ع) في كتابة القرآن وجمعه وصيانته. وكانت تلك من مقتضيات السقيفة وما دار فيها.

 (نهاية ص 610)

السابق         صفحة التحميل            الصفحة الرئيسية 


 

[1] سورة النساء: الآية 59.

[2] (الامامة والسياسة) ج 1 ص 21- 30.

[3] (نهج البلاغة) – خطبة 192 ص 360.

[4] (نهج البلاغة) – خطبة 3 الخطبة الشقشِقية ص 36.

[5] قال ابن النديم في (الفهرست): قال ابن المنادي: حدثني الحسن بن العباس قال: اخبرت عن عبد الرحمن بن ابي حماد، عن الحكم بن ظهير السدوسي عن عبد خير عن علي (ع) انه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي (ص) فأقسم ان لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن. فجلس في بيته ثلاثة ايام حتى جمع القرآن.

[6] (مفاتيح الاسرار ومصابيح الابرار) – الشهرستاني. المقدمة.

[7] (مؤلفوا الشيعة) – عبد الحسين شرف الدين ص 13.

[8] سورة الحجر: الآية 9.

[9] كتاب سليم بن قيس ص 100.

[10] (سنن الدارمي) كتاب فضائل القرآن ج 2 ص 435. و(بحار الانوار) ج 9 ص 7 عن تفسير العياشي. رواه (الحارث الهمداني) وهو من اعاظم اصحاب امير المؤمنين (ع) وافقههم.

[11] في (بحار الانوار): بنياناً.

[12] (الاثافي) كاماني جمع اثفية – بالضم والكسر- وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر.

[13] (نهج البلاغة) خطبة 198 ص 397.

[14] سورة الحجر: الآية 9.

[15] (سعد السعود) – ابن طاووس ص 278.

[16] (مفاتيح الاسرار ومصابيح الابرار) – الشهرستاني. المقدمة.

[17] (وفيات الاعيان) ج 1 ص 240.

[18] الغنّة: مخصوصة بحرفي: ن، م. وهي عملية تلفظ لكلمات يمرّ فيها الصوت بالانف. مثل: إنَّ، أنعمتَ، مِنهم، ممّأ.

[19] (تأريخ القرآن) – الزنجاني ص 96.

[20] الاعراب هو وصل الخط مضبوطاً بالحركات والسكنات. والاعجام هو تمييز الحروف المتشابهة بوضع نقط لمنع اللبس

[21] (منتخب كنـز العمال) ج 2 ص 43- 52.

[22] المصدر السابق.

[23] المصدر السابق.

[24] سورة التوبة: الآية 128- 129.

[25] (صحيح البخاري) – باب جمع القرآن ج 6 ص 98.

[26] (منتخب كنـز العمال) ج 2 ص 43- 52.

[27] (المصدر السابق) ج 2 ص 48.

[28] (صحيح البخاري) باب القراء من اصحاب النبي (ص) ج 6 ص 202.

[29] (البيان) – الخوئي ص 251- 252.

[30] المصدر السابق ص 252.