(ص 763 - 783) الفصل السابع والعشرين مباني دولة الامام (ع) (3) النظام الحقوقي (المالي)
1_ اضاءات من اقوال الامام (ع) في الحقوق: أ _ اموال المسلمين. ب _ الحلال والحرام. ج _ التكافل الاجتماعي ومواساة الآخرين. د _ ميزان الحقوق بين الاغنياء والفقراء * 2 _ المال والنظام الحقوقي في خلافة الامام (ع). اولاً: المال والنقد. ثانياً: الدَخل الشخصي. ثالثاً: ميزانية الدولة. رابعاً: الفقر والغنى: العدالة الحقوقية في عهد الامام (ع).
-------------------- النظام الحقوقي (المالي) يقوم النظام الحقوقي المالي في الاسلام، على قاعدة العدل والانصاف بين الرعية . فالمال عصب الحياة الاجتماعية ووسيلة من وسائل كرامة الانسان. وما لم يُوّزَعِ المال بطريقة عقلائية منصِفة بين الناس، فان الحرمان من كسبه يولّد حالة من حالات اهانة المرء وتدمير قيمه الاخلاقية. وهذا خلاف مباني الدين، التي ارادت للانسان ان يكون كريماً منيعاً عزيزاً. ولذلك قال الامام (ع): «كاد الفقر ان يكون كفراً». بمعنى ان الرسالة التي لا تحفظ كرامة الانسان، لا تستحق ان يؤمن بها الانسان. وفي هذا الفصل سوف نعرض بعض الافكار حول المال والحقوق المالية. فنعرض اولاً: اضاءات من اقوال الامام امير المؤمنين (ع) في الحقوق المالية والتكافل الاجتماعي. ثم نناقش ثانياً: المال والنقد في المجتمع، وطبيعة الدخل الشخصي في عصر الامام (ع)، وميزانية الدولة، واساليب معالجة الفقر. 1 _ اضاءات من اقوال الامام (ع) في الحقوق تناول الامام امير المؤمنين (ع) في كتبه ورسائله وخطبه ووصاياه قضايا المال والنظام الحقوقي بكثير من العناية والاهتمام. ذلك لان للمال _ كآلة _ طاقة كافية كي يشبع الناس ويعدل بينهم، وطاقة اخرى كي يظلم الناس ويحرمهم من الحياة. فما لم يأتِ المال عن طريق الكسب الحلال، فانه يتحول الى عملية اثم وظلم وحرام. وما لم يوزع المال على اهل الحاجة والمسكنة، فانه يتحول الى اداة لضرب الميزان الحقوقي التأريخي بين الاغنياء والفقراء. ومن اجل ادراك آراء الامام امير المؤمنين (ع) في المال، والحقوق، والتكافل الاجتماعي، نعرض باختصار لمجموعة من النصوص: أ _ اموال المسلمين الحقوقية: للمال في الاسلام حرمة لا يجوز انتهاكها. فان كان المال في حوزة المالك، وجبت المحافظة عليه. وان كان في حوزة بيت المال، وجب توزيعه على الفقراء واهل الحاجة والمسكنة. وإن كان محجوراً عليه، وجب عدم التصرف فيه، وهكذا. ولا شك ان حرمة الانتهاك مرتبطة بآلية المال المهمة في تيسير امور الناس. فهنا عدّة روايات نقرأها بالترتيب: 1ً _ روي انه ذكر عند عمر بن الخطاب في ايام خلافته حَلي الكعبة وكثرتُهُ، فقال قوم: لو أخذته فجهزتَ به جيوش المسلمين كان اعظم للاجر، وما تصنع الكعبةُ بالحَلي؟ فهمّ عمر بذلك، وسأل عنه امير المؤمنين (ع). فقال له (ع): «إنَّ القرآن اُنزِلَ على النبي (ص) والاموالُ اربعةٌ: اموال المسلمين فقسَّمَها بين الوراثةِ في الفرائضِ، والفيءُ فقسَّمَهُ على مُستحقّيهِ، والخُمسُ فوضعهُ اللهُ حيث وضَعَهُ، والصدَقاتُ فَجَعَلها اللهُ حيثُ جعلها. وكان حليُ الكعبةِ فيها يومئذٍ، فتركهُ اللهُ على حالهِ، ولم يتركهُ نسياناً، ولم يَخفَ عليهِ مكاناً، فأقرّهُ حيث أقرّهُ اللهُ ورسولهُ»[1]. 2ً _ من وصية له (ع) كان يكتبها لجباة الصدقات: «... ولا تأخُذنَّ منه (أي من دافع الضريبة) أكثرَ مِن حَقِّ اللهِ في مالِهِ»[2]. 3ً _ ومن كتاب له (ع) الى عماله على الخراج: «... ولا تَمَسُّنَّ مالَ أحدٍ منَ الناسِ، مُصَلٍّ ولا مُعاهدٍ»[3]. دلالات النصوص: وفي تلك النصوص دلالات مهمة، نعرضها فيما يلي: اولاً: تحدّث الامام (ع) عن الاموال الحقوقية في المجتمع الاسلامي وقسّمها الى اربعة اقسام، بمقتضى الجواب على السؤال. وهذا مالٌ متعلق بالحقوق فقط. اما الاموال الاجتماعية والشخصية الاخرى فلها تصانيف اخرى، نتحدث عنها لاحقاً. فمن انواع الاموال الحقوقية: 1 _ الارث: وهو مال ينقل من يد الى اخرى عبر الوصية او التركة عند موت الانسان. وهي كمية كيبرة من المال في المجتمع. لان الناس تترك _ دائماً _ ثمار ما كدحت، لابنائها وذويها بعد الموت. 2 _ الفيء: وهو الغنيمة التي تجلبها سيوف المسلمين. وهذا المقدار من المال يقسّم على المقاتلين بالتساوي. 3 _ الخمس: وهو المال الذي نطقت به الآية الكريمة: (واعلَمُوا أنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فإنَّ للهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ ولِذي القُربى واليَتامى والمساكينِ وابنِ السَبيلِ...)[4]. 4 _ الصدقة: وهي الزكاة الواجبة على الغلات الاربع والانعام الثلاثة والنقدين. وهناك زكاة مستحبة في كل موارد الخير. وبعض تلك الانواع من المال تندرج تحت عنوان الحقوق الشرعية. اما الاموال الاخرى كمال التجارة والاجارة ونحوها فهي لم تكن مورد السؤال. فقد كان السؤال عن حلي الكعبة وقد اُريد بيعها، واضافتها الى بيت المال. ثانياً: يُستدل من قوله (ع): «ولا تأخُذنَّ منهُ أكثر من حق اللهِ في ماله» انه ينبغي حساب مقدار الضريبة المأخوذة من الغني، بدقة واضافتها الى بيت المال. فلا يجوز التعدي عن ذلك المقدار، بدعوى تقوية بيت المال أو نحوه. الا اللهم اذا كان الزائد تبرعاً، وصدقة مستحبة. وتلك الدقة في حساب الضريبة من المهم ملاحظتها. ذلك لان للغني حساباته المالية، والتزاماته الاجتماعية. فعندما يكون على بينة من المقدار المأخوذ منه، فانه يستطيع ان يبني خططه التجارية على اساس واضح صريح ثالثاً: يستدلّ من قوله (ع): «ولا تمسُّنَّ مالَ أحدٍ منَ الناسِ، مُصَلٍّ ولا معاهد»، ان اموال الناس (مسلمين او غير مسلمين) محفوظة ولا يجوز مسها وانتهاك حرمتها باي شكل من الاشكال. أي ان الاسلام وضع المسؤولية على عاتق الحاكم الشرعي في حفظ اموال الناس، بالاضافة الى مسؤوليته في حفظ نفوسهم واعراضهم. وهذا الحكم الشرعي، يعدُّ تأسيساً لقاعدة « الامان المالي » التي تشجع على الاستثمار والعمل الجاد وحركة الاقتصاد في المجتمع. ب _ الحلال والحرام: والمال الذي يتداوله الناس في المجتمع له منشآن: حلال وحرام. وافظع الحرام هو الذي يغتصبه الحاكم الظالم من افواه رعيته. فليس غرياً ان نلمس التأكيد المتواصل على النـزاهة المالية للوالي والتعفف عما في ايدي الناس. وفي ذلك خمسة احاديث منتخَبة: 1ً _ قال الامام (ع): «واتقوا مدارِجَ الشيطانِ، ومَهابِطَ العُدوانِ، ولا تُدخِلُوا بُطُونَكُم لُعَقَ الحرامِ»[5]. 2ً _ وقال (ع) لقاضيه شريح بن الحارث وقد اشترى داراً: «فانظُر يا شُرَيحُ لا تكونُ ابتعتَ هذِهِ الدارَ من غيرِ مالِكَ، أو نقدتَ الثمنَ من غيرِ حلالِكَ...»[6]. 3ً _ «بئسَ الطعامُ الحرامُ. وظلمُ الضعيفِ أفحشُ الظُلمِ...»[7]. 4ً _ ومن كتاب له (ع) الى بعض عماله: «كيفَ تُسِيغُ شراباً وطعاماً، وأنتَ تعلَمُ أنّكَ تأكُلُ حَراماً، وتشرَبُ حَراماً...»[8]. 5ً _ «فانظُر الى ما تقضمُهُ من هذا المقضَمِ، فما اشتبَهَ عليكَ علمُهُ فالفظِهُ، وما أيقنتَ بطيبِ وجُوهِهِ فنَل منهُ»[9]. دلالات النصوص: نستنتج من تلك النصوص بعض الدلالات المهمة، منها: اولاً: حرمة اكل المال الحرام. وتلك قاعدة شرعية كلية لها مصاديق مصاديق متعددة. ومن تلك المصاديق: أ _ المال المسروق: وهو الذي وضع في حِرز، فقام السارق بكسر الحرز او الصندوق وانتهاك المال وسرقته. فاكله حرام. ب _ المال المغصوب: وهو المال المغتصب من مالكه، فرداً كان او بيتاً للمال او غيره. وينطبق هذا العنوان بالخصوص على الولاة الظلمة من الذين يأكلون مال العباد ويجعلونه دوَلاً بينهم. ويحرمون منه المظلوم والضعيف والفقير. ج _ المال المخلوط بالحرام: وهو المال الحلال الذي اختلط بالمال الحرام، ويجب اخراج الخمس منه. د _ المال الناتج عن تجارة محرمة: كالمال الناتج عن الربا، وبيع المحرمات كالخمرة ونحوها. ثانياً: ان ما يقابل المال الحرام، مالٌ حلال ينبغي على الوالي ان يأكله. ففي الوقت الذي يحرّم فيه الاسلام اكل المال الحرام، فانه يحلل المال الحلال ولو كان قليلاً. وهذا يعني ان للوالي او لاي مسؤول في الدولة راتباً معقولاً كافياً يجنبه اكل المال الحرام. وقد اشار (ع) الى ذلك عند مخاطبته احد ولاته: «وإنَّ لكَ في هذهِ الصدقةِ نصيباً مفروضاً، وحقاً معلوماً... وانا موفوك حقك...»[10]. ثالثاً: ان المال الحرام لا يجوز استخدامه او استثماره من قبل الغاصب في أي مورد من الموارد الحياتية كشراء البيوت او الاطعمة او الاشربة. ولا شك ان المال المغصوب ينبغي ان يُرجع الى صاحبه فوراً. وقد ناقشت المتون الفقهية ذلك باسهاب. ج _ التكافل الاجتماعي ومواساة الآخرين: ونظرة فاحصة لاقوال الامام امير المؤمنين (ع) في رسائله وخطبه نلمس انه كان يدعو الى لونين من التكافل الاجتماعي. الاول: تكافل يقوم به بيت المال (أي الدولة). والثاني: تكافل يقوم به افراد المجتمع تجاه بعضهم البعض. فهنا خمس روايات حول هذا الموضوع: 1ً _ يقول (ع) في كتابٍ له الى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: «... ولو شِئتُ لاهتديتُ الطريقَ الى مُصفّى هذا العَسَلِ، ولُبابِ هذا القَمحِ، ونسائجِ هذا القزِّ. ولكن هيهات ان يَغلبني هَوايَ، ويَقودني جَشَعي الى تخيُّرِ الاطعمةِ _ ولعلَّ بالحِجازِ أو اليَمامَةِ من لا طمعَ لهُ في القُرصِ (أي الرغيف) ولا عهدَ لهُ بالشبَعِ _ أو أبيتَ مِبطاناً وحولي بُطونٌ غرثى وأكبادٌ حرَّى، أو أكونَ كما قالَ القائلُ: وحَسبُكَ داءً أن تَبيتَ ببطنةٍ وحولَكَ اكبادٌ تحِنُّ الى القِددِّ أأقنَعُ بأن يُقال لي: هذا أميرُ المؤمنين، ولا أُشاركُهُم في مكارِهِ الدهرِ، أو أكونَ أُسوةً لهُم في جُشوبَةِ العَيشِ»[11]. 2ً _ وقال (ع): «من كفّاراتِ الذنوبِ العظامِ اغاثةُ الملهوفِ، والتنفيسُ عن المكروبِ»[12]. 3ً _ «اختَبروا شيعتي بخصلتين: المُحافظةَ على اوقاتِ الصلاةِ، والمواساةِ لإخوانِهم بالمالِ ؛ فإن لم يكونا فأعزَب ثم أعزَب». 4ً _ ومن كتابٍ له (ع) الى العمال الذين يطأ الجيش عملهم، يبيّن فيه انه لا يحل للجندي ان يأخذ من الارض التي يمرّ بها غير ما يسد جوعه: «وأنا أبرأُ اليكُم والى ذمتِكُم من مَعرَّةِ الجيشِ (أي اذاه) إلا من جوعَةِ المُضطرِّ، لا يجدُ عنها مذهباً الى شبعِهِ»[13]. دلالات النصوص: وفي تلك النصوص دلالات مهمة ، نعرض لها بالترتيب: اولاً: ينبغي في نظر الامام (ع) ان يكون الحاكمُ اسوةً لفقراء امته وقدوةً لاغنيائها. يعيش معهم جشوبة العيش وخشونة الحياة، ويحس معهم آلام الجوع. وحاكم بتلك المواصفات يستطيع ان يعالج مشكلة الفقر والحرمان في المجتمع. ذلك لان المصيبة اذا نزلت بصاحبها، وكان قادراً على رفعها عن غيره، لهانت. والحاكم الفقير اقدر على معالجة الفقر في المجتمع من الحاكم الثري المتخم. ثانياً: ان يتم التكافل الاجتماعي عن طريقين. الاول: وهو الذي تقوم به الدولة عبر عطاء بيت المال. وهو ما يقابل الضمان الاجتماعي للحكومة الحديثة. والثاني: وهو الذي يقوم به الناس لمساعدة بعضهم البعض. وهو ما يقابل جمعيات الخير والمبرات المعمول بها اليوم. وتلك الطريقة في التكافل الاجتماعي، ترفع كل النواقص والهفوات التي يمكن ان يحدثها الطريق الاول. فالضمان الحكومي قد يكون محدداً ولا يسدّ كل حاجات الفقير. فيكون الطريق الثاني وهي جمعيات البر والاحسان، اداةً مساعِدة لتكميل نواقص الطريق الاول. ثالثاً: اجاز (ع) الاكل من ثمار البساتين التي كان يمر بها الجيش وهو في طريقه الى المعركة. وحدد الاكل بما يسدّ جوعة المضطر. وهذا الحكم غير محدد بالجنود، بل يطلق على كل من مرّ ببستان _ في حالة الاضطرار _ وتناول شيئاً منه بما يسدّ جوعته. وهذا الاصل مهم. فعن طريق حلّية تناول ما تثمره الاشجار والنباتات في الطريق، تنسدُّ حاجة شريحة من الناس. وبتعبير آخر، ان المناطق الشاسعة للبساتين والمزارع ينبغي ان لا تشهد جائعاً مضطراً. فكلٌ له حق في سد جوعته. د _ ميزان الحقوق بين الاغنياء والفقراء: كان المال واقتناؤه ولا يزال، من اعظم الاختبارات التي يختبر الله به عباده. فللذهب والفضة بريق يحرّك في الانسان الشهوة في اقتنائهما وجمعهما وكنـزهما. وكلما كان التسابق نحو جمع الثروة حامياً، كلما بقيت مجموعة من الناس في المؤخرة تُحرم من الحصول على ما يسد حاجاتها ويشبع جوعتها. لان كمية المال من النقدين محدودة. والحائز على كمية اكبر، يحرم بالنتيجة الآخرين منهما. فكان لابد للدين من تدخلٍ في تنظيم الثروة الاجتماعية، عبر فرض حق معلوم للفقراء في اموال الاغنياء، وعبر المساواة في العطاء من بيت المال للفقراء، وعبر تخصيص الفيء او الغنيمة للمقاتلين دون غيرهم. ومن اجل تكوين صورة واضحة عن ذلك، فقد انتخبنا هنا اربع عشرة حكمة وأثراً من آثاره (ع): 1ً _ قال (ع): ««اضرِب بطرفِكَ حيثُ شئتَ منَ الناسِ، فهل تُبصِرُ إلاّ فقيراً يُكابِدُ فَقراً، أو غنيّاً بدَّلَ نعمةَ اللهِ كُفراً، أو بَخيلاً اتخذَ البُخلَ بِحقِّ اللهِ وَفراً، أو متمرِّداً كأن بأذنُه عن سمعِ المواضِعِ وقراً»[14]. 2ً _ ومن كتابٍ له (ع) الى زياد بن ابيه: «فَدَعِ الاسرافَ مُقتصِداً، واذكُر في اليَومِ غَداً، وأمسِك مِنَ المالِ بِقدرِ ضَرورَتِكَ، وقدِّم الفَضلَ ليومِ حاجتكَ. أترجو أن يُعطيكَ اللهُ أجرَ المُتواضِعينَ، وأنتَ عندهُ مِنَ المُتكبِّرينَ! وتطمعُ _ وأنتَ متمرِّغٌ في النعيمِ تمنعُهُ الضعيفَ والارملَةَ _ أن يُوجبَ لَكَ ثَوابَ المتصدقين؟ وانما المرءُ مجزيٌّ بما اسلَفَ، وقادمٌ على ما قدَّمَ، والسلامُ»[15]. 3ً _ من كتابٍ له (ع) الى بعض عماله: «...كيفَ تُسيغُ شراباً وطعاماً، وأنتَ تعلَمُ أنّكَ تأكُلُ حراماً، وتشرَبُ حراماً، وتبتاعُ الإماءَ وتنكِحُ النساءَ من اموال اليتامى والمساكينِ والمؤمنين والمجاهدينَ، الذينَ أفاءَ اللهُ عليهم هذهِ الاموالَ، وأحرزَ بهم هذهِ البلادَ»[16]. 4ً _ «إنَّ اللهَ سُبحانهُ فرضَ في أموالِ الاغنياءِ اقواتَ الفقراءِ، فما جاعَ فقيرٌ إلاّ بما مُتِّعَ بهِ غنيٌّ، واللهُ تعالى سائلُهُم عن ذلك»[17]. 5ً _ وقال (ع) في الخطبة الشقشقية: «...وقامَ معهُ (أي عثمان) بنو ابيه (بنو امية) يخضَمُونَ مالَ اللهِ خضمَ الإبِلِ نبتةَ الربيعِ»[18]. 6ً _ وقال (ع) فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان: «واللهِ لو وجَدْتُهُ قد تُزُوِّجَ بهِ النساءُ، ومُلِكَ بهِ الاماءُ: لردَدتُهُ. فإنَّ في العدلِ سعةً. ومن ضاقَ عليهِ العدلُ، فالجَورُ عليهِ أضيَقُ»[19]. 7ً _ «وإنَّ لكَ في هذهِ الصدَقَةِ نصيباً مفروضاً، وحقاً معلوماً، وشُركاءَ اهل مَسكنةٍ، وضعفاءَ ذوي فاقةٍ. وإنا موفُّوكَ حقَّكَ، فوفِّهِم حُقوقَهُم، وإلا تَفعَل فإنَّكَ من أكثرِ الناسِ خُصوماً يومَ القيامةِ، وبؤسا لمن _ خصمُهُ عندَ اللهِ _ الفقراءُ والمساكينُ والسائلُونَ والمدفُوعونَ، والغارمُونَ وابنُ السبيلِ! ومن استهانَ بالأمانةِ، ورتعَ في الخيانَةِ، ولم يُنـزَّهْ نفسَهُ ودينَهُ عنها، فقد أحلَّ بنفسهِ الذِّلَّ والخزيَ في الدنيا، وهو في الآخرةِ أذَلُّ واخزى. وإنَّ أعظمَ الخيانَةِ خيانةُ الامةِ، وأفظَعَ الغِشِّ غِشُّ الائمةِ، والسلامُ»[20]. 8ً _ «... ولكنني آسى ان يليَ امرَ هذهِ الامةِ سُفهاؤها وفُجّارُها، فيتخذوا مالَ اللهِ دُوَلاً، وعبادَهُ خَوَلاً (أي عبيداً)...»[21]. 9ً _ ومن كتابٍ له (ع) الى قثم بن العباس عامله على مكة: «وانظُر الى ما اجتمعَ عندَكَ من مالِ اللهِ فاصرِفهُ الى من قِبَلَكَ من ذوي العيالِ والمجاعةِ، مُصيباً بهِ مواضِعَ الفاقةِ والخلاّتِ. وما فَضَلَ عن ذلكَ فاحمِلهُ إلينا لنقسِمَهُ فيمن قِبَلَنا»[22]. 10ً _ ومن كلام له (ع) لما عوتب على التسوية في العطاء: «أتأمُرُني أن أطلُبَ النصرَ بالجَورِ فيمَن وُلِّيتُ عليهِ. واللهِ ما أطُورُ به ما سَمَرَ سميرٌ، وما أمَّ (أي قصد) نجمٌ في السماءِ نجماً! لو كانَ المالُ لي لسويتُ بينهم، فكيفَ وانما المالُ مالُ اللهِ»[23]. 11ً _ وقال (ع) لطلحة والزبير: «وأما ما ذكرتما من أمرِ الأُسوةِ (أي التسوية بين المسلمين في قسمة الاموال) فإنَّ ذلكَ أمرٌ لم أحكُم أنا فيهِ برأيي، ولا وليتُهُ هوىً منِّي، بل وجدتُ أنا وانتما ما جاء به رسولُ اللهِ (ص) قد فُرِغَ منه...»[24]. 12ً _ من كلام له (ع) كلّم به عبد الله بن زمعة، وهو من شيعته. وذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً، فقال (ع): «إنَّ هذا المالَ ليسَ لي ولا لكَ. وإنَّما هوَ فيءٌ للمسلمينَ، وجَلبُ اسيافهِم، فإنَّ شرِكتَهُم في حربِهم، كان لك مثلُ حظِّهم، والا فجناةُ أيديهِم لا تكُونُ لغيرِ أفواهِهِم»[25]. 13ً _ ومن كتاب له (ع) الى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على اردشير خُرَّة في بلاد العجم: «بلغني عنك... أنكَ تقسِمُ فيءَ المسلمينَ الذي حازتهُ رماحُهُم وخُيولُهُم، وأريقت عليهِ دماؤُهُم، فيمن اعتامَك (أي اختارك) من أعرابِ قومِكَ... ألا وإنَّ حقَّ من قِبَلَكَ وقِبَلَنا (أي من عندك وعندنا) من المسلمين في قسمةِ هذا الفيءِ سَواءٌ: يرِدُون عندي عليهِ، ويصدُرون عنهُ»[26]. 14ً _ وقال (ع) مخاطباً احد عماله: «...والفيءُ فقسِّمهُ على مُستحقِّيهِ...»[27]. دلالات النصوص: نستدل من قراءة تلك النصوص الخالدة على جملة امور، منها: اولاً: ان القاعدة الاسلامية في المال هي ان الله سبحانه فرض في اموال الاغنياء اقواتَ الفقراء. أي ان الحق الشرعي الذي يدفعه الغني، خُمساً كان او صدقةً، هو حق مفروض بقوة التشريع. وبتعبير ثالث ان الغني لا يستطيع ان يُمنّ على الفقير لمنحه صدقة او خمساً، لان ذلك واجبٌ مفروض عليه، كما قرر الاسلام. ثانياً: ان المال المجتمع عند الوالي في الولايات النائية يُفترض ان يصرف على اهل الولاية، من الفقراء. وما زاد عن ذلك يُنقل الى الحاكم الشرعي العام. وتلك اللامركزية في توزيع الحقوق تعني ان التوزيع يتم من الاسفل نحو الاعلى لا العكس. بمعنى ان القاعدة ينبغي ان تشبع اولاً ثم ما يفضل من المال يذهب الى الحكومة المركزية. فهذا صريح قوله (ع): «وانظر الى ما اجتمعَ عندكَ من مالِ اللهِ فاصرفهُ الى من قبلكَ من ذوي العيال والمجاعة... وما فضلَ عن ذلك فاحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا»[28]. ثالثاً: ورد لفظ الفيء في كلام الامام (ع) حول المال. ولابد من استيضاح معنى الكلمة: قال الراغب الاصفهاني: «الفَيْءُ: وهي الغنيمة التي لا يَلحَقُ فيها مشقَّةٌ. قال تعالى: (ما أفاءَ اللهُ على رسولهِ...)[29]»[30]. وقال الطبرسي في «مجمع البيان»: «الفيء رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله اياهم ذلك على ما شرط فيه...»[31]. وقوله (ع) لاحد اتباعه وهو عبد الله بن زمعة عندما طلب منه مالاً: «إنَّ هذا المالَ ليسَ لي ولا لَكَ. وإنَّما هوَ فيءٌ للمسلمينَ، وجَلبُ اسيافهِم، فإنَّ شرِكتَهُم في حربِهم، كان لك مثلُ حظِّهم، والا فجناةُ أيديهِم لا تكُونُ لغيرِ أفواهِهِم»[32]. يدعونا لترتيب بعض الافكار: أ _ يظهر من كلام الامام (ع) ان الغنيمة (الفيء) كانت لا توزع الا على المحاربين. ولذلك قال (ع) له: فإن شركتهم في الحرب، كان لك مثلُ حظِّهم. أي ان لم تكن مقاتلاً مثلهم او حضرت القتال معهم، لا يعطى لك من هذا المال. ب _ ان المراد بالفيء في كلام الامام (ع) هي الغنيمة التي ترد عن طريق السيف والحرب. واصله ما وقع للمؤمنين صلحاً من غير قتال. ولذلك وجدنا تعريف الراغب الاصفهاني يميل الى المعنى الاصلي. ولكن الغالب في كلام الامام (ع) ان الفيء هو الغنيمة التي وردت عن طريق الحرب، وعبّر (ع) عنها بمصطلح: «جلبُ اسيافهم». رابعاً: ان المال الآتي من الغنائم (الفيء) لا يصرف الا على الجنود، المقاتلين ومن حضر القتال ولم يقاتل. قال تعالى: (واعلَمُوا أنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فإنَّ للهِ خُمُسَهُ وللرَسُولِ ولذي القُربى واليَتامى والمَساكينِ وابنِ السبيلِ...)[33]. والقاعدة ان جميع ما يُغنم من بلاد الشرك يُخرج منه الخمس. فيفرق في اهله كما هو معروف. وهي ستة اقسام: سهم لله وسهم لرسوله وسهم لذي القربى، وهذا للنبي (ص) او القائم مقامه (ع). وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، كلهم من اهل بيت الرسول (ص) لا يشركهم فيها باقي الناس. واباح لفقراء سائر المسلمين ومساكينهم وابن سبيلهم من الصدقات الواجبة المحرمة على اهل بيت النبي (ص). والباقي (اربعة اخماس) على ضربين: فالارضون والعقارات لجميع المسلمين. وما يمكن نقله للمقاتلين ولمن حضر القتال خاصة، وان لم يقاتل. للفارس سهمان وللراجل سهم واحد. خامساً: يقول تعالى: (إنَّما الصدقاتُ للفُقراءِ والمساكينِ والعامِلينَ عليها والمؤلَّفَةِ قُلُوبُهُم وفي الرِقابِ والغارِمينَ وفي سبيلِ اللهِ وابنِ السبيلِ فريضةٌ من اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ)[34]. يصرف مال الصدقات على الفقراء، بعد ان يقسّم ثمانية اسهم، وهي: الفقراء، والمساكين، والعاملون على جباية الزكاة، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله تعالى، وابن السبيل. وسوف نتحدث عن ذلك باسهاب عندما نصل الى بحث الفقر في هذا الفصل، ان شاء الله تعالى. ولكن ما نريد ان نقوله هنا هو ان طبيعة الضريبة في الاسلام انما جاءت لمعالجة مشاكل الاسر الفقيرة من ذوي العيال والمجاعة، واسر الضعفاء والارامل واليتامى، بالدرجة الاولى. ولكنها لم تنسَ في الوقت نفسه الافراد الاقل حظاً في المجتمع مثل الذين ركبتهم الديون، والذين لا يزالون لم يتمتعوا بحريتهم، والذين انقطعوا في الطريق وهم بعيدون عن اهلهم وذويهم. 2 _ المال والنظام الحقوقي في خلافة الامام (ع) هناك مجموعة من الحقوق ينبغي ان يتمتع بها الانسان في ظروف طبيعية، وهي: حق العمل، وحق التملك، وحق العيش بكرامة في كل الاحوال. وتلك الحقوق تستدعي حقاً أعم، وهو حق الكسب المالي وحيازة النقد. وبدون حيازة النقد يهبط الانسان الى ادنى المستويات من المعيشة. فكيف يعيش الانسان حياته الاجتماعية وهو لا يملك وسائل مبادلة الخبز بالنقد؟ وهنا يتحقق الفقر والإملاق. والفقر القهري يحطُّ من كرامة الانسان، ويُنـزله منـزلة الذلّ والهوان. وقد خُلق الانسان كريماً في ذاته، كما قال تعالى: (ولَقَد كرّمنا بني آدَمَ وحَملناهُم في البَرِّ والبَحرِ...)[35]. ولذلك، فان الحكومة في الاسلام مسؤولة عن حفظ كرامة الانسان، عبر ازالة الفقر والإملاق عند الناس، عن طريق انشاء القوانين والتشريعات الخاصة بذلك. ومن اجل ادراك تلك القوانين، كان لابد لنا من دراسة النقد، والدخل الشخصي، وميزانية الدولة، ومعنى الفقر والغنى وعلاقاتهما بالعدالة الحقوقية في المجتمع. اولاً: المال والنقد: ترتبط فكرة المال بالدرجة الاولى بالنقد. والنقد هو رصيد متحرك ذو سيولة ، يحتاج الى توثيق الدولة من اجل ان يكون وحدة رسمية من وحدات التعامل المالي بين الناس. وكان النقد في عهد الامام امير المؤمنين (ع): الدينار والدرهم. وكان الدينار مسكوكة ذهبية تساوي عشرة دراهم، بينما كان الدرهم مسكوكة فضية. ولا شك ان المسكوكات الذهبية والفضية كان قد استمر التداول بها قروناً عديدة، الى ان ظهرت العملة الورقية في القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري). وكان للدينار وللدرهم قوة شرائية معتبرة، بحيث ان الامام (ع) اشترى ثوبين بخمسة دراهم. ثوباً بثلاثة وكان اجود، وثوباً بدرهمين[36]. وان بيت المال وزّع مرّة من المرات التي تذكرها الروايات: ثلاثة دنانير لكل رجل. وان شُريح بن الحارث «القاضي» قد اشترى بيتاً بثمانين ديناراً، فوبّخه امير المؤمنين (ع) على ذلك. لان ثمن البيت كان باهضاً ولم يتناسب مع وظيفته الحكومية. وحيازة النقد عند الناس يعني قدرتهم على يبع المادة وشرائها في موارد حياتية مهمة، وهي: 1 _ الطعام واللباس وما يتعلق بهما من آلات ومواد. 2 _ بيع الخدمات وشراؤها، كالاجرة المأخوذة على نقل الاشياء في السوق، والاجرة المأخوذة على الخدمة في البيوت، والاجرة المأخوذة على العمل في البساتين والمزارع. 3 _ بيع العقار وشراؤه من بساتين ودور وحوانيت ومصانع ونحوها. اهمية النقد ومشاكله: للنقد اهمية خاصة في المجتمع، لكنه متى ما وُجد، قامت مشكلتان خطيرتان، هما: الاولى: مشكلة التوازن النقدي بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. فقد يُفتقد النقد عند الطبقة الفقيرة. فتتفشى ظاهرتا الحرمان «وهي انعدام الثروة اصلاً»، والاستدانة «وهي الثروة السلبية». فالحرمان يعني عدم قدرة الفرد على كسب النقد مقابل الجهد الذي يبذله والعمل الذي يقوم به، كما هو الحال في العاجز والشيخ الكبير. وقد يكون سببه عدم وجود المعيل كما هو الحال في الايتام والارامل. اما الاستدانة فهي تمثّل عدم قدرة الفرد على كسب المال او النقد مقابل الجهد المبذول، فتنحصر قدرته على حيازة مقدار من المال شرط ارجاعه، وهذه هي الثروة بالسالب. الثانية: تكدّس الثروة النقدية من قبل الطبقة الغنية. فمن اهم اهداف التجارة والتملك والاشراف على الزراعة والصناعة ونحوها، هو حيازة اكبر قدر ممكن من النقدين: الذهب والفضة. وتلك حيازة مشروعة لو سلكت الطريق الشرعي الصحيح، من حيث عدم ممارسة الباطل او الحرام في العمل والتجارة، ومن حيث اخراج الحق الشرعي الفائض عن الحاجة. الا ان تكدّس الثروة النقدية يأتي غالباً عن طريق عدم مراعاة الحق، وعدم الالتزام بأحكام الشرع. وتكدّس الثروة عند فرد معيّن او طبقة معينة هو امر مؤسف. ذلك، لان للنقد خاصية مهمة وهي خاصية السيولة . بمعنى ان السيولة النقدية تعكس قدرة الدرهم والدينار على الوصول الى كل فرد من افراد المجتمع. بينما لا تستطيع المبادلة الاقتصادية التي كانت سائدة في العصور الغابرة للبشرية من تحقيق ما حققته السيولة النقدية . وبتعبير آخر، ان النقد يمثّل الملكية المنقولة بيسر، التي تستطيع الوصول الى ايادي كثيرة في وقت قصير، عن طريق البيع والشراء. ولذلك يعدّ النقد من الوسائل المهمة في معالجة مشكلة الفقر في المجتمع . لان توزيع النقد يُسرع في عملية شراء الحاجات الاساسية كالطعام واللباس والمأوى. وقد حذّر القرآن الكريم الذين يكنـزون النقد (الذهب والفضة) ولا ينفقونه في سبيل الله، قفال عزّ من قائل: (...والذين يكنِـزُونَ الذهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَها في سَبيلِ اللهِ فبشِّرهُم بِعذابٍ أليمٍ . يومَ يُحمى عليها في نارِ جهنَّمَ فتُكوى بها جِباهُهُم وجُنُوبُهم وظُهورُهم هذا ما كَنَزتُم لأنفُسِكُم فَذوقوا ما كنتُم تَكنِزونَ)[37]. ومع ان اصل صناعة النقد كانت من اجل تسهيل مهمة البيع والشراء والتملك، الا ان مشكلة تلك القطعة المعدنية الجميلة هو ان لها القابلية على الجمع والتكديس اذا اراد صاحبها ذلك. فبريق الدينار الذهبي وجذابيته يشجّعان المالك على الاحتفاظ به وكنـزه. وكلما كنـز كمية، ازداد الشره نحو كنـز كمية اخرى اكبر، وهكذا. ولو اُخرج خمس ذلك الكنـز وسلّم للفقراء، لعدّ الكنـز كنـزاً شخصياً ضرَّ بصاحبه او مالكه. ولكن لو كنـزه دون اخراج الحق الشرعي لانطبقت عليه الآية القرآنية الكريمة: (والذينَ يَكنِزونَ الذهبَ والفضةَ...)، وعُدّ المالك من الذين يمنعون حق الله في الانسياب نحو المنافع الاجتماعية. دوافع كنـز المال: وطالما كان النقد محدوداً بحدود القطع المسكوكة من قبل الدولة، كان الدافع عند الافراد نحو تكديس تلك الكمية من المال قوياً وفعّالاً. واذا تحقق ذلك الدافع فانه سيحرم طبقة من الناس، وهي طبقة الفقراء، من اشباع الحد الادنى من حاجاتها الاساسية. هنا نصل الى قمة النقاش والجدل العلمي، ونقول: اذا لم يتدخل الدين في حل تلك المشكلة، فان الظلم سينتشر ويضرب باطنابه في المجتمع الانساني. وهذا بحد ذاته يزعزع الاساس الذي بُنيت عليه الرسالة الاجتماعية للدين، وهو تحقيق العدالة الاجتماعية من اجل عبادة الله بضمير مطمئن وقلب صاف نظيف. وقد لمسنا عن قرب حثّ الدين على الانفاق المستمر، واخراج حق الله الى فضاء المجتمع والناس. وكان ذلك الحق يتجمع في بيت المال ويوزّع على الاصناف التي وردت في الآية الكريمة: (إنَّما الصدقاتُ للفقراءِ والمساكين والعامِلينَ عليها والمؤلفةِ قُلُوبُهُم وفي الرقابِ والغارِمينَ وفي سبيلِ اللهِ وابنِ السبيلِ فريضةً منَ اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ)[38]. بينما كانت الغنيمة (الفيءُ) تقسّم على المقاتلين، كما فصّلنا ذلك سابقاً. فكان دافع كنـز المال عند القلة من أسوء الدوافع الانسانية تجاه اخوانهم من بني آدم، حيث الفقراء والمعوزون. وقد يتبادر الى الذهن سؤال وهو: ما الذي يدفع الانسان الى كنـز المال؟ والجواب على ذلك هو ان الدافع الذي يدفع الثري لكنـز المال دون اخراج حقّه المنصوص هو: البخل، والطمع، والحرص. فالبخل يعبّر عن حبس الثروة عن الآخرين وتحمّل البخيل مسؤولية ذلك امام الله سبحانه. ويعبّر الطمع عن تحرّك شهوة التملك فوق الحدود المعقولة، وعدم اقتناع الانسان برزقٍ محدود. بينما يعكس الحرص عدم الثقة بتقدير الله سبحانه وتعالى. وتلك صفات ذميمة تحبس الثروة الشخصية عن متناول اليد الاجتماعية، ولا تنفع صاحبها ايضاً. بل توقعه في الحساب الشديد امام الله عزّ وجلّ يوم القيامة. ولذلك هدد القرآن المجيد الكانز، بخيلاً كان او حريصاً، بأشدّ العذاب. فهو كمن يحبس الخير عن الافاضة في مجاري النظام الاجتماعي، اختياراً. قال تعالى: (ولا يحسبنَّ الذينَ يَبخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ هُوَ خَيراً لَهُم...)[39]، (...ومَن يَبخَلُ فإنَّما يَبخَلُ عن نفسِهِ واللهُ الغنيُّ وأنتُمُ الفُقراءُ...)[40]، (وأمّا مَن بَخِلَ واستغنى. وكذَّبَ بالحُسنى. فَسَنُيسرُهُ للعُسرى)[41]. ويقف على النقيض من ذلك تماماً، المبذر. وهو الذي يُسرف في اهدار الثروة حدّاً يخرج عن المعقول. وقد نعت القرآن الكريم المبذرين بأنهم اخوان الشياطين: (إنَّ المُبذِّرينَ كانوا إخوانَ الشياطينِ...)[42]. وظاهر الآية الكريمة مطلق التبذير. ولا شك ان تبذير ثروة المسلمين اعظم ذنباً من التبذير الشخصي المجرد. ولذلك عاب المسلمون على الخليفة الثالث تبذيره ثروتهم عبر منحها لأقربائه من بني امية. الا ان الامام امير المؤمنين (ع) كان أميناً مخلصاً، في المال الاجتماعي، يوزعه على الفقراء واهل الحاجة والمسكنة بالمساواة والعدل. وكان (ع) كثيراً ما يردد: «ان هذا المال ليس لي ولا لك»[43]، و«ولو كان المالُ لي سويت بينهم، فكيف وانما المالُ مالُ الله»[44]، «ولكنني آسى أن يلي امرَ هذهِ الامةِ سُفهاؤها وفُجّارُها، فيتخذوا مالَ اللهِ دُولاً...»[45]. ولذلك كان المال عند الامام (ع)، وخصوصاً النقد، اداةً من ادوات بسط العدالة الحقوقية بين الناس. النقد والسياسة المالية عند الامام (ع): كانت السياسة المالية في عهد الامام (ع) تستند على عدّة اسس، هي: الاول: توزيع ما كان يتجمع في بيت المال من النقدين _ الذهب والفضة_ على الموارد التي ذكرتها الآية، وكان اغلب ذلك من الصدقات. الثاني: توزيع الفيء _ من مواد نقدية او عينية _ على المقاتلين، او الذين يحضرون القتال ويقومون بشؤون خدماتية للجيش. وكان عددهم ضخماً. وكانت الثروة العينية الاوسع المتمثلة بزكاة الغلات والانعام توزع على الفقراء ايضاً. وتلك السياسة تمثل سياسة في الضمان الاجتماعي لجميع الافراد في المجتمع الاسلامي. ولا شك ان مقدار تلك الثروة المتجمعة في بيت مال المسلمين كان ضخماً. فكان يتطلب وجود نوع من الادارة لتنظيم صرف ذلك المال وحسن توزيعه، من قبيل وجود الكتّاب والدفاتر التي كانت تدرج فيها اسماء الافراد الذين يستلمون من بيت المال. خذ مثلاً على ضخامة العملية الادارية في التوزيع. فقد كان جيش الامام (ع) الذي شارك في صفين قد بلغ اكثر من مائة وعشرين الف مقاتل. وهذا العدد الضخم كان يحتاج الى سجلات باسمائهم ومقدار عطاياهم. الثالث: ضبط السوق التجاري عبر حثّه (ع) الباعة واصحاب الحوانيت على عدم الغش، والتحكم بالمكيال بالحق، والمحافظة على الاسعار، ومحاربة الاحتكار. فقد كان (ع) يكثر المرور على سوق الكوفة فيحثّ الباعة على ضبط الميزان وعدم الغش. ولا شك ان السوق التجاري في الكوفة _ عاصمة دولة امير المؤمنين (ع)_ كان فرعاً رئيسيا من فروع مجرى النقد في المجتمع. لان بيت المال كان في الكوفة. ولا شك ان البيع والشراء يتطلب دوماً نشاطاً في الحركة النقدية، وانتقالاً مستمراً للمال بين ايادي مختلفة. الرابع: محاربة الربا، الذي حرمه الاسلام عبر قوله تعالى في الكتاب المجيد: (... ذلك بأنهَّهم قالوا إنما البيعُ مثل الربا. وأحل الله البيعَ وحرّمَ الربا...)[46]. في نفس الوقت الذي شجع فيه على الكسب الحلال في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات. ولذلك كان الامام (ع) يدعو التجار الى التفقه في احكام التجارة، فيقول لهم: «يا معشر التُجار: الفقه ثم المتجر...». ويقول (ع) لهم ايضاً: «من اتجرَ بغيرِ فقه فقد ارتطم في الربا»[47]. الخامس: كان النقد المسكوك (ذهباً كان او فضةً) في ذلك الزمان، يمثل المال الحقيقي لا المال الاسمي. أي ان كمية النقد الموجودة في المجتمع آنذاك تستطيع ان تشتري الحاجات الاساسية للناس، فقراء كانوا او اغنياء. لان العملة المسكوكة كانت محدودة بحدود ما يمكن تملكه، ظاهراً. على عكس النقد الورقي اليوم، الذي يُعد مالاً اسميا اكبر من حجم مجموع المواد التي يمكن ان تُشترى في المجتمع. وبمعنى آخر، لو ان فرداً جمع العملة الورقية اليوم وارد ان يشتري ممتلكات العالم باجمعه، لأمكنه شراء كل ممتلكات العالم وبقي من العملة الورقية مبلغاً كبيراً ايضاً. فبنوك العالم المعاصر تصنع عملة ورقية اكبر مما يحتاجها المجتمع في البيع والشراء. والنكتة في ذلك ان الثراء في عالم اليوم هو ثراء وهمي وليس حقيقي. ولذلك يشهد العالم الاقتصادي المعاصر ازمات مستمرة. السادس: ان دوران النقد في المجتمع في خلافة امير المؤمنين (ع) كان دوراناً نشطاً. فهو ما ان يخرج من بيت مال المسلمين الى الفقراء، حتى يجد طريقه الى السوق، لان الفقراء _ بحكم عوزهم _ كانوا يصرفون ذلك المال القليل خلال فترة وجيزة. وعندما يدخل المال في حوزة اصحاب المتاجر ، فان جزءً منه يرجع الى المزارعين وبقية العمال وجزءً آخر ارباحاً الى اصحاب المتاجر. وفي النهاية، فان اجزاءً من المال سوف ترجع الى بيت المال عبر الصدقات. وهذا الدوران للمال كان له دور في تنشيط حركة الحياة في مجتمع المسلمين. وتلك السياسة المالية ادت الى تحريك النظام الاقتصادي وتكامله من خلال تحريك السيولة النقدية وعدم تكديسها، وادت الى اشباع الفقراء والاغنياء وتضييق الفارق الطبقي بين الفئتين. وبكلمة، فان وجود المال الحقيقي على شكل نقد: ذهب وفضة، كان يسهل الامر على الحكومة في تحقيق العدالة الحقوقية بين الناس. فالمال الحقيقي يعني ايجاد قوة شرائية للمواد الموجودة فعلا في السوق كالطعام واللباس. بينما لا يؤدي المال الاسمي في الدولة الحديثة الى تحقيق اهداف الحكومة في العدالة الاجتماعية. لان الادخار الاجمالي للمال الاسمي الاجتماعي ما هو الا ادخار وهمي يشجع على انشاء طبقات اجتماعية متفاوتة في حيازة الثروة. وخير شاهد على ما نقول هو حالات انهيار اسواق البورصة في عالم اليوم. (تليها ص 784 - 804)
اللاحق صفحة التحميل الصفحة الرئيسية [1] «نهج البلاغة» - المختار من حكمه (ع) رقم 261 ص 661. [2] م. ن. – المختار من حكمه (ع) وصية (25) ص 481. [3] م. ن. – المختار من حكمه (ع). كتاب (51) ص 544. [4] سورة الانفال: آية 41. [5] «نهج البلاغة» - خطبة 151 ص 259. [6] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 3 ص 460. [7] م. ن. – من وصيته لابنه الحسن (ع). المختار من كتبه (ع) رقم 31 ص 510. [8] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 41 ص 527. [9] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 45 ص 510. [10] «نهج البلاغة» - المختار من كتبه (ع) رقم 26 ص 484. [11] «نهج البلاغة» - لامخترار من كتبه (ع) رقم 45 ص 532. [12] م. ن. – المختار من حكمه (ع) رقم 20 ص 605. [13] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 60 ص 579. [14] «نهج البلاغة» - خطبة 129 ص 230. [15] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 21 ص 477. [16] م. ن. كتاب 41 ص 526. [17] م. ن. – المختار من حكمه (ع) رقم 319 ص 672. [18] م. ن. – خطبة 3 ص 38. [19] «نهج البلاغة» - خطبة 15 ص 48. [20] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 26 ص 484. [21] م. ن. – كتاب 62 ص 581. [22] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 67 ص 589. [23] م. ن. – خطبة 126 ص 225. [24] م. ن. – خطبة 205 ص 405. [25] «نهج البلاغة» - خطبة 231 ص 448. [26] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 43 ص 529. [27] م. ن. – المختار من حكمه (ع) رقم 261 ص 662. [28] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 67 ص 589. [29] سورة الحشر: آية 7. [30] «مفردات الفاظ القرآن» - الراغب الاصفهاني. مادة «فيء» ص 650. [31] «مجمع البيان» - الطبرسي ج 9 ص 390. [32] «نهج البلاغة» - خطبة 231 ص 448. [33] سورة الانفال: آية 41. [34] سورة التوبة: آية 60. [35] سورة الاسراء: آية 70. [36] «الغارات» ص 106. [37] سورة التوبة: آية 34. [38] سورة التوبة: آية 60. [39] سورة آل عمران: آية 185. [40] سورة محمّد: آية 38. [41] سورة الليل: آية 8. [42] سورة الاسراء: آية 27. [43] «نهج البلاغة» - خطبة 231 ص 448. [44] م. ن. – خطبة 126 ص 225. [45] م. ن. – كتاب 62 ص 581. [46] سورة البقرة : آية 275. [47] «نهج البلاغة» - المختار من حكمه (ع) رقم 437 ص697. |