(ص 784 -804) ثانياً: الدَخل الشخصي: لو درسنا الطبيعة الاقتصادية للمجتمع الاسلامي في عصر الامام امير المؤمنين (ع)، لتبين لنا ان الوارد الشخصي للمعيل كان يُكتسب عن طرق متعددة، منها: العمل اليدوي، وتملك الارض، والتجارة، ورأس المال الذي كان يقوم بتشغيله التاجر من اجل جني الربح. وهذا يعني ان كسب المال كان ممكناً عن طريق ثلاثة موارد: الاول: الاجر الناتج عن العمل وبذل الجهد. الثاني: الربح الصافي الناتج عن تشغيل رأس المال في التجارة. الثالث: تأجير الاراضي الزراعية المملوكة من قبل المالك الحقيقي. اذن لدينا ثلاثة عوامل منفصلة، تتضافر احيانا من اجل تحقيق دخل شخصي معقول، وهي: الاجارة، والتجارة، والملكية. وكلها تولّدُ رصيدا مالياً يتفاوت حجمه من انسان لآخر. ولو نظرنا الى طبيعة المجتمع الاسلامي في العراق والحجاز وفارس واليمن ومصر لرأيناها اقرب الى المجتمع الزراعي منه الى المجتمع التجاري او الصناعي ؛ لكثرة الاراضي الزراعية ووفرة المياه وكثرة الايدي العاملة. ومع ان التجارة كانت عاملا مربحاً ورائجاً، الا ان الاجارة والعمل اليدوي كانا الاكثر شيوعاً في تلك المناطق الزراعية. وهكذا، فقد كان «الاجر» على العمل اليدوي هو الغالب في تحصيل الدخل الشخصي للمعيل. بينما كانت شريحة ضئيلة تعتمد على تشغيل رأس المال في التجارة وتملك الاراضي. واذا كان الدخل الشخصي ناتجاً عن كسب شرعي وهو الاجر المدفوع على اساس بذل الجهد وصبّ العرق، فان ذلك الدخل سيكفي معيشة المعيل وعائلته. وما يفضل منه _ وغالباً ما يكون قليلاً _ يدفع حقه الشرعي. فهذا العمل (الاجارة) ليس محلاً لتكديس المال. بل ان تكديس المال يأتي _ غالباً _ عن طريقين: الاول: تملك الاراضي الزراعية الواسعة والبساتين الفارهة، والانعام والخيل التي لا تُحصى. الثاني: الكسب الحرام. كما لو اقطع الحاكم الظالم لفرد مساحات واسعة من الاراضي، واهداه كمية كبيرة من المال المسكوك. فهنا تتحول الارباح الناتجة عن الملكية، والاموال المهداة مدعاةً لتكديس المسكوكات الذهبية التي يغري بريقُها خازنها اكثر من غيره. أ _ الدخل الشخصي: الوضع في القرن الاول الهجري: ولا شك ان كثرة الفتوحات في عهد الخليفة الثاني ادت الى توسع كبير في صناعة الاسلحة، كالسيوف والرماح ومعدات النقل ونحوها مما يحتاجها الجيش. وكان متوقعاً ان تؤدي الى توسع في الملكية، وبالخصوص ملكية الاراضي لعدد كبير من الناس. ولكن القطع التي مُنحت للقلّة في عهد الخليفة الثالث ابطلت ذلك التوقع. ومع ذلك فقد توسع الطلب على العمال والاجراء من عامة الناس، من اجل انجاز الاعمال الزراعية والتجارية. بينما ساهمت عطاءات الخليفة الثالث في تنمية الطبقة المالكة من بني امية. فخلق ذلك الوضع صورة جديدة للطبقات لم يشهدها مجتمع الشرق من قبل، وهي: 1 _ طبقة عليا قليلة العدد، لديها املاك واسعة وثروة هائلة من النقدين: الذهب والفضة، وعدد كبير من العمال يعملون في خدمة مصالحها. ودخلها اليومي هائل قد يصل الى آلاف الدنانير الذهبية. وتوضع في هذه الطبقة اسماء مثل: مروان بن الحكم حيث كانت عطاياه من عثمان لا تقل عن مئات الالوف من الدراهم والدنانير. والزبير بن العوام الذي خلّف عند موته خمسين الف دينار ذهباً والف فرس والف امة. وطلحة بن عبيد الله وكانت غلته من العراق كل يوم الف دينار ذهباً. 2 _ طبقة التجار واصحاب الحوانيت والبساتين والاملاك الصغيرة من الذين يضمنون مؤونة سنتهم وفائضاً على ذلك. وهذه طبقة صغيرة ايضاً في المجتمع. وربما نضع في هذه الطبقة اسماء مثل: عمرو بن محصن (ابو اُحيحة)، الذي جهز امير المؤمنين (ع) بمائة الف درهم في مسيره الى الجمل[1]. 3 _ طبقة العمال والاجراء وهم الذين يعملون بالاجر اليومي في الزراعة والصناعة. وهؤلاء لا يضمنون قوت سنتهم. وهؤلاء هم الاكثرية من الناس. وربما يدخل في هذه الطبقة: العبيد. ويتراوح دخل هذه الطبقة بضعة تمرات في اليوم الى عدة دراهم. ومنهم اغلب اصحاب الامام (ع) كسلمان، والمقداد، وعمار، وأبي ذر، وغيرهم. 4 _ الطبقة الفقيرة التي كانت تعيش بين حالتي «الفقر» و«الإملاق». وهم من المعوزين كالعاجزين وكبار السن والايتام والارامل. وليس لهذه الطبقة دخلٌ مالي. وكان بيت المال يساعدها بالذات واصناف اخرى ذُكرت في مورد آية صرف الصدقات. فلا ريب ان يوصي الامام (ع) بهم بقوله: «...ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلةَ لهم والمساكين والمحتاجين واهل البؤسى والزمنى...»[2]. وهكذا وجد امير المؤمنين (ع) نفسه امام مجتمع طبقي، حيث يضرب الفقر اطنابه في دولة واسعة مترامية الاطراف. والاغنياء شريحة قليلة فيه. ولكن خيرات ذلك المجتمع من الكثرة، بحيث كانت تكفي _ لو اُنصف توزيعها _ لسدّ حاجات الناس جميعاً. ولكن تدخُل الاسلام في فرض وجوب دفع «الاجر» للعامل قبل ان يجفّ عرقه، قد خفف من حجم المشكلة الحقوقية. خصوصاً وان الاجارة كانت ولا تزال العمود الفقري لاقتصاد الدولة ورفاه المجتمع. ومحدودية الدخل الوارد من الإجارة يعني محدودية في إشباع حاجات تلك الاسر التي كانت تعتمد عليها. ولكنها محدودية مقبولة، وليست إملاقاً وبؤساً وزمنى. فكان على بيت المال ان يهتمّ فوراً _ على سبيل الاولوية _ بالذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين واهل البؤسى والزمنى. ب _ الدخل الشخصي: الشروط عندما نتحدث عن الدخل الشخصي للعامل او الفلاح او الجندي، فاننا نقصد كمية المال التي تدخل العائلة التي يُعيلها كلاً منهم. ومن اجل ان يكون الدخل عادلاً، لابد ان ينظم بما يتناسب وحاجات الاسرة. فتنظيم الدخل الشخصي هو اثر من آثار العدالة الحقوقية التي تقوم بها الحكومة العادلة. وفيما يلي بعضاً من الشروط الموضوعية لتنظيم الدخل الشخصي في عصر الامام امير المؤمنين (ع): 1 _ قلة الدخل تُجبر بسهمٍ من بيت المال: فعندما تتجمع الحقوق المالية الشرعية في بيت المال، فانها توزع على الاصناف الثمانية التي ذكرتها آية الصدقات[3] من فقراء ومساكين، وعاملين على جباية الزكاة، ومؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، وغارمين، وفي سبيل الله تعالى، وابن السبيل. والخمس[4] يوزع على آل الرسول من ايتام ومساكين وابناء سبيل. ولا شك ان جميع تلك الاصناف التي ذكرت في الآيتين (سورة التوبة: 60، وسورة الانفال: 41) هم من ذوي الدخل المحدود. وهذا يعني ان قلّة دخل الفرد تُجبر بكمية من المال يدفعها بيت المال لتلك الاصناف من اهل الحاجة. وبذلك تستفيد تلك الشرائح المتفاوتة الدخل من اموال بيت المال، كلٌ حسب حاجته. 2 _ ضريبة على فائض المؤونة السنوية: وهي تعني ضريبة على فائض الدخل السنوي. أي اذا فاض الدخل الشخصي عن مؤونة السنة، فان على الفائض ضريبة. كما في الخمس فيُخرج عشرون بالمائة من الفائض، او كما في الزكاة حيث يُخرج اثنان ونصف بالمائة من الغلات والانعام والنقدين. وتلك ضريبة على الدخل الفائض. والضريبة تذهب الى بيت المال من اجل ان توزع على الفقراء بالمقدار الذي عرضناه سابقاً. 3 _ المسكوك والاطعام والاكساء من بيت المال يعوّض انعدام الدخل: فيستفيد الفقراء والمساكين من بيت المال فيما يتعلق بالطعام والكساء بالاضافة الى النقد. وهذا يعني ان «وسائل» بيت المال تساعد الناس من ذوي الدخل المسحوق على الارتفاع الى المستوى اللائق بهم. واذا كان الطعام يساعدهم على سد حاجاتهم الغذائية، فان النقد يساعدهم على مواكبة الحياة الاجتماعية، وشمّ عبير الكرامة في فضاء المجتمع الواسع الفسيح. 4 _ الدخل يُحسب على اساس عدد افراد العائلة: ان العائلة الفقيرة المكونة من عدد اكبر من الافراد لابد ان تأخذ بما يتناسب وعدد افرادها. وإلاّ، فان مفهوم الاشباع لا يتحقق. ولذلك أكدت الاوامر الشرعية على اطعام ستين مسكينا مثلا، او عشرة مساكين، او ستة مساكين في موارد متعددة مثل: كفارة افطار يوم من شهر رمضان، وكفارة افطار قضاء شهر رمضان بعد الزوال، وكفارة حلق المُحرِم رأسه لضرورة (في الحج). فقد ذكرتهم تلك الاوامر الشرعية بالعدد، ولم تشر اليهم بعائلة واحدة مثلا، او عشيرة، او قوم من الناس. وهو منسجم مع مذاق الشارع، وملاكات احكام الإطعام والإكساء في الشريعة. 5 _ قلة الدخل لا علاقة لها بشأنية الانسان: ان قلة الدخل الشخصي او الفقر لا يعني تدهور شأنية الانسان وانحطاطها. بل ان الفقر لا علاقة له بذلك. فقد يكون الانسان كريماً في ذاته، عالما مخلصاً لله مجاهداً، لكنه فقير لا يملك ما يسدّ رمقه. فليست هناك ملازمة بين الفقر وبين الوضع الاجتماعي للمرء. وقد كان امير المؤمنين (ع) افقر الناس، ولكن الله سبحانه رفعه الى الدرجة السامية في الدنيا والآخرة ج _ الدخل الشخصي: الصفات واذا كان للدخل الشخصي شروط، عرضناها فيما مضى، فلابد لنا من ذكر الصفات التي يحملها الدخل. ومن تلك الصفات: 1 _ انعدام الدخل بموت المعيل: فعندما يتقدم المعيل في العمر او يتوفاه الله، تفتقد العائلة الى دخل تسدّ به حاجتها. وعندها يكون لبيت المال دور حاسم في انقاذ تلك العائلة من الجوع المحقق. 2 _ انخفاض الدخل حتى مع وجود العمل: ذكرنا سابقا ان الكوفة والمدينة والبصرة كانت من الامصار التي يتوفر فيها العمل الزراعي بكثافة لانها مناطق زراعية وفيها وفرة من المياه. ولكن الدخل الشخصي في تلك المناطق ظلّ منخفضاً. فكيف يستطيع العامل ان يعيل عائلته اذا كانت اجرته حفنة من التمر في اليوم؟ وكيف يستطيع الاجير ان يسدّ حاجاته الاساسية اذا كان اجره اقلّ من درهم في اليوم او اليومين؟ ودخلٌ منخفضٌ كهذا يحتاج الى جبران بيت المال. 3 _ ضريبة الدخل الشخصي من نفس جنس الدخل: يُلحظ في الضريبة التي تؤخذ على الغلات والانعام انها كانت من نفس الجنس. وهذا يمهد السبيل لعدم ارهاق دافع الضريبة، في الوقت الذي يلتفت لحاجة الجائع. وتلك الصفة قامت بحلّ مشكلتين: الاولى: مشكلة دافع الزكاة. فهو بدفعه مقداراً من نفس المنتوج تخفيفٌ عليه واشعار له بعدم الخسارة. الثانية: مشكلة الفقير الذي يستلم الزكاة. وهو بستلامه الكمية المعينة، يضمن انه يستخدمها لسدّ جوعته. 4 _ عين الدولة الفاحصة لمستويات الدخل الشخصي: ان توسع دور الدولة لتكون وكالة لجمع الضريبة مرتبط بدورها الموسع في عملية التوزيع. ومع ان الانفاق المستحب يذهب مباشرة من الطبقة الغنية الى الطبقة الفقيرة ولا يسجل في وكالات الدولة، الا ان الخراج والصدقات والفيء والاخماس كانت تذهب الى بيت المال. فيسجّل الغني والفقير في قائمة التوازن المالي الاجتماعي. ووجود عين فاحصة تفحص مستويات الدخل الشخصي للجميع، يبعث في النفوس اطمئنانا بوجود حكومة عادلة تحاول سد الفوارق بين الطبقات. 5 _ انخفاض الدخل وقت الجفاف والشدة: لا شك ان الضريبة تقلّ، عندما تتعرض البلاد الى حالة جفاف أو نقص في الانتاج الزراعي أو الحيواني. وعندها تقلّ المبالغ الممنوحة للفقراء. وهذا امر طبيعي، فانخفاض الانتاج يؤدي الى انخفاض في الدخل الشخصي. وعندها يلمس الجميع قساوة الوضع الاقتصادي. ولذلك كان الامام (ع) يتمهل في طلب الزكاة وقت المجاعة والجدب. وبالاجمال، فان الضريبة المفروضة على مال الاغنياء في عصر امير المؤمنين (ع): الزكاة الواجبة (اثنان ونصف بالمائة عند بلوغ النصاب)، والصدقات المستحبة والكفارات والاضاحي والانفاق في سبيل الله (ولنفترض انها اثنان ونصف بالمائة ايضاً)، والفيء او الغنيمة (وهي نسبة غير محدودة من المال تذهب الى المقاتلين وكان الخمس وهو عشرون بالمائة يخرج منها)، كانت كلها ادوات فعالة تساعد على اعادة توزيع الثروة في المجتمع. وهي بمجملها تزيح بعضاً من المال من طرف الاغنياء، وتوجهه نحو العوائل الفقيرة. ولو حسبنا بالحساب النظري لتبين لنا ان مجموع المال الذاهب _ عينا او نقداً _ الى بيت المال ينبغي ان يكون اكثر من خمسة وعشرين بالمائة من الثروة الاجتماعية خصوصا اذا آمنا بان خمس الغنيمة يشمل خمس ارباح الواردات الشخصية مطلقاً. النتيجة: ان المال، والنقد بالخصوص، يبقى من الوسائل المهمة في تشخيص تركيبة المجتمع. ولذلك فان بعض القوى الاجتماعية _ مثل بني امية _ كانت تحاول ان تجعل الفارق في الدخل الشخصي بين طبقة واخرى فارقاً شاسعاً. حتى يتسنى لها استثمار الثروة المكدسة في طبقتها من اجل حيازة السلطة وامتيازاتها السياسية والاجتماعية. ولذلك اشاعت تلك القوى فكرة خاطئة مفادها ان الدخل الشخصي يحدد الطبقة الاجتماعية ويحدد ايضا من الذي يحكم!! فاذا كان الدخل قليلاً، هبط الفرد الى الطبقة المحكومة. واذا كان كثيرا هائلاً صعد الى الطبقة العليا الحاكمة. ولكن امير المؤمنين (ع) حارب تلك الفكرة، واعتبرها طريقة من طرق الجاهلية للوصول الى السلطة. ومن الخطوات التي اتخذها (ع) اعتمادا على مبادئ الاسلام في هذا المجال: 1 _ ساعد الفقراء من بيت المال. 2 _ اشاع فكرة الاسلام القائلة بان الفقر الاختياري صفة من صفات الانبياء والاولياء والصالحين، فحطم بذلك نظرية الطبقة العليا الغنية الحاكمة. 3 _ ألزم الاغنياء بدفع حصة الفقراء. 4 _ جعل الدخل الشخصي مقياساً للمساعدة. وبذلك صممت حكومة الامام (ع) للناس مجتمعاً متكافئاً نظيفاً اُشبع فيه الفقير، واُكرم فيه الغني المؤمن، وحوسب فيه الظالم مهما كان حجم ظلمه. ثالثاً: ميزانية الدولة: يستفاد من كتاب امير المؤمنين (ع) لاحد عماله: «ثم انظر في حال كتابك فولّ على امورك خيرهم...»[5]، ان هناك تنظيما لميزانية الدولة، من حيث تنظيم الواردات الى بيت المال والمصروفات الخارجة عنه. فتنظيم ميزانية الدولة عملية توصف بأنها: (فن) العيش الطبيعي في ظروف اقتصادية صعبة. فالمعروف ان لكل منظمة حدودا في الحرية الاقتصادية لا يمكن تجاوزها. والميزانية تحاول ان تضع للحكومة حدودا _ على الصعيدين الاقتصادي والحقوقي _ لا يمكن الخروج عنها. فاذا كان في خزينة الحكومة (بيت المال) مليون دينار ذهبا مثلاً، فان الميزانية تفرض على الحكومة ان لا تصرف اكثر من الف الف دينار ذهبا. وعندما نتحدث عن الميزانية، فاننا نقصد الاموال التي تتجمع في بيت المال وتصرفها الدولة على الاصناف الثمانية التي وردت في آية الصدقات والاصناف الثلاثة التي وردت في آية الخمس. ولا تحدد الروايات مصادر الاموال المصروفة على مؤسسة القضاء ورواتب القضاة، ومؤسسة الحكم ورواتب الولاة والموظفين، والمؤسسة المالية في الدولة. نعم كانت المصادر المالية للمؤسسة العسكرية ورواتب الجنود، والمؤسسة الامنية ورواتب شرطة الخميس تأتي من الفيء. فكان على الحكومة ان تنظم مشاريعها تنظم كمية الاموال المصروفة من قبلها. فلا تستطيع الحكومة ان تصرف كل اموالها على مشروع معين كالعطاء مثلا، وتهمل رواتب الموظفين فيها. بل لابد لها من دفاتر لتنظيم طبيعة المشاريع وحجم العطاءات، وحجم الرواتب، وحجم المصروفات الاخرى. وهذا هو ما يسمى بتنظيم ميزانية الدولة. أ _ سياسة الميزانية: ان القرار الذي نفترض ان الامام امير المؤمنين (ع) قد اتخذه لتنظيم ميزانية حكومته (ع)، كان يعتمد على ثلاثة عناصر: 1 _ سياسة الدولة في الغاء الفوارق الطبقية عبر مساعدة الفقراء، وتقوية الجيش والشرطة، وتثبيت الامن الغذائي والمعاشي للناس. وكان أمير المؤمنين (ع) يعلن سياسته المالية عبر رسائله الى ولاته على الامصار. ومن تلك الرسائل: «وان لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً، وحقاً معلوماً، وشركاء اهل مسكنةٍ، وضعفاءَ ذوي فاقة»[6]. وتلك سياسة حكومية واضحة المعالم في مساعدة الفقراء مساعدة حتمية. 2 _ تعيين مقدار الكلفة في تحقيق اهداف تلك الوسيلة. قال الفقهاء المتقدمون في مقدار المُعطى من الزكاة ان «اقلّه للفقير الواحد ما يجب في النصاب الاول، فإن كان من الدنانير فنصف دينار. وإن كان من الدراهم فخمسة دراهم. وكذا في الاصناف الباقية بدليل الاجماع وطريقة الاحتياط»[7]، ولما روي عن الامام الصادق (ع) قوله: «لا يعطى احدٌ من الزكاة اقل من خمسة دراهم، وهو اقل ما فرض الله عز وجل من الزكاة في اموال المسلمين، فلا تعطوا احدا من الزكاة اقل من خمسة دارهم فصاعداً»[8]. والظاهر ان الامام الصادق (ع) كان يحكي المعمول به في عصر الامام امير المؤمنين (ع). واذا صحّ ذلك، تيسر حساب الكلفة. فاذا كان هناك عشرة آلاف فقير، تعين حساب خمسة آلاف دينار لمساعدتهم. فتعيين الكلفة اذن، عملية ميسورة وليست معقدة كما يبدو لاول وهلة. 3 _ رغبة الناس ومقدرتهم على المساهمة في تحقيق سياسة الحكومة، من خلال دفع الضريبة الشرعية. ونحن لا نستطيع قياس رغبة الناس في دفع الزكاة بعد مرور اربعة عشر قرناً من الزمان. الا اننا نستطيع الاطمئنان بان الاندفاع نحو دفع الزكاة في عصر الامام (ع) كان قوياً، ويعضد اطمئنانا هو توصياته لعماله على جباية الزكاة. ومن ذلك: ان امير المؤمنين (ع) كان اذا بعث الجابي يقول له: «اذا أتيت على رب المال، فقل: تصدق رحمك الله مما اعطاك الله. فان ولى عنك فلا تراجعه»[9]. و(منها): «بعث امير المؤمنين (ع) مصدّقاً من الكوفة الى باديتها، فقال له: يا عبد الله انطلق وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه، راعيا لحق الله فيه حتى تأتي نادي بني فلان. فاذا قدمت فانزل بمائهم من غير ان تخالط ابياتهم، ثم امض اليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم، فتسلّم عليهم. ثم قل لهم: يا عباد الله ارسلني اليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في اموالكم من حق فتؤدوه الى وليه. فان قال لك قائل: لا. فلا تراجعه. وإن انعم لك منهم منعم فانطلق معه من غير ان تخيفه او تعده الا خيراً، فاذا اتيت ماله فلا تدخله الا باذنه فان اكثره له...»[10]. وتلك السياسة المرنة في جباية الزكاة تشجع الناس على دفع حقوقهم الشرعية، خصوصا عندما يعلموا انها تسلّم الى ايدي امينة تضعها حيث امر الله سبحانه. ونستيع الآن ان نقول بكل ثقة بانه لا توجد حكومة تستطيع ان تؤدي وظائفها، دون امتلاكها سياسة واضحة المعالم فيما يتعلق بالواردات والمصروفات. فاذا اُتخذ قرار بايواء كل يتيم وارملة وسد حاجاتهما مثلاً، فلابد من حساب اجمالي اليتامى والارامل، ولابد من حساب ما يدخل بيت المال من اموال، ثم تقسيم ذلك على اساس الحصص. فيكون لكل يتيم حصة، ولكل ارملة حصة. واقل الحصص، على مقتضى الرواية نصف دينار ذهباً. وهذا الامر لا يكتمل مالم يُعلم الحد الادنى لرغبات الناس ونواياهم في دفع الحقوق الشرعية. اذن، اذا ربطنا سياسة امير المؤمنين (ع) في اشباع الفقراء مع رغبات الناس القوية في دفع الزكاة، استنتجنا بان عصر الامام (ع) كان عصرا مزدهراً بالعدالة والانصاف. والميزانية الرشيدة لحكومة امير المؤمنين (ع)، كانت قد سددت ذلك الازدهار. وهكذا كانت السياسة الحكومية العلوية واضحة في تحقيق العدل عبر حسابات دقيقة لمعرفة عدد الفقراء ومقدار الثروة في بيت المال، من اجل توزيع عادل لتلك الثروات. فقد كان (ع) يعلم ان جزءً معلوماً من الثروة الاجتماعية ينبغي ان يُصبّ في مشاريع الطبقة الفقيرة ليرفعها الى الطبقة الوسطى. وقد حسبنا سابقا ان ربع الثروة الاجتماعية يذهب لادارة شؤون الفقراء واهل الحاجة والمسكنة. فكان لابد للامام (ع) ان يخطط لاستثمار ذلك المبلغ من الثروة الاجتماعية الذي استقر في بيت المال. وكان لابد ان يضع سياسة عامة تهتم بتنظيم مخارج ذلك المبلغ الهائل كل اسبوع. وقد قرأنا للتو بان سياسته الرئيسية كانت تحقيق العدل، وكفاية الفقراء. فقد كان المجتمع يعاني من كثرة اهل الحاجة والمسكنة. وقد اشار (ع) الى ذلك: «اضرب بطرفكَ حيث شِئت من الناسِ، فهل تُبصِر الا فقيرا يكابدُ فقراً، او غنياً بدّل نعمةَ الله كُفراً...»[11]. فكانت سياسة الميزانية الحكومية هي رفع مستوى الانسان في دار الاسلام الى المستوى الكريم الذي صمّمه الخالق عز وجل له. وقد ذكرنا في مورد سابق ان الفيء كان مصمّما ليصرف على المقاتلين وشؤون الجيش، وقد كان (ع) صريحاً في ذلك: «ان هذا المال ليس لي ولا لك. وانما هو فيءٌ للمسلمين، وجلبُ اسيافهم، فإن شركتهم في حربهم، كان لك مثل حظهم. والا فجناةُ ايديهم لا تكون لغير افواههم»[12]. اذن، فان سياسة الميزانية في حكومة الامام (ع) كانت موجهة نحو اقامة العدل واشباع الفقراء، ورفد الجيش بالمؤونة والمال اللازم لكفاية الجنود. وتلك سياسة مُثلى نحو تحقيق الانصاف والعدل في ارجاء المجتمع الاسلامي. ب _ اهداف الميزانية: وخلاصة القول، ان ميزانية حكومة الامام (ع) كانت لها أهدفٌ واضحةٌ في تحقيق العدل الحقوقي والاجتماعي بين الناس. فهنا جملة من النقاط، نذكرها بالترتيب: الاولى: ان الميزانية كانت موجهة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك بأخذ الحقوق واعادة توزيعها، عبر شبكة من الاجهزة الحكومية المحلية. فالدولة كانت وكالة لاستلام الحقوق وتوزيعها على الناس. الثانية: ان الحكومة قد توقعت حجماً تقريبا للواردات العامة من الضريبة: الصدقات والفيء. ولذلك، فقد كان برنامجها المالي مستقراً ولم تزعزعه مفاجئة اقتصادية او مالية اسمية. الثالثة: ان سياسة الامام (ع) كانت تصرح بان لا يبقى مالٌ في الخزينة (بيت المال)، الا ويوزع على الفقراء والمحتاجين. ولم يكن ذلك اسرافا او تبذيرا للمال، بل لان الفقر والجوع كان منتشراً في ارجاء الدولة. فكان على بيت المال ان يتصرف بهذا الاسلوب. وبتعبير آخر ان سياسة امير المؤمنين (ع) لم تعر للرصيد النقدي في الخزينة اهميةً تذكر. بل كانت سياسة الامام (ع) كنس بيت المال كل يوم جمعة والصلاة فيه ركعتين والقول: «ليشهد لي يوم القيامة»[13]. وهذا يعني ان الاولوية كانت موجهة لسد حاجات المعوزين والفقراء. وهذا هو سر قوة دولة الامام (ع). فما فائدة الرصيد النقدي القوي للدولة، اذا كان الناس يئنون من الجوع؟ الرابعة: ان ميزانية الدفاع والحرب كانت من الفيء. والفيء كان مورداً ضخماً يردُ بيت المال، لاستمرار الفتوحات الاسلامية للعالم القديم في تلك العقود. وكانت عُدّة الحرب وتكاليفها في بداية نشوء دولة الاسلام، تقع على المقاتل نفسه. ولكن يبدو _ ظاهرا _ ان كثرة موارد المسلمين جعلت تلك المسألة من مهمات بيت المال. الخامسة: ان قضايا التعليم والارشاد كانت مختصة بالمسجد، من خلال خطب الامام (ع) في صلاة الجمعة، وبقية الايام اذا تطلب الموقف ذلك. وربما كانت هناك حلقات لتدريس القرآن وسيرة النبي (ص). الا ان نطاق التعليم كان محدوداً بتلك الموارد، ولم يكلّف بيت المال شيئا. وكذلك الامر فيما يتعلق بالصحة والتطبيب. وبكلمة، فلم تكن هناك مستشفيات او مدارس تصرف عليها الحكومة، كما هو عليه الحال اليوم. اذن، فلم يكن من اهداف الميزانية الحكومية عند الامام (ع) ان تكون مليئة بالنقدين من الذهب والفضة، بل كانت اهدافها الرئيسية اشباع الفقراء واهل الحاجة والمسكنة واهل البؤسى والزمنى. ج _ مرونة الميزانية: والقاعدة في العمل السياسي، ان هناك طريقين لتمويل ميزانية الحكومة، وهما: الضريبة، او الاستدانة. والاستدانة من الناس امرٌ كرّهَهُ الاسلام حتى للتجار. فقال (ع): «اياكم والدّين، فإنه مذلّةٌ بالنهار ومَهمّة بالليل، وقضاءٌ في الدنيا وقضاء في الآخرة». فلا وجه للدين هنا. حيث ان ميزانية الحكومة لا تولد ارباحاً. بل هي حقوق للفقراء، ورواتب للموظفين العاملين عليها. فاذا استدانت الحكومة مالاً، فمن اين لها دفعه؟ والحكومة في الدولة الحديثة تستدين مالاً عبر البنوك وتسدده عن طريق الفائدة المشروطة المحرمة في الاسلام (الربا). أي انها شريك تجاري تتجر وتربح. ولكن حكومة الامام (ع) لم تكن كذلك. ولذلك كانت الضريبة، الحل الوحيد لتوازن الثروة الاجتماعية في المجتمع الانساني. فهي تؤخذ من الغني وتسلّم للفقير باصنافه المتعددة المذكورة، مع نسبة قليلة منها لتشغيل الماكنة الحكومية. وطبيعة الضريبة هنا: الغلات الاربع، والانعام الثلاثة، والنقدان تغطي كل حاجات الدولة والمجتمع البشري. لان الغلات (الحنطة والشعير والتمر والزبيب)، والانعام (الغنم والبقر والابل) مواد غذائية واكساء (جلود وصوف) . وهي موجهة لغرض الاطعام والاكساء، بينما المسكوكات توجه لمختلف الموارد الاخرى. فالضريبة في الاسلام ذات طبيعة موجهة لمعالجة الفقر والجوع والعري في المجتمع. ان ميزانية الدولة تهتم بايجاد مصادر مالية لرفد بيت المال بالسيولة النقدية والغلات والانعام، من اجل خدمة اهداف المجتمع والانسان. ولما كانت مصادر المال محدودة، فان الميزانية المرنة قد تخلق ظواهر لمعالجة المشاكل الطارئة فيما يتعلق بالفقراء. فاذا اصاب منطقة ما جدبٌ وجفافٌ، فان المال الفائض في الميزانية العامة من غلات وانعام ونقدين، يرفد تلك المنطقة المصابة بالجفاف. واذا كان الهدف هو تحقيق العدالة بين الناس جميعاً، فان وسائل الدولة ستتجه نحو مصادر الثروة من اجل انتزاع الحقوق وتسليمها لاصحابها. وقد قرأنا آنفا ان الامام (ع) كان يبعث الجباة الى اصحاب الاراضي الزراعية والبساتين واهل المواشي واهل الثروة من التجار وغيرهم من اجل تذكيرهم بدفع الضريبة الشرعية. وبالاجمال، فان الذي يساهم في تقوية عمل ميزانية الدولة وحركتها هو دور المشاركين فيها، وهم ثلاثة اصناف: الاول: الغني الذي يدفع الحق الشرعي. الثاني: الفقير الذي يستلم الحق. الثالث: الوكالة العاملة على جباية الحقوق وتوزيعها. واستقراءً للتأريخ نجد ان الاصناف الثلاثة كانت فعّالة في عصر الامام (ع). لان الاسلوب الاخلاقي للامام (ع) ونزاهته قد شجع اصحاب الحقوق على دفعها، وشجع ايضاً العمال (الموظفين) على جبايتها وتوزيعها بامانة، والفقراء على استثمارها في المطعم والملبس . رابعاً: الفقر والغنى: العدالة الحقوقية في عهد الامام (ع) يعدُّ الفقر من اهم المشاكل التي تواجه الدولة على الصعيد الحقوقي. وكلما وُجِدَ غنى في جهة من جهات المجتمع وُجدَ فقرٌ في الجهة الاخرى. ذلك لان النقد المسكوك محدود في الكمية. فكلما كُنِـزَ في طبقة، افتقرت الطبقات الاخرى له. وقد كان الامام (ع) واعياً لمعالجة مشكلة الفقر معالجة جذرية. وهو القائل (ع): «ان الله سبحانه فرض في اموال الاغنياء اقوات الفقراء. فما جاعَ فقيرٌ الا بما مُتّعَ به غنيٌّ. والله تعالى سائلهم عن ذلك»[14]. وسوف نناقش هنا: الفقر، والاملاق، ومقياس الفقر، والعدالة، وشروط تحقيقها: أ _ الفقر: قال الامام أمير المؤمنين (ع): «الفقرُ الموتُ الاكبرُ»[15]. فما معنى هذا الموت؟ تحمل كلمة «الفقر» معانٍ عديدةٍ، منها: اولاً: الحاجة، وهي الغالب في اصطلاح الفقر. ثانياً: الإملاق، وهو الفقر الشديد. وهي حالة بأمسّ الحاجة الى علاج فوري من بيت المال. وقد أشار الكتاب المجيد الى الإملاق بالقول: (ولا تَقتُلُوا أولادَكُم خَشيَةَ إملاقٍ نَحنُ نَرزُقُهُم وإيّاكُم إنَّ قَتلَهُم كانَ خِطأً كبيراً)[16]. ثالثاً: الفقر الاختياري ، وهو اختيار الانسان للعيش في حالة من الفقر بمحض ارادته مواساةً للفقراء. وكان ذلك من صفات الانبياء والاولياء (ع). وهو فقرٌ نابعٌ عن انفاق الانسان ما بحوزته على المعوزين، وعدم الاهتمام بماديات الحياة الدنيا. وقد ذكر الكتاب الكريم اصناف الفقراء، عبر وصفه لعناوين المستحقين، فقال: (إنَّما الصَدَقاتُ لِلفُقَراءِ والمَساكينِ والعامِلينَ عليها والمؤلَّفَةِ قُلُوبُهُم وفي الرقابِ والغارِمينَ وفي سَبيلِ اللهِ وابنِ السَبيلِ فَريضَةٌ مِنَ اللهِ واللهُ عَليمٌ حَكيمٌ)[17]، فالمستحقون هم: 1 _ الفقراء: وهم الذين لا يملكون مؤونة سنتهم اللائقة بحالهم وبعيالهم. 2 _ المساكين: أسوأ حالاً من الفقراء. وقيل ان المسكين من لا يملك قوت يومه. 3 _ العاملون على جباية الزكاة وحسابها وايصالها الى الامام (ع). 4 _ المؤلفة قلوبهم، وهم: أ _ المسلمون الذين يُعطون من الزكاة ليحسن اسلامهم ويثبتوا على دينهم. ب _ الكفار الذين يوجب اعطاؤهم الزكاة ميلهم الى الاسلام. 5 _ في الرقاب: العبيد المكاتبون العاجزون عن أداء الكتابة. وتدل (في) هنا على ان الزكاة لا تعطى لهم شخصياً، وانما تبذل بهدف تحريرهم، وفك رقابهم. 6 _ الغارمون: وهم الذين ركبتهم الديون وعجزوا عن أدائها. 7 _ سبيل الله تعالى: وهي جميع طرق الخير التي يراها بيت المال من بناء المدارس والمستشفيات والمساجد والطرق، واصلاح ذات البين ورفع الفساد. وتلك عناوين واسعة في عالم اليوم. 8 _ ابن السبيل: وهو الذي نفدت نفقته بحيث لا يقدر على الذهاب الى بلده، فيُدفع له ما يكفيه لذلك. والنتيجة، ان الاصناف الثمانية المذكورة في آية الصدقات هم المخصوصون باستلام العطايا من بيت المال. وتلك الاصناف تمثل شريحة واسعة من شرائح المجتمع. ولكن تصنيفها على أرض الواقع يحتاج الى جهد وتحري ودقة في التسجيل[18]. 1 _ مراتب الفقر: ذكرنا ان للفقر مراتب وصفات نعرضها فيما يلي: أولا:ً الفقر الإجتماعي: وهو يعبر بصراحة عن عدم المساواة الاقتصادية في الدخل، والملكية، والمستوى المعاشي. وفي اغلب المجتمعات يلازم الفقر صفات اخرى مثل: الضعة، والتعبية أو العبودية، والاستغلال. عدا المجتمع الاسلامي، حيث جعل الاسلامُ الفقرَ مرتبطاً بالانبياء والاولياء (ع) والصالحين، ومرتبطاً بالكرامة، والتعفف عن الدنيا ومتعها. وقد كان الامام (ع) في عهده نموذجاً في ذلك. ويُفهم الفقر، دائماً، على انه نقصٌ في ثروة الفرد في مجتمع من المجتمعات، اختياراً أو قهراً. فالفقر، اذن، صفة نسبية تعتمد على متوسط دخل الفرد في مجتمعه بالذات. وبذلك فان الفقير في مجتمع (س) قد يكون غنياً في مجتمع (ص). والفقير في مجتمع (أ) قد يعيش حالة املاق في مجتمع (ب)، وهكذا. ثانياً: الإملاق: وهو الذي عُبّر عنه _ حسب التفاسير _ بالمسكين الذي يملك قوت يومه. والإملاق هو: الفقر الشديد. والفرد الذي ينـزل الى هذا المستوى يحتاج الى مساعدة قطعاً. بل ان تلك الظاهرة الاجتماعية المؤلمة بحاجة الى علاج فوري من قبل نظام الحكم (الدولة). وقد صورت الآية الكريمة: (ولا تَقتُلُوا أولادَكُم خَشيَةَ إملاقٍ نَحنُ نَرزُقُهُم وإيّاكُم...)[19]، ظاهرة اجتماعية كانت سائدة في الجاهلية، وهي قتل الولد مخافة الفقر الشديد والجوع. فنهى عنها الاسلام. وكان على الاسلام أن يقدم علاجاً لمعالجة ذلك اللون من الفقر، فكان التعهد الالهي بالرزق. وبضميمة نظام الحكم العادل في الاسلام، نفهم مغزى ذلك التعهد. وعلى أي حال، فان أكثر من ينطبق عليهم لفظ الإملاق هم من الارامل والايتام الذين لا معيل لهم، والعجزة من كبار السن، وبقية الناس يوم المسغبة، أي وقت المجاعة والجفاف. قال الامام علي (ع) يصف حالهم: «... من ذوي العيالِ والمجاعةِ، مُصيباً به مواضعَ الفاقةِ والخلاّتِ...»[20]. ثالثاً: العالة: وهو الذي يعيش عالةً على الآخرين، وهو غنيٌّ عنهم. فهو اشبه بالبخيل. وهذا فقر غير مقبول اخلاقياً. وهو بطبيعته محدود. ولا نناقشه هنا. واستقراءً للوضع الاجتماعي في عصر الامام (ع) يبدو ان الاملاق كان ظاهرة منتشرة بحاجة الى علاج اجتماعي ينبغي أن يقوم به بيت المال. فكان (ع) يقول: «...ولكن هيهاتَ أن يَغلبَني هَوايَ، ويَقُودَني جشعي الى تخيُّر الاطعمة _ ولعلّ بالحجازِ أو اليمامَةِ مَن لا طَمَعَ لهُ في القُرصِ ولا عَهدَ لهُ بالشبعِ. أو أبيتَ مِبطاناً وحولي بُطونٌ غرثى وأكبادٌ حرى...»[21]، «أضرب بطرفِكَ حيثُ شئتَ منَ الناسِ، فهل تُبصرُ إلاّ فقيراً يُكابِدُ فَقراً، أو غنيّاً بدّل نعمَة اللهِ كُفراً»[22]، «وإنَ لَكَ في هذهِ الصدقةِ نصيباً مفروضاً، وحقّاً معلوماً، وشُركاءََ أهلَ مسكَنَةٍ، وضعفاءَ ذوي فاقةٍ»[23]. ويُقصد _ ظاهراً _ بالفقر في تلك النصوص، هو تلك الظاهرة التي كانت بحاجة الى علاج فوري من قبل بيت المال. فهي أقرب الى الاملاق منه الى الفقر العادي الذي هو نقص عام في الثروة. ولكن هذا لا يعني أنّ الامام (ع) ترك الفقر العادي يضرب صلب المجتمع. بل حارب الامام امير المؤمنين (ع) مطلق الفقر في الدولة الاسلامية. وقد تحدثنا سابقاً حول سياسة دولة الامام (ع)، التي كانت تسعى لمحو الفقر بكافة أشكاله. والتوصّل الى حالة اجتماعية وسطية بين الغنى والفقر. وهكذا كان الامام (ع) رائد العدالة الاجتماعية في المجتمع الاسلامي. 2 _ معالجة حالة الإملاق: اشرنا فيما سبق الى أن حالة الاملاق والمسكنة كانت بحاجة الى علاج فوري، ووقاية على المدى البعيد. وكان الحل ينبغي أن يتمّ على ثلاث مراتب: الاولى: توزيع المال _ النقدي والعيني _ الذي يتجمع في بيت المال على المساكين والفقراء، وبقية الاصناف التي ذكرتها آيتا الصدقات والخمس. ولذلك كان الامام (ع) يكنس بيت المال كلّ يوم جمعة ويصلّي فيه. وليس لدينا شواهد تأريخية على طبيعة التوزيع، ولكن المؤكّد أنّه كان يتم عبر سجلات تثبت فيه اسماء تلك الاصناف من أهل الحاجة. الثانية: مراقبة السوق التجاري وضمان أنه ليس هناك غشّ ولا احتكار ولا رفع للاسعار. بل أن سياسة الامام (ع) كانت تسعى لثبيت الاسعار، حتى تصل الامدادات الغذائية الى الناس بسعر معقول لا يجحف أي طرفٍ من الاطراف. الثالثة: حثّ المؤمنين على الانفاق في سبيل الله: (فلا اقتَحَمَ العَقَبَة . وما أدراكَ ما العَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أو إطعامٌ في يَومٍ ذي مَسغَبَةٍ . يَتيماً ذا مَقرَبَةٍ . أو مِسكيناً ذا مَترَبَةٍ)[24]. ومع أن الفقير ليست له قيمة سياسية في الدولة الحديثة لانّ الفقر متلازمٌ مع انخفاض المستوى التعليمي والوعي السياسي. الا أن الفقير في سياسة الامام (ع) كانت له قيمة دينية واجتماعية، لانه مظلوم. ولابدّ للامام (ع) أن يسترجع حقّه من الظالم. فكانت للفقير نفس الحقوق والفرص الاجتماعية المتوفرة للغني. بل أن الفقر، كان للاولياء والعلماء والصالحين صفة اخلاقية ترفع من شأنهم. 3 _ مقياس الفقر: يمكن قياس الفقر _ على الصعيدين العرقي والشرعي _ بالمقاييس التالية: 1 _ عدم القابلية على ضمان دخل شخصي يعيل العائلة. وعلّتها امّا قصور أو عجز جسدي أو عقلي يمنع المعيل عن العمل، واما عدم وجود عمل أصلاً (البطالة). 2 _ ارتفاع مستوى الاسعار الى درجة أنّ الدخل الوارد لا ينهض بالمعيل الى مستوى شراء الطعام الاساسي لعائلته. 3 _ المؤونة السنوية هي مقياس شرعي للفقر. فالذي يمتلك مؤونة سنته ويفيض عليها فهو غنيٌ عليه اخراج الحق الشرعي في الفائض. والذي لا يمتلك مؤونة سنته يعدّ فقيراً. وهذا يعي أنّ الاسلام ضمن معيشة الناس لمدة سنة كاملة. وكلما تجدد موعد اخراج ضريبة الفائض، تجدد الضمان السنوي. ب _ العدالة: وتحقيق العدل بين الناس سلوكٌ أخلاقي، يقبله المجتمع الانساني في كل زمان ومكان. والعدالة في المال تعني المساواة في العطاء، ولكن المساواة في امور اخرى _ غير المال _ قد لا تعني العدالة، كما ناقشناه في فصل سابق. وكانت نظرية الامام (ع) في المال تقول: «...لو كان المالُ لي لسويتُ بينهم، فكيفَ وإنَّما المالُ مالُ الله»[25]. شروط تحقيق العدالة: هناك مجموعة شروط لتحقيق العدالة الحقوقية بين الناس، نرتبها في النقاط التالية: 1 _ ان تحقيق العدالة ملازم للتقوى ومشروط بالاخلاص لله سبحانه، وقد قال تعالى: (... اعدِلُوا هُوَ أقرَبُ للتقوى...)[26]. وتحقيق العدالة الحقوقية في المجتمع فيما يتعلق بالاطعام والاكساء، لا يقوم به الا حاكم عادل متقي مخلص لله سبحانه. 2 _ ان تحقيق العدالة لا يتمّ الا عن طريق وجود نظام اخلاقي اجتماعي وسياسي ينفذه الحاكم. 3 _ ان العدالة تفرض على المؤمنين القيام بعمل ما لمساعدة الفقراء تبرّعاً وهو ما يعبّر عنه بالانفاق المستحب، وقهراً وهو ما يسمّى بالانفاق الواجب. 4 _ ان تحقيق العدالة الحقوقية بين الناس لا يعني معاداة الاغنياء، بل أن العدالة تستدعي حياداً وانصافاً بين المؤمنين من الاغنياء والفقراء. خصوصاً اذا كان الغنى قد نتج عن عمل مشروع أو مقدرة خارقة على التحصيل. أما اذا كان هناك ظلمٌ ارتكبه انسان ما واغتصب مالاً، فان الغصب يخرج مسألة الحياد عن موضوعها. 5 _ ان تحقيق العدالة الحقوقية يستدعي معاداة الظالمين والانتصار للمظلومين. وهذا يعني _ بالنسبة للحاكم العادل _ الدخول في معركة اجتماعية وسياسية ضد الظالم الذي اغتصب حقّ المظلوم. وتلك الشروط جميعاً كانت قائمة خلال خلافة امير المؤمنين (ع). فقد كان الامام (ع) قائداً عادلاً مخلصاً لله سبحانه، معلناً عن نظامه الحقوقي في رسائله الى ولاته وخطبه في مسجد الكوفة، حاثّاً المؤمنين على اخراج حق الله من اموالهم، معاملاً الاغنياء والفقراء بالصورة الكريمة التي أمره الاسلام بها. ولكنه دخل المعركة الاجتماعية ضدّ الظالمين الذين اغتصبوا حقوق العباد وجعلوها دولاً بينهم. وهذا يقودنا الى الاستنتاج الى أن تحقيق العدالة يحتاج الى طريقة سليمة تنمّي حكم القانون والشريعة يبن الناس. فاذا سيطر حكم الشريعة على الوضع الاجتماعي تحققت العدالة، واذا سيطر الظالم على مقدرات الامة تحقق الظلم. ولذلك لم يحقق حكم بني امية العدالة الحقوقية بين الناس، لان الحاكم الاموي كان يستأثر بامتيازات السلطة دون أدنى احترام للقانون او للشريعة. بينما حقق حكم الامام امير المؤمنين (ع) عدالة حقوقية بين الناس، لان حكمه كان حكم القانون والشريعة، وكان دولته الواسعة دولة القانون التي لم تظلم أحداً. وبالاجمال، فان الامام امير المؤمنين (ع) حقق العدالة الحقوقية والاجتماعية بين الناس خلال خلافته عن طريقين: الاول: جعل الحكومة حكومة قانون وشريعة. والثاني: عالج مشكلة الفقر بالاطعام والاكساء والايواء، عبر توزيع «عادل» للثروة الاجتماعية. (تليها ص 805 - 828)
اللاحق السابق صفحة التحميل الصفحة الرئيسية [1] «الاختصاص» - الشيخ المفيد ص5. [2] «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص563. [3] سورة التوبة : آية 60. [4] سورة الانفال : آية 41. [5] «نهج البلاغة» - رسالة 53 ص560. [6] «نهج البلاغة» - المختار من كتبه (ع) رقم 26 ص484. [7] «الغنية» - ابن زهرة ص46. [8] «المحاسن» - البرقي ص319. [9] «الكافي» - الكليني. ج1 ص152. [10] م. ن. – ج1 ص151. [11] «نهج البلاغة» - خطبپ 129 ص230. [12] م. ن. – خطبة 231 ص448. [13] «شرح نهج البلاغة» ج2 ص199. [14] «نهج البلاغة» - المختار من حكمه (ع) رقم 319 ص672. [15] «نهج البلاغة» - القصار من حكمه (ع) رقم 153 ص638. [16] سورة الاسراء: آية 31. [17] سورة التوبة: آية 60. [18] «العدالة الاجتماعية في الاسلام» - المؤلف ص 154. [19] سورة الاسراء: آية 31. [20] «نهج البلاغة» - المختار من كتبه (ع) رقم 67 ص 589. [21] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 45 ص 532. [22] م. ن. – خطبة 129 ص 230. [23] م. ن.- المختار من كتبه (ع) رقم 26 ص 484. [24] سورة البلد: آية 11 – 16. [25] «نهج البلاغة» - خطبة 126 ص 225. [26] سورة المائدة: آية 8. |