(ص 691- 712)الباب الخامس الخلافة والدولة
الفصل الخامس والعشرين: النظام السياسي (693 _ 734). الفصل السادس والعشرين: النظام الاداري (735 _ 762). الفصل السابع والعشرين: النظام الحقوقي (المالي) (763 _ 804). الفصل الثامن والعشرين: النظام وحاكمية الشريعة (805 _ 854). الفصل التاسع والعشرين: النظام القضائي (855 _ 886). الفصل الثلاثون: النظام الجنائي (887 _ 914). --------------- الفصل الخامس والعشرين الخلافة مباني دولة الامام (ع) (1) النظام السياسي1 _ ضرورة الحكومة: أ _ فكرة «الإمرة» على الناس * طبيعة الامرة الشرعية * مميزات الامرة البَّرة. ب _ فكرة الحكومة * مواصفات حكومة الامام (ع) * 2 _ اقامة العدل: اهم اهداف الحكومة. أ _ العدالة الاجتماعية * فلسفة العدالة الاجتماعية. ب _ العدل: وضع الامور مواضعها. شروط العدل. خصائص العدل. آثار العدل. الاستنتاج. 3 _ العلاقة بين الحاكم والمحكوم. أ _ الحاكمية: العلاقة بين الراعي والرعية. ب _ الحاكمية: التواصل بين الحاكم والمحكوم. 4 _ صفات الحاكم. أ _ الحاكمية الشرعية والقدرة. ب _ الولاة. ج _ اصالة العلية بين اهل الصلاح والعدالة.
--------------------- عندما تولى الامام (ع) مهمة الولاية الشرعية على الامة بعد مقتل عثمان، فان اول عمل قام به هو تعيين الحكومة التي تحكم الناس بالحق والعدل. فقد عزل الولاة الذين ولاّهم الخليفة الثالث، وعيّن عمّالاً يُشمُّ منهم عبير التقوى والتجرد عن الذات والاخلاص لله سبحانه. ثم قام ببناء دولة دينية قوامها عشرة انظمة هي: 1 _ النظام السياسي (نظام الحكم). 2 _ النظام الاداري. 3 _ النظام الحقوقي. 4 _ القانون وحاكمية الشريعة. 5 _ النظام القضائي. 6 _ النظام الجنائي. 7 _ النظام العسكري. 8 _ النظام الثقافي. 9 _ النظام التجاري والاقتصادي. 10 _ بيت المال. وسوف نبحث باذنه تعالى كل نظام من تلك الانظمة على حدة، ثم نستخرج النظرية الخاصة بكل نظام.النظام السياسي يقوم النظام السياسي في الاسلام على قاعدة وجود حكومة يرأسها حاكم ديني عادل، هدفها اقامة العدل بين الناس. وفي هذا الاطار نناقش طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وصفات الحاكم وصفات الولاة الذين يعينهم. 1 _ ضرورة الحكومة قال (ع) رداً على قول الخوارج «لا حكم الا لله»: «كلمةُ حقّ يراد بها باطل. نعم. انه لا حكم الا لله، ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة. فانه لابد للناس من امير برّ او فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويُبلِّغُ اللهُ فيها الاجلَ، ويُجمع به الفيء، ويُقَاتَلُ به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي. حتى يستريح برّ، ويستراح من فاجر. (وفي رواية اخرى انه قال): «أما الإمرة البرّة فيعمل فيها التقيّ، وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقيّ الى ان تنقطع مدته، وتُدركه مُنيته»[1]. ويُدرك من كلامه (ع) ان هناك ضرورة حتمية على وجود الحاكم الذي يحكم الناس. وفي ضوء ذلك، فاننا سنناقش فكرة «الإمرة» على الناس وطبيعتها الشرعية، وفكرة «الحكومة» وطبيعتها العلمية. أ _ فكرة «الإمرة» على الناس: تتركّب فكرة «الإمرة» غالباً من اركان ثلاثة مترابطة وهي: السلطة، والتأثير، والقيادة الدينية او السياسية. وربما تُفسّر ضمن تفاسير مختلفة، الا اننا نعرض اهم التفاسير ذات المبنى العقلائي، وهي: أ _ انها حق من قبل انسان كالامام المعصوم (ع) لاصدار الاوامر الشرعية فيما يتعلق بادارة امور الناس وتنظيم شؤونهم. ب _ انها علاقة قانونية بين جهتين: الحاكم والمحكوم. فالحاكم له اليد العليا في التصرف، والمحكوم يخضع لارشادات الحاكم وتصرفاته. ج _ انها نوع من الايصال بين جهة حاكمة واخرى محكومة، ولكن لا عن طريق السيطرة السياسية والاجتماعية، بل عن طريق السيطرة الروحية. وتلك التفسيرات كلها تصبّ في مصلحة «الإمرة التقية» الصالحة. ولكن فكرة «الإمرة»، شرعية كانت او غير شرعية، تقية كانت او فاجرة، تعدّ من الافكار القديمة قدم نشوء الانسان . وقصة ابني آدم (عليه السلام) في القرآن الكريم تعرض جانباً من جوانب الصراع بين البشر: (... فطوّعَت لَهُ نفسُهُ قَتلَ أخيهِ فَقَتَلهُ فأصبَحَ من الخاسِرينَ...)[2]. وتبيّن ان الحسد ربما يبلغ بابن آدم مبلغاً بحيث يقتل اخاه ظلماً، فيخسر عندها آخرته. ولكن الحسد مقدمة للتسلط، ذلك لان تمني زوال نعمة الغير يعني تمنّي تفوّق الحاسد على النعم الممنوحة لغيره من المحسودين. وهذا بحدّ ذاته طموح لتسلط الانسان على الآخرين. فحبّ التسلط عند المرء موجود قبل وجود الحكومة بمعناها الحديث، وقبل وجود الدولة. فالتسلط نزعة نفسية ثابتة عند الانسان. ومصاديق التسلط في المجتمع كثيرة الى حد ان اهل الفكر يرون ان السلطة والإمرة جزء من الحياة الاجتماعية للانسان. فقد تتمثل السلطة الذاتية التي يمارسها الانسان مع الآخرين في الاسرة بـ «سلطة الأبوين»، وفي الجمعيات والاحزاب بـ «سلطة القيادة»، وفي المدارس بـ «سلطة الادارة»، وفي الجيش بـ «السلطة العسكرية»، وفي ادارة الدولة بـ «السلطة الادارية»، وهكذا. ولذلك فان الامام (ع) اشار الى الامرة بكونها سلطة بمعناها العام. ولكنه اراد هنا سلطة الحاكم _ بقيد ردّه على الخوارج _ وهي السلطة الاجتماعية والسياسية بكل ما تحمله من معانٍ. ومن الطبيعي، فان الذي يؤمن بفكرة دينية سماوية لا يستطيع ان يرتبط بدولة فيها إمرة فاجرة، ذلك لان الالزام الديني الذي يدعوه لطاعة القانون ينتفي بوجود الظلم. والدين يُنشيء عند المؤمن به الزاماً، لإطاعة القانون العادل الذي جاء به ذلك الدين. طبيعة الامرة الشرعية: حدد امير المؤمنين (ع) طبيعة الامرة الشرعية عبر تحديده الافكار التالية: أ _ فكرة «الامرة التقية»: وجوهرها هو ان الامرة البرّة، هي التي يعمل فيها التقيّ. حتى يستقيم العدل في البلاد، وتظهر المودّة بين الرعية والحاكم وينتصف للمظلوم فيها من الظالم. ب _ طبيعة سيادة الدولة: فكان يوصي (ع) عماله على الولايات بجباية خراجها (الضريبة)، وجهاد عدوها (الجيش)، واستصلاح اهلها (الشؤون الاجتماعية والثقافية)، وعمارة بلادها (الشؤون العمرانية والصناعية والزراعية). وتلك الوجوه تبين اركان الدولة واعمدتها، حيث تثمر الامرة الشرعية في تنظيمها وتوجيه اهدافها. ج _ الميزان بين الحرية والإمرة: والامرة في نظر الامام (ع) عملية ذات طرفين: «الاستشارة» من طرف، و«اصدار الاوامر» من طرف آخر. فمن «شاور الرجال شاركها في عقولها»[3]. ويمثله بشكل اوضح وأجلى بياناً قوله (ع) لعبد الله بن العباس: «لك ان تشير عليَّ وأرى، فان عصيتُكَ فأطعني»[4]. وهذا يعني ان «الامرة الشرعية» ليست امرة آمر فحسب، بل هي امرة مؤسسة استشارية. وكلما ازدادت مساحة الاستشارة، كلما ثبتت اركان الدولة ورسخ النظام. د _ متطلبات الالتزام الشرعي بالامرة: فكرة السلطة الشرعية او الإمرة هي امانة دينية في عنق الآمر، من اجل احقاق الحقوق. وليست أثرة يستأثر بها. ولذلك يكتب (ع) الى احد عماله قائلاً: «وان عملكَ ليسَ لَك بطُعمةٍ ولكنّه في عُنقِكَ امانةٌ، وانت مسترعىً لمَن فَوقَك، ليس لكَ ان تفتاتَ (أي تستبدّ) في رعية، ولا تُخاطِرَ إلا بوثيقةٍ»[5]. وبالاجمال، فان الامام (ع) حاول ان يضع الحدود التي تفصل بين «الإمرة» الشرعية بما فيها من اوامر دينية ووجوب طاعة، وبين «السلطة» التي يتمتع بها الآمر او الحاكم. فاذا لم يتصف الآمر بدرجة عالية من التقوى والخوف من الله، فان نفسه الأمّارة تحدثه بالإستئثار بالسلطة والتمتع بامتيازاتها الهائلة التي تجعله يطاع دون الناس. وهنا لابد من التمييز بين انواعٍ ثلاثةٍ من السلطة، وهي: 1 _ السلطة الشرعية، مثل سلطة المعصوم (ع) من نبي او وصي نبي او من يخلفه. 2 _ السلطة الدنيوية التقليدية، التي تنتقل من الملك الى ابنه مثلاً، او التي تنتقل عن طريق الانتخابات، او السلطة التي تنتقل من ظالمٍ لآخر. 3 _ سلطة الزعيم الملهم، وهي سلطة قد تكون شرعية وقد لا تكون، الا ان مفادها ان هناك شخصاً يتمتع بكل صفات القيادة الاجتماعية تتوفر له الظروف والفرص لقيادة الامة. ولا شك ان تماسك شروط السلطة الاولى «أي سلطة المصوم»، ومتانة اهدافها، واندكاكها بالسماء، تجعلها اقوى من السلطتين الثانية والثالثة. أي ان الالزام الذاتي بين الانسان المكلّف وسلطته الشرعية تجاه اداء الواجبات _ في السلطة الاولى _ يكون اقوى من أي الزام في سلطة اخرى. لان السلطة الشرعية مكلّفة بتطبيق العدل ؛ والطاعة ملزمة من قبل المكلّف بسبب التكليف الديني. وهنا يكون الالزام من قبل الامة تجاه سلطتها الشرعية او ما عُبّر عنه بـ «الإمرة البرّة» محكماً، بينما يحتمل ان تكون السلطة الوراثية وسلطة الزعيم الملهم سلطة فاجرة. وعندها يتهدم مبنى الالزام الذاتي من قبل الامة ، تجاه تلك السلطة. مميزات الإمرة البَّرة: كانت سلطة الامام (ع) ايام خلافته تمثل «الامرة البرّة» بكل معانيها. وتوضيحاً لذلك، فاننا نعرض هنا الميزات المستخلصة من تلك الامرة الشرعية: 1 _ ان الاوامر الشرعية التي يقوم المكلف باطاعتها وتنفيذها _ فيما يتعلق بالادارة الاجتماعية _ ليست اوامر اكراه واستبداد، بل هي اوامر يطيعها المكلف بايمان واخلاص. لان تلك الطاعة نابعة عن معتقد قلبي وعقلي للرسالة الدينية السماوية. وبتعبير آخر ان الفيصل بين السلطة الدينية التي يمثلها الامام (ع)، وبين الاكراه والاستبداد والتسلط الذي كان يمثله الحاكم الظالم هو: «الشرعية». أي ان الدين يجعل للمعصوم (ع) حقاً شرعياً لادارة الناس، ويفرض _ في الوقت نفسه _ تكليفاً على المكلّفين بالطاعة. بينما ينكر على الظالم ذلك الحق. فالخليفة الشرعي (ع) يشعر بحقه في ارشاد الناس، ويحسّ بعمق مسؤوليته في تطبيق حكم الله على الجماعة. بينما يشعر المكلّف المأمور، بمسؤوليته الشرعية في الطاعة والالزام. وفي تلك الحالة نتوقع طاعة كاملة، من قبل المؤمن لشخصية المعصوم (ع) وبدور الدين في الحياة الاجتماعية. 2 _ ان السلطة الشرعية للامام امير المؤمنين (ع) كانت قد مُورست مع قدرٍ شديد من الوضوح في محاسبة الولاة والعمال على الامصار الاخرى، وهو ما يقابل في عرف اليوم: الوزراء، وحكام الولايات والمحافظات والمدن ومسؤولي الجيش والضريبة . فالامرة الشرعية في عهد الامام (ع) كانت امرة ذات طبيعة منظمة، هي اقرب الى طبيعة المؤسسات منه الى طبيعة الافراد. فقد كانت الواجبات والالزامات الحكومية محددة بدقّة، كما سنقرأ ذلك لاحقاً باذنه تعالى. بل كان يمكن التنبؤ بسلوك الوكلاء والموظفين والولاة الى حد ما، عدا استثناءات محدودة. وكان ذلك الوضوح في الرؤيا الحكومية، مدعاةً لاستتباب الامن الاجتماعي وبناء الاستقرار النفسي للامة. 3 _ ان السلطة الشرعية التي عبّر عنها الامام (ع) بالامرة البرّة، هي سلطة شاملة لجميع السلطات الاجرائية في الحقوق والواجبات، ونظام العقوبات، ونظام الخراج، ونظام الجيش والامن العام ونحوها. فالذي يسرق لابد ان يعاقبه الامام (ع)، كما عوقبت مجموعة من السرّاق كانت الروايات قد ذكرتهم. والذي يخرج على امام زمانه محارِباً، لابد ان يُحارَب كما حارب (ع) اهل الجمل ومعاوية والخوارج . والمال الذي يتجمع في بيت مال المسلمين، كان لابد ان يوزّع على الفقراء بالطريقة المعهودة في تحقيق العدالة. فالامرة البرّة اذن لا تعني مجرد اصدار الاوامر فيما يتعلق بتوزيع الثروة وتحقيق العدالة فحسب، بل تعني ايضاً معاقبة الجناة والمنحرفين. وبذلك تشمل الامرة البرّة السلطات الثلاث: التنفيذية والقضائية والبرلمانية (التوكيلية). ولعل الامام (ع) هو اول من خصص السلطة في التأريخ، بتلك الحصص الثلاث. 4 _ ان الامرة البرّة تمثل فكرة الحكومة في الاسلام. والحكومة هنا تمثل آلية فعالة لتوزيع الحقوق، وفرض الواجبات، وتحقيق مطلق العدل بين افراد المجتمع. وزبدة الكلام، ان للحكومة الدينية مقتضيات ندرجها في النقاط الفرعية التالية: أ _ ان للامرة البرّة تأثيراً عظيماً على الوضع الاجتماعي والسياسي للمجتمع الانساني. فلولا عمل الاتقياء في المجتمع لعاث الفجّار والاشقياء فساداً في المجتمع. ولذلك فان تركيبة المجتمع الديني لا تسمح لغير الاتقياء بممارسة الحكومة وتطبيق احكام الشريعة. فالاتقياء في الحكومة، وفي عزِّ انشغالهم بالادارة الاجتماعية، يعيشون مع الامة آلامها ومحنها وزهدها وتقواها. ب _ ان عدالة الامرة البرّة لابد ان تخلق في الجيل الشاب اليافع شخصيات اسلامية مبنية على اساس الولاء للاسلام، والتفاني والاندكاك في مبادئه. وذلك يضمن استمرار المسيرة الاسلامية في ادارة الحياة الاجتماعية. وقد لمسنا ان الفكرة الاسلامية في الادراة التي قادها رسول الله (ص) ثم الامام (ع) بعد خمس وعشرين سنة من وفاته (ص) بقيت جذوة مشتعلة في النفوس، بالرغم من المحن التي تعرضت لها. ج _ ان الامرة البرّة التي تحدث عنها الامام (ع) هي امرةٌ اخلاقية فاضلة. ومعنى ذلك ان السلطة في الاسلام تعدّ فضيلة من الفضائل السامية، إن اُحسنت ادارتها، وقام الاتقياء بتحقيق اهدافها. ذلك ان اشباع الفقير، وتحقيق العدل بين الناس، وتثيبت الامن، وتعبيد العباد لخالقهم، من الفضائل الاخلاقية العظمى. د _ ان طبيعة الانسان _ في كل مكان وزمان _ تتناغم مع الامرة التقية. فمع اختلاف افكار الناس وثقافاتهم على مرّ الزمن، الا ان الخصال الفاضلة التي يتمتع بها قائدهم تبقى هي الاقرب لنفوسهم. ولذلك تستجيب النفس الانسانية _عموماً _ للقادة العظام، حتى لو اختلف منهجهم في الحياة. والبشرية تفهم الفكر الفلسفي من أي منشأ صدر، لانه فكرٌ يطابق المبنى العقلائي للناس. ولذلك نشعر بضخامة ماكنة الاقتباس التي استخدمتها الشعوب بين بعضها البعض. وتحبُّ البشرية ايضاً في القائد ان يكون ترابيّاً زاهداً مضحياً يرشد الناس الى الفضائل الاخلاقية. وبتعبير اجلى ان الانسانية _ بطبيعتها الفطرية _ تميل الى الامرة التقية وترفض الامرة الفاجرة. ب _ فكرة الحكومة: يتّفق اهل الرأي بأن معنى الحكومة هو: تضافر مجموعة من الافراد _ وعلى رأسهم قائد _ للقيام بمسؤولية الادارة الاجتماعية وممارسة السلطة. ففكرة الحكومة لها مفاتيح ثلاثة، هي: المسؤولية، والنظام الهرمي والادارة . نستلهم ذلك من اقوال الامام (ع). ففي المسؤولية، قال (ع) موجّهاً كلامه لاحد ولاته: «وان عملك ليس لك بطُمعة، ولكنّه في عُنقك امانةٌ...»[6]. وفي النظام الهرمي، قال (ع): «...انك فوقهم (يقصد الرعية)، ووالي الامر عليكَ فوقك، واللهُ فوقَ من ولاّك...»[7]. وفي الادارة، قال (ع): «... فانه لابد للناس من اميرٍ برٍّ اوفاجرٍ...»[8]. وهنا لابد للحكومة من اربع خصائص، هي: الاولى: شرعية يمنحها الدين. ودليل تلك الشرعية، كتاب الله سبحانه، فيقول: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسُولَ وأُولي الأمرِ مِنكُم...)[9]. ومفهوم قوله (ع) يعدّ تفسيراً للآية الكريمة الآنفة الذكر: «اما والذي فلق الحبّةَ وبرأ النسمةَ، لولا حضورُ الحاضِر، وقيامُ الحجّةِ بوجودِ الناصرِ، وما أخذَ اللهُ على العُلماءِ، ألاّ يُقارُّوا على كظّةِ ظالمٍ ولا سَغبِ مظلومٍ، لألقيتُ حبلها على غاربِها...»[10]. وتنبع اهمية «الشرعية» في السلطة ان العمل الاجتماعي ينبغي ان يطابق الواقع الشرعي، وعندها يكون مبرأ للذمة امام الله تعالى. الثانية: صناعة قرار على صعيد المصداق. ويمثله صريح قوله (ع): «أما الإمرةُ البرَةُ فَيعملُ فيها التقيُّ، وأمّا الإمرةُ الفاجرةُ فيتمتّعُ فيها الشقيُّ الى أن تنقطعَ مُدّته، وتُدركه منيتُهُ»[11]. بمعنى ان الحكومة لا تثمر، ما لم تترجم النظريات التي يحملها الحاكم الى قوانين عملية صالحة. واذا كان القرار شرعيا وحاسماً، استتب العدل والامن في البلاد. فالمقياس في صناعة القرار هو ان يكون للدولة: شرعية معترف بها، وقوة حسم. بحيث ان الحاكم لديه الكفاءة اللازمة، ولا يخشى احداً الا الله. وبهذين العنصرين: الشرعية والحسم، استطاع الامام (ع) بناء دولة دينية مثالية ساهمت في تثيبت العدل بين الناس. الثالثة: الكفاءة. أي قابلية الحكومة على سد حاجات الامة من الضروريات. وتلك وظيفة اساسية، ولولاها لما كان لوجود الحكومة من معنى. وقد قامت حكومة الامام (ع) بتحقيق العدالة الاجتماعية والحقوقية بين الناس. فقد كانت حكومة كفوءة قادرة على العناية بالفقراء والاغنياء على حد سواء، وقادرة على تثبيت اسس النظام في المجتمع الاسلامي. الرابعة: التركيبة الجماعية للحكومة. ونعني بذلك ان تكون الحكومة ذات طبيعة تضافرية، يتضافر الجميع على تسديدها والعمل فيها. فاذا كان على رأس الحكومة امام عادل كأمير المؤمنين علي (ع)، كان ولاته وعماله في الولايات والامصار اقرب الى العدالة والكمال. ونظرة فاحصة الى تركيبة حكومة امير المؤمنين (ع) تظهر لنا انها كانت حكومة «جماعة» مؤلفة من: 1 _ الامام (ع) وهو منصوب بالنص من قبل النبي (ص) في غديرخم. 2 _ اداريين مُعينين من قبل الامام (ع) لادارة الولايات. 3 _ قادة عسكريين مُعينين من قبل الامام (ع) لادارة الجيش. 4 _ القاضي يُعيّنه الامام (ع). 5 _ موظفين لجبي الزكاة وبقية الضرائب يعينهم الامام (ع) او الوالي. 6 _ بقية موظفي الدولة (العمال) يعينهم الامام (ع) او الوالي. 7 _ مستشارين يعينهم الامام (ع). فالحكومة هنا هي حكومة جماعية، لكنها ترجع في النهاية الى شخص الامام (ع) وقراره. فهو الذي يقرر، وهو الذي يأمر فيُطاع. فتكون حكومة اذن، حكومة استشارة وقرار، يمثله قوله (ع) عن نفسه: «فلا تكفُّوا عن مقالةٍ بحقٍّ أو مشورةٍ بعدلٍ. فانّي لستُ بنفسي بفوق أن أُخطيء، ولا آمنُ ذلكَ من فعلي، إلاّ أن يكفيَ اللهُ من نفسي ما هو أملَكُ بهِ منّي...»[12]. والمقصود بالخطأ في الموضوع، لا في الحكم. وقد كفاه الله سبحانه من نفسه الخطأ في كل ذلك. مواصفات حكومة الامام (ع): تميزت حكومة الامام امير المؤمنين (ع) بخصائص فريدة شهد لها التأريخ ، نجملها في نقاط رئيسية ثلاث: 1 _ الفعالية: وتعني ان حكومة امير المؤمنين (ع) كانت منظّمة الى درجة انها كانت تسيطر على الدولة سيطرة تامة من اجل ادارة شؤون الامة. فقد كانت تلك الحكومة على درجة عالية من الدقة في التنظيم، يشهد لها امور ثلاثة، هي: أ _ النطاق المعياري: وهو الذي تعامل مع قضية الظلم الاجتماعي الذي كان سائداً، خصوصاً فيما يتعلق بالثروة الاجتماعية. فجاءت حكومة امير المؤمنين (ع) لتضع الحق في نصابه وتقيم العدل. فقد ازاح الامام (ع) عن السلطة كل من ولاّهم الخليفة الثالث على امارة المسلمين (كمروان بن الحكم، وعبد الله بن ابي سرح، والوليد بن عقبة، وأشباههم)، وارجع الحقوق الى بيت المال، واشبع الفقراء وكساهم في بلاد الله العريضة. ولذلك كانت حكومة الامام (ع) حكومة اخلاقية فاضلة عادلة، كما اشرنا الى ذلك آنفاً. ب _ النطاق التنفيذي: وهو الذي تعامل مع صنع القرار. فقد كان الامام (ع) حاسماً في صنع القرار وقاطعاً كالسيف في تنفيذه. ولذلك فقد عاقب الولاة الذين خانوه، وساوى في العطاء بين السادة والعبيد، وحارب العصاة من الولاة كمعاوية، وحارب الناكثين والمارقين بشدّة. وكانت سرعته في صنع القرار تعكس تواجد الاعوان في الساحة (امثال: سلمان، والمقداد، وعمار، وعمرو بن الحمق، وكميل بن زياد، ومزرع، والاشتر النخعي، ومحمد بن ابي بكر، وعشرات غيرهم)، وتوفر الوسائل التي تؤدي الى تنفيذ القرار (وهو السلاح). وصنع القرار الحاسم لم يكن ليتم لولا المشاركة الواسعة الفعالة للامة في عصره (ع). ولم يؤثر تمادي شرائح من اهل الكوفة وتباطؤهم في الجهاد لاحقاً، على الصورة الكلية لمجتمع المسلمين. بل كانت مناصرة الفقراء والمستضعفين _ الذين سُدّت حاجاتهم الاساسية في زمنه (ع) _ للنظام السياسي الاسلامي كافية في اعطاء صورة ناصعة عن الوضع العام. ج _ النطاق السلوكي: وهو الذي تعامل مع شخصية الامام امير المؤمنين (ع) مباشرة. فقد كان الامام (ع) قدوة في الفعل السياسي والديني والاجتماعي والشخصي. وكان وجوده الاجتماعي عاملاً مطمئناً للأتقياء من الامة ورادعاً للاشقياء. ولذلك استتب الامن في عهده (ع). وحريٌّ بالامام (ع) ان يقول: «ايها الناس، اما بعد. أنا فقأتُ عين الفتنة. ولم يكن أحدٌ ليجترىء عليها غيري... ولو لم اكُ بينكم ما قوتلَ أصحابُ الجمل واهل النهروان»[13]. وحاول معاوية محاربة دولة الامام (ع) عن طريق زعزعة الامن العام، لانه كان يرى ان انعدام الامن العام في المجتمع انما هو مقدمة من مقدمات انهيار الدولة وهدم بنيانها. 2 _ الآلية: وتعني ان الحكومة كانت تمتلك آليات لنـزع فتيل الصراع بين قوى الخير ذاتها، وتحصر الصراع بين الخير والشر. وبمعنى آخر ان حكومة الامام (ع) خففت الى ادنى حد، التوتر الاجتماعي عبر مساعدة الفقراء، وحثّ المؤمنين الاغنياء على الانفاق، وتكثيف النشاط الاجتماعي في وجوه البرّ والاحسان بل مطلق وجوه الخير. وحتى ان الحروب الداخلية التي خاضها (ع) ضد الناكثين والقاسطين والمارقين لم تزعزع فكرة العدالة الاجتماعية التي حققها حكمه القصير في الزمن، الكبير في الاهداف والمكاسب. لقد حاولت حكومة امير المؤمنين (ع) ازالة الفوارق الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية، وحاولت ان تجعل الاولوية للاسلام في كل شيء. فالاسلام كان فوق كل المصالح الشخصية، وكان فوق كل الاهتمامات الخاصة. وكانت الافضلية للجهاد والسعي من اجل بناء دولة الاسلام والمسلمين. وكان هذا النموذج في الحكم الديني نموذجاً مثالياً، خصوصاً بعد ان قرأنا ما حصل في عهد الخليفة الثالث من انتهاكات مالية لثروة المسلمين. وهنا كانت حكومة امير المؤمنين (ع) فاعلة للغاية في تثبيت النموذج الاسلامي، الذي كان يعبر عن تماسك اركان الخير وتخفيف الصراع والحسد والتنافس بين المؤمنين الى ادنى حد. وتجربة كتلك لابد ان تعيش ابد الدهر، مثالاً ناصعاً لنـزاهة الاسلام وعدالته، وحسن ادرته لامور الناس والامة. 3 _ العضوية: وتعني ان الحكومة كانت مؤلفة _ عضوياً _ من اجزاء غير منفصلة عن بعضها البعض. أي ان الحكومة جهاز مكون من مبادىء عقلية وشرعية متلازمة يشدّ بعضها بعضاً. فتحقيق العدالة الاجتماعية، وتطبيق الحدود، وتنظيم الحقوق والواجبات امور شرعية تستدعي جوانب عقلية في حالات التطبيق. وبكلمة، فان الحكومة تحت ظلّ تلك المواصفات كانت أداة عضوية بين العقل والشرع، ولذلك قرأنا قول الامام (ع) في رده على قول الخوارج «لا حكم إلاّ لله»: «كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل. نعم انه لا حكم الا لله. ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة. فإنه لابد للناس من اميرٍ برٍّ أو فاجرٍ...»[14]. وبذلك كانت حكومة امير المؤمنين (ع) وسيلة اخلاقية لنشر الخير والحق في المجتمع الانساني. ولذلك ارتفع مستوى الانسان المسلم في عهد امير المؤمنين (ع) الى درجة عالية من السمو يشهد لها التأريخ. وتعكسه مواقف اصحاب الامام (ع) البطولية بعد استشهاده (ع)، وتسلط الظالم عليهم لاحقاً.
2 _ إقامة العدل: اهم اهداف الحكومة قال (ع): «أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لولا حضورُ الحاضرِ، وقيامُ الحجةِ بوجودِ الناصرِ، وما أخذَ اللهُ على العلماءِ، ألاّ يُقارّوا على كظّةِ ظالمٍ، ولا سَغَبِ مَظلومٍ، لألقيتُ حَبلها على غارِبها...»[15]. ويعني على سبيل القضية المفهومية، انه (ع) كان يحاول جاهداً اقامة العدالة الحقوقية والاجتماعية بين الناس بكل ما أوتي من قدرة على ذلك.أ _ العدالة الاجتماعية: وهي من اولويات وظائف الحكومة الدينية. لان العدل ملازم للدين، والظلم ملازم للكفر. ولا يمكن ان يجتمع الظلم مع الحكومة الدينية. وهو واضح لمن درس آيات الكتاب المجيد، وتعمق في فهم مدلول الروايات. فلنقرأ الروايات المتواترة الواردة في ذلك: 1 _ قال (ع) في قوله تعالى: (إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ...)[16]، العدل: الإنصافُ، والإحسانُ: التفضل[17]. 2 _ سُئل (ع) ايهما افضل: العدل او الجود؟ فقال (ع): «العدلُ يَضَعُ الأمُورَ مواضِعَها، والجودُ يخرجها عن جهتها. العدلُ سائسٌ عامٌ، والجود عارضٌ خاص. فالعدلُ أشرفهما وافضلهما»[18]. 3 _ وقال لزياد بن ابيه، وقد استخلفه لعبد الله بن العباس على فارس واعمالها ، نهاه فيه عن زيادة الخراج: «استعملِ العدلَ، واحذرِ العسفَ والحيفَ. فإنَ العسفَ يعودُ بالجَلاءِ (أي التفرق)، والحيفَ يدعو الى السيف»[19]. 4 _ ومن كتابه له (ع) الى الاسود بن قطيبة صاحب جند حلوان: أما بعد، فان الواليَ إذا اختلف هواهُ، منعَهُ ذلك كثيراً من العدلِ، فليكُن أمرُ الناسِ عندكَ في الحقِّ سواءً ؛ فانه ليس في الجورِ عِوضٌ من العدل...»[20]. 5 _ وقال (ع): «بئسَ الزادُ الى المعادِ، العدوانُ على العبادِ»[21]. 6 _ ومن وصيةٍ (ع) للحسنين (ع): «... وقولا بالحقِّ واعملا للأجرِ. وكونا للظالمِ خصماً، وللمظلومِ عوناً»[22]. 7 _ ومن عهده (ع) الى مالك الاشتر: «ثم اعلم يا مالك، انّي قد وجهتُكَ الى بلادٍ قد جرت عليها دولٌ قبلكَ، من عدلٍ وجورٍ. وأنَ الناسَ ينظرونَ من امورِكَ في مثلِ ما كنتَ تنظرُ فيهِ من أمورِ الولاةِ قبلَكَ، ويقولونَ فيكَ ما كنتَ تقولُ فيهم... أنصِفِ اللهَ وأنصِفِ الناسَ من نفسِكَ، ومن خاصةِ أهلِكَ، ومن لكَ فيه هوىً من رعيتكَ. فإنّكَ إلاّ تفعل تَظلِم ؛ ومن ظلَمَ عبادَ اللهِ كانَ اللهُ خصمَهُ دونَ عبادهِ، ومن خاصَمهُ اللهُ أدحضَ حُجَّتَهُ، وكان َللهِ حرباً، حتى ينـزعَ أو يتوبَ. وليس شيءٌ ادعى الى تغيير نعمةِ اللهِ وتعجيلِ نقمتهِ من إقامةٍ على ظلمِ، فإنَّ اللهَ سَميعٌ دعوةَ المضطهدين، وهو للظالمينَ بالمرصادِ»[23]. 8 _ وقال (ع): «وإنَّ أفضل قُرَّةَ عينِ الولاةِ، استقامةُ العدلِ في البلادِ، وظهورُ مودةِ الرعية»[24]. 9 _ وقال (ع): «... ايها الناسُ، اعينوني على انفسكم، وأيمُ اللهِ لأنصفنَّ المظلومَ من ظالمهِ، ولاقودَنَّ الظالمَ بخزامته، حتى اورده منهلَ الحقِّ وإن كانَ كارِهاً»[25]. 10 _ ومن كلام له (ع) فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان: «واللهِ لو وجدتُهُ قد تزوجَ بهِ النساءُ، ومُلِكَ به الإماءُ لرددتُه ؛ فان في العدلِ سَعَةً. ومن ضاقَ عليهِ العدلُ، فالجَورُ عليهِ أضيقُ»[26]. دلالات النصوص: ونستخلص من تلك الروايات، الدلالات التالية: اولاً: ان العدل هو الانصاف. والانصافُ يضعُ الامورَ مواضعها. وعندما نتحدث عن العدل واقامة العدل والعدالة الاجتماعية، فانما نعني وضع الامور مواضعها في المجتمع. ثانياً: يُفهم من النصوص انه ينبغي استعمال العدل في الحكم والسياسة والاجتماع، بشكل كلي مطلق. فالاستعمال ليس مقيداً بقيد ولا مخصصاً بخصوصية معينة. بل ان العدل هو ان يكون امرُ الناس عند الحاكم في الحقِ سواء. ثالثاً: حرمة العدوان على العباد. والعدوان ينافي العدل. رابعاً: لابد للحاكم ان يكون خصماً للظالم، وعوناً للمظلوم. وتلك كليات ثابتة، لكن مصاديقها متغيرة بتغير الزمان والمكان. خامساً: ان من حق الحاكم استرجاع ما اخذه الظالم، وارجاعه الى المظلوم. حتى لو اُكره الظالمُ على ذلك، لانه غصب. وهذا هو الانصاف والعدل. فلسفة العدالة الاجتماعية: وعندما يتحدث الامام (ع) عن العدالة الاجتماعية، فانه لا يتحدث عن المساواة المطلقة. فهناك فرق بين المساواة والعدالة. فالمساواة بين زيد وعمرو مثلاً لا تكتمل الا على سبيل القضية النسبية لا على سبيل القضية المطلقة. بمعنى ان المساواة المطلقة بين الافراد لا يمكن ان تتم الا في الرياضيات، لان ذلك العلم يتعامل فقط بالكميات والاعداد النقية المطلقة. اما في الواقع الخارجي فان فردين متساويين في الفقر والحاجة، ربما لا يتساويان في امور اخرى كالعمر والتفكير والذكاء والطاقة الكامنة للعمل[27]. ولم يطرح امير المؤمنين (ع) فكرة «المساواة» في افكاره وخطبه ورسائله الا في العطاء الذي كان يقدمه بيت المال للفقراء، حيث يُفترض فيه ان يشبع حاجاتهم الاساسية. الا ان الناس _ وبسبب اختلاف قدراتهم العقلية والجسدية _ لا يمكن ان يوضعوا على درجة اجتماعية واحدة بالدقة العقلية ؛ لان ذلك مستحيل على صعيد الواقع الخارجي. ولم نجد موارداً من الموارد الفقهية يشير بشكل من الاشكال الى فكرة «المساواة التكوينية» على المسرح الاجتماعي. ولكن رسالة السماء قدمت فكرة «العدالة الاجتماعية» وحاول الامام (ع) في عهده الحافل بالمنجزات، بلورة مصاديقها العملية. وقد اعلن الاسلام عن ثلاثة مبادئ نجملها فيما يلي: اولاً: ان الاختلافات التكوينية بين الافراد هي واقع حقيقي لا يمكن انكاره او تجاهله. ولذلك فان فكرة «المساواة» تصدق فقط في «المساواة» في معونة المظلومين واسترجاع حقوقهم من الظالمين، وفي «المساواة» في العطاء من بيت المال لذوي الحاجة والمسكنة من الامة. وقد وردت روايات تؤكد ذلك منها: 1 _ قال (ع) عند بيعة الناس له: «... فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسَّم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد»[28]. 2 _ ومن كلام له (ع) لما عوتب على التسوية في العطاء: «أتأمرونِّي ان اطلب النصر بالجور فيمن وُلِّيتُ عليه! والله لا أطُورُ به[29] ما سَمَر سَميرٌ[30]، وما أمّ نجمٌ في السماءِ نجماً! لو كان المال لي لسوَّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله»[31]. 3 _ ولَّى امير المؤمنين (ع) بيت مال المدينة عمارَ بن ياسر وابا الهيثم بن التيهّان فكتب: «العربي والقرشي والانصاري والعجمي وكل من في الاسلام من قبائل العرب واجناس العجم [سواء]. فأتاه سهل بن حنيف بمولى له (عبد) اسود، فقال: كم تعطي هذا؟ فقال له امير المؤمنين (ع): كم أخذت انت؟ قال: ثلاثة دنانير وكذلك اخذ الناس. قال: فأعطوا مولاه مثل ما اخذ ثلاثة دنانير»[32]. اذن، فالمساواة في العطاء للفقراء تخلُقُ جوّاً من العدل، وإحقاقاً للحق، وانصافاً للمظلوم من ظالمه. وتلك العدالة في العطاء للفقراء تجبرُ الاختلافات التكوينية التي خُلقت اصلاً مع الافراد دون ارادتهم. ثانياً: لما كان تحقيق المساواة العقلية بين الناس امراً مستحيلاً، كان لا مفرّ للامام (ع) من تحقيق المساواة العرفية التي هي شكل من اشكال العدالة، عن طريق الانصاف والعدل والميزان، كما قال (ع): «... ايها الناس، اعينوني على انفسكم، وايمُ الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولاقودنَّ الظالم بخزامته، حتى اوردهُ منهلَ الحق وإن كان كارهاً»[33]. وهو منسجمٌ مع الآيات القرآنية الواردة في هذا المعنى، مثل: (إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى...)[34]، (وَيلٌ للمُطففينَ . الذينَ إذا اكتالُوا على الناسِ يَستَوفُونَ . وإذا كالوهُم أو وَزَنُوهُم يُخسِرونَ...)[35]، (...وآتُوهُم مِن مالِ اللهِ الذي آتاكم...)[36]، (... كي لا يكونَ دُوُلَةً بينَ الأغنياءِ مِنكُم...)[37]. وتلك آيات شريفات اكدت على عدالة توزيع الثروة، وحسن تعامل الناس فيما بينهم على صعيد المال. وجعلت للفقراء حقاً محسوباً في اموال الاغنياء. بمعنى ان الشريعة لم تجعل للاغنياء الخيار في مساعدة الفقراء او اهمال مساعدتهم، بل فرضت عليهم ذلك الوجوب بقوة التشريع. ثالثاً: كما ان بيت المال يوزع الحقوق على الفقراء بالتساوي، فانه في الوقت نفسه يأخذ من ارباب العمل والزراعة: الخَراج. وهي ضريبة تدخل بيت المال بضميمة موارد اخرى كالغنائم والصدقات ونحوها. وقد نهى (ع) زياد بن ابيه _ عامله على فارس _ عن زيادة الخراج، بقوله (ع): «استعملِ العدلَ، واحذرِ العسفَ والحيفَ...»[38]. والاختلاف بين الفاضل والمفضول في الشريعة يعكس الاختلاف في القدرات العقلية والجسدية بين الافراد. وقد ورد في الكتاب المجيد ما يشير الى ذلك: (وضَرَبَ اللهَُ مَثَلاً رَجُلَينِ أحَدُهُما أبكمُ لا يَقدِرُ على شَيءٍ وهُوَ كَلٌّ على مَولاهُ أينَما يُوجِّههُ لا يأتِ بِخَيرٍ هَل يَستَوي هُوَ ومَن يأمُرُ بالعدلِ وهُوَ على صِراطٍ مُستَقيمٍ)[39]، (... أفَمَن يَهدي الى الحقِّ أحقُّ أن يُتَّبَع أمَّن لا يَهدّي إلاّ أن يُهدى فَما لَكُم كَيفَ تَحكُمونَ)[40]. ومنطوق الآيتين الشريفتين يعكس نفي التساوي بين الافراد. والتفاضل في الرزق، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال، والتفاوت في القدرة بين المهتدي وغير المهتدي كلها تعتبر من السنن التكوينية وتعدّ جزءً لا يتجزأ من التصميم الالهي للخلق والتكوين. الا ان ذلك التفاضل التكويني لا يترك آثاره الاجتماعية الا على صعيد ترجمة ذلك التفاضل الى منفعة يقدمها الفاضل للمفضول. بمعنى ان الرزق _ الذي منحه الخالق عزّ وجلّ الى الفاضل _ اذا لم يُخرَج منه الحق الشرعي ويُسلِّم للمفضول، أصبح نقمةً آلهية على الفاضل نفسه. وبكلمة، فان التفاضل التكويني، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية انما تنجبر اذا التزم الجميع بتطبيق الاحكام الشرعية، وهي: العدالة في اخذ الضريبة من الاثرياء، والعدالة في توزيعها على الفقراء. ب _ العدلُ : وضع الامور مواضعها: قال الامام (ع): «... العدلُ يضعُ الأمورَ مواضعها...»[41]. ومن اجل فهم تلك المقولة الشريفة، لابد من دراسة الاختلافات بين الناس، وطبيعة وضع الامر موضعه. فالناس تختلف عن بعضها البعض في امرين: الاول: الصفات الطبيعية: مثل جنس الانسان من ذكر وانثى، والصفات الشخصية من قوة او ضعف، وكفاءة او عدم كفاءة، والقوة العقلية من ذكاء ومهارة او تخلف وتأخر. الثاني: الصفات الاجتماعية: مثل الطبقة الاجتماعية، والفقر والغنى، والحرية والعبودية، والقيادة والتبعية. وبموجب تلك الاختلافات، فان احتياجات الناس تتفاوت. ولذلك، فان امر الاختلاف يستدعي من القائد الديني ان يكون عادلاً. أي ان يضع الامور مواضعها، كما صرح (ع) بذلك. فالغني لا يحتاج مالاً، بل عليه ان يدفع الحق الى الفقير المحتاج ؛ وهذا هو العدل لانه وضع الامور مواضعها. والعامل الماهر الكفوء يكافأ بأجر اعلى من العامل الخامل غير الماهر ؛ وهذا هو العدل لانه وضع الامور مواضعها. والضعيف، قاصراً كان او عاجزاً، ينبغي ان تُضمن معيشته ؛ وهذا هو العدل لانه وضع الامور مواضعها. ومن قراءة تلك الامثلة نفهم، بان مقولة الامام (ع) تستدعي اعمال العقل ايضاً في تحقيق العدالة الاجتماعية. ولا شك ان الله تعالى اكرم البشر، فقال عزّ وجلّ: (ولَقد كرّمنا بني آدَمَ وحملناهُم في البَرِّ والبَحرِ...)[42]. فالبشر يتساوون في الكرامة والقيمة الانسانية. ولذلك فان المساواة في العطاء الذي سار عليه الامام (ع) كان يلحظ تلك الجنبة الاخلاقية الرفيعة. فقد كان يدفع للعبد والسيد المحتاجين نفس المقدار من الحقوق، مساواةً، ولسان حاله (ع) يقول: «... لو كان المال لي لسويتُ بينهم. فكيف وانما المال مال الله»[43]. (تليها ص 713- 734)
اللاحق صفحة التحميل الصفحة الرئيسية [1] «نهج البلاغة» - خطبة 40 ص 83. [2] سورة المائدة: آية 30. [3] «نهج البلاغة» - باب المختار من حكمه (ع): 152، ص 638. [4] «نهج البلاغة» - باب المختار من حكمه (ع): 312 ص 670. [5] م. ن. – كتابه (ع) الى الاشعث بن قيس عامله على اذربيجان، رقم (5) ص 463. [6] «نهج البلاغة» - كتاب 5 ص 463. [7] م. ن. – كتاب 53 ص 547. [8] «نهج البلاغة» - خطبة 40 ص 83. [9] سورة النساء: آية 59. [10] «نهج البلاغة» - خطبة 3 ص 39. [11] م. ن. – خطبة 40 ص 83. [12] «نهج البلاغة» - خطبة 216 ص 421. [13] «الغارات» - الثقفي. ص 5. [14] «نهج البلاغة» - خطبة 40 ص 83. [15] م. ن. – خطبة 3 ص 39. [16] سورة النحل: آية 90. [17] «نهج البلاغة» - باب المختار من حكمه (ع) رقم 222 ص 648. [18] «نهج البلاغة» - باب المختار من حكمه (ع) رقم 427 ص 695. [19] م. ن. – باب المختار من حكمه (ع) رقم 466 ص702. [20] م. ن. – كتاب رقم 59 ص 577. [21] م. ن. – المختار من حكمه (ع) رقم 211 ص 646. [22] م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 47 ص 539. [23] م. ن. – كتاب 53 ص 546، 548. [24] «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص 555. [25] م. ن. – خطبة 136 ص 238. [26] م. ن. – خطبة 15 ص 48. [27] للتفصيل يُراجع كتاب «العدالة الاجتماعية في الاسلام» للمؤلف. ص 13 – 28. [28] «شرح نهج البلاغة» ج 7 ص 36 – 37. [29] لا أطوُرُ به: من «طار يطُور» اذا حام حول الشيء. أي: لا امرُّ به ولا اقاربه. [30] ما سَمَرَ سميرٌ: أي مدى الدهر. [31] «نهج البلاغة» خطبة 126 ص 225. [32] «بحار الانوار» ج 40 ص 107 – 108. [33] «نهج البلاغة» - خطبة 136 ص 238. [34] سورة النحل: آية 90. ([35] سورة المطففين: آية 1 – 3. [36] سورة النور: آية 33. [37] سورة الحشر: آية 7. [38] «نهج البلاغة» - المختار من حكمه (ع) رقم 466 ص 702. [39] سورة النحل: آية 76. [40] سورة يونس: آية 35. [41] «نهج البلاغة» - باب المختار من حكمه (ع) رقم 427 ص 695. [42] سورة الاسراء: آية 70. [43] «نهج البلاغة» - خطبة 126 ص 225.
|