(ص 63- 99)

16- فتح مكة

تمكن علي (ع) من خلال بطولته الرادعة في خيبر وذات السلاسل، وقبلها في بدر واُحد والخندق، من تحقيق ثلاثة امور عجز عن تحقيقها بقية المقاتلين من المسلمين، وهي:

1 - وضع الحرب على خشبة المسرح العقلائي. بمعنى ان العدو من عبدة الاوثان اذا كان يفكر سابقاً بنـزوات انتصاره واوهام الاستيلاء على غنائم المسلمين وتدمير دينهم، فانه اليوم - وبفضل تحقق الردع- اصبح يفكر باجتناب الهزيمة التي سيُمنى بها دون شك. والقاعدة ان الردع اذا كان قوياً، فان العدو سيفّكر -جديّاً- بالاستسلام دون اراقة مزيد من الدماء.

2 - جعل التهديد الرئيسي ينبعث من وسط معسكر المسلمين ضد معسكر المشركين. أي انه جعل المسلمين اصحاب المبادرة، كما حصل في الهجوم على جيش ذات السلاسل من المشركين وقت الفجر، وكما حصل في استدراج «مرحب» الى القتال والمبارزة في خيبر، وكما حصل في استدراج «عمرو بن عبد ود» الى المبارزة في الاحزاب، ونحوها. وبمعنى ثالث انه جعل المقاتلين المسلمين في موضع الهجوم، وجعل المشركين في موضع الدفاع. وهذا تبديل استراتيجي خطير لصالح الاسلام.

3 _ ساهمت بطولة علي (ع) في تحديد عدد البدائل التي كانت متاحة للعدو، وجعل الدخول الى الاسلام أو الاستسلام دون قتال أهم البدائل، وجعلت بديل الحرب ادنى البدائل حظّاً في الاختيار من قبل المشركين.

وهكذا كان، وقد فتحت مكة في شهر رمضان من بعد ثمان سنوات من هجرة المسلمين التأريخية منها الى المدينة، بعد ان أيقن المشركون ان الحرب هي ادنى البدائل حظّاً في الاختيار. فاستسلموا وأسلموا، وأمكنه الله سبحانه من رقابهم عنوة فكانوا له (ص) فيئاً. ولكنه (ص) خاطبهم قائلاً: اذهبوا فأنتم الطلقاء[1].

فتح مكة وقيادة العالم:

وفتح مكة كانت عملية تأريخية ضخمة ينبغي فهم آثارها أو مقتضياتها بنفس درجة فهم اسبابها أو عللها. فمع ان شجاعة رسول الله (ص) والامام (ع) الفائقتين كانتا من أهم عللها، فإن آثارها كانت خطيرة للغاية. ذلك ان فتح مكة وضع القيادة الدينية الاجتماعية للعالم بيد المسلمين بعد ان كان قادة المشركين يحكمون الناس بالظلم ويعيثون في الارض فساداً. فدخل الناس، مؤمنين باطناً وظاهراً، في دين الله افواجاً. وقد تنبأ كتاب الله المجيد بتلك الاحداث فقال: (إذا جاءَ نَصرُ اللهِ والفَتحُ. ورأيتَ النّاسَ يَدخُلُونَ في دينِ اللهِ أفواجاً. فَسبِّح بِحمدِ ربِّكَ واستغفرهُ إنَّهُ كانَ توَّاباً)[2].

واصبح الاسلام بعد فتح مكة قوّة عالمية تستطيع مواجهة قوى الفرس أو الروم والانتصار عليهما، وقادرة على تثبيت الأمن العالمي في ذلك الوقت تحت شعار: لا إله الا الله، محمّد رسول الله. وبذلك كان فتح مكة اعادة لبناء التركيب السياسي والاجتماعي للعالم على ضوء الدين الجديد. في وقت كان العالم يبحث فيه عن قيادة جديدة تحقق العدل الاجتماعي والأمان والتوحيد، فكانت قيادة رسول الله (ص) تحقق ثبات دولة الايمان العالمية ونظامها الامني والحقوقي.

والسبب في ذلك ان العالم يتضمن شعوباً متباينة في التقاليد والعادات واللغات، ولا يمكن ان يجمعها الا دين سماوي واحد. فكان الاسلام هو الدين القادر على جمع ذلك العدد الهائل من البشر تحت سقف خيمة واحدة وفي ظل لواء واحد. ولا يستطيع احد تحمل مسؤولية ادراة ذلك التجمع العالمي اجتماعياً وسياسياً الا رسولٌ يوحى اليه. فكان رسول الله (ص) هو حامل المسؤولية العالمية. وكان من خلفه المؤهل الاول لتسلّم القيادة الدينية بعده (ص) أمير المؤمنين (ع). 

علي (ع) منقذ الموقف:

وقد كان علي (ع) موضع ثقة رسول الله (ص) في فتح مكة. فحينما هتف أُناسٌ من المسلمين من الذين لا زالوا لم يفهموا ابعاد الدين بعد: اليومُ يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحُرمة[3]. دعاه النبي (ص) لتدارك الوضع الخطير الذي كان سيؤدي حتماً الى سفك الدماء على غرار الجاهلية ولكن باسم الاسلام هذه المرّة. وأمره (ص) بحمل الراية والدخول الى مكة في المقدمة. فكان علي (ع) منقذ الموقف حيث دخل مكة وهو يحمل راية التوحيد والسلام. وعندما قام خالد بن الوليد بقتل من قُتل من بني جُذيمة[4]، ودّاهم رسول الله (ص) فبعث عليّاً (ع) لتسوية الوضع. وارشده (ص) بالقول: (يا علي، اخرج الى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك)[5]. وقبلها، عندما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم مقتلاً، جاء أبو سفيان الى المدينة معتذراً بعد فوات الاوان. فلم يفلح في مسعاه، ولكن ابو سفيان رأس الشرك الذي حارب الاسلام والنبي (ص) وعليّاً (ع) أشد حرب، وجد عليّاً (ع) - اذا صحّت الرواية- ألين القوم معه وأشدهم نصحاً له[6]. وهكذا كان خلق الانبياء والاوصياء (ع). وهكذا تعامل رسول الله (ص) في مكة مع الطلقاء. 

جاء الحق وزهق الباطل:

إن أهم ما حصل من أحداث عند دخول رسول الله (ص) مكة فاتحاً، هو تحطيم الاصنام الضخمة بأمر النبي (ص) وبيد علي (ع)، التي تكسّرت كما تنكسر القوارير. وعندها قال (ص): (ايه ايه..جاء الحق وزهق الباطل. ان الباطل كان زهوقاً)[7].

كان قدوم الاسلام منتصراً، انذاراً للباطل بالتوقف عن الوجود في المجتمع وفي ذات المؤمن على الاقل. فالمؤمن بتعاليم الدين السماوي يؤمن بالحق ويبني وجوده الاجتماعي والذاتي الجديد على اساس ايقاف الباطل وحذفه من حياته الشخصية. وهذا يعني اننا اذا الغينا الباطل من الساحة الاجتماعية، كما فعل رسول الله (ص) وعلي (ع) بتحطيم الاصنام، فان ذوات الناس سوف تنفتح على الخير وعلى الاستماع الى الحق. وهنا يتخير العاقل بحرية، في ذلك الجو المنفتح وتلك الارضية الواسعة، بين الحق والباطل. فيختار الحق على الباطل حتماً.

ولو كان الباطلُ قضيةً متعلّقةً بالاخلاق لاستطاع الانسان دحرها من دون مساعدة الدين، بل لكان العقل سلاحاً كافياً من أسلحة دحر الباطل. ولكن الحقيقة تقول: بأن للباطل كياناً مستقلاً لا يقف امامه الا الدين.

فمع ان العقل يدعو الى التوحيد والعدل، الا ان العقل المجرد عن الايمان قد يدعو الى الفساد والدمار والشرك. فالعقل لوحده لا يستطيع دحر الباطل. ولو كان العقل كافياً لادراك معاني الوجود لانتفى دور الدين في حياة الانسان. فقضية الباطل ليست منحصرة اذن بالفلسفة الاخلاقية فقط، بل ان إزالة الباطل موكولة الى تعاليم الدين ومقدار أدائها من قبل المؤمنين.

فلا شك ان زوال الباطل يتحقق عندما يمارس المكلفون تكاليفهم الشرعية ويتنعمون برحمة القوانين الدينية، وعندها ينتهي الفساد والظلم والشرك. فتثبيت الحق مرهون بتقوية شوكة الدين. ومن هنا نفهم مغزى مخاطبته (ص) لعلي (ع): ايه ايه (... جاءَ الحقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهوقاً)[8]. فبتحطيم رمز الوثنية والشرك في مكة، بدأ الاذعان لتقبّل فكرة انتصار الاسلام وقيمه السماوية في الخير والعدالة والمحبّة والصلاح، على مبادئ الظلم والفساد والشرك.

ومن هنا: جاء الحق وزهق الباطل، بكل ما تحمله تلك الالفاظ من معان ومفاهيم وأفكار. فقد جاء الحق عبر رسالة السماء محمّلاً بمفاهيم العدالة والخير والاخوة والمحبّة والتعاون، وعندها انفتح الباب لاختيار طريق الخير بدل طريق الشر، وعندها كانت الحكمة الالهية: (لا إكراهَ في الدّينِ قَد تَبيَّنَ الرُشدُ مِنَ الغيِّ...)[9]، لان الانسان بطبيعته يختار الخير على الشر، ويختار الحق على الباطل.

وتلك المقولة النبوية حبلى يالمعاني العديدة التي يمكن ان يستظهرها المفكر الاسلامي. ومن تلك المعاني نظرية «حتمية محق الظلم وحتمية انتصار الدين» على المدى البعيد. فتلك النظرية تعرض علينا امكانية صياغة استراتيجية الاسلام بالنسبة للدنيا والتأريخ. فالدين هو الحق، والكفر أو الظلم هو الباطل. ولابد ان ينتصر الدين ويندحر الباطل ويموت. لان الحق باقٍ الى الابد، والباطل ميّتٌ الى الابد بظهور الاسلام وانتشاره في آفاق الارض. ومن هنا نفهم ان فتح مكة كان البوابة العظمى للانفتاح على البشرية في القلب والعقل والادراك على مدى الزمن.

17- غزوة حنين

وقعت هذه الغزوة بعد شهر واحد فقط من فتح مكة. وكانت الغزوة تأديبية ضد هوازن وثقيف اللتين جمعتا جيشاً كبيراً قوامه ثلاثون الفاً ضد المسلمين. واغترّ المسلمون بكثرتهم، في جيش قُدّر باثني عشر الفاً، فقال تعالى يصف حالهم: (... ويَومَ حُنَينٍ إذ أعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شيئاً وضاقَت عَلَيكُمُ الأرضُ بِما رَحُبَت ثُمَّ ولَّيتُمُ مُدبِرينَ...)[10]. فانهزم المسلمون في اللحظات الاولى من المعركة عدا رسول الله (ص) وعلي (ع) ومجموعة قليلة من الهاشميين.

وكان ثباتهم قد غيّر مسار المعركة، خصوصاً عندما قَتَل علي (ع) «أبا جرول» إمام هوازن، وبعضاً من أبطالهم. وكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول. فما الذين حصل في تلك المعركة؟

لقد تجلّت في تلك المعركة أمور ثلاثة مهمّة ينبغي التوقف عندها وهي: أ- العُجب. ب- الفرار. ج-ثبات الهاشميين.

أ - العُجُب:

يعني العُجب تناقص القوة العقلية في النظر الى القضايا الواقعية الخارجية. وتلك الصفة غير المحمودة لا تغيّر من القوة البصرية للنظر ولا من كثافته؛ ولكنّها تجعل الصور العقلية التي يحللها الذهن صوراً غير واقعية، كما قال تعالى: (... إذ أعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شيئاً...)[11]. وهنا تصبح الحقائق الواقعية الخارجية مجرّد سراب خادع للنظر. فتصبح الكثرة العددية - في عقل المأخوذ بالعُجُب- أمراً مبالغاً فيه، وتصبح الاشياء والصفات المضادة للكثرة كالشجاعة والإقدام والقلّة المضحية مجرد قضايا هامشية أصغر من حجمها الحقيقي الواقعي.

والاصل في المسألة، ان الصور العقلية المخزونة في ذهن الانسان، والتي تحصل غالباً من مجموعة تراكمات ذهنية سابقة، هي التي تحدد الصورة الجديدة للواقع القديم. فالذين انهزموا في حنين بعد ان أعجبتهم كثرة المسلمين، انما انطلقوا من موقع سراب الصور العقلية التي حملوها قبل الاسلام، ومن موقع ايمانهم القَبَلي بأن الكثرة - لا الايمان والثبات- هو الذي يحدد مصير المعركة الحاسمة. وفي ذلك دلالة على ان عناصر الايمان لم تكن راسخة في عقولهم ولا في قلوبهم.

ولاشك ان الصورة الذهنية عن القضايا الخارجية تتحوّل الى قضية معرفية. فهنا عندما يُثار عُجب البعض بالكثرة العددية، فانهم يبنون عليها قضايا معرفية خاصة مثل: عدم جدّيتهم في قتال العدو، وايمانهم بأن هزيمة العدو أمر حتمي، وانحصار تفكيرهم بالغنائم. ولذلك فقد كانوا أول من فرّ من المعركة، لانهم تصوّروا خطأً- ان الكثرة ستكون عاملاً من عوامل حمايتهم من سيوف الاعداء المحارِبين.

ب - الفرار:

والفرار في المعركة ما هو الا أثر من آثار الخوف من الموت، وقد أشار تعالى الى ذلك بالقول: (قُل إنَّ الموتَ الذي تَفرُّونَ مِنهُ فإنَّهُ مُلاقيكم...)[12]. وأشار الى معركة حنين بالخصوص، فقال: (... وضاقَتْ عليكُمُ الأرضُ بِما رَحُبَت ثُمَّ ولّيتُم مُدبِرينَ...)[13]. ذلك ان الذي يخاف من الموت، فان وضعه الشخصي يعبّر عن حالة من الحالات النفسية والعقلية التالية:

الاولى: انه لم يفهم بعد مقاصد الدين والشريعة فهماً يقينياً، بحيث يؤمن يقيناً بأن الموت يقرّبه الى الله سبحانه في جنان الخلد والنعيم.

الثانية: ان يتملك حبّ الدنيا قلبه الى درجة انه لا يحبّ مفارقتها. فالمكتسبات المادية التي اكتسبها خلال حياته الدنيوية تجعله يركن الى الدنيا أكثر ممّا يطمح الى الآخرة.

الثالثة: ان تكون ذنوبه كبيرة الى درجة انه يخاف الموت، لانه يخاف العقاب والعذاب.

وتلك الحالات جميعاً تعبّر عن حالات مَرَضيّة عند المقاتلين لا يستقيم معها أمر الدين والجهاد. ومن هنا كانت القاعدة بأن المقاتل المؤمن عندما يدخل المعركة ينبغي ان يقاتل وأمام عينيه الموت وفكره مشغول بلقاء الله تعالى. والاّ فان لم يكن كذلك، فان تفكيره سينشغل بمقدار المال الذي يملكه، وعدد الاولاد المنتسبين له، وزوجته التي يحنّ اليها، واللذائذ التي يمكن ان تقدمها الدنيا له وهو على قيد الحياة. وهنا إذا تأججت نار الحرب، فانه أول من يفرّ من المعركة أو يهرب من الموت الذي ينتظره فيها. وهو لا يعلم بـ : «انّ الموتَ طالبٌ حثيثٌ لا يفوتُه المقيم، ولا يعجزُه الهاربُ» كما اشار أمير المؤمنين (ع) الى ذلك. ثم اردف (ع) قائلاً: «إن أكرمَ الموتِ القتلُ! والذي نفسُ ابنِ ابي طالبٍ بيده، لألفُ ضربةٍ بالسيف أهونُ من ميتةٍ على الفراش في غير طاعةِ الله»[14].

وبكلمة، فان الذين يفرّون من المعركة هم الذين لا يملكون يقيناً بحقائق الدين، ولا يرجون لقاء الله، بل ان همّهم أن يبقوا أحياءً في الدنيا، بقي الدين على الارض ام انهزم أمام قوى الشرك. ولذلك شدد المولى عزّ وجل على قضية الثبات في المعركة قائلاً: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إذا لقِيتُمُ الذينَ كَفَرُوا زَحفاً فلا تُولَّوهُمُ الأدبارَ. ومَن يُوَلِّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتحرِّفاً لِقتالٍ أو مُتَحيّزاً الى فِئةٍ فقد باءَ بِغَضبٍ مِنَ اللهِ ومأواهُ جهنَّمُ وبِئسَ المَصيرُ)[15]

ج _ ثبات علي (ع) والهاشميين:

ولم يثبت في المعركة الا تسعة نفر من بني هاشم مع رسول الله (ص)، بالاضافة الى أيمن ابن أم أيمن. فقُتل أيمن (رضوان الله عليه) وثبت الهاشميون التسعة حتى ثاب الى رسول الله (ص) من كان قد انهزم في البداية. وصمد أمير المؤمنين (ع) لابي جرول وبارزه وصرعه. فانهزم القوم من بين يديه (ع). وكانت هزيمة المشركين بقتل ابي جرول.

ويجدر بنا هنا النظر الى حقيقة أساسية وهي ان معركة حنين قد وقعت بعد شهر واحد فقط من فتح مكة. فلو تحققت هزيمة المسلمين عند فرارهم من مضايق حنين وكان علي (ع) غائباً على سبيل الافتراض، لكانت تلك هزيمة ساحقة يتحدّث عنها التأريخ بسخرية. ذلك لان هزيمة من ذاك القبيل كانت ستحطم معنويات المسلمين، وكانت ستدمّر كل ما انجزوه من انجازات دينية وعسكرية على صعيد عالم الجزيرة العربية. فكان مقتل إمام هوازن على يد أمير المؤمنين (ع) قد غيّر سير المعركة وبدّل نتائجها ومقتضياتها.

 18 - غزوة تبوك

وغزوة تبوك الشاقة بقيادة رسول الله (ص) انتهت بالجزية دون قتال. وهي آخر غزوة غزاها رسول الله (ص) قبل وفاته. وكانت تلك الغزوة الظافرة تقتتضي اما ان يبقى رسول الله (ص) واما علي (ع) في المدينة ويذهب الآخر مع الجيش لقتال المشركين، بسبب بُعد المسافة، وضرورة وجود مدير يدير عاصمة الاسلام ويدافع عنها وقت الحاجة. فاختار رسول الله (ص) ان يُبقي عليّاً (ع) في المدينة، وقال له: «يا علي انّما خلّفتك على اهلي، اما ترضى ان تكون مني بمنـزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي»[16]. وفي تعبير آخر: «اخلُفني في اهلي واهلك».

والمصادر اللغوية تعترف بان الاهل هم «أهلُ الرجل وأهلُ الدار»[17]. ولا شك ان رسول الله (ص) لا يقصد بـ «اخلُفني في أهلي» الاستخلاف على بيت النبي (ص)، لان ذلك يتعارض مع مفاهيم الشريعة واحكامها. فبيت النبي (ص) يأوي زوجاته (ص)، ولا وجه للاستخلاف في ذلك لان عليّاً (ع) ليس ابناً لرسول الله (ص) مثلاً. واذا اضفنا مسؤولية النبي (ص) الشرعية في الولاية على المسلمين، يصبح معنى «اخلُفني في اهلي» هو: اخلُفني في اهل داري، وهي دار الاسلام بمن فيهم المتظاهرون بالاسلام وقلوبهم غير مؤمنة به، ويشمل ايضاً العاجزين والقاعدين لاسباب شرعية وغير شرعية.

وكان لاستخلاف الامام (ع) على المدينة دلالات كبيرة. فقد كانت تلك الغزوة آخر غزوات النبي (ص) وابعدها عن المدينة. فكان لابد من اجراء احترازي لمستقبل الاحداث في الاسلام، وكان لابد من عرضٍ واضحٍ لاظهار مقدرة علي (ع) في الادارة الاجتماعية لمجتمع المسلمين، وكان لابد من ارسال رسالة واضحة المعالم للطامحين بخلافة رسول الله (ص) بالتخلي عن مطامحهم لان عليّاً (ع) هو المؤهَل الوحيد لتلك المهمة الاستثنائية.

ولا شك ان كلمات الاستخلاف كانت واضحة وقوية للغاية، فقد جعله (ص) بمنـزلة هارون من موسى، لكنه نفى النبوة بعده. والقوة في التعبير لا تُبقي مجالاً للشك في منـزلة علي (ع) في الاسلام ودرجة قرابته الدينية والعلمية من رسول الله (ص).

معاني الاستخلاف على المدينة:

كانت لخلافة علي (ع) على المدينة معانٍ ضخمةٌ، أراد المنافقون في ذلك الزمان التقليل من شأنها وتحجيمها. الا ان دراسة معمّقة لطبيعة ذلك الاستخلاف يكشف عن انه لم يكن مجرد استخلاف على مجموعة افراد، بل كان استخلافاً على مجتمع مؤسسات ودولة بكل ما تعنيه الكلمة.

وفلسفة «اخلُفني في اهلي» تقتضي الحفاظ على مجموعة من الانظمة الاجتماعية والاجهزة الدينية التي تُمسك بخيوط المجتمع. فهي تقتضي الحفاظ على تركيبة النظام الاجتماعي والسياسي للمجتمع الديني من حيث الهرم الاداري. وتقتضي ايضاً الحفاظ على العمليات الاجتماعية من زاوية القضاء وحل الخصومات، وتوزيع الثروة واشباع الفقراء، والتعبديات واقامة الفرائض الجماعية، وعدالة السوق التجاري ونظافته من الربا والاحتكار، وتطبيق العقوبات على المنحرفين ونحوها. وهذا كله يفضي بانتقال الادارة الاجتماعية من يد امينة الى يد امينة اخرى. فاذا اُريد لحركة الاسلام ان تستمر، كان لابد ان يخلّف النبي (ص) شخصاً عالِماً مؤتَمناً كفوءاً لادارة مجتمع المدينة خلال غيابه في تبوك، كما خلّف النبي موسى (ع) اخاه هارون لادارة شؤون مجتمع بني اسرائيل خلال غيابه (ع) عنهم والتماسه الجبل.

ولا شك ان تبوك كانت مرحلة تمرين وامتحان للصحابة بحسن استيعاب قضية الولاية الشرعية بعد رسول الله (ص) وفهمها فهماً صحيحاً بعيداً عن الاهواء والطموحات السياسية القَبَلية. خصوصاً وان قضية تبوك ونظرية «اخلُفني في أهلي» قد جاءت قبل واقعة الغدير بفترة زمنية قصيرة.

ومن الطبيعي فان فكرة النيابة مشروطة بتطابق التكليف مع القدرة الكاملة على انجازه تاماً. والسبب في اننا نولي أهمية بالغة لفكرة الاستخلاف على صعيدي السلطة وادارة المجتمع، هو ان لها تأثيراً على حقوق الناس ومعتقداتهم وتكاليفهم الشرعية والاجتماعية. 

شروط الاستخلاف:

ودراسة واعية لحجم المسؤولية الملقاة على عاتق علي (ع) في الاستخلاف على المدينة خلال غزوة تبوك يكشف عن عمق شخصية الامام (ع) وعلاقته الصميمية بالنبوة وبمحمد (ص). فقد كان المصطفى (ص) يعلم ان في شخصية علي (ع) ثلاثة شروط تستطيع ان تحقق خلفاً صالحاً لخير سلف، وهي:

الاول: قوة ادراك علي (ع) لمقتضيات الشريعة واحكامها ونظامها الاخلاقي والعقائدي. وكان ذلك واضحاً في ادراكه اسرار القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة. وهي ما نسميها بالعصمة.

الثاني: قوّة علي (ع) الذهنية التي تستطيع ان تدير الامور الاجتماعية في عاصمة الدولة الاسلامية. خصوصاً اهتمامه بالفقراء، والمعوزين، وتقسيم الثروة الاجتماعية بالتساوي لمستحقيها.

الثالث: قدرة الامام (ع) في إحكام تماسك المجتمع الاسلامي دينياً، لانه كان يمتلك تلك الشخصية الاستثنائية في البطولة، والايثار، والزهد، والتقوى، والعلم، والعبادة، ومواساة الفقر والمحرومين.

وتلك الصفات الفاضلة في شخصية واحدة لها القدرة على جمع العابد مع العالِم، والتاجر مع الفقير، والغني مع المحتاج، والقوي مع الضعيف. واذا تم جمع تلك العناصر في خيمة اجتماعية واحدة يسودها الحب والتكاتف والمسؤولية، اقترب الاسلام من تحقيق اهدافه العليا في الحياة.

فالاستخلاف اذن كان يمثل إرادة الدين في ادارة مجتمع دار الاسلام. وما يريده الدين هو ارادة الشريعة والملاكات التي تمثله احكامها. فرؤية الدين تجاه الذين تعيّنهم السماء يتطابق مع رؤيته لملاكات الاحكام ومقتضياتها. ولذلك كان علي (ع) - في نظر السماء - حارساً لاحكام الشريعة وملاكاتها في غياب النبي (ص). وهذا المعنى مطابق تماماً لفكرة: «اخلُفني في اهلي». 

مواضع الاستخلاف:

ودار الاسلام في تلك الفترة كانت تشتمل على مؤسسات اجتماعية خاصة بالدولة، (منها): بيت المال، الذي كان من أهم المؤسسات التي كان يرعاها رسول الله (ص) وخليفته (ع) لانها كانت توزع الحقوق على الفقراء من صدقات واخماس وزكوات واجبة أو مندوبة. و(منها): السوق التجاري الذي كان مزدهراً بالمواد الغذائية من قمح وشعير وتمر وزبيب ونحوها. و(منها): المسجد، الذي كان داراً للدولة في العبادات والخطط الحربية والتبليغية والتعليمية. و(منها): القضاء، وهي المؤسسة التي تهتم بحل النـزاعات بين المتخاصمين. و(منها): الزراعة والصناعة والأحياء العمرانية. وتلك المؤسسات كانت بحاجة الى ادارة اجتماعية وتنظيم ديني للاولويات.

اما الافراد الذين خُلِّفَ على ادارتهم فقد كانوا مؤلفين مما يلي: المؤمنون الفقراء الذين بقوا في المدينة لانهم لم يتمكنوا من تحصيل عُدّة السفر والجهاد، والقاصرون من نساء وذراري من عوائل المقاتلين الذين ذهبوا الى تبوك، والعاجزون عن القتال لاسباب صحية كالمرض والسن، والمناقفون الذين كانوا يتظاهرون بالاسلام وكان بينهم اغنياء ومتمولون، وأهل الذمة من يهود ونصارى، وبقية الافراد كالاعراب الذين يأتون الى المدينة من البوادي، والتجار الذين كانوا يمرّون بالمدينة وهم في طريقهم الى العراق والشام واليمن.

ولا شك ان ذلك الاستخلاف على المدينة كان تجربة فريدة للامام علي (ع) في الادارة الاجتماعية، خصوصاً انه كان متوقعاً للنبي (ص) ان يرجع ويرى عمل علي (ع) خلال غيابه. وكان امضاؤه (ص) لادارة علي (ع) شهادة عظمى على كفائته (ع) وقدرته على تنظيم أمور المجتمع الاسلامي بعد رحيله (ص) الحتمي الى الرفيق الاعلى. 

تبليغ سورة براءة:

ولم يتوقف الامر على ذلك الاستخلاف التأريخي على المدينة، بل عندما رجع رسول الله (ص) من غزوة تبوك في شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة، أمر (ص) المسلمين في ذي الحجة من نفس السنة - أي بعد شهرين فقط - بالتحرك لاداء فريضة الحج وكان على امرتهم ابو بكر. فلما نزلت سورة براءة أمر عليّاً (ع) بتبليغ الناس بمضمونها، وهي: حرمة حج المشركين بعد ذلك العام، وحرمة الطواف بالبيت عراة، ومن كان له عند رسول الله (ص) عهد فهو الى مدته وغيرها من الاحكام والمفاهيم الاخلاقية. وقال (ص) قولته المشهورة: «لا يؤدي عني الا رجل من أهلِ بيتي»[18].

وسورة براءة لها خصوصية بنقض ما بين النبي (ص) وبين المشركين من العهد العام، والعهود الخاصة بينه (ص) وبين بعض قبائل العرب. ولها معانٍ ضخمةٌ في البراءة من المشركين ومقاتلتهم بقوة وجدّ، والنهي عن موالاتهم، وفيها حديث عمّن تخلّف من المنافقين عنه (ص) في تبوك. فكشفت سرائر الناس خصوصاً المنافقين. وتلك المعاني الضخمة لا يستطيع حملها الا رسول الله (ص) أو رجل منه، كما قال (ص) ذلك.

فاذا اضفنا ذلك الى بطولة الامام علي (ع) ودوره الحاسم في قتال المشركين وبلاغة منطقه وعلو شأنه في الدين، لتبين لنا انه كان البديل الوحيد لرسول الله (ص) في تبليغ تلك السورة المبعثِرة المقشقِشة الحافرة، بكل قوة في مكة. فهو لا يخاف مشركاً ولا كافراً ولا شجاعاً من شجعانهم ولا فارساً ولا راجلاً، بل انه ارعب في ساحات المعارك ابطالهم وقتلهم شر قتلة. وكان اطهر الناس بعد النبي (ص) واكثرهم خشوعاً وتعلقاً بالله سبحانه واكثرهم زهداً وتعففاً عن الدنيا.

ولذلك كان علي (ع) ابلغ المؤمنين في توصيل سورة براءة الى عالم ذلك الزمان، كي يؤمنوا وتخشع قلوبهم لذكر الله عزّ وجلّ.

 

19- نظرة شاملة في حروب الامام (ع) بجوار النبي (ص)

لم يكن اندفاع الامام (ع) في مواجهة الموت والقتال في سبيل الله ناشئاً من منطقة فراغ، بل كان اصراره على القتال مستخلصاً من القرآن المجيد. فقد تناول القرآن مسألة القتال والجهاد بكثير من العناية والاهتمام باعتباره وسيلة من وسائل نشر الدين الحنيف ودحر الكفر والباطل. فقال سبحانه: (وقاتِلوا في سَبيلِ اللهِ الذينَ يُقاتِلُونَكُم...)[19]. (واقتُلُوهُم حَيثُ ثقفتموهُمُ...)[20].

وقد كان ذلك الحثّ المتواصل على الجهاد مدعاة لنشوء معارك كبرى خاضها الاسلام ضدّ الشرك. وكانت معارك بدر الكبرى، واُحد، والخندق، وخيبر، وذات السلاسل، وحُنين معارك كبرى بلحاظ النتائج المتمخضة عنها والآثار التي سببتها. وكان من آثارها ردع العدو الذي تمثّل بفتح مكة دون سفك دماء، وتبوك حيث دُفعت الجزية وتمّت المصالحة عليها. وهكذا ادّت الشجاعة العظمى وحبّ لقاء الله بالموت على فراش الاسنّة، دورها الحقيقي في نشر الاسلام بين الناس وتثبيت اسس الدين.

وكان من آثار شجاعة الامام علي (ع) في الحروب التي خاضها مع رسول الله (ص) خلال مراحل تكوين الدولة الاسلامية وتثبيتها، هو نقل المجتمع الاسلامي من مجمع محلي الى مجتمع عالمي له قانون ونظام وادارة تستطيع قيادة العالم. فقد برز الاسلام قوة عالمية بعد المعارك التي خاضها محمد المصطفى (ص) جنباً الى جنب مع علي (ع). وبعد الانتصارات التي تحققت في بدر وخيبر وذات السلاسل وفتح مكة وحنين وتبوك، برز الجيش الاسلامي واحداً من اقوى الجيوش في العالم القديم.

وبذلك تراكمت لديه الخبرات العسكرية والمعدّات اللازمة التي تهيؤه للحروب الكبرى القادمة مع الروم والفرس، والسيطرة على التجارة العالمية، ومن ثمّ صياغة النظام السياسي السماوي للعالم.

لقد وجّهَ الامام (ع) شجاعته من أجل الاسلام، وفي سبيل الله خالصة دون أية مطامع دنيوية. ولذلك فقد كان عدو المشركين الاول بعد رسول الله (ص). وبكلمة، لقد كان الامام (ع) رفيق النبي (ص) في كل جهاد ونصر على الكافرين، وكان شريكه في كل جرح وقرح ومعاناة في سبيل الله سبحانه. ذلك ان سيف علي (ع) ترك آثاراً عميقة في المجتمع الاسلامي، كما تركت كلمات رسول الله (ص) وسيرته آثارها العميقة عليهم.

ومن هنا قيل ان كل حرب لا تحمل الآثار المتوقع حملها، لا يمكن ان تعدّ حرباً مؤثرة. أي ان قيمة الحرب تحدد بمقدار التبعات التي تنتجها في النظام الاجتماعي ومقدار التغيرات التي تحدثها في التركيبة الدينية للطرف المنهزم. وبالاجمال، فان تفسير اسباب الحرب يرجع بالدرجة الاولى الى فهم وظيفة آثار المعركة الحربية من حيث التغيير في تركيبة المجتمع وتبديل صورة النظام الاجتماعي.

الشخصية القتالية:

ويكننا الان ادراك طبيعة الشخصية القتالية الفذة للامام (ع) عبر النقاط التالية:

أولاً: كانت طبيعة التربية النبوية لعلي (ع) منصبّة على تعليمه طرق تمييز الخير من الشر، والحق من الباطل، والمعبود من العابد، والخالق من المخلوق. فصورة الرغبة في القتال تفترض ان الحرب هي وسيلة من وسائل محق الشر وازهاق الباطل وتثبيت الخير واحقاق الحق.

ثانياً: ان التعامل الاخلاقي لعلي (ع) في الحروب التي خاضها في حياته مثل: عدم الكرّ عندما يفرّ العدو، والصفح عن المسيء عندما يتمكن منه، والقتل خالصاً لوجه الله، كلّها تدلّ على ان بطولته (ع) كانت عملية أخلاقية صاغها السلوك العقلي الديني.

ثالثاً: لا يمكن الاخذ بصفة الشجاعة عند الامام (ع) بصورة منفصلة عن الصفات الشخصية الاخرى كالزهد والتقوى والتعفف عن ملاذ الدنيا الفانية. فاذا أضفنا تلك الصفات في القدرة على نبذ ملذات الدنيا  -حلالها فضلاً عن حرامها- الى البطولة الخارقة، كان العامل الشخصي المحرك للحرب عند علي (ع) عاملاً اخلاقياً نظيفاً نابعاً من جوهر الدين في محاربة الشر والباطل بما فيه من ظلم ورذيلة وفساد.

رابعاً: ان بطولة علي (ع) في المعارك الطاحنة كانت عاملاً مهماً من عوامل الردع النفسي ضد العدو. وبذلك ساهمت تلك البطولة في الحفاظ على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، لان الردع كان يقتضي استسلام الجيش المقابل دون قتال.

خامساً: ان بطولة داحي الباب (ع) لم تكن حبّاً في أذى الناس ولم تكن قضية غريزية من أجل القتل والتدمير. بل كانت تلك البطولة مصمَّمة على اساس ان ينتشر الخير والعدل بين البشر. وكانت شجاعة الامام (ع) حالة عقلية ألبسها الدين ثوب الكمال.

 

20 - يوم الغدير

وعلى ضوء كل ما عرضناه لحدّ الان عن حياة الامام (ع)، فان يوم الغدير كان منسجماً تماماً مع طبيعة مسار تلك الاحداث في المجتمع الاسلامي، ومتكاملاً مع تخطيط السماء.

ويوم الغدير هو يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة، وهو يوم نزول قوله تعالى: (يا أيُّها الرسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِن رَبِّك...)[21]. حيث أمرهُ تعالى ان يقيم عليّاً (ع) عَلماً للناس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على المسلمين.

وكان نص قوله (ص) عندما قفل راجعاً من حجة الوداع في غدير خم على اطراف صحراء الجزيرة العربية في جموع المسلمين هو: «ان الله مولاي، وانا مولى المؤمنين، وانا أولى بهم من أنفسهم. فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من ابغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، الا فليبلّغ الشاهد الغائب».

ولم يتفرق الجمع العظيم حتى نزل الوحي بقوله: (اليومَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكم وأتممتُ عليكُم نِعمَتي ورضيتُ لَكُمُ الاسلامَ ديناً)[22]. فقال النبي (ص): «الله أكبر على اكمال الدين، واتمام النعمة، ورضى الربّ برسالتي، والولاية لعلي من بعدي»[23].

 مؤهلات الامامة:

ولا شك ان تصريح رسول الله (ص) بتلك القوة، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، قائلاً: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» يعني انتقال جميع صلاحيات الولاية التي كان يتمتّع بها النبي (ص) الى الامام (ع) عدا الوحي والنبوة. وهذا يعني استمرار المسيرة الاسلامية على نفس الخط المرسوم من قبل السماء، خصوصاً اذا تذكرنا تنبؤ النبي (ص) بقرب وفاته.

وانتقال جميع صلاحيات الولاية الشرعية في قوله (ص): «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» يعني ان عليّاً (ع) توفّرت فيه جميع الشروط التي تجعله صالحاً للامامة، وهي:

أولاً: امتلاكه (ع) امكانية هائلة على تحمّل مسؤولية الولاية الشرعية وادارة المجتمع الاسلامي بعد وفاة النبي (ص). فقد كان (ع) الأرض الخصبة التي بذر فيها المصطفى (ص) بذور الشجاعة والحلم والعلم والاخلاق والطهارة والعفّة والزهد والتقوى والفصاحة. بحيث كان موقع علي (ع) من النبي (ص) موقع المرآة المتلألئة، والصوت القوي، والسيف المنافح عن الحق، والشخصية الاسلامية المُثلى لامتدادات نبي الرحمة (ص). فكانت تلك الامكانية الهائلة موضع نظر المسلمين، والمشركين، والمنافقين على حد سواء. ولم يكن للآخرين مثيل أو شبيه لتلك الامكانية.

ثانياً: كان نمو قوة علي (ع) الاجتماعية نمواً طبيعياً، خصوصاً: في المعارك الطاحنة التي خاضها ضد الشرك، وفي حفظه القرآن المجيد وادراك باطنه وظاهره، مجمله ومبينّه، محكمه ومتشابهه، ناسخه ومنسوخه، وتعليمه المسلمين، وفي زواجه بسيدة نساء العالمين (ع)، وفي توليته على المدينة من قبل رسول الله (ص) في غزوة تبوك، ودعوته الناس للاسلام في اليمن، وتبليغه سورة براءة في حج السنة التاسعة، ثمّ اعلان الولاية الشرعية الآن في غدير خم. كل ذلك اعطى الامام (ع) قوة اجتماعية ودينية، تجعل انتقال الصلاحية الشرعية من النبوة الى الامامة انتقالاً طبيعياً لا يزلزل تلك الامة التي لا تزال حديثة عهد بالدين وبأحكامه وبعدالته ونظافته الاخلاقية.

وانتقال بهذا الحجم، وهو حجم النبوة التي يوحى اليها والامامة المعصومة التي لا يوحى اليها، يحتاج الى أمرين مترابطين أشدّ الارتباط، وهما:

أ - امضاء ذلك الانتقال من قبل صاحب الرسالة، وهو النبي (ص)، واعلانه الى الجمهور العريض والأمة الواسعة. وقد حصل ذلك يوم الغدير بالخصوص.

ب - ان يكون الاعلان عن انتقال الصلاحية الشرعية في حياة رسول الله (ص) وقبل وفاته وعلى لسانه الشريف حتى يطمئن الناس لصلاحية ذلك الانتقال. وقد حدث كل ذلك امام الملأ العام ايضاً.

ثالثاً: نضوج فكرة الامامة والولاية الشرعية في أذهان الناس، بحيث ان يوم الغدير - وهو يوم اكمال النعمة واتمام الدين- لم يحمل اعتراضاً وجيهاً حمله لنا التأريخ. بل كان زعماء قريش من أوائل من هنّأ الامام (ع) بإمرة المؤمنين. خصوصاً وان رسول الله (ص) قد نعى نفسه بالقول: «انني اوشك ان اُدعى فأجيب داعي الله». وفيه دلالة على ان انتقال الصلاحية الشرعية كان أمراً طبيعياً عند وفاة رسول الله (ص) وانتقاله الى عالم الخلود. ولكن نضوج فكرة الامامة في اذهان المسلمين لا يعني قبولها والتسليم بها دون معارضة وطموحات شخصية. وقد اشار تعالى: (وما مُحمّدٌ إلاّ رَسولٌ قد خَلَتْ مِن قَبلهِ الرُسُلُ أفإن ماتَ أو قُتِلَ انقَلَبتُم على أعقابكُم...)[24]. 

الصفوة الدينية:

وارتباط ولاية علي (ع) يوم الغدير بأهل البيت (ع) الذين وصفهم الامام (ع) نفسه بصفات مثل: «هم اساسُ الدين، وعمادُ اليقين...»[25] يدعونا الى التوقف عند فكرة الصفوة الدينية.

وفكرة الصفوة تعكس ظاهرة اساسية في الحياة الاجتماعية للمجتمع المدني المتحضر. فالمجتمعات الانسانية - على اختلاف درجات تطورها - تحتاج الى مَرجِع تعتبره رمزاً للحياة الشرعية العامة وتجسيداً للقيم الاخلاقية والدينية. ولا شك ان الاختلاف في القابليات الذهنية والروحية للناس، والتباين في الاداء بين البشر يساعد على الركون الى نظرية الصفوة. ذلك لان الاختلاف الشاسع في درجات الاذعان أو التسليم تؤدي الى فوارق في النفوذ، والقيادة، والسلطة. فالانسان الذي نذعن له ونسلّم بسلطته لخصيصة معينة لا نملكها، نعطيه الحق في الحكم والادارة الاجتماعية والدينية.

ومن هنا كانت الصفوة الدينية قلّة منتَخَبة انتخاباً سماوياً، ومتميزة عن بقية افراد المجتمع بسبب لياقة خاصة ورفعة مقام وسمو لا يصل اليها احد؛ فبها «يُستعطى الهُدى ويُستجلى العمى»[26]. وكان علي (ع) وفاطمة (ع) وذريتهما هي تلك الصفوة التي كانت تشتمل على جميع الفضائل والخصال الجليلة.

وعند التأمل في تلك الفضائل والخصال ندرك ان لتلك الصفوة السماوية سلطة اخلاقية وشرعية، وقابلية فريدة على ادارة الازمات الاجتماعية الكبرى. وكانت سلطتهم الاخلاقية غير محدودة بجيل مشخّص أو زمن معين، بل كانوا مشاعل هداية لكل جيل. ولكنهم واجهوا ازمات اجتماعية خطيرة. فكان من الازمات التي واجهها الامام (ع): اجتماع السقيفة بعد وفاة رسول الله (ص) وتقرير الأمر لغير أهله، وخروج أم المؤمنين عليه في حرب الجمل، وعصيان والي الشام المخلوع معاوية بن أبي سفيان لاوامره (ع) ومقاتلته جيش الامام في صفين، وانشقاق مجموعة من جيشه (ع) عليه ومقاتلتها له في معركة النهروان. وتلك أزمات خطيرة للغاية عولجت بطريقة شرعية فائقة في الدقة والالتزام.

ولو ابدلنا الصفوة الدينية بنخبة اجتماعية دنيوية انصع صورها خلفاء قريش وبني أمية وبني العباس وغيرهم لاختلّت المعادلة الدينية، لان اولئك الخلفاء كانوا اُناساً يرتكبون الاخطاء الاجتماعية والشرعية ولا يدركون مقاصد الشريعة. فهم قاصرون في الادراك والاداء عن الصفوة الدينية التي مُنحت اعظم نعم السماء وهي نعمة العصمة في ادراك الدين واداء تكاليفه الشرعية وارشاد الامة الى تكاليفها وواجباتها ومحرماتها. 

ولاية بحجم الدين:

وولاية بهذا الحجم لابد ان تديرها الصفوة الدينية. خصوصاً وان من وظائفها: تبليغ احكام الشريعة وتطبيقها وتفسيرها، واداء وظيفة القضاء بين الناس وانزال العقوبات بالمخالفين، وعدالة توزيع الثروة الاجتماعية، والتنسيق بين العبادات والمعاملات، والدفاع عن الامة من اعتداءات العدو، ونشر الاخلاق والفضائل بين الجماعة، وتشجيع الناس على حرية التعبير عن آرائهم بما يخدم الاسلام والمجتمع الاسلامي.

وبكلمة، فقد اُريد لولاية علي (ع) يوم الغدير ان توحّد الامة حول رمز عظيم من رموز الاسلام، ومركز شرعي يركن الناس اليه، ومحور يدلل على شخصية الدين كما عبّر هو (ع) عن نفسه بانه القرآن الناطق ويعسوب الدين. وكانت الولاية مكسباً خطيراً للجماعة في الوحدة والتعاون والاشتراك جميعاً في محاربة الشرك والكفر، بلحاظ اختلاف المؤمنين في القابليات، والوظائف، والادراكات، والاداء، والاخلاقيات الاجتماعية والتعبدية. ولكن ذلك المكسب سرعان ما تحطم على اعتاب اجتماع السقيفة بعد وفاة النبي (ص) مباشرة.

فقد كانت مشكلة الخلافة بعد وفاة النبي (ص) من أهم عوامل الانقلاب التي عبّر عنها الذكر الحكيم: (... انقَلَبتُم على أعقابِكُم...)[27]. فقيادة المجتمع تُعدّ مشكلة خطيرة تحتاج الى تخطيط مسبق وعملية رسم خريطة عمل للمستقبل، ذلك لان اكتمال مباني الدين باكتمال نزول القرآن المجيد كان يفتح الباب للتأويل والتفسير والاجتهاد المبني على البناء الثقافي الجاهلي. وكان المجتمع الاسلامي الجديد بحاجة ماسة الى معرفة تفصيلية لمصاديق نظام الدولة في الحقوق والواجبات، والمسؤوليات الاخلاقية والشرعية، والعدالة الاجتماعية، وادامة الدفاع الابتدائي والحرب الهجومية من أجل نشر الاسلام في العالم.

لقد كانت الامة بحاجة الى وقت، في مرحلة ما بعد النبوة، لاستيعاب معاني القرآن الكريم وادارك السيرة النبوية الشريفة. وكان ذلك يتطلب فهماً لموقع الامة التأريخي من كل ذلك. فالدين انما جاء من أجل تقوية الضعيف، وتعليم الجاهل، وتمكين الايمان من احتلال موقعه الطبيعي في النفس الانسانية. فالاسلام لا يكتفي بمجرد انشاء كيان اجتماعي للمسلمين، بل يريد لذلك الكيان ان يستمر مع استمرار الحياة على الارض. وتلك مهمة صعبة لاشك، ولكن مهمة تملك كل مقومات النجاح والتسديد. ولذلك كان قرار يوم الغدير بتولية علي (ع) قراراً دينياً بالدرجة الاولى يتعلق بالتخطيط الاجتماعي لمرحلة ما بعد النبوة. 

الجسر الدائم بين النبوة والامامة:

والاقرار بالولاية لبطل المعي شاب مثل علي بن ابي طالب (ع) وهو في سن ينوف قليلاً على الثلاثين، له دلالات ينبغي ان تؤخذ في التخطيط الاجتماعي. وهو ان المخَطط له، وهو المجتمع الاسلامي، كان يُراد له ان يعيش الحكم الشرعي ويتفاعل معه لعقود مديدة قادمة. وهي فترة تربية عظيمة لو قُدِّر لها ان تتم.

واذا تصورنا ان هناك جسراً بين النبوة والامامة اعلنه رسول الله (ص) في ذلك اليوم القائظ تحت حر الهجير في مفترق طرق الصحراء على جمع عظيم من المسلمين وهو يوم الغدير، فان ذلك الجسر يعبّر عن حالة من حالات الاندماج بين طرفين لا يمكن ان يكون أحدهما ضد الآخر. بمعنى ان الاندماج لا يتم بين المتناقضين ولا بين المتضادين، بل يتم بين المنسجمَين اللذين يكمّل أحدهما الآخر. وأحسن تعبير عن الحالة الاندماجية هو المقولة النبوية: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه». فالمولوية هنا عملية استمرار لتطبيق الحكم الشرعي من المنبع السماوي «القرآن والسنّة». وتلك المولوية المتصلة بعضها ببعض تعني قرارات شرعية متشابهة تحكم القانون الاجتماعي والاعراف والارتكازات العقلائية. واعلان الولاية يوم الغدير يعني ان هناك تناسقاً فكريّاً بين النبوة والامامة. بمعنى ان النبي (ص) والامام (ع) كانا ينظران الى نفس الملاك والمصلحة، وكانا ينسقان لنفس التخطيط بعيد المدى للدين. ولذلك كان النبي (ص) على اطمئنان تام بصحة نقل المولوية منه (ص) بعد وفاته الى من هو أهل لتلك المسؤولية وهو علي بن أبي طالب(ع). وكان ذلك أمر الله سبحانه وتعالى.

والاندماج بين النبوة والامامة يوم الغدير كان خاضعاً لثلاثة عوامل:

الاول: ان درجة الائتلاف - على سبيل المجاز - أو الاندماج كانت ضخمة جداً بحيث ان صلاحيات المولوية انتقلت بكاملها من النبي (ص) الى الامام (ع) عبر قوله (ص): «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه». أي إذا كنتُ انا قائداً لزيد، فانّ عليّاً (ع) هو أيضاً قائدٌ بنفس الدرجة.

الثاني: ادامة ولاية العترة الطاهرة (ع) الى يوم القيامة. فالولاية الشرعية على المجتمع الاسلامي لم ولن تتوقف عند حد زمني معيّن، لانّ أهدافها الدينية في تكامل الجماعة المؤمنة تبقى متجددة مع كل جيل من الأجيال الانسانية.

الثالث: ان فحوى القرار الذي يمكن ان يتخذه الامام (ع) لا يحيد عن فحوى القرار الديني السماوي. فشخصية علي (ع) تعلّمت من رسول الله (ص) جميع الكلّيات الدينية، ولا ريب في ذلك فهي شخصية غير منفصلة عن الصفوة الالهية التي اصطفاها الله سبحانه لعباده.

 

21- وفاة رسول الله (ص)

لم تكن وفاة رسول الله (ص) لليلتين بقيتا من شهر صفر سنة إحدى عشرة للهجرة حدثاً مفاجئاً، وانما استمر المرض الذي اشتكى منه (ص) شكواه الذي توفي فيه اياماً عديدةً. وكانت تلك الايام الاخيرة المتصلة بالوفاة باعثاً على تهيئة الرأي العام بقرب وقوع الحزن الاكبر برحيل نبي الرحمة (ص) الى عالم الغيب والملكوت. وكانت تصريحاته (ص) الخاصة بابعاد من كان يطمح بالخلافة الى جيش اُسامة، والاعلان لمن كانت له وصية أو عهد أو دَيْن عنده (ص) واخباره به ليوفّيه اياه، وطلبه (ص) الدواة والكتف ليكتبَ لهم كتاباً لن يضلّوا بعده ابداً، والطلب من علي (ع) بمواراته في رمسه عند موته (ص)، كلها تدلُّ على ان رسول الله (ص) كان قد تنبأ بوفاته تنبؤاً صادقاً. وهذا يعني ان الرأي العام كان يحس - مصداقاً ووجداناً - وجود خليفة كفوء يخلف النبي (ص) خلافة طبيعية بعد وفاته (ص).

وينقل لنا التأريخ المنصف دور علي (ع) خلال الايام الاخيرة من حياة رسول الله (ص) بأنه كان متميّزاً وأخلاقياً. فقد قبلَ علي (ع) وصية النبي (ص)، والتزم أسراره، وقرر انجاز عدته وقضاء دينه. وفاضت روح البشير (ص) وهو في حجر علي (ع). فهو (ع) آخر من رآه وآخر من سمع وصاياه وتعليماته السماوية. كما كان رسول الله (ص) أول من رأى علياً (ع) بعد أبويه (رض) أم طالب وأبي طالب يوم ولد في الكعبة. وهكذا استمرت العلاقة التأريخية بينهما مدّة ثلاثة وثلاثين عاماً.

مقتضيات الوفاة:

والموت قضية تكوينية تشمل جميع المخلوقات دون استثناء كما قال تعالى: (كلُّ نَفسٍ ذآئقةُ الموتِ...)[28]. ولكن موت حامل الرسالة السماوية ومبلّغها الصادق الامين (ص) يعدُّ حدثاً عظيماً هائلاً، لانه قد يولد شكوكاً حول الرسالة عند غياب قائدها. وقد تنبأ الذكر الحكيم بضخامة الحدث قبل وقوعه بسنوات، فقال: (وما مُحمّدٌ إلاّ رَسولٌ قَد خَلَتْ مِن قبلهِ الرُسُلُ أفإن ماتَ أو قُتِلَ انقَلَبتُم على أعقابِكُم...)[29].

وادراكاً لآثار الوفاة، ينبغي التأمل في الأمر على أصعدة ثلاثة:

الاول: الصعيد الغيبي: وهو يعني توقّف الوحي توقفاً تاماً عن الاتصال بالارض، واكتمال مقاصد القرآن الكريم في هداية الانسانية المعذبة في ذلك الزمان بل وفي كل زمان حتى يحين يوم القيامة. وكان يعني توقف عصر النبوة، فقد كان محمد بن عبد الله (ص) خاتم انبياء السماء.

الثاني: الصعيد الاجتماعي: ويعكس انقطاع دور النبوة التي يوحى إليها، وبداية دور الامامة الموصى بها من قبل رسول الله (ص). فكان المفترض أن يختبر المجتمع عصراً جديداً في الادارة الدينية رائده علي بن أبي طالب (ع). وكان أول اختبار لعلي (ع) في ذلك هو كيفية الصلاة على الجسد الطاهر (ص)، فأشار (ع) عليهم بان رسول الله (ص) إمامنا حياً وميتاً، فاستجابوا له وصلّى الناس صلاة الميت عشرة عشرة. وكان الاختبار الثاني هو عندما خاض المسلمون في موضع دفنه، فقال (ع): «ان الله سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان الا وارتضاه لرمسه فيه، واني دافنه في حجرته التي قُبض فيها». واستجاب له المسلمون في ذلك ايضاً. ولاشك ان هذين الاختبارين من الاختبارات الفقهية الشرعية التي لا ينهض باعبائها الا من كان كفوءً لها.

الثالث: الصعيد الشخصي: وهو اختيار رسول الله (ص) الرفيق الاعلى على الرجوع الى الدنيا. وهو اختيار يثبت نبوة المصطفى (ص) وحبّه للقاء الله عزّ وجلّ.

وبطبيعة الحال، فإن رحيل النبي (ص) عن عالمنا الدنيوي هزّ التركيبة الاجتماعية للمجتمع الاسلامي في ذلك الزمان. فقد كان الناس حديثي عهد بالاسلام، ولم يفهموا معاني الموت وعلاقتها بالدين بعد. بل كانت الجذور القَبَلية قبل الاسلام لا تزال سارية في نفوس بعض القوم ممن دخلوا الاسلام ظاهراً، وقلوبهم غير مهيّأة للدين.

والأمر الأهمّ في حادثة الوفاة هو ان غياب شخصية بهذا الوزن وبتلك الاهمية الدينية كشخصية خاتم الانبياء (ص)، كان يهدد النظام الديني في المجتمع. ذلك ان دور النبوة الاجتماعي والديني لا يمكن تعويضه الا بدور مقارب من النبوة، حتى يستقر الدين في النفوس والقلوب استقراراً راسخاً الى اجل معلوم. فكانت الامامة الشرعية لعلي بن ابي طالب (ع) هي أقرب الادوار وأنسبها لسدّ الفراغ الذي تركه موت رسول الله (ص). 

الواجب الشرعي والواجب الاخلاقي:

قام بنو هاشم بتجهيز النبي (ص) ودفنه، بينما انشغل المسلمون في نفس الوقت بقضية الخلافة في سقيفة بني ساعدة. وقد كان من وظيفة الجماعة الاهتمام بجسد النبي (ص)، الا ان علياً (ع) مثّل دور الامة في هذا الواجب الكفائي، وأماط عنها العذاب الالهي. وهنا لابد من التفكير بالواجب الشرعي والواجب الاخلاقي. فالواجب الاخلاقي أضيق دائرة من الواجب الشرعي. بمعنى ان الذي يعبد الله، لانه يؤمن بأنه أهلٌ للعبادة، فانما يمتثل الواجب الاخلاقي فضلاً عن الشرعي. بينما الذي يعبدُ الله امتثالاً للأمر - لمجرد الامتثال - فانما يمتثل للواجب الشرعي فقط. والواجب الشرعي يدعو الانسان الى اعطاء الفقير بعضاً مما يملكه المُعطي لا كل ما يملكه. ولكن الواجب الاخلاقي يدعو الانسان الى اعطاء كل ما يملكه للفقير. هنا انحصر الواجب الاخلاقي بالصفوة من الناس، بينما عمّ الواجب الشرعي كل مكلّف.

ولو نظرنا الى سلوك القوم بعد وفاة النبي (ص) لرأينا أنه افرز ثلاث حقائق:

الاولى: لم يلتزم القوم بالواجب الاخلاقي في تجهيز النبي (ص) ودفنه، مع ان ذلك الواجب كان واجباً شرعياً كفائياً قام به بنو هاشم. الا ان الالزام الاخلاقي يدعو المؤمن الى التريث حتى يتم دفن الرسول (ص)، قبل التداول في أمر الخلافة.

الثانية: ان الواجب الاخلاقي، فضلاً عن الواجب الشرعي، كان يقتضي تنفيذ وصية رسول الله (ص) بحذافيرها دون ابطاء أو تأخير. ولكننا لم نرَ أثراً لذلك الواجب الاخلاقي عندهم.

الثالثة: ان الواجب الاخلاقي أعلى درجة من الواجب التكليفي، كما ذكرنا آنفاً. بمعنى ان الاول يؤدى خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى من دون تكليف، بينما يؤدّى الثاني بدافع التكليف والأمر المولوي. ولو افترضنا - نظرياً - ان عظم المصيبة التي حلّت بالمسلمين دفعتهم الى نسيان الوصية، لكان الأجدر بهم ان يقدّموا عليّاً (ع) للخلافة على سبيل أداء الواجب الاخلاقي. وهو الذي شهد له التأريخ القتالي والعلمي بحسن الادارة والقتال والتفاني في سبيل الدين.

وعلى أي تقدير، فقد انكسر الواجبان الاخلاقي والشرعي اللذان كانا يدعوانهم الى رعاية حرمة رسول الله (ص) خلال احتضاره وبعد وفاته (ص). وهنا كان الحزن الاعظم حزناً مضاعفاً يصعب على الانسان احتماله. 

دور علي (ع) في اللحظات الصعبة:

الا ان الدور الذي اُنيط بعلي (ع) كان متميزاً في النوعية والفعلية. فعلى مستوى النوعية، قَبَل علي (ع) وصيته (ص)، ووعد بانجاز عدته وقضاء دينه (ص). ولا يقوم بذلك العمل النوعي الا من كان مؤهلاً وصادقاً فيما يقول ويُوعد. وعلى مستوى الفعلية، قام علي (ع) بكل ما يمكن أن يقوم به من الالتصاق بالنبي (ص) في الساعات الأخيرة وتغسيله والصلاة عليه ودفنه (ص). وكان جلوسه (ع) للمصيبة عملاً اخلاقياً ودليلاً على انه كان ترابياً مندكّاً في الله سبحانه وتعالى. هذا في الوقت الذي كانت فيه مؤشرات تدلّ على ان القوم سوف يسارعون الى تقرير ولاية الأمر قبل ان يفرغ بنو هاشم من مصاب رسول الله (ص).

ولذلك احدثت وفاة رسول الله (ص) أزمة اجتماعية لان المتغيرات التي أريد لها ان تحتلّ مواقعها قد اُبدلت. فقد اُريد للامامة الشرعية أن تكون خليفةً للنبوة، وهو ما أوصى به رسول الله (ص) لعلي (ع). ولكن الامامة اُقصيت وجاءت محلها الخلافة الدنيوية التي لم تستند على وصية شرعية أو تبليغ سماوي ولم تكن تملك التخويل الشرعي لاصدار الاحكام والاوامر والنواهي الشرعية.

 

22- ما بعد رسول الله (ص)

وما ان اغمض رسول الله (ص) عينيه وهو في حجر علي (ع) تاركاً هذا العالم الفاني حتى اجتمع الانصار والمهاجرون في سقيفة بني ساعدة للتدوال في أمر الخلافة. وكأن القوم نسوا تماماً وصية النبي (ص) لعلي بن أبي طالب (ع) خلال غزوة تبوك: (اخلُفني في أهلي)، «اما ترضى ان تكون مني بمنـزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي»، ويوم الغدير: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه». ولم يكن بين وصية رسول الله (ص) لعلي (ع) يوم الغدير بالولاية وبين وفاته (ص) الا سبعون يوما. وتلك مدة زمنية قصيرة لا يمكن الادعاء فيها بنسيان خطبته (ص) في حجة الوداع ووصاياه فيما يتعلق بالولاية.

 خصائص اجتماع السقيفة:

وعلى اية حال، فان اجتماع السقيفة كان مؤتمرا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد كان اجتماعاً لافراد جاءوا بدعوة - على الاغلب تأريخيا - من أجل مناقشة هدف محدد في فترة زمنية قصيرة جداً. وكانت آلية ذلك الاجتماع اعطاء صلاحية شرعية للبرنامج السياسي المطروح وهو خلافة رسول الله (ص)، وتناسي المرشح الاول في ذلك وهو علي بن ابي طالب (ع).

وكان ذلك الاجتماع يحمل خصائص خطيرة نعرضها فيما يلي:

أولاً: جمع اجتماع السقيفة كل الافراد الذين كانوا يطمحون سياسياً للامارة. والذي كان يوحدهم في الاجتماع ويجمع شملهم هو الأمل بالفوز بذلك المقعد الحساس، وهو مقعد الخلافة والامارة. ولذلك تكررت الفاظ تدل على ذلك الأمر، منها: «منا أمير ومنكم أمير»، و«نحن الامراء وانتم الوزراء»، و«هيهات لا يجتمع سيفان في غمدٍ واحدٍ» وغيرها من الالفاظ المشابهة. ولذلك فانهم تناسوا خطبة رسول الله (ص) يوم الغدير القائلة بخلافة علي (ع). ولم يبرز في ذلك الاجتماع الصاخب ولا صوت واحد يذكّرهم بما قاله رسول الله (ص) في غدير خم قبل شهرين وعشرة أيام فقط. وهذا يعني بالنتيجة ان اجتماع السقيفة كان يحمل رباطاً يربطهم جميعاً وهو رباط الطموح الشخصي للخلافة.

ثانياً: لم يكن اجتماع السقيفة اجتماعاً تشاورياً بين الخبراء يؤدي الى الخروج بمبنى عقلائي. ولو كان كذلك لاسترجعوا في اذهانهم وصايا رسول الله (ص)، واقروا ولاية علي بن ابي طالب (ع). ولكنه كان اجتماعاً من أجل السيطرة والتحكم بالمقدرات، ولذلك رُفِعَ السيف اكثر من مرة، واُسكت أكثر من فرد، وتهاوت الافكار من اقصى الطموح بالخلافة للانصار الى مستوى: منا أمير ومنكم أمير، الى القبول بخلافة المهاجرين. وكان اجتماعاً يتناغم فيه زعماء قريش بعضهم لصالح بعض. وكان الحباب بن المنذر أشدّهم في المعارضة السلّحة وكذلك سعد بن عبادة. بينما أخذ الحسد بشير بن سعد مأخذه منه.

ثالثاً: لم يكن جدول اعمال السقيفة تبادل الآراء بهدوء من أجل الوصول الى حل لمشكلة غياب النبي (ص)، على افتراض انها مشكلة، بل ان الجو النفسي كان جو ارهاب وتحدي وعنف لفظي مثّلته مخاوف الانصار من المصير القاتم على أحفادهم من خلافة قريش، وقول عمر لسعد بن عبادة: اقتلوه قتله الله، ونحوها. ولو كان اجتماعهم اجتماع دين وتقوى في الصورة والمحتوى، لتوصل الى اتفاق مبدئي في الالتزام بوصايا رسول الله (ص).

ولذلك كان أهم آليات التعامل خلال اجتماع السقيفة هو استخدام القوة والتهديد حتى يرضخ الطرف الآخر صاغراً لارادة الطرف الاقوى. وهنا كان الاتفاق نابعاً عن الاكراه والعنف، لا عن الاقناع والرضا. وقد انتصرت قريش وارغمت الانصار وغيرهم على قبول الواقع الجديد.

ثم استخدمت قريش شتى أساليب الضغط والاكراه ضد علي (ع) وبني هاشم من أجل حملهم على الرضوخ لمطالب الوضع الجديد. ولم يكن أمام الامام (ع) الا المقاومة السلمية ضدهم وهو القائل (ع): «اما والله لقد تقمصها فلانٌ، وانه ليعلم أنّ محليَّ منها محلُّ القُطبِ من الرحا...»[30]. ذلك انه (ع) لو استخدم اسلوب المقاومة المسلحة - وهو بطل الابطال- لدخل في حرب لا تحمل شروطاً موضوعية، وغير قابلة للتجانس مع مجتمع حديث عهد بالدين.

رابعاً: كان اجتماع السقيفة مؤتمراً جمع اغلب اطراف الصراع الاجتماعي في عصر الاسلام عدا بني هاشم، فقد عزلوا تماماً من مجرى الاحداث. فقد حضر الاجتماع في سقيفة بني ساعدة: سعد بن عبادة شيخ الانصار، وبشير بن سعد من سادات الخزرج، وبعض رؤوساء الاوس كأسيد بن حضير، وغير الاوس كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة من قريش. ثم اجتمعت بنو أمية الى عثمان، واجتمعت بنو زهرة الى سعد وعبد الرحمن بن عوف. وكان بنو أمية وبنو زهرة على وفاق مع ما حصل في السقيفة. وكان هؤلاء جميعاً يمثلون التيارات المختلفة في المدينة، وهي: تيار الانصار «الاوس والخزرج»، وتيار المهاجرين «قريش وبني أمية».

خامساً: التأم جمع السقيفة في يوم وفاة رسول الله (ص) وهو لا يزال مسجى لم يُوارَ الثرى بعد. وكان رسول الله (ص) قد هيأ لاُسامة جيشاً كبيراً قبل أيام من وفاته (ص). وكان في الجيش وجوه الانصار والمهاجرين. وتذكر كتب التأريخ ان النبي (ص) كان كثيراً ما يردد: «انفذوا جيش اُسامة» ويدعو الانصار والمهاجرين الى الالتحاق بالجيش، حتى يستوسق أمر الخلافة لأهله. والسؤال الذي يطرح هو: كيف التأم جمع السقيفة من الانصار والمهاجرين، في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن يكونوا خارج المدينة مع جيش اُسامة؟ وهذا يجعل المرء يشكك في مصداقية اولئك النفر الذين يأمرهم النبي (ص) بالذهاب الى الجيش، فيتعللون بمختلف العلل للبقاء في المدينة بانتظار موت النبي (ص). فأين شرعية اجتماع السقيفة من كل ذلك؟

سادساً: اُريد لاجتماع السقيفة أن يُؤسس لاجواء ذهنية اجتماعية لتقبل إبعاد الامام (ع) عن الخلافة والقبول بخلافة الخليفة الجديد. واجتماعٌ من ذاك القبيل جمع تيارات سياسية واجتماعية تناست كُلها وصية النبي (ص) في غدير خم.

سابعاً: لم تكن العلاقة المبدأية بين القوى الفاعلة في السقيفة علاقة انسجام واقرار بمبدأ واحد، فيما يخص الولاية على أقل التقادير. بل كان الفهم السائد في اجواء السقيفة يقتضي الصراع ثم كبح جماح الطرف الاضعف. ولم يكن يقتضي التفاهم على وصية رسول الله (ص) مثلاً، التي كانت أصل الانسجام الاجتماعي المفترَض في المجتمع المتدين.

ومن الطبيعي، فان تجمع ذلك العدد من الطامحين للمقاعد السياسية في تلك البقعة الصغيرة وفي ذلك الزمن القصير الحساس، كان مدعاةً لصراع اجتماعي وعدم انسجام مبدئي حول من يخلف رسول الله (ص). فقد كان لكل طرف من تلك الاطراف اهداف ووظائف غير قابلة للاندماج مع وظائف الآخرين، في خليط سياسي مضطرب وغير متجانس. فبينما كان الامام (ع) يسعى من أجل ديمومة الشريعة وتطبيق احكام السماء في المجتمع الديني، كانت الاطراف الاخرى تحاول الفوز بالسلطة على حساب طموحات الدين.

وذلك التنافس المحموم حول السلطة كان يعبّر عن حربٍ بين الضمائر أيضا. ذلك ان الاهداف المتعاكسة تتصادم، ويحاول كل طرف انهاء طموحات الطرف الآخر في السلطة والرياسة. خصوصاً اذا كانت تلك المبادئ التي تؤمن بها تلك الاطراف متناقضة تماماً وغير قابلة للتعايش. ومن هنا نفهم ان الاحداث التي اعقبت وفاة رسول الله (ص) تشير الى أن الامور كانت تسير بهذا الاتجاه، فلم تكن هناك أهداف مشتركة تعمل على تحقيقها الاطراف المختلفة. فلم تكن - في الصورة الكلية - مساحة للتفاهم والمشاركة.

ثامناً: كان من اهداف المنافسة السياسية والصراع الاجتماعي محاولة الطرف القوي - في الدهاء - حذف الطرف الآخر من المعادلة الاجتماعية. ولذلك حاولت قريش حذف علي (ع) بكل ما يمثله من قيم ومبادئ وبطولة واخلاق وفهم للشريعة. لان متطلبات بقائها في السلطة كان يقتضي ذلك. والى ذلك أشار (ع) في احدى خطبه: «اللهم اني استعديك على قريشٍ ومن أعانهُم! فإنهم قطعوا رَحمي وصغّروا عظيمَ منـزلتي، واجمعوا على منازعتي أمراً هو لي. ثم قالوا: ألا إنّ في الحقّ ان تأخُذَهُ، وفي الحقِ ان تتركَهُ»[31].

ولولا طموحات القوم السياسية لما اصبح الصراع ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية عند المسلمين. بل إنهم بفضل اجتماعهم في السقيفة وتغييبهم للقانون والشريعة، قد اوجدوا للصراع الاجتماعي بين الحق والباطل شروطاً موضوعية من أجل ان يستمر الى يوم القيامة.

واصبحت التركيبة الاجتماعية للمسلمين منذ واقعة السقيفة ولحد اليوم تركيبة مبنية على اساس صراع الضمائر بين الحق والباطل. فالضمير الشيعي الامامي اصبح مرهفاً يبكي مظلومية علي (ع)، ومظلومية الزهراء (ع) ومظلومية بقية الاوصياء (ع)، بينما بقى ضمير الاغلبية الصامتة جاهلاً شروط الصراع وظروفه التأريخية.

ومن الطبيعي فان عملية الانتقال لا تكون شرعية الا ان يوصي الحاكم الاول وهو رسول الله (ص) الى الحاكم الثاني، أو على الاقل يُمضي انتقال السلطة الشرعية من يده الشريفة (ص) الى اليد الثانية. اما ان يجتمع القوم ويقررون، دون رضا رسول الله (ص)، فهنا يصبح الانتقال غير شرعيٍ ولا ملزمٍ. ولذلك فان الامام (ع) لم يبايع الخليفة الاول.

وانتقال السلطة الدينية التي خطط لها رسول الله (ص) لا يعني انتقال السلطة التنفيذية فقط، بل كان يعني انتقال السلطة التشريعية والقضائية أيضاً. وكل تلك السلطات مبنية على اساس القرآن والسنّة الشريفة. ذلك ان العصمة في الدين تعكس القدرة الاستثنائية على ادراك ملاكات الاحكام، والمصالح والمفاسد، ادراكاً واقعياً حقيقياً. وهنا يكون الولي الذي اوصي له بالقول: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» قائداً حقيقياً في التنفيذ والتشريع والقضاء. خصوصاً وان الوضع الاستثنائي الذي كان يعيشه الاسلام من حيث وجود المنافقين، والذين دخلوا الاسلام حديثاً، والذين آمنوا ظاهراً ولم يؤمنوا باطناً، يتطلب تكثيف الإرادة الشرعية فيما يتعلق بالادارة الاجتماعية والسلطة الشرعية في يد وحدة قادرة على اداء تلك الوظائف مجتمعة. ولذلك خاطبهم الامام (ع) بعد انتهاء السقيفة: «...لنحن أحقّ الناس به، لأنا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم. ما كان فينا الا القارىء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله (ص)، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الامور السيئة، القاسم بينهم بالسوية»[32].

عاشراً: انتهى اجتماع السقيفة بانتصار قريش على الانصار، لوجهين:

أ _ ارتكب الانصار أعظم الاخطاء السياسية عندما طرحوا آراءهم واهدافهم من البداية على طرف محنّك سياسياً. ولم يتأنوا قليلاً وينتظروا ما سيقول خصمهم.

ب _ لم يكن اندفاع الانصار نحو الخلافة كاندفاع قريش القوي الشرس، وكان قول الانصار: منا أمير ومنكم أمير، أول الوهن وأول التنازل أمام خصم قوي. فاستغلت قريش ذلك وطالبتهم بأن يكونوا وزراء لقريش، وهي التفاتة سياسية وتوهين لم يحسب لهما الانصار حساباً. وهنا استخدمت قريش استراتيجية محكمة في التعامل مع الانصار، بينما اعتمد الانصار على مجرد الالفاظ والعبارات من اجل قطف ثمار الخلافة.

وعندما رأى (ع) ما حصل في السقيفة من انتخاب القوم لرجلٍ من قريش، وابعاده (ع) عن حقه في الولاية، قرر ان يلتزم الصمت والصبر بعد ان بحّ صوته في نقاشهم ومحاججتهم، فكان (ع) يقول: «...فرأيت ان الصبر على هاتا احجى (ألزم). فصبرتُ وفي العينِ قذىً، وفي الحلقِ شجاً، أرى تراثي نهباً...»[33].

صيانة القرآن:

وكان عليه الآن ان يتجه فوراً لحفظ القرآن وصيانته من يد التحريف. فقد رأى من الناس ما رأى عند وفاة النبي (ص). فأقسم (ع) ان لا يضع رداءه على ظهره حتى يصون القرآن. فلزم بيته حتى تأكّد من جمعه واطمئنت نفسه الى ذلك.

وقد ورد في بعض المصادر[34] ان عليّاً (ع) لزم بيته بعد وفاة النبي (ص) مدة ثلاثة أيام وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلفه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه كله. وكتب على تنـزيله الناسخ والمنسوخ منه، والمحكم والمتشابه.

والمستفاد من ذلك ان مكوث علي (ع) في بيته ثلاثة أيام كان من أجل التأكد من وجود القرآن مكتوباً بكامله. فيكون الأمر من قبيل مراجعة نصوص القرآن المجيد، والاشارة الى الناسخ والمنسخ، والمحكم والمتشابه. والا، فانه لو لم يكن مكتوباً لتعذرت كتابته في تلك الفترة القصيرة المضطربة. ويؤيده ان الصحابة كانوا متفقين على ان علم القرآن مخصوص لاهل البيت (ع)، كما نقل الشهرستاني في مقدمة تفسيره «مفاتيح الاسرار ومصابيح الابرار» بحيث انهم كانوا يسألون عليّاً (ع): هل خُصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟

ومع ذلك فقد حُذف اسم علي (ع) من باب جمع القرآن من مصادر مدرسة الصحابة عدا ما شذّ كابن النديم في «الفهرست» والخوارزمي في «مناقبه».

وعلى أي تقدير، فقد بقي القرآن الذي كتبه أمير المؤمنين (ع) باملاء رسول الله (ص) هو المصحف الحق الذي حفظ ما بين الدفتين، وكان مصداقاً لقوله تعالى: (إنّا نحنُ نزّلنا الذِّكرَ وإنّا لَهُ لَحافِظونَ)[35]. وهناك دليلان على ذلك:

الاول: ما رواه ابن طاووس (ت 664 هـ) في كتابه «سعد السعود» نقلاً عن كتاب ابي جعفر محمد بن منصور، ورواية محمد بن زيد بن مروان في اختلاف المصاحف: «ان القرآن جمعه على عهد ابي بكر (زيد بن ثابت) وخالفه في ذلك (أبيّ) و(عبد الله بن مسعود) و(سالم) مولى أبي حذيفة. ثم عاد عثمان فجمع المصحف برأي مولانا علي بن ابي طالب (عليه السلام). وأخذ عثمان مصاحف أبيّ، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى ابي حذيفة فغسلها (وفي بعض النسخ: فاحرقها). وكتب عثمان مصحفاً لنفسه، ومصحفاً لاهل المدينة، ومصحفاً لاهل مكة، ومصحفاً لاهل الكوفة، ومصحفاً لاهل البصرة، ومصحفاً لاهل الشام»[36].

الثاني: ما ذكره الشهرستاني في مقدمة تفسيره برواية سويد بن علقمة، قال: سمعتُ علي بن ابي طالب (ع) يقول: ايها الناس، الله الله اياكم والغلو في أمر عثمان، وقولكم حرّاق المصاحف. فوالله ما حرقها الا من ملأ من اصحاب رسول الله (ص). جمعنا وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها: يلقي الرجلُ الرجلَ فيقول قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يجرّ الى الكفر. فقلنا بالرأي. قال: اريد ان أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشدّ اختلافاً. فقلنا: نعمَ ما رأيت. فأرسل الى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، قال: يكتب احدكما ويُملي الآخر، فلم يختلفا في شيء الا في حرف واحد في سورة البقرة. فقال أحدهما: «التابوت» وقال الآخر: «التابوه» واختار قراءة زيد بن ثابت لانه كتب الوحي[37]. وفيما ذكره الشهرستاني دلالات:

1 _ ان علياً (ع) كان شاهداً ومشرفاً على كتابة القرآن في عهد عثمان، ولذلك فقد فصّل في طبيعة الكتابة والاملاء والاخذ بقراءة زيد بن ثابت.

2 _ ان علياً (ع) اكد ان «زيد بن ثابت» كان كاتباً للوحي، كما كان أمير المؤمنين (ع) ذاته. ولعل في اختياره لكتابة الوحي مع علي بن ابي طالب (ع) مراداً، وهو ان لا تختلف الامة من بعد رسول الله (ص) في القرآن كما اختلفت في ولاية أهل البيت (ع). وقد أشرنا الى ذلك سابقاً.

وهكذا كان، فان علياً (ع) لم يألُ جهداً في حفظ القرآن وصيانته من يد التحريف. فكتب القرآن على عهد النبي (ص) وجمعه وتأكد من جمع السور والآيات بعد وفاته (ص)، ووضع قواعد النحو من أجل ان لا يختلط على الناس الملحون من الفصيح وكان تلميذه في ذلك أبا الاسود الدُّؤلي. وكان (ع) له فضل في وضع الإعراب والاعجام[38] عن طريق تلامذة الدؤلي وهما: يحيى بن يعمر العدواني قاضي خراسان، ونصر بن عاصم الليثي. وعلّم (ع) الناس تفسير القرآن والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه. وكان من قبل قد قاتل المشركين ثم قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعد، من أجل ان يبقى القرآن محفوظاً بين الدفتين الى يوم القيامة.

واذا تصفحنا كتب الحديث في مدرسة الصحابة نجد ان هناك روايات متناقضة حول جمع القرآن. ولا نشك انها انما وضعت من أجل اعطاء فضل الجمع، لافراد كانت المصلحة السياسية تقتضي ان يفضّلوا على غيرهم. وقد حاولت تلك المصادر الغاء دور علي (ع) في كتابة القرآن وجمعه وصيانته. وكان ذلك الامر من مقتضيات اجتماع السقيفة وما تمخص عنه من نتائج وآثار.

 

23- فاطمة الزهراء (ع)

لم يشك احد ممن صاحبَ النبي (ص) وعاصره فترة نزول الوحي في المدينة في عصمة فاطمة الزهراء (ع) بنت رسول الله (ص) وقرينة الامام أمير المؤمنين (ع). فقد لمس الناس دليلين من أقوى الادلة على ذلك، أحدهما من القرآن المجيد والآخر من السنّة الشريفة. 

ادلّة العصمة:

1 _ فالدليل القرآني يقول: (إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُذهِبَ عَنكُمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهّرَكُم تَطهيراً)[39]. والارادة الالهية هنا تدلّ على وقوع الفعل للشيء المراد. والمراد بأهل البيت (ع): رسول الله (ص) وعلي وفاطمة وذريتهما (علهم السلام جميعاً)، كما ورد في الروايات الصحيحة المسندة.

2 _ الدليل الروائي، وهو قول رسول الله (ص): « فاطمةٌ بضعةٌ منّي، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزّ وجلّ»[40]. ولا يمكن ان يقول النبي (ص) ذلك، لو كانت ابنته تقترف الذنوب. فلا يمكن ان يكون موذيها مؤذياً لرسول الله (ص) ما لم تكن منـزّهة عن ارتكاب المعاصي. وهذا يثبت انها كانت لا تقترب من الذنوب مطلقاً. واذا اضفنا أمراً آخر، وهو علمها المطلق بالشريعة السماوية، لتبين لنا انها كانت امرأة كاملة في الفهم والاداء. وهذا هو المراد بعصمتها.

وبكلمة، فإن فاطمة الزهراء (ع) - من حيث القضية الفسلجية التكوينية - لم تكن تختلف عن قريناتها من النساء، حيث كانت تمر بمراحل الحمل والولادة والرضاعة. باعتبار ان تلك القضية قضية طبيعية تكوينية لا تتنافى مع الطهارة والكمال. ولكن ورد في الروايات ان مزاجها كان ثابتاً غير متغير كما هو المعهود في النساء، ولا يأتيها ما يأتي النساء عادة كل شهر، ولا تشارك نساء زمانها في مطلق الرغبات الدنيوية. وتلك مختصات في الطهارة والكمال اختصت بها (ع) دون غيرها من النساء.

الوجود الاجتماعي:

الا ان المهم في شخصية فاطمة الزهراء (ع) هو وجودها الاجتماعي، الذي تمثل في الموارد التالية:

1 - ان فاطمة (ع) لم تنشأ في الحلية، وهي الاجواء التي اعتادت عليها النساء من حيث زينة الذهب والفضة والجواهر والحرير. وتلك الاجواء تغمر المرأة بمظاهر التزين والترقق، وتسلب منها الاهتمام بالأمور الروحية والتعبدية. بل نشأت (عليها السلام) في اجواء الوحي والنبوة والعلم والجهاد والحرب والمشقة. وهذا ما كان يميزها عن بنات زمانها.

2 - ان العصمة في الدين النابعة من قوله تعالى: (إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُم تَطهيراً)[41]، يضعها - اجتماعياً - في موضع القدوة التي يقتدي بها الناس. فهو يبعدها ايضاً عن اهتمامات النساء الغالبة في زمانها. ويجعلها رمزاً للمرأة المتعبدة المتهجدة العارفة.

3 - قوة موقعها الديني كان يقتضي من اعدائها محاربتها بنفس الشدة التي حورب بها زوجها علي (ع)، ومن قبله رسول الله (ص). ولكن ظرف المواجهة كان مختلفاً وشرطها كان متبايناً. 

فدك: اغتصاب الحق من اهله

وانصبّ محور الصراع على قطعة خصبة من الارض بالحجاز وهبها لها رسول الله (ص) في حياته، اسمها فدك. وكان ذلك أمراً من الله بموجب رواية هذا نصها: «لما فرغ (ص) من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا الى رسول الله (ص) فصالحوه على النصف من فدك. فانزل الله تعالى على نبيه (ص): (فأتِ ذا القُربى حَقَّهُ...)[42]. ثم أوصى اليه ان ادفع فدكاً الى فاطمة (ع)، فدعاها رسول الله (ص) فقال لها: يا فاطمة، ان الله امرني ان ادفع اليك فدكاً. فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله (ص). فلما ولي أبو بكر اخرج عنها وكلاؤها...»[43].

فرفعت فاطمة (ع) الأمر الى الخليفة الاول مطالبة بفدك، باعتبارها ارضاً قد وهبها لها النبي (ص) في حياته، أي انها نحلة. وجاءت بشاهدين هما: علي (ع) وأم أيمن. ولكن الخليفة الاول رفض ذلك، مع ان الاصل في القضاء انه يجوز ان يقضي بيمين وشاهد.

والبيّنة التي يطلبها القاضي - على الاغلب - انما يُراد منها التغليب في الظن على صدق المدّعى. ولاشك ان العدالة معتبرة في الشهادات لانها تؤثر في غلبة الظن. ولذلك اجيز للحاكم ان يحكم بعلمه من غير شهادة، لان علمه أقوى من الشهادة. ومن المستبعد ان فدكاً كانت قد وُهبت لفاطمة (ع) دون علم الناس. اذن، فالبيّنة كانت موجودة، ولكن الارادة السياسية في رد الحق كانت غائبة.

وكان رد شهادة فاطمة (ع) بنت رسول الله (ص) أحد أخطر الاعمال وأجرأها بعد السقيفة. فكيف يمكن رد دعوى تلك المرأة الطاهرة (ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله

وعندما فشلت دعوى النحلة عند الخليفة الاول، قامت الزهراء (ع) بالمطالبة بميراث رسول الله (ص)، باعتبارها البنت الوحيدة للنبي (ص). والاصل في ذلك ان فدكاً لو لم تكن نحلة قد وهبها لها النبي (ص) في حياته، فلابد ان تكون إرثاً لابنته الوحيدة (ع). خصوصاً وان فدكاً كانت لرسول الله (ص) خاصة، لانه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب[44]. ولكن الخليفة احتج بأن الانبياء لا يورّثون[45]، وهو مخالف لأصل القرآن الذي قال: (وَوَرِثَ سُلَيمانُ داوُدَ...)[46]، وفي خبر يحيى بن زكريا قال: (فَهَب لي مِن لَدُنكَ وليّاً. يَرِثُني ويَرِثُ مِن آلِ يَعقوبَ...)[47]، ونحوها.

وفشلت تلك الدعوى ايضاً في اقناع الخليفة الاول بأحقية فاطمة (ع) بإرث أبيها. فتقدّمت ثالثةً للمطالبة بسهم ذوي القربى مما بقي من خمس خيبر. ولكن الخليفة اسقط سهم النبي (ص) وسهم ذوي القربى، ومنع بني هاشم من الخمس وجعلهم كغيرهم. وهكذا حُرمت الزهراء (ع) من جميع حقوقها، ولم يُستَجَب حتى لطلبٍ من مطاليبها المدعومة بالحجج والادلة.

وعندها، أجهرت (ع) في معارضتها للنظام الجديد؛ وكانت خطبتها الشهيرة في مسجد رسول الله (ص) أقوى وثيقة تشهد بما جرى عليها وعلى زوجها (عليهما السلام). ثم قاطعت (ع) القوم حتى يوم استشهادها.

فدك: بين الامتياز والحق

وبقيت «فدك» قضية تدك مضاجع الجميع. فقد ارادت سيدة النساء (ع) من اثارة قضية فدك من اغتصب الحق، وصدّ أهله عنه، وخالف النبي (ص) بعد وفاته، ونكث عهده.

ولكن - في الجانب الاقتصادي - وإن كانت فدك ملكاً لفاطمة (ع)، الا ان خيراتها العظيمة كانت تصبُّ في صالح المسلمين خصوصاً الفقراء والمعوزين. بينما كانت مالكتها فاطمة (ع) لا تزيد في طعامها مع زوجها (ع) وذريتهما على خبز الشعير الخشن.

فهنا تخلّت فاطمة (ع) عن امتيازات تلك الملكية لصالح الفقراء. ومن هنا كانت ملكية البتول (ع) لفدك تختلف عن الفكرة العامة للملكية. ذلك ان تلك الملكية نقلت حالة التملك من حالة «الامتياز» الى حالة «الحق» فقط.

وبتعبير ثانٍ ان فاطمة (ع) لم تكن تفكر بامتيازات مادية تنهمر عليها من ذلك التملك، بل ان «حق الملكية» يعني ان لها ان تدير الثروة الناتجة من ذلك التملك بما يوحيه عليها ادراكها الشرعي للمصالح الاجتماعية للمسلمين. ولذلك نرى ان قبولها التمليك من والدها (ص) كان في غاية الدقة.

فقد قال لها رسول الله (ص): (ان الله امرني ان ادفع اليك فدكاً). فكان جوابها: (قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك). فقد كان في تلك النحلة او الهبة ايجاب وقبول؛ ولم تزد حرفاً على ذلك. وهذا يعني انها كانت تعي المسؤوليات المترتبة على ذلك اللون من التملك.

وبتعبيرٍ ثالثٍ، اننا لو افترضنا ان فدكاً كان قد تملكها فرد من عامة الناس لاستفاد من امتيازاتها وثرواتها استفادة شخصية. ولكن تملك المعصوم (ع) لفدك يعني ان في نيّته توزيع الثروة الناتجة على فقراء المسلمين، بينما لا يفكر باقتناء شيء لنفسه. فهنا اصبح «الامتياز» من تملك فدك عند فاطمة الزهراء (ع) عائداً للامة بينما كان حقها في تملك الارض أي «حق الملكية» هو حق كامل بمقتضى أحكام الشريعة.

(تليها ص 100 - 132)

اللاحق      صفحة التحميل       الصفحة الرئيسية


 

1 «سيرة ابن هشام» ج 4 ص 54 –  55.

2 سورة النصر: آية 1 –  3.

3 «سيرة ابن هشام» ج 4 ص 49.

4 م. ن. – ج 4 ص 72.

5 م. ن. – ج 4 ص 72.

6 م. ن. – ج 4 ص 39.

7 «المستدرك على الصحيحين» ج 2 ص 366.

8 سورة الاسراء: آية 81.

9 سورة البقرة: آية 256.

10 سورة التوبة: آية 25.

 11سورة التوبة: آية 25.

12 سورة الجمعة: آية 8.

13 سورة التوبة: آية 25.

14 «نهج البلاغة» - الخطبة 122 ص 220.

15 سورة الانفال: آية 15 – 16.

16 «الخصائص» ص 14. رواها النسائي باسناده عن سعد بن ابي وقاص.

17 «الصحاح» ج 3 ص 1628 مادة «أهل».

18 «سيرة ابن هشام» ج 4 ص 190 – 191.

19 سورة البقرة: آية 190.

20 سورة البقرة: آية 191.

21 سورة المائدة: آية 67.

22 سورة المائدة: آية 3.

23 «اُسد الغابة» ج 3 ص 307، ج 5 ص 205.

24 سورة آل عمران: آية 144.

25 «نهج البلاغة» خطبة 2 ص 35.

26 «نهج البلاغة» خطبة 144 ص 246.

27 سورة آل عمران: آية 144.

28 سورة آل عمران: آية 185.

29 سورة آل عمران: آية 144.

30 «نهج البلاغة» - خطبة 3 ص 35.

31 «نهج البلاغة» - خطبة 172 ص 303.

32 «الامامة والسياسة» - ابن قتيبة ج 1 ص 21 – 30.

33 «نهج البلاغة» - خطبة 3 ص 36.

34 «الفهرست» - ابن النديم. ص 30. وايضاً: «الاتقان» - السيوطي عن ابن حجر. و«شرح الكافي» للمولى صالح المازندراني عن كتاب «سليم بن قيس».

35 سورة الحجر: آية 9.

36 «سعد السعود» - ابن طاووس ص 278.

37 «مفاتيح الاسرار ومصابيح الابرار» - الشهرستاني. المقدمة.

38 الاعراب هو وصل الخط مضبوطاً بالحركات والسكنات. والاعجام هو تمييز الحروف المتشابهة بوضع نقط لمنع اللبس.

39 سورة الاحزاب: آية 33.

40 «ينابيع المودة» ص 260.

41 سورة الاحزاب: آية 33.

42 سورة الروم: آية 38.

43 «اصول الكافي» - كتاب الحجة ج 1 ص 543. و«الدر المنثور في التفسير بالمأثور» ج 4 ص 177. و«شرح نهج البلاغة» ج 16 ص 210.

44 «سنن ابي داود» ج 3 ص 218 رقم 3016.

45 «سنن ابي داود» ج 3 ص 198 رقم 2973.

46 سورة النمل: آية 16.

47 سورة  مريم: آية 5 – 6.