(ص 100- 132) 24- حياة الامام (ع) في عهد الخلفاء بقي الامام علي (ع) فاعلاً في الساحة الاجتماعية، على الرغم مما حصل في السقيفة. حيث كان القدوة في العبادة والزهد والتقوى والعلم الديني المستمد من علم رسول الله (ص). ويمكن رصد حياة الامام (ع) خلال تلك السنوات، الخمس والعشرين، ضمن أربعة محاور هي: أ - النشاط التعبدي: وقد كان نشاطاً متميزاً في الصلاة والصيام وقراءة القرآن وملازمة الاوراد وقيام النافلة وصلاة الليل. وقد درج على تلك العبادة منذ ان كان صبياً يرافق رسول الله (ص). وكان زهده (ع) ملازماً لعبادته. فكلّما ذاب في التفكر في خالقه ومولاه عزّ وجلّ، كلما زهد في أموره الدنيوية. ب - العمل السياسي: التقية استخدام الامام (ع) التقية كرخصة لمواجهة عصر ما بعد السقيفة. والى ذلك صرّح قائلاً: «والله ما منعني الجبن، ولا كراهية الموت. ولكن منعني عهد اخي رسول الله (ص) اذ قال: يا ابا الحسن ان الامة ستغدر بك، وتنقض عهدي، وانت مني بمنـزلة هارون من موسى. فقلتُ: ماذا تعد اليَّ يا رسول الله اذا كان ذلك؟ فقال: إن وجدت أعواناً فبادر اليهم وجاهدهم، وان لم تجد أعواناً فكفّ يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً». فكانت قلّة الاعوان، وكون الناس حديثي عهد بالاسلام، من الاسباب التي دعته الى استخدام التقية كرخصة مؤقتة استمرت ربع قرن من الزمان. وقد حفظت التقيّة التي طبّقها مولى الموحدين (ع)، التوازن التأريخي بين الحق والباطل. فلو لم يكن هناك من يحفظ الايمان والولاء في القلوب لتحقق الهدف النهائي لاجتماع السقيفة، وهو حذف ائمة أهل البيت (ع) من الخارطة السياسية والاجتماعية للاسلام. ولكن الاستخدام الصحيح لتلك الرخصة، أدى فيما بعد الى إرجاع شعلة الولاء لأهل بيت النبوة (ع). فما ان زال الاكراه حتى عاد الحق الى نصابه. ج - العمل القضائي: الاستشارة وكانت نشاطات الامام (ع) فيما يتعلق بالقضاء أقرب الى العمل الاستشاري منها الى العمل كمنصب. فقد كان (ع) - عندما يعجز القوم عن حل المشكلات الشرعية - يُستشار من قبل الخلفاء فيعطي رأي الشريعة في ذلك. ولذلك كان ذلك العمل محدوداً بحدود عجز القوم عن فهم الاحكام الشريعة، والا فهو لم يكن قاضياَ زمن الخلفاء الثلاثة كما يتبادر الى الذهن أول مرة. لقد كان أمير المؤمنين (ع) من أعلم الناس بعد النبي (ص). ولاجل «ما خصه الله تعالى به من فهم دقائق العلم بسرعة، احتاج أجلاء الصحابة لحلّه للعويصات»[1]. وتوزع نشاطه القضائي الاستشاري على مساحة واسعة من القضايا المتنوعة: كالحكم فيما يتعلق بالملكية، وما يتعلق بالقضايا الاخلاقية، والجنايات الاجتماعية، وفي قضايا العقائد ومبهمات الامور، والعبادات، وفي قضايا الحرب. وكان (ع) سدرة المنتهى في القضاء الاسلامي. خصوصاً عندما كان القوم يعجزون عن استظهار الحكم فيظهر جهلهم للشريعة واضحاً للعيان، وعندما كانوا يخطأون أو يتسرعون في اصدار أحكام على غير الاسس الشرعية. وقد حوت بطون الكتب التأريخية والفقهية الكثير من الروايات في ذلك. ولا شك ان البعض من الناس يختبر الحاكم في المسائل الشرعية والاعتقادية، من أجل ان يرى مقدار علمه. وقد حصل مثل ذلك كثيراً في مسائل العقائد والمبهمات من الامور. وكان (ع) رائداً في حلّ معضلاتها، بينما كان الآخرون يُظهرون عجزاً تاماً في ذلك. وسوف نقرأ الكثير من ذلك في محله من هذا الكتاب، باذنه تعالى. ولما كان الاسلام ديناً جديداً يافعاً بالنسبة للاديان السماوية الاخرى، فقد كانت عملية اثارة الأسئلة المعقدة أو المحرجة واثارة الشكوك أمراً طبيعياً من قبل الاعداء. لذا كان تواجد الامام (ع) على الساحة الاجتماعية والفكرية، حاسماً من أجل ردّ تلك الشبهات والشكوك والأسئلة المعقدة. وبذلك حفظ الامام (ع) رسالة الدين من شبهات اولئك الاعداء. د - العمل الكسبي: الزراعة توفرت لدى الامام (ع) فرص كثيرة للاثراء والتملك الواسع، ولكنه بقي متعففاً عن المال زهداً في الدنيا، يعمل في الزراعة. وكان ينفق مما يجنيه في الحراثة ونقل الماء وسقي الزرع، على الفقراء والمساكين. وكان لا يمد يده الى بيت المال، بل اذا لزمه في العيش الضيق والجهد أعرض عن الخلق وأقبل على الكسب والكدّ. وكان (ع) «يسقي بيده لنخلِ قومٍ من يهود المدينة، حتى مجلت يده، ويتصدق بالأجرة ويشدّ على بطنه حجراً»[2]. وكل ما تملكه علي (ع) من الاراضي كان ينفق ريعه في سبيل الله على الفقراء والمساكين وابن السبيل. وعندما بُشّر بانفجار عين من الماء في أرضه، قال لهم بكل بساطة: «بشّروا الوارث»[3]. بمعنى لا تبشّروني بأمرٍ فانٍ ودنيا زائلة. فكلُ ملكٍ لابد ان يرثهُ غيرُ صاحبهِ. وبكلمة، فان الامام (ع) بقي يراقب الوضع الاجتماعي الديني عندما سُلبت منه ادوات تحكيم الدين، يوم السقيفة. ولكنه (ع) وقف بوجه القوم عندما كان الحكم الشرعي يتطلب الوقوف، ونصحهم عندما كان الموقف يتطلب النصيحة. وفي غير ذلك، فان حكم التقية كان الغالب على الحياة الدينية والاجتماعية لمجتمع الثلث الاول من القرن الاول الهجري.
25 - حكومة الامام امير المؤمنين (ع): النظام السياسي بعد مقتل عثمان بن عفان، استلم الامام (ع) مقاليد الخلافة الشرعية على المسلمين. وقد امتازت حكومة الامام علي بن ابي طالب (ع) بخصائص جوهرية مستمدة من القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة. ويتّفق الكل على انه (ع) كان اكثر الناس الماماً بمعاني القرآن المجيد ومعالم السيرة النبوية. وكانت حكومته الرشيدة مبنيّة على اركان عشرة هي: 1- النظام السياسي. 2- النظام الاداري. 3- النظام الحقوقي. 4- القانون وحاكمية الشريعة. 5- النظام القضائي. 6- النظام الجنائي. 7- النظام العسكري. 8- النظام الثقافي. 9- النظام التجاري والاقتصادي. 10- بيت المال. شروط الحاكمية الشرعية: وعندما نخوض في بحر العالَم السياسي، فاننا نحتاج الى تحديد معنى الحاكمية الشرعية. وقد بيّن لنا الامام (ع) ذلك عبر تحديد أربعة مفاهيم: الاول: الإمْرَةُ التقية: وهي الإمرةُ البَّرةُ يعملُ فيها التقيُّ[4]، حتى يستقيمَ العدلُ في البلاد، وتظهر المودة بين الرعية والحاكم، ويُنتَصَف للمظلوم فيها من الظالم. وهي من خصائص المعصوم (ع) وحقوقه. فهو المسؤول عن ادارة أمور الناس وتنظيم شؤونهم. صفات الإمرة الشرعية: وتلك الإمرة لها صفات، منها: 1 - منها الإمرة الشرعية ليست إمرة اكراه واستبداد، بل هي إمرة يطيعها المكلّف بإيمان وإخلاص. لان تلك الطاعة نابعة عن معتقد قلبي وعقلي بالرسالة الدينية السماوية. وبتعبير آخر ان الفيصل بين السلطة الدينية التي كان يمثّلها الامام (ع)، وبين الإكراه والإستبداد والتسلط الذي كان يمثّله الحاكم الظالم هو: «الشرعية». أي ان الدين يجعل للمعصوم (ع) حقاً شرعياً لادارة الناس، ويفرض - في الوقت نفسه - تكليفاً على المكلفين بالطاعة. بينما ينكر على الظالم ذلك الحق. 2 - ان السلطة الشرعية للامام أمير المؤمنين (ع) كانت قد مُورِست مع قدرٍ شديدٍ من الوضوح في محاسبة الولاة والعمال على الامصار الاخرى. فكان (ع) يقول لأحد ولاته: «وان عملك ليس لك بطُعمة، ولكنه في عُنقك أمانة»[5]. فالإمرة الشرعية في عهد الامام (ع) كانت إمرة ذات طبيعة منظّمة، هي أقرب الى طبيعة المؤسسة التي يُؤتمن عليها منه الى الطبيعة الفردية. وذلك الوضوح في الرؤية الحكومية، كان مدعاةً لاستتاب الأمن الاجتماعي وبناء الاستقرار النفسي للامة. 3 _ ان الامرة البَّرة هي سلطة شاملة لجميع السلطات الاجرائية في الحقوق والواجبات، ونظام العقوبات، ونظام الخَراج، ونظام الجيش والأمن العام ونحوها. فهي إمرة لا تنحصر باصدار الأوامر بخصوص الثروة وتحقيق العدالة فحسب، بل تعني ايضاً معاقبة الجناة والمنحرفين. وبذلك تشمل الإمرة البَّرة السلطات الثلاث: التنفيذية والقضائية والبرلمانية (التوكيلية). ولعل الامام (ع) هو أول من خصص السلطة في التأريخ، بتلك الحصص الثلاث. الثاني: الحكومة واذا كان المفكرون يَعنون بالحكومة: تضافر مجموعة من الافراد - وعلى رأسهم قائد - للقيام بمسؤولية الادارة الاجتماعية وممارسة السلطة. فعليهم الاقرار بان فكرة الحكومة لها مفاتيح ثلاثة، هي: المسؤولية، والنظام الهرمي، والادارة. نستلهم ذلك من أقوال الامام (ع). ففي المسؤولية قال (ع) موجهاً كلامه لأحد ولاته: «وان عملك ليس لك بطُعمة، ولكنّه في عُنقك امانة...»[6]. وفي النظام الهرمي قال (ع): «...انك فوقهم (يقصد الرعية)، ووالي الامر عليكَ فوقكَ، والله فوق من ولاّكَ...»[7]. وفي الادارة، قال (ع): «...فانه لابد للناس من أميرٍ بَرٍّ أو فاجرٍ...»[8]. خصائص الحكومة: وهنا لابد للحكومة من أربع خصائص، هي: 1ً - شرعية يمنحها الدين. ودليل تلك الشرعية يمنحها الله سبحانه، فيقول: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرَسولَ وأُولي الأمرِ مِنكُم...)[9]. ومفهوم قوله (ع) التالي يعدّ تفسيراً للآية الكريمة آنفة الذكر: «اما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمةَ، لولا حضورُ الحاضر، وقيام الحجةِ بوجود الناصر، وما أخذَ اللهُ على العلماءِ، ألا يُقارُّوا على كظَّةِ ظالمٍ ولا سَغبٍ مظلومٍ، لألقيتُ حبلَها على غارِبها...»[10]. وتنبع أهمية «الشرعية» في السلطة من ان العمل الاجتماعي ينبغي ان يطابق الواقع الشرعي، وعندها يكون مبرأ للذمة أمام الله تعالى. 2ً- صناعة قرار على صعيد المصداق. ويمثله صريح قوله (ع): «اما الإمرةُ البرةُ فيعملُ فيها التقي، وأما الإمرةُ الفاجرةُ فيتمتعُ فيها الشقيُّ الى ان تنقطعَ مدتُهُ وتدركهُ منيَّتهُ»[11]. بمعنى ان الحكومة لا تثمر في عملها الاجتماعي، ما لم تُتَرجَم النظريات التي يحملها الحاكم الى قوانين عملية صالحة. واذا كان القرارُ شرعياً وحاسماً، استتب العدل والامن في البلاد. فالمقياس في صناعة القرار هو ان يكون للدولة: شرعية معترفٌ بها، وقوة حسم. بحيث ان الحاكم لديه الكفاءة المطلوبة، ولا يخشى احداً الا الله. وبهذين العنصرين: الشرعية والحسم، استطاع الامام (ع) بناء دولة دينية مثالية ساهمت في تثبيت العدل بين الناس. 3ً- الكفاءة، أي قابلية الحكومة على سدّ حاجات الامة من الضروريات. وتلك وظيفة أساسية، ولولاها لما كان لوجود الحكومة معنى. وقد قامت حكومة الامام (ع) بتحقيق العدالة الاجتماعية والحقوقية بين الناس. فقد كانت حكومة كفوءة قادرة على العناية بالفقراء والاغنياء على حد سواء، وقادرة على تثبيت اسس النظام في المجتمع الاسلامي. 4ً- التركيبة الجماعية للحكومة. ونعني بذلك ان تكون الحكومة ذات طبيعة تضافرية، يتضافر الجميع على تسديدها والعمل فيها. فاذا كان على رأس الحكومة امامٌ عادلٌ كأمير المؤمنين (ع)، كان ولاته وعماله في الولايات والامصار اقرب الى العدالة والكمال. ونظرة فاحصة الى تركيبة حكومة أمير المؤمنين (ع) تُظهر لنا انها لم تكن حكومة (فرد) بل انها كانت حكومة «جماعة» مؤلفة من الامام (ع)، واداريين عُينوا من قبله (ع)، وقادة عسكريين، وقضاة، وجباة، ومستشارين. الثالث: العدالة ان من آثار العدالة - في نظر أمير المؤمنين (ع)- وضع الامور في مواضعها، قال (ع): «... العدلُ يضعُ الامورَ مواضعها...»[12]. والناس تختلف عن بعضها البعض في أمور مثل: الصفات الطبيعية في الذكورة والانوثة، والصفات الشخصية في القوة والضعف والذكاء والتخلف، والصفات الاجتماعية كالغنى والفقر والحرية والعبودية. وبموجب تلك الاختلافات، فان احتياجات الناس تتفاوت. ولذلك، فان أمر الاختلاف يستدعي من القائد الديني ان يكون عادلاً. أي ان يضعَ الامورَ مواضعها، كما صرح (ع) بذلك. فالغني لا يحتاجُ مالاً، بل عليه ان يدفع الحق الى الفقير المحتاج؛ وهذا هو العدل لانه وضع الامور مواضعها. والعامل الماهر الكفوء يكافأ بأجرٍ أعلى من العامل الخامل غير الماهر؛ وهذا هو العدل لانه وضع الامور مواضعها. والضعيف، قاصراً كان أو عاجزاً، ينبغي ان تُضمن معيشته؛ وهذا هو العدل لانه وضع الامور مواضعها. ومن قراءة تلك الامثلة نفهم، بان مقولة الامام (ع) تستدعي إعمال العقل ايضاً في تحقيق العدالة الاجتماعية. مبادئ العدالة: وقد كان الامام أمير المؤمنين (ع) يسير على ضوء ثلاثة مبادئ في العدالة، هي: 1ً - ان الاختلافات التكوينية بين الافراد هي واقع حقيقي لا يمكن انكاره أو تجاهله. ولذلك فان فكرة «المساواة» تصدق فقط في نطاق معين. مثل «المساواة» في معونة المظلومين واسترجاع حقوقهم من الظالمين، و«المساواة» في العطاء من بيت المال لذوي الحاجة والمسكنة من الامة. وقد قال (ع) عند بيعة الناس له: «... فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسّم بينكم بالسوية. لا فضل فيه لأحدٍ على أحد»[13]. فالمساواة في العطاء للفقراء تخلُقُ جواً من العدل، وإحقاقاً للحق، وإنصافاً للمظلوم من ظالمه. وتلك العدالة في العطاء للفقراء تجبرُ الاختلافات التكوينية التي خُلقت أصلاً من الافراد دون ارادتهم. 2ً - لما كان تحقيق المساواة العقلية بين الناس أمراً مستحيلاً، كان لا مفرّ للامام علي (ع) من تحقيق المساواة العرفية التي هي شكل من اشكال العدالة، عن طريق الانصاف والعدل والميزان، كما قال: «... ايها الناس، اعينوني على انفسكم، وايمُ الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتى اوردَهُ منهلَ الحقِ وإن كان كارهاً»[14]. وهو منسجم تماماً مع المفهوم القرآني القائل: (إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى...)[15]، (وَيلٌ للمُطفِفينَ. الذينَ إذا اكتالوا على النّاسِ يَستوفُونَ وإذا كالُوهُم أو وَزَنُوهُم يُخسِرونَ...)[16]، (... وآتُوهُم مِن مالِ اللهِ الذي آتاكُم...)[17]، (... كَي لا يَكونَ دُولَةً بينَ الأغنياءِ مِنكُم...)[18]. وتلك آيات شريفات اكدت على عدالة توزيع الثروة، وحسن تعامل الناس فيما بينهم على صعيد المال. وجعلت للفقراء حقّاً محسوباً في أموال الاغنياء. بمعنى ان الشريعة لم تجعل للاغنياء الخيار في مساعدة الفقراء أو اهمال مساعدتهم، بل فرضت عليهم ذلك بقوة التشريع. 3ً- كما ان بيت المال يوزع الحقوق على الفقراء بالتساوي، فانه في الوقت نفسه يأخذ من أرباب العمل والزراعة: الخَراج. وهي ضريبة تدخل بيت المال بضميمة موارد اخرى كالغنائم والصدقات والخمس ونحوها. وقد نهى (ع) زياد بن ابيه - عامله على فارس - عن زيادة الخَراج، بقوله (ع): «استعمل العدل، واحذر العسفَ والحيفَ...»[19]. وبطبيعة الحال، فان اشباع الفقراء وسدّ حاجاتهم لا يعني زيادة عددهم. فالصدقة لا تشجع الغني على الهبوط الى الطبقة الفقيرة من أجل استلام تلك العطية. والاهتمام بالفقراء لا يعني تقليل الانتاج الاجتماعي من زراعة وصناعة، بل العكس. فالمجتمع الذي يتساوى في الناس بسد رمقهم واشباع حاجاتهم، يكون أكثر انتاجاً وأوفر عطاءً في العلم والفضائل. فالعدل اذن، هو: أ - المساواة بين الفقراء في العطاء من بيت المال. ب - التكافؤ في الفرص. ج - المساواة أمام الشريعة او القانون عندما يتوحد الشرط والظرف. د _ المفاضلة بين الناس على اساس العلم والايمان والتقوى. هـ - التفاضل بالاجور على مقدار العلم والجهد وقيمة العمل. وهذا هو جوهر فكرة وضع الامور مواضعها. الرابع: الحاكمية: «الحاكمية» عنوان يعكس فكرة تقول بان الحاكم أمينٌ عامٌ على أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم. أي ان الحاكمية الشرعية تعني القدرة على إقامة العدل والحرية ورفع الفقر والجهل والانحطاط. ولا يمكن ان تكون الحاكمية شرعية، ما لم تستمد صلاحيتها الإلزامية من الدين. فلا نستطيع تصور دولة عادلة ونظام حقوقي واجتماعي وسياسي، لا يستند على مبادئ الدين واحكامه وتشريعاته، واحكام العقل ودلالاته. والحاكمية الشرعية هنا تعني القدرة التي يمتلكها الانسان كالمعصوم (ع) او من يوكله في هذه الحالة، على إدارة أمور الامة ضمن علاقات اجتماعية شرعية واضحة بين الحاكم والمحكوم. وعندها تكون الصفات الفاضلة امثال: الكرم والعلم والصلة والاعتدال والتعفف والرحمة والامانة وإقامة الدين، حتمية في ثبوت تلك العلاقات ورسوخها. ونستنبط من نظرية الامام أمير المؤمنين (ع) في الحاكمية أفكاراً عظيمةً في ادارة الدولة. فهناك مجموعة من الصفات تُبلوِر معنى الحاكمية، منها: التواصل المشترك بين الوالي والامة: «فاذا أدّت الرعية الى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها، عزّ الحقُ وقامت مناهج الدين»[20]، والانفتاح على الناس: «واخفض للرعية جناحكَ وابسُط لهم وجهكَ، وألِن لهم جانبكَ...»[21]، وتطهير عيوب الناس لا كشفها: «فان في الناس عيوباً، الوالي أحقُّ من سترها...فانما عليك تطهيرُ ما ظهرَ لك...»[22]، وتفضيل المحسن على المسيء: «ولا يكوننَّ المحسِنُ والمسيءُ عندكَ بمنـزلةٍ سواء...»[23]، وعدم الانقطاع عن الامة فترة طويلة: « فلا تُطوِّلنَّ احتجابَكَ عن رعيتك، فان احتجابَ الولاةِ عن الرعيةِ شُعبةٌ من الضيق...»[24]، وحرمة سفك الدماءِ بغير حلِّها[25]. آثار الحاكمية الشرعية: وللحاكمية الشرعية التي يستعملها الحاكم على الامة آثار، نرتبها في النقاط التالية: 1ً - ان المهم في حُسن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي ان تُقيم احتمالاً عقلائياً، بتوجيه سياسة الحاكم نحو تحقيق آمال الرعية وتلبية طموحاتها في العبادة والعدالة والعمران. واكثر ما يستفيد منه الحاكم هو وجود العلماء والحكماء في مجالسه العامرة بالعلم والادب والمعرفة. ولذلك كان الامام أمير المؤمنين (ع) يشير الى عامله في مصر بالاكثار من: «مدارسةِ العلماء ومنافثةِ الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمرُ بلادِكَ واقامةِ ما استقام به الناس قبلكَ»[26].فالانفتاح على الامة بالمقدار الذي وضحته رسائل الامام (ع) وخطبه، يشخّص للحاكم الهوية السياسية، وبيعة المشاكل الاجتماعية التي يواجهها الناس خلال ولايته (ع). 2ً - ان انفتاح الامة على الحاكم سوف يزيح - الى حد ما - الحاشية الفاسدة التي تحاول عزل الحاكم عن مشاكل الامة، وتقوده نحو الانغماس في اللهو والمفسدة. والى ذلك يشير (ع): «... ولا تعجلنَّ الى تصديق ساعٍ، فان الساعي غاشٌ، وإن تشبه بالناصحين...»[27]. ولا شك ان الاغلبية من السعاة هم من حاشية السلطان ومريديه. والحاشية الفاسدة تقرب اصحاب المال والثروة نحو الحاكم، بينما تحاول ابعاد الفقراء والمساكين. ومن الطبيعي ان الانفتاح على الامة يحرم تلك الحاشية الفاسدة الكثير من الامتيازات التي يمكن ان تتمتع بها. 3ً - ان مجرد الشعور بامكانية الوصول الى الحاكم يمنح الامة شعوراً بالارتياح، ويجعلها تؤمن بان السلطة الشرعية ما هي الا وسيلة من وسائل الادارة الاجتماعية وحفظ حقوق الناس. وليست وسيلة من وسائل الامتيازات المالية والاقتصادية وتجميع الثروة عند الطبقة الحاكمة. والى ذلك أمر عامله بعدم الاحتجاب طويلاً: «... فإنّ احتجابَ الولاةِ عن الرعيةِ شعبةٌ من الضيق، وقلّةُ علمٍ بالامور. والاحتجابُ منهم يقطعُ عنهم عِلمَ ما احتجبوا دونَهُ...»[28].
26 - النظام الإداري انتخب الامام أمير المؤمنين (ع) مجموعة من أهل العلم والحكمة وصناعة القرار، ووضعهم على مسؤولية الحكومة في الامصار. فكانوا ثلّة طيبة من أصحاب الدين والعلم والتضحية والجهاد. وكانوا له عونا على تحمل مسؤولية الولاية. فقال (ع) يصف محمد بن أبي بكر واليه على مصر: «...فعند اللهِ نحتسبُه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادِحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً...»[29]. وقال (ع) في كتابه الى اهل مصر وهو يصف مالك الاشتر: « اشدَّ على الفُجّارِ من حريقِ النارِ...»[30]. وقال (ع) في مدح بعض اصحابه الذين استشهدوا في صفين: «اين القومُ الذين دُعُوا الى الاسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآنَ فاحكموه، وهيجْوا الى الجهادِ فولهُوا وَلَهَ اللقاحِ (الناقة) الى اولادها، وسلبوا السيوفَ اغمادَها...»[31]. ونقصد بالنظام الاداري: القانون والجهاز اللذين ينظمان السلطة السياسية والمالية والقضائية والاجتماعية بعنوانها العام. فالنظام الاداري يكشف عن صلاحيات الولاة والمدراء والقادة في مختلف مجالات الحياة، ويفصح عن الزاماتهم الاخلاقية والدينية تجاه الامام (ع). فولاية هؤلاء - حتى لو كانت محدودة بحدود التخويل - كانت تقتضي مسؤولية قانونية وشرعية امام القائد العام وهو أمير المؤمنين (ع). شروط الوظيفة الادارية: 1ً- ان الوظيفة الادارية تتطلب انشاء قوانين تفصيلية متعددة في مجالات الحياة العامة. ولذلك نلحظ ان اهتمام الامام (ع) بالادارة الاجتماعية، فيما يتعلق باختيار الولاة وارشادهم ومراقبتهم ومحاسبتهم والاستئناس بارآء أهل العقول وأهل المشورة، كان اهتماماً شمولياً تفصيلياً. ونتيجة لذلك الاهتمام، ترك (ع) لنا هذا الكم الهائل من الرسائل والمواعظ. فالادارة الاجتماعية الصحيحة هي التي تمتلك قوانين تفصيلية تشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية. 2ً- تتطلب الوظيفة الادارية الاجتماعية ايضاً القدرة على تعيين الولاة والموظفين وحكام المناطق وارشادهم ومعاقبتهم وعزلهم، اذا استدعى الأمر ذلك. فالموظف الادنى في السلم الاداري ينبغي ان يخضع لأوامر الأعلى وهو الامام (ع)، وينفذها بدقة، ويكون مستعداً للمحاسبة وقت التقصير ومستعداً للدفاع عن نفسه، ومستعداً لتحمل العقوبة اذا ثبت التقصير. 3ً- الاصل في الوظيفة الادارية انها تتضمن جزءً عظيماً من الحكم على الافراد واختيار الافضل، بما يشبه العملية القضائية. فاختيار من يحافظ على اموال المسلمين ويوزعها توزيعاً عادلاً بينهم يعكس قضية ذات طبيعة قضائية؛ واختيار قادة الجيش أو الشرطة للمحافظة على أمن البلاد ومحاربة العدو يتطلب قدرة تشبه القدرة القضائية في اختيار أصلح الافراد وأقربهم للتقوى والشجاعة؛ والاكثار من مدارسة العلماء في تثبيت أمور البلاد هو أقرب الى الحكم بالعلم والاستشارة ضد الجهل، بل ضد الاستبداد بالرأي. 4ً- ان من أهم شروط الوظيفة الادارية هو ان الذي يتسلم الادارة ينبغي ان يكون من أهل السوابق الحسنة والايمان والاخلاص. وليس للظالم أو من عمل له، فرصة أو مقعدٌ في الادارة العادلة. وقد لمسنا - تأريخياً - ان الظالم عندما تحمل المسؤولية الادارية، أفسد النظام. وتلك مشكلة خطيرة من مشاكل الادارة، ولذلك حذر الامام (ع) ولاته بالقول: «شَرُّ وزرائكَ من كانَ للاشرار قبلكَ وزيراً، ومَن شركهم في الآثام، فلا يكوننَّ لك بطانةً. فانهم اعوانُ الأثمةِ، واخوان الظلمةِ...»[32]. خصائص الادارة عند الامام (ع): وكانت لادارة أمير المؤمنين (ع) خصائص على درجة كبيرة من الاهمية، نجملها في الموارد التالية: 1ً- اسلوب اللامركزية ولغة الكليات: فقد عكست التوجيهات والتوصيات والرسائل التي كان يستلمها الولاة وعمال الدولة من أمير المؤمنين (ع) طبيعة اللغة الادارية. وكانت تلك التوجيهات حاسمة وقاطعة، ولكن كانت فيها عمومات وتخلو من التخصيصات على الاغلب. وهو أمرٌ يفتح الباب لإعمال العقل والفكر عند الولاة. والامثلة على ذلك كثيرة، كقوله (ع): (ولِّ على أمورِكَ خيرهُم)[33] فهنا يكون الامرُ عاماً بتولية أفضل الناس (من كتّاب الدولة) على الادارة، ولم يأمره بتعيين فلان أو فلان. وعندما يأمره (ع) بالقول: «دَعِ الإسرافَ مُقتَصِداً»[34] فانه لا يشخّص له موارد الاسراف، بل يرشده الى كلّيات عدم الاسراف لان فيه ضرراً على مصالح المسلمين والاسلام. وعندما يأمر عامله على البصرة بعدم مداهنة الاقوياء من أهل الثروة وحضور ولائمهم يقول (ع) له: «فما اشتَبَهَ عليك علمُهُ فألفظِهُ»[35]. هنا لم يخصص له شيئاً، بل ارجعه الى كلية ما اشتبه عليه علمُهُ من حلال أو حرام فعليه ان يرفضه ولا يأخذه. هنا ابتُنيت التوجيهات والتوصيات في القوانين الادارية على صيغة الكليات العامة. وتُرك للولاة والقضاة ربط تلك الكليات بالمصاديق والجزئيات. 2ً- توزيع السلطة: ان حكم القانون لا يمكن ان يتم بصورته النهائية، ما لم يتم توزيع السلطة بين شريحة واسعة من الناس. فلابدّ من تعيين الكُتّاب والرؤوساء: «واجعل لرأسِ كُلِّ أمرٍ من أمورِكَ رأساً منهم»[36]. والعيون: «واما بعدُ، فان عيني بالمغربِ كتبَ اليَّ يُعلمُني انه...»[37]. والمستشارين: «ولا تُدخِلنَّ في مشورتكَ بخيلاً يعدلُ بكَ عن الفضل...»[38]. والعلماء والحكماء: «واكثِر مُدارسةَ العلماءِ، ومنافثةَ الحكماء، في تثبيت ما صَلَحَ عليهِ أمرُ بلادِك...»[39]. والنخبة الاجتماعية: «... ثمّ الصِق بذوي المروءات والاحسابِ، وأهل البيوتاتِ الصالحةِ والسوابقِ الحسنة...»[40]. والوزراء: «شرُّ وزرائك من كان للأشرارِ قبلكَ وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكوننَّ لكَ بطانةً»[41]. والقضاة: «ثمّ اخترْ للحُكمِ بين الناسِ أفضلَ رعيتكَ في نفسِكَ...»[42]. وقادة الجيش: «فولِّ من جنودِكَ أنصحهُمْ في نفسِكَ للهِ ولرسولهِ ولإمامكَ...»[43]. فالحكومة اذن، كانت جهازاً واسعاً لاصدار القوانين، ومراقبة تنفيذها من قبل القائد، ومحاسبة المقصرين في تنفيذها. وعندئذٍ توسّعت الحكومة - بموجب هذا الفهم - الى جميع الجهات الاجتماعية، وتوزعت السلطة على اكبر عدد ممكن من الافراد. وهذا المنحى في دولة الامام (ع) سبق كل النظريات في الدولة الحديثة التي دعت الى فصل السلطات الثلاث: القضائية والتنفيذية والتشريعية. وبذلك حققت الادارة الاجتماعية في عهد الامام (ع) كل ما ارادت السلطات الثلاث تحقيقه، وهي: حل الخصومات بين الافراد عبر القضاء، وادارة الثروة الاجتماعية وحسن توزيعها عبر جمع الضريبة (الخَراج والصدقات والخمس والغنائم ونحوها)، وتثبيت الامان الاجتماعي والغذائي العام، والدفاع عن الدولة الشرعية، ومراقبة وضع السوق التجاري. 3ً- ان محاسبة الموظفين لم تكن محاسبة رياضية تتعلق بالارقام ومقدار المال المسروق، بل كانت محاسبة اخلاقية. فحتى لقمة حرام واحدة تبرر عزل ذلك الوالي الذي عيّنه الامام (ع). يقول (ع) محاسباً أحد عماله: «... كيف تُسيغُ شراباً وطعاماً، وانت تعلم انك تأكُل حراماً، وتشرب حراماً، وتبتاع الإماءَ وتنكحُ النساءَ من أموال اليتامى والمساكينِ والمؤمنين والمجاهدين...»[44]. وفي كتابه للمنذر بن الجارود: «اما بعدُ، فإنَّ صلاحَ أبيكَ ما غرَّني منك، وظننتُ انّكَ تتبعُ هديَهُ، وتسلكُ سبيلَهُ، فإذا انت ممّا رُقِّيَ اليَّ عنكَ، لا تدعُ لهواكَ انقياداً...»[45]. 4ً- كان أميرُ المؤمنين (ع) قوياً في الادارة والفكر الاداري. فقد وضعَ أصولاً محكمةً لعلمٍ مهم، وهو علم ادارة المجتمع على ضوء الدين والعقل. فاهتم (ع) بشخصية المدير، ووضع له ضوابط اخلاقية مثل: التقوى، والامانة، والمنشأ الصالح، والكفاءة الادارية، والعلم، وقوة الرأي. وأهتمّ (ع) أيضاً بإليات الادارة، وهي: أ - استشارة الحاكم لاهل الخبرة والاختصاص، ووضع قاعدة: «من استبدَّ برأيه هلك»[46]. ب- تنمية النخبة الاجتماعية المؤمنة، التي كانت تعبّر عن مرآة مصغرة للحالة الاجتماعية الكبرى. ج- لغة الكليات التي استخدمها أمير المؤمنين (ع) في إدارة المجتمع والافراد، كانت موفقة في تثبيت النظام اللامركزي في الدولة. ولذلك، فاننا نستطيع، باطمئنان، أن نطلق على حكومة الامام (ع) اصطلاح حكومة القانون ودولة الشريعة.
27- النظام الحقوقي (المالي) يبقى المال، والنقد بالخصوص، من الوسائل المهمة في تشخيص تركيبة المجتمع. ولذلك حاولت بعض القوى الاجتماعية - مثل بني امية- ان تجعل الفارق في الدخل الشخصي بين طبقة واخرى فارقاً شاسعاً. حتى يتسنى لها استثمار الثروة المكدسة في طبقتها من أجل حيازة السلطة وامتيازاتها السياسية والاجتماعية. ولذلك أشاعت تلك القوى فكرة خاطئة مفادها ان الدخل الشخصي يحدد الطبقة الاجتماعية ويحدد ايضاً من الذي يحكم!! فاذا كان الدخل قليلاً، هبط الانسان الى الطبقة المحكومة. واذا كان كثيراً هائلاً صعد الى الطبقة العليا الحاكمة. ولكن الامام أمير المؤمنين (ع) حارب تلك الفكرة، واعتبرها طريقة من طرق الجاهلية للوصول الى السلطة. واتخذ خطوات مهمة في هذا الشأن. خطوات الامام (ع) في العدالة الحقوقية: فمن الخطوات التي اتخذها (ع) اعتماداً على مبادئ الاسلام: 1- ساعد الفقراء من بيت المال. فقال (ع) مخاطباً عامله على مكة: «وانظر الى ما اجتمع عندكَ من مالِ اللهِ فاصرفهُ الى ما قِبلَكَ من ذوي العيالِ والمجاعةِ، مُصيباً به مواضعَ الفاقةِ والخلاّتِ. وما فَضَلَ عن ذلك فاحمِلهُ الينا لنقسمه فيمن قِبَلَنا»[47]. 2- اشاع فكرة الاسلام القائلة بأن الفقر الاختياري صفة من صفات الأنبياء والأولياء والصالحين. فقال (ع) عن نفسه: «...ولكن هيهات ان يغلبني هوايَ، ويقودني جشعِي الى تخيّر الاطعمة - ولعلّ بالحجازِ أو اليمامةِ من لا طمعَ لهُ في القُرصِ ولا عهدَ له بالشبعِ - أو أبيتَ مِبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرَّى...» [48]. 3- ألزم الأغنياء - بقوة الاخلاق والسلوك- على دفع حصة الفقراء. قال (ع): «إنّ اللهَ سبحانه فرضَ في أموالِ الاغنياءِ أقواتَ الفقراءِ، فما جاعَ فقيرٌ الاّ بما مُتّعَ به غنيٌّ، واللهُ تعالى سائلهم عن ذلك»[49]. 4- جعل الدخل الشخصي مقياساً للمساعدة. أي ان قلّة الدخل تُجبر بسهمٍ من بيت المال. فعندما تتجمع الحقوق المالية الشرعية في بيت المال، فانها توزع على الاصناف الثمانية التي ذكرتها آية الصدقات (سورة التوبة: آية 60) وهم الفقراء، والمساكين، والعاملين على جباية الزكاة، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله تعالى، وابناء السبيل. والخمس (سورة الانفال: آية 41) يوزع على آل الرسول (ص) من ايتام ومساكين وابناء سبيل. ولاشك ان جميع تلك الاصناف التي ذكرت في الآيتين هم من ذوي الدخل القليل. وهذا يعني ان قلة دخل الفرد تُجبر بكمية من المال يدفعها بيت المال لتلك الاصناف من أهل الحاجة. وبذلك تستفيد تلك الشرائح المتفاوتة الدخل من أموال بيت المال، كلٌ حسب حاجته. وبذلك صممت حكومة الامام (ع) للناس مجتمعاً متكافئاً نظيفاً اُشبع فيه الفقير، واُكرم فيه الغني المؤمن، وحُوسب فيه الظالم مهما كان حجم ظلمه. أ _ السياسة المالية: وكانت السياسة المالية في عصر الامام (ع) تستند على عدة اسس، منها: الاول: توزيع ما كان يتجمع في بيت المال من النقدين - الذهب والفضة- على الموارد التي ذكرتها الآية 60 من سورة التوبة، وكان اغلبها من الصدقات. وكانت سياسة الامام (ع) كنس بيت المال كل يوم جمعة والصلاة فيه ركعتين والقول: «ليشهد لي يوم القيامة»[50]. الثاني: توزيع الفيء - من مواد نقدية او عينية - على المقاتلين، أو الذين يحضرون القتال ويقومون بشؤون خدماتية للجيش. وكان عددهم ضخماً. وكانت الثروة العينية الاوسع المتمثلة بزكاة الغلات والانعام توزع على الفقراء أيضاً. وتلك السياسة كانت تمثل سياسة في الضمان الاجتماعي لجميع الافراد في المجتمع الاسلامي. ولاشك ان مقدار تلك الثروة المجتمعة في بيت مال المسلمين كان ضخماً. فكان يتطلب وجود نوع من الادارة، لتنظيم صرف ذلك المال وحسن توزيعه، من قبيل وجود الكتّاب والدفاتر التي تُدرج فيها اسماء الافراد الذين يستلمون من بيت المال. خذ مثالاً على ضخامة العملية الادارية في التوزيع. فقد كان جيش الامام (ع) الذي شارك في صفين قد بلغ أكثر من مائة وعشرين الف مقاتل. وهذا العدد الضخم كان يحتاج الى سجلات بأسمائهم ومقدار عطاياهم. الثالث: ضبط السوق التجاري عبر حثّه (ع) الباعة وأصحاب الحوانيت على عدم الغش، والتحكم بالمكيال الحق، والمحافظة على الاسعار، ومحاربة الاحتكار. فقد كان (ع) يكثر المرور على سوق الكوفة فيحثّ الباعة على ضبط الميزان وعدم الغش. ولا شك ان السوق التجاري في الكوفة - عاصمة أمير المؤمنين (ع) - كان فرعاً رئيسياً من فروع مجرى النقد في المجتمع. الرابع: محاربة الربا، الذي حرمه الاسلام عبر قوله تعالى في كتابه المجيد: (... ذلِكَ بأنَّهُم قالوا إنَّما البَيعُ مِثلُ الربا. وأحلَّ اللهُ البَيعَ وحرَّمَ الربا...)[51]، في الوقت الذي شجع فيه على الكسب الحلال في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات. ولذلك كان الامام (ع) يدعو التجار الى التفقه في احكام التجارة، فيقول لهم: « مَن اتجرَ بغيرِ فقهٍ فقد ارتطم في الربا»[52]. ب - الدخل الشخصي: كان الوارد الشخصي للمعيل في عصر الامام (ع) يُكتَسَب عن طرق متعددة، منها: العمل اليدوي، وتملك الارض، والتجارة، ورأس المال الذي كان يقوم بتشغيله التاجر من أجل جني الربح. وهذا يعني ان كسب المال كان ممكناً عن طريق ثلاثة موارد: الاول: الأجر الناتج عن العمل وبذل الجهد. الثاني: الربح الصافي الناتج عن تشغيل رأس المال في التجارة. الثالث: تأجير الاراضي الزراعية المملوكة من قبل المالك الحقيقي. اذن لدينا ثلاثة عوامل منفصلة، تتضافر احياناً من أجل تحقيق دخل شخصي معقول، وهي: الاجارة، والتجارة، والملكية. وكلّها تولّد رصيداً مالياً يتفاوت حجمه من انسان لآخر. وصورة الوضع الاجتماعي قبل استلام أمير المؤمنين (ع) الحكم كانت تكشف عن وجود نظام طبقي، ساهمت فيه عطاءات الخليفة السابق في تنمية الطبقة المالكة من بني امية. فكان هناك افراد اغنياء مثل مروان بن الحكم حيث كانت عطاياه من قبل الخليفة الثالث لا تقلّ عن مئات الالوف من الدنانير الذهبية. والزبير بن العوام الذي خلّف عند موته خمسين الف دينار ذهب والف أمة. وطلحة بن عبيد الله وكانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار ذهب. وكانت هناك طبقة مسحوقة من الاجراء والعبيد لا يزيد دخل الفرد منها على بضعة تمرات في اليوم الى عدة دراهم. ومنهم اغلب اصحاب الامام (ع) كسلمان، والمقداد، وعمار، وأبي ذر وغيرهم. ومن هنا نجد أمير المؤمنين (ع) يشتكي بالقول: «اضرِب بطرفكَ حَيثُ شئِتَ منَ الناسِ، فهل تُبصِر إلاّ فَقيراً، أو غنيّاً بَدَّلَ نِعمَةَ اللهِ كُفراً، أو بَخيلاً اتّخذَ البُخلَ بحقِّ الله وفرْاً، أو متمرداً كأن باُذنِه عن سمعِ المواعظِ وقراً»[53]. فلا ريب في أن يوصي الامام (ع) مالك الاشتر بالفقراء، فيقول: «... ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلةَ لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى...»[54]. ج - ميزانية الدولة: لا تستطيع الحكومة أن تؤدي وظائفها ما لم تمتلك سياسة واضحة المعالم فيما يتعلق بالواردات والمصروفات. ويطلق على ذلك عنوان: «ميزانية الدولة». فاذا اتُخذ قرار بايواء كل يتيم وأرملة وسد حاجاتهما مثلاً، فلابد من حساب اجمالي اليتامى والأرامل، ولابد من حساب ما يدخل بيت المال من أموال، ثم تقسيم ذلك على اساس الحصص. فيكون لكل يتيم حصة، ولكل أرملة حصة. وأقل الحصص، على مقتضى الروايات[55] خمسة دراهم أو نصف دينار ذهباً. وهذا الامر لا يكتمل ما لم يُعلم الحد الأدنى لرغبات الناس ونواياهم في دفع الحقوق الشرعية. إذن، اذا ربطنا سياسة الامام أمير المؤمنين (ع) في اشباع الفقراء مع رغبات الناس القوية في دفع الزكاة، استنتجنا بأن عصر الامام (ع) كان عصراً مزدهراً بالعدالة والانصاف. والميزانية الرشيدة لحكومة أمير المؤمنين (ع)، كانت قد سددت ذلك الازدهار. فقد كانت سياسة أمير المؤمنين (ع) تصرح بأن لا يبقى مالٌ في الخزينة (بيت المال)، الا ويوزع على الفقراء والمحتاجين. ولم يكن ذلك اسرافاً أو تبذيراً للمال، بل العكس. ذلك لأن الفقر والجوع كانا منتشرين في أرجاء البلاد. فكان على بيت المال ان يتصرف بهذا الاسلوب الرحيم. وبتعبير آخر ان سياسة أمير المؤمنين (ع) المالية لم تعر للرصيد النقدي في الخزينة أهميةً تُذكر. بل كانت سياسته (ع) كنس بيت المال كل يوم جمعة والصلاة فيه ركعتين والقول: «ليشهد لي يوم القيامة» كما ذكرنا ذلك سابقاً. وهذا يعني ان الاولوية كانت موجهة لسد حاجات المعوزين والفقراء. وهذا هو سر قوة دولة أمير المؤمنين (ع). فما فائدة الرصيد النقدي القوي للدولة اذا كان الناسُ يئنون من الجوع؟
28 - القانون وحاكمية الشريعة كانت حكومة الامام (ع) حكومة تشريع وقانون. والمقصود من ذلك، انها نظّمت العلاقات المالية والتجارية والحقوقية والانسانية بين الناس على اساس أحكام شريعة سيد المرسلين محمد (ص). فعلى المستوى القضائي والمخاصمات بين الافراد، وقف رئيس الدولة على قدم المساواة مع مواطن عادي امام القضاء، من أجل حل خصومة. وتشير الروايات الى وقوف الامام (ع) جنباً الى جنب مع يهودي امام شُريح القاضي مطالباً بدرعه[56]. وكانت تلك حادثة استثنائية، بكل المعايير. ولم تكن بلاد روما ولا بلاد فارس ولا قريش لتسمح لسادتها وأمرائها بالوقوف أمام القضاء. ولكنّ عليّاً (ع) وقف يداعي بدرعه أمام قاضي الدولة. وقد تعلمت اوروبا الحديثة من الامام علي (ع) فكرة فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وتعلّمت منه (ع) أيضاً ادارته للدولة بما نفعها في بناء الدولة الحديثة. وعلى المستوى الجنائي، كانت العقوبة المنصوصة اذا ازدادت على المعاقَب اُقتص من المعاقِب. وقد حصل ذلك، عندما غلط قنبر فضرب الجاني ثلاثة أسواط زائدة، فاقتص الامام (ع) من قنبر ثلاثة أسواط[57]. وعلى المستوى الحقوقي، كانت الحقوق توزع على الناس، حتى لو كان بعضهم على خلافٍ مع الامام (ع). بل حتى لو كان بعضهم يكره الامام (ع) ويتمنى زوال حكمه، كما كان الحال مع قبيلتي «باهلة وغُنيّة»[58]. وبالاجمال، فقد كانت حاكمية الشريعة في تلك الفترة الزمنية، مهيمنة على الوضع العام. وبذلك ادرك الناس طبيعة السلطة الشرعية، وفهموا ابعاد الاحكام وملاكاتها في الضبط الاجتماعي، وادركوا ايضاً طبيعة الحقوق المدنية. واقعية القانون الشرعي: وأثبتت حكومة امير المؤمنين (ع) ان للاحكام الشرعية طبيعة واقعية. فلا الخصوص عممَ الحكم الشرعي، ولا العموم خصص ذلك الحكم. أي لا كرهه (ع) لقبيلتي باهلة وغُنيّة حرمهما من عطاء بيت المال، ولا حبه (ع) لعشيرته واهل بيته (ع) كان مبرراً لزيادة عطائهم من بيت المال. وبتعبير ثالث، ان الكره لم يغيّر حكماً، ولم يبدّل الحب أمراً شرعياً جاء به الدين. ولم يشتكِ الامام (ع) أصلاً من استحالة التوفيق بين اصدار الحكم وبين تطبيقه، خصوصاً فيما يتعلق بتحقيق العدالة الحقوقية والاجتماعية بين الناس. فقد قال (ع): «لو كان المالُ لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنّما المالُ مالُ الله». وهذا هو حكم نظري بالمساواة؛ وعند التطبيق ساوى فعلاً بينهم في العطاء. نعم، كان هناك خللٌ في خصائص شريحة من الناس أتعبها تعلّق أمير المؤمنين (ع) بالآخرة، في الوقت الذي كان نظرها شاخصاً الى الدنيا ومتعلّقاً بزخارفها ومتعها، فذمّها (ع) بشدّة وتمنى ان يبادلها بعدوّها. ولكن الامام (ع) عالج مشكلة أفراد تلك الشريحة، خصوصاً أهل الكوفة الذين اتعبهم التفكر بالآخرة، وحثّهم على جهاد عدوّهم ومقاتلته. وعالج مشاكل الدولة عبر محاسبة بعض الولاة الذين أكلوا من بيت المال بغير حق كما كان الحال مع زياد بن أبيه، ومصقلة بن هبيرة وغيرهما. وعزل البعض الآخر لضعفه، كما كان الحال مع محمد بن ابي بكر واليه على مصر حيث عزله لضعفٍ فيه واضطراب الأمر عليه. وهكذا كانت سياسة الامام (ع): تَطابُق النظرية مع التطبيق، وتَطابُق الأحكام - بما فيها من أوامر ونواهي - مع التنفيذ. وهذا يثبت واقعية الشريعة في دولة القانون. والمفتاح في قضية حكم القانون والشريعة هو «الشرعية» وليس الاكراه. ونعني بشرعية حكومة أمير المؤمنين (ع) هو أن الامام (ع) كان مخوّلاً من قِبْلِ النبي (ص) بالادارة الشرعية للامة. فكل ما كان يصدر عن الامام، (ع) كان له امضاء شرعي من قبل رسول الله (ص). فالشرعية كانت مفتاحاً لتطبيق القوانين في المجتمع. وكما أن هناك الزاماً شرعياً يدفع الضريبة، فإن هناك شرعية في المطالبة بها من قِبَل الحاكم العادل أو مَن يمثّله. فالشرعية تجعل تلك العملية (الدفع والاستلام) عملية قانونية تميل النفس الى أدائها. ولكن لو كانت السلطة فاقدة لمثل تلك الشرعية، لأصبحت عملية أخذ الضريبة من المالك عملية انتهاك لحرمة الملكية الشخصية. وهنا يتبدّل الإلزام _ تحت ظلّ الظالم _ الى عملية إكراه واجبار. ومن هنا أصبح مجتمع القانون الذي قاده أمير المؤمنين (ع)، مجتمعاً حضارياً متطوراً يحمل معه آلات علاج مشاكله الشرعية، ووسائل حل معضلاته الاجتماعية. حكومة الامام (ع) ومباني العقلاء: وكان تطبيق القانون في زمن الامام (ع) يعني أن هناك: سلطة، واتفاقاً، وعقلائية في النظام القانوني. فالنظام القانوني يرفع الإكراه، ويقبل المنطق (الدليل العقلي)، ويساهم في الاتفاق الاجتماعي العام بخصوص الواجبات المدنية. فيكون هدف القانون هو اخضاع السلوك الانساني لاحكام الشريعة في المجتمع. والعدالة والانصاف ومحاربة الظلم من الأمور التي يقرّها العقل. اذن، نستطيع الآن ان نقول بأن حكومة أمير المؤمنين (ع) كانت حكومة الشريعة والعقل في المجتمع الانساني. واذا اقتربنا من إدراك كيفية تحويل الامام (ع) تلك الدولة الواسعة الى دولة قانون وشريعة ومنطق، لاقتربنا من إدراك حجم المكسب الاخلاقي الذي كسبته الأمّة في تلك الفترة الحاسمة من عمرها. ولاشكّ أن إرادة حكومة الامام (ع) في تنظيم المجتمع وادارته، كانت إرادة عقلائية وشرعية في الوقت نفسه. لأن العلل الحُكمية المرتبطة بالمعلول (الموضوع) - التي كانت تعرضها - كانت عللاً يقبلها العقل. وفوق كل ذلك كانت عللاً سماوية مستمدّة من القرآن والسنّة، بينما كانت علل مناوئيه باطلة وغير صالحة للبقاء أو الانتقال. والانتقال من الصلاحية الشرعية الى حكم القانون، كان يتطلّب ادراكاً بأن الحاكم قادرٌ على الاجابة عمّا يدور في أذهان الجماعة. فقد كانوا يسألونه وكان (ع) يجيبهم. وكان يقول: «يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني. هذا سفط العلم. هذا لعابُ رسول الله (ص). هذا ما زقّني رسول الله (ص). فاسألوني فإن عندي علم الاولين والآخرين. أما والله لو ثُنيت لي وسادةٌ وجلستُ عليها لافتيت أهل التوراة بتوراتهم...وأهل الانجيل بإنجيلهم...وأهل القرآن بقرآنهم...»[59]. لقد كان خطاب الامام (ع) موجّهاً الى العقلاء في المجتمع. فهو بتلك اللغة الادبية البديعة العالية، كان يصوّر معاني الدين بأبدع الصور. ولا شكّ أن تلك الصور البديعة لا يفهمها الا العقلاء. وقد أشار الكتاب المجيد الى العقلاء في المجتمع بأفضل إشارة، فقال: (إنَّ في خَلقِ السماواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأوُلي الألبابِ)[60]، (وتِلكَ الأمثالُ نَضرِبُها للنّاسِ وما يَعقِلُها إلاّ العالِمونَ)[61]. والعقلاء في المجتمع هم خلاصة العقل العام. فإذا كسبهم الحاكم، فإن حكمه يكون مدعاةً للاستقرار والثبات. وقد قال (ع) في رسالته الى الاشتر: « وأكثِرْ مُدارسةَ العُلماءِ، ومُنافَثةَ (أي مجالسة) الحكماءِ، في تثبيتِ ما صَلَحَ عليهِ أمرُ بلادِكَ، وإقامةِ ما استقامَ بهِ النّاسُ قبلَكَ»[62]. ان الضمير العام الذي يؤمن بالحاكمية الشرعية، هو الذي يُدرك - بعمق - معنى الحرية تحت ظلّ القانون. أي أن الانسان - في دولة القاون والدين - يستطيع أن يعبّر عن رأيه في الوقت الذي لا يخاف فيه على ماله ونفسه وعرضه من الانتهاك. وربما كان هذا هو السبب الذي جعل الخوارج يتمادون في مواجهتهم اللفظية مع الامام أمير المؤمنين (ع). فقد كانوا في مأمن تامّ وطمأنينة بأن الامام (ع) لا يودعهم السجن، ولا يعذبهم، ولا يقتلهم. بل عندما كانوا يسبّون الامام (ع) ويتوثّب الناس لقتلهم، كان (ع) يقول للناس: «...انما هو سبٌّ بسبّ. أو عفوٌ عن ذنب»[63]. فيتركونهم وشأنهم. ومن الطبيعي فان تركيبة القانون الشرعي تتناسب مع حاجات الشعوب على اختلاف لغاتها وظروفها الاجتماعية. ذلك لان الشريعة تعاملت مع الكليات التي يستقبحها عقل الانسان كالقتل والاعتداء والظلم والفحشاء والكفر والشر، فعاقبت عليها. وتعاملت مع الكليات التي يستحسنها كالتعاون والصفح والتسامح والايثار والعدل والانفاق والحب والخير، فشجعت على فعلها. وبذلك جاءت التركيبة القانونية للمجتمع الاسلامي منسجمة مع فعل الخير بعنوانه المطلق، ونبذ مطلق الشر على وجه الارض. وقانونٌ كهذا ليس اكراهياً ولا كبحياً ولا قمعياً. بل هو مصممٌ لطرد الشر من الضمير الانساني، وادانة كل ما يمتُّ اليه بصلة. وعندما نُشير الى النظام القانوني الذي يحكم بلداً ما، فاننا لا نقصد به انتشار المحاكم والقضاة وزيادة عدد الشرطة والعيون. بل نقصد: أن للقانون الشرعي وظيفة عملية في تنظيم أمور الناس وتثبيت حقوق الجماعة، عبر التلويح بالعقوبة للمخالفين والمنحرفين عن الجادة الشرعية. ولذلك كان من وظائف حكومة الامام (ع) وضع سيطرة شرعية على الظواهر الاجتماعية الخطيرة كالانشقاق، وعصيان أوامر القائد الشرعي (ع)، والاستئثار بالثروة الاجتماعية، ومطلق الظلم الاجتماعي. ولذلك كان (ع) يقول: «أنا فقأتُ عين الفتنة، ولم يكن أحدٌ ليجتريء عليها غيري ...ولو لم أكُ بينكم ما قوتل أصحاب الجمل وأهل النهروان»[64]. ويُفهم من قوله (ع) أنه لو كان الواجب في كل فتنة تقع بين المسلمين التهرب منها بدعوى حرمة قتال أهل القبلة، لوجد أهل الفسق سبيلاً لارتكاب المحرّمات من سفكٍ للدماء، وهتكٍ للأعراض، وغصبٍ للأموال. وتلك الصلاحية الممنوحة له للسيطرة على الوضع الاجتماعي، تمنحه استخدام مختلف الوسائل المشروعة لتحقيق الاستقرار والأمن الجماعي. ولم تكن تلك وظيفة سياسية فحسب، بل كانت وظيفة دينية حتمية.
29 - النظام القضائي ان المبادئ التي طرحها أمير المؤمنين (ع) في وصيته لمالك الاشتر، تفصح عن ان التنازع بين الناس يمكن ان يحلّ بطريقة قانونية تقوم على أساس عرض الحجج والبراهين من قبل الأطراف المتنازعة. وهذه الطريقة العقلائية يضمنها النظام القضائي. خصوصاً القاضي العادل، الذي لا يفكّر بالانحياز لطرفٍ دون آخر. لانه «أوقفهم في الشبهاتِ، وآخذهم بالحُججِ، وأقلّهم تبرّماً بمراجعةِ الخصم، وأصبرهم على تكشفِ الأمور»[65]. وظائف القاضي: وللقاضي وظائف مهمّة في النظام القضائي، نلخصها في النقاط التالية: 1- كشف الحقيقة الخارجية وتثبيتها. وكشف الحقيقة يحتاج الى مجموعة أدلة وطرق لمعرفتها. فهناك قرائن موضوعية وهناك قرائن شرعية تثبت ارتكاب العمل المخالف (على الصعيد الجنائي)، وتثبت الحق المالي أو الملكية مثلاً (على الصعيد الحقوقي)، وتثبت المخالفة الاخلاقية (على صعيد ما يُطلق عليه بحقّ الله تعالى). 2- تشخيص القانون الشرعي للقضية المتنازَع فيها. وهذا التشخيص يتطلب معرفة علمية توصل القاضي الى منابع الحكم الشرعي. ويتطلب ذلك فهماً لمعاني الالفاظ الشرعية ومذاق الشارع الحكيم وانطباق شروط الحكم على القضية مورد النـزاع. 3- ربط الحكم الشرعي بالموضوع، في القضية القضائية. ولا شك أن ربط حجم العقوبة بطبيعة المخالفة هو من مهمة قاضي الشرع في المحكمة. وهذا الربط هو الثمرة العظمى لعلم القاضي وعدالته وحسن أدائه في العملية القضائية. وبطبيعة الحال، فان قاضي الحق يرجع الى مباني العقلاء والدليل العقلي، في كشف الحجج القانونية والاستفادة من القرائن الموضوعية في اصدار الحكم النهائي. أي ان هناك مساحات عقلية واسعة يستطيع ان يستثمرها القاضي في تحديد الحكم، بالاضافة الى المساحة الشرعية المنصوصة. فالإقرار بأن ذات البعل تطلب بعلاً، كما في رواية صاحب «المناقب»[66] يعني إعمال الفكر بأن البعل الاول لا يستطيع المقاربة، وعليه فان النكاح ينبغي ان يفسخ، ولها الحق في الزواج من رجل آخر. وحدّ الشهود الثلاثة الذين لم يكتمل عددهم الى الاربعة في شهادة على «زنى»[67]، هو إعمالٌ للعقل بضرورة تحقق الشروط الشرعية وعندها يمكن الأخذ بشهادتهم. وأمر النساء بالنظر الى الفتاة التي اُتهمت بارتكاب الفاحشة[68]، هو إعمالٌ للعقل بضرورة اكتشاف حقيقة ما حصل بمن عليها خاتمٌ من الله عزّ وجلّ. لقد كانت القوّة العظيمة الكامنة في النظام القضائي زمن الامام (ع)، تحرّك المجتمع نحو لونٍ من الاستقرار النفسي والطمأنينة. وكان شعور الجماعة في أن احكام القرآن اذا طُبّقت، فانها ستحقق عدالة قضائية وحقوقية بين الجميع. وقد تحقق ذلك فعلاً. ذلك لان انتشار مفاهيم القرآن الكريم بذلك الوضوح عند الامة جعل قضية التوقع الاجتماعي للعقوبات أمراً حتمياً. وكان هذا مهماً على صعيد الوضع الاجتماعي العام، لان التوقع الاجتماعي للعقوبات يردع الجناة عن العبث بمقدرات الناس. مبنى اللغة القضائية: ومن الطبيعي، فان القضاء لا يترك بصماته على المجتمع، ما لم يكن مسلحاً بلغة قضائية خاصة يفهمها الناس. وتلك اللغة مبنيّة على أسس ثلاثة: الاول: منطقية القرار القضائي. هو يعني ان القاضي يستثمر استخدام المقدمتين: الصغرى والكبرى من أجل الوصول الى النتيجة. والمقدمة الصغرى تشمل دائماً المصاديق، بينما تشمل المقدمة الكبرى الكليّات. ولا يمكن الوصول الى المقدمة الصغرى ما لم يستمع القاضي الى الآراء المتضادّة بين المدعي والمدعى عليه، وما لم يدرك القرائن الموضوعية الخاصة بالقضية ويحللها. وقد علّمنا الامام (ع) - من خلال روايات عديدة- طريقة تطبيق القوانين القرآنية على الوقائع القضائية المتنوعة. الثاني: بلاغة القرار القضائي. والبلاغة في القرار القضائي تُقنع الناس بقوة الحق، وتُشعرهم بقوة الشريعة وقوة الاستدلال العقلي ايضاً. والبلاغة في القرار القضائي قضية شرطية في التأثير على أفكار الناس وأعمالهم. وتدلّ الروايات الواردة عن الامام (ع) أن اللغة القضائية قد اُستخدمت استخداماً بلاغياً دقيقاً من أجل إقناع المخاطَبين بقوة الحق والدليل الشرعي. فقوله (ع): «قد أعذر من أنذر»[69]، و«إن شاء أخذ دية كاملة ويعفو عن صاحبه»[70]، و«لا على الحاملِ حدٌّ حتى تضع»[71]، كله يدلُّ على بلاغة القرار القضائي، وعلى قوة تأثير ذلك على الناس. الثالث: لحن القرار القضائي. ونقصد بالحن القرار هو اللغة الضامرة للقرار التي تؤثر على القيم الاجتماعية وتحفظها من التفسخ والانحلال. وفيها اصطلاحات مهمة مثل: القِصاص، والضرر، والدية، والجلد، والرجم، ونحوها. ولاشك ان لحن القرار القضائي يُفهم من قبل المجتمع، على اساس ان القضاء الاسلامي هو: قضاء جدّي، موضوعي، عادل، ونزيه. خصائص النظام القضائي زمن الامام (ع): واحتوى النظام القضائي زمن الامام (ع) على مجموعة خصائص، منها: أولاً: كان اشراف أمير المؤمنين (ع) على القضاء أمراً لابد منه. لان القرار القضائي كان يحيد احياناً عن الحكم الشرعي الصحيح. فهذا شُريح قد ارتكب أخطاءً فادحةً في القضاء، ولولا اشراف الامام (ع) على عمل شُريح لكان هناك ظلم. ومن الطبيعي، فإن انزال الحكم الشرعي الى منـزلة القانون الذي ينفّذ لحل التنازع بين الناس، لا يتم بشكله المطلق ما لم يكن القاضي قاضي حق. أي أن القاضي ينبغي ان يكون كما وصفه الامام (ع): «أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج...»[72]. ثانياً: يقوم القاضي بتفسير الحكم الشرعي وتطبيقه على الواقع. فاذا كان لدى القاضي علماً بالحكم الشرعي، فان علمه سوف يساعده على الوصول الى الحكم النهائي. أي ان تشخيص الحكم والموضوع بطريق صحيح سوف يؤدي الى اقرار الحكم النهائي. والرواية التي ذكرت قوله (ع) بأن أقل الحمل ستة أشهر، بدليل الكتاب المجيد: (... وحملُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً ...)[73]، (والوالداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولَينِ كامِلَينِ...)[74]، من أروع الاستنتاجات في الربط بين تفسير الحكم الشرعي وفهم الواقع الاجتماعي. ثم الحكم النهائي في تلك القضية القضائية. ثالثاً: ان قرار القاضي بالحكم على الجاني ينبغي ان لا يكون قراراً شخصياً. ولذلك قال (ع) في صفة القاضي: «... ممن لا تضيقُ به الأمورُ، ولا تمحكُهُ الخصومُ، ولا يتمادى في الزلّةِ، ولا يحصَرُ في الفيءِ الى الحقِّ اذا عرفَهُ »[75]. وهذا يعني ان بعض الخصال الشخصية للقاضي ينبغي ان لا تؤثر على قراره القضائي المرتبط بالمجتمع. رابعاً: لما كان القضاء يتطلب شجاعة من القاضي في إصدار حكمه ضدّ الجاني أو المفسِد ومعاقبته، فان عملية تعيين القاضي لا تخضع لموافقة الناس أو معارضتهم، بل لابد للقاضي من تعيينٍ من قبل ولي الأمر. ولذلك عيّن أمير المؤمنين (ع) شُريحاً للقضاء في الكوفة، وأوصى (ع) ولاته بتعيين القضاة في أمصارهم دون موافقة العامة من الناس بالضرورة. خامساً: يتوقّع الناس من القرار القضائي أن يكون معتمداً بصورة مباشرة على أحكام الشرع والعقل. وما يبحث عنه القاضي في الخارج هو القرائن الموضوعية التي تساعده على صناعة القرار القضائي. فالقرار القضائي اذن، يُعتَمد في صياغته على مبنى العقلاء، بالاضافة الى مبنى الشريعة. أي ان طريقة اتخاذ القرار من قبل القاضي الشرعي هي طريقة عقلائية. فالبحث عن الحجية، والاستماع للشهود، والاستماع للمدعي والمدعى عليه، والبحث عن القرائن، كلها طرق عقلائية شرعية للوصول الى القرار النهائي العادل للقضية القضائية. سادساً: ومن اجل ضمان العدالة القضائية، لابد من ضمان امرين: 1- علم القاضي. 2- حالته العقلية والنفسية. وفي كليهما تحدد قدرته على صنع القرار الصحيح في القضية موضع البحث. فعلى صعيد العلم، فقد ورد عنه (ع): «...وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج...»[76]. وهو يعني أعلمهم بطرق القضاء، وأعلمهم في سلوك طريق الحجج والادلة والبراهين. وعلى صعيد الحالة العقلية، فليس للقاضي ان يقضي وهو غضبان[77]، ولا جائع[78]، كما علّم أمير المؤمنين (ع) قاضيه شُريح بذلك. وأضاف (ع): «...ثم واسِ بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك»[79]. وهنا تلعب خلفية القاضي الثقافية والاجتماعية والعلمية دوراً مهماً، في تحديد قدرته على اختيار البديل القضائي الافضل، عندما يحكم على المدعي أو المدعى عليه. 30- النظام الجنائي ويتعامل النظام الجنائي مع الجناية، وتعريفها وضبط حدودها. والنظام الجنائي يخضع للقانون الجنائي العادل الذي جاء به الاسلام. فاذا صرّح القانون الجنائي الشرعي بأن القتل المتعمّد جريمة، عُدّت تلك العملية في ازهاق روح بريء جناية يعاقب عليها القانون. وقد قال تعالى في كتابه المجيد: (ولَكُم في القِصاصِ حَياةٌ يا أُولي الألبابِ...)[80]. واذا قال القانون الشرعي بأن ارتكاب السرقة جناية، عُدّت تلك العملية في كسر الحرز المقفل عملية جنائية. واذا اعلن القانون الشرعي أن ارتكاب الفاحشة جُنحة عُدّ ذلك العمل عملية يعاقب عليها القانون. فالجناية هو كل ما يصفه لنا الشارع الحكيم بأنّه جناية. ومن هنا نعلم أن حدود الجناية هي تلك التي يحددها لنا القانون الشرعي. ولا سبيل لنا لمعرفة ذلك الا عن طريق الدين. وقد كان أمير المؤمنين (ع) على إدراكٍ تامٍ بذلك. فقام بعدّة خطوات من اجل بناء نظام جنائي اسلامي في المجتمع: أولاً: إحكام بناء سجن الكوفة كي لا يهرب الجناة منه، فيرتكبوا جنايات جديدة. وقد قال (ع): اما تراني كيساً مكيساً بنيتُ بعد نافع مخيّساً[81] وكان السجن مبنيّاً من القصب، وكان الجناة يفرجونه ويخرجون منه. فهدمه الامام (ع). وبنى سجناً بالجص والآجر. وكان هذا العمل في بداية عهده (ع) من الاعمال المهمة في بناء دولة القانون. فكان (ع) يدرك بأن للسجن وظيفة عزل الجناة عن الاختلاط بالمجتمع، وضمان نيلهم العقوبة المقررة بحقّهم اذا ثبتت ادانتهم. والقاعدة أن الحرمان النفسي والجسدي للسجين من الاتصال بالمجتمع الكبير، يفرض عليه ضغوطاً من أجل تغيير سلوكه الاجتماعي. ومن هنا كان السجن علاجاً لبعض الحالات الانحرافية المتمثلة بالفاسق من العلماء والجاهل من الأطباء[82] والسارق للمرة الثالثة[83] ونحوه. أي ان السجن لا يصلح ان يكون أداةً لعلاج مطلق الجنايات والجرائم كما هو معمول به اليوم في مجتمعات العالم. ثانياً: ارسال الحقوق المدنية كمقدمة لتقليل الجنايات. فقد قام أمير المؤمنين (ع) بتحقيق العدالة الحقوقية بين الناس، من حيث المساواة في العطاء من بيت المال، وحثّ الموسرين على دفع حقوقهم المالية، والتأكيد على نظافة سوق الكوفة من الغش والاحتكار والاحتيال. وبذلك ساهم (ع) بتقليل حجم الجنايات الاجتماعية الى أدنى حدّ ممكن. ولا شكّ ان الحاجة والفقر قد تؤديان الى ارتكاب السرقة والفاحشة. والفكرة الاساسية هنا هو ان الوضع الاجتماعي الصحيح والظروف العادلة التي يعيشها الانسان هي التي تؤدي بالناس الى سلوك سلمي غير عدواني. أي ان العدل، ووضع الامور مواضعها، واشباع حاجات الانسان هي التي تصرف ذهن الانسان عن التفكير بارتكاب الجنايات، وكان عصر أمير المؤمنين (ع) مثالاً طيباً لذلك. ثالثاً: لم يستخدم الامام (ع) اسلوب التهديد والوعيد في انتزاع اعترافات المتهمين، بل كان (ع) يستخدم اسلوب العلم والذكاء في حثّ الجاني على الاقرار بجنايته. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: أ - التظاهر بتزويج الغلام من المرأة التي ادّعت أنها ليست أمّه[84]. وكان ذلك سبباً في اعتراف الام بولدها. ب - صبّ الماء الحار على بياض البيض الذي وضغته امرأة على ثوبها، مدعيّة بأن الرجل قد افتضحها فتبين الغش في ذلك، وأقرت المرأة على فعلتها[85]. ج - تفريق الشهود في قضية قتل رجل[86]. فأقرّ الشاهد الاول على انفراد ثم الثاني... وهكذا حتى أقروا جميعاً بارتكاب الجناية. ولو درسنا التأريخ الجنائي العالمي لرأينا بأنّ الاعترافات كانت تنتزع من خلال تعذيب المتهمين. ولكن أمير المؤمنين (ع) لم يستخدم أي ضغطٍ مادي أو معنوي على المتهمين. بل كان علمه (ع) يساعده على انتزاع الاقرار والاعتراف من المجرمين. رابعاً: تعدُّ إقامة الحدود على الجناة، أفضل السبل لتحقيق العدالة الجنائية في المجتمع. وفي إقامة الحدود ايضاً: ردعٌ عظيم للناس، وتنظيفٌ للمجتمع من أدران الفساد الاجتماعي. ولا شك ان العقوبة هي الحل الأخير لأمان المجتمع. فالاسلام يفترض ان يعيش الناس حياةً طبيعيةً، تُعرَفُ فيها الحقوق وتُشخّص فيها الواجبات. ومن أجل ذلك لابد ان يلمس الناس رادعاً يردعهم عن ارتكاب المخالفات الشرعية والقانونية. ولابد لهم ان يدركوا ان الأفضل هو ممارسة الكسب الحلال بدل السرقة والغصب، وممارسة العلاقات الطبيعية السلمية بدل القتل والاعتداء والعنف، والتزوّج الشرعي والصحيح بدل الممارسات الجسدية البعيدة عن مباني الدين الحنيف. وفي رواية الشيخ الصدوق (ره) التالية معنى كبير. فقد بعث معاوية يسأل أبا موسى الأشعري عن زوج قَتَلَ رجلاً وجده مع زوجته يرتكب المنكر، فسُئل الامام (ع) عن ذلك، فقال: «والله ما هذا في هذه البلاد وما هذا بحضرتي، يعني الكوفة وما يليها»[87]. ومعناه ان محيط دولة أمير المؤمنين (ع) كان آمناً نظيفاً من تلك الألوان المرعبة من الانحرافات الاخلاقية. خامساً: وبفضل النظام الجنائي الديني، كانت الناس زمن أمير المؤمنين (ع) تعيش حياة أخلاقية طبيعية نظيفة. حتى ان المعاقَبين في عهد الامام (ع) كانوا - وعندما تنتهي عقوبتهم - يخرجون الى المجتمع الكبير ويعملون بحرية. ورواية الحبشي الذي قطعه خير الناس، تدلّ على الراحة النفسية التي كان يتمتع بها عندما قال: قطعني خيرُ الناس علي بن ابي طالب (ع)[88]. وتدلّ ايضاً على انه كان يعمل في المدينة في حقل السقاية. وهذا يعني انه ترك حرفة السرقة، وتوجّه نحو العمل الحلال كي يكسب رزقاً حلالاً مباركاً. اذن، فان السلوك الجنائي يتضخّم عندما يستشعر المجتمع ظلماً في الحقوق، وضعفاً في الحكومة، بينما ينتفي ذلك السلوك عندما يعيش الناس عدلاً وانصافاً في الحقوق والواجبات، وقوةً في الحكومة. وهكذا كانت حكومة الامام (ع) عادلة وقوية. عادلة بين الفقراء والأغنياء، وقوية في تطبيق حكم الله في الحدود والعقوبات. ولاشك ان الجنايات لا تحصل من فراغ، بل لابد لها من منشأ اجتماعي كالعداوة، والظلم، والروح الشريرة، والانحراف، ونحوها. ولم يتعامل الاسلام مع الجنايات بعلاج العقوبة فقط. بل حاول ايجاد مناخٍ مناسبٍ لمنع الجريمة من الوقوع في المجتمع، عبر الحثّ على الأخوة الدينية والانسانية، ونبذ العداوات القبلية، والمساعدة والتعاون على إنجاح الحياة الدينية للمجتمع، والمساعدة في العطاء، ونبد الطبقية والظلم الاجتماعي. فقد كان عصر الامام (ع) عصر ازدهار السلام الاجتماعي ونبذ الجريمة. (نهاية ص 132) السابق صفحة التحميل الصفحة الرئيسية
1 «كفاية الطالب» - الشنقيطي ص 57. 2 «شرح نهج البلاغة» ج 1 ص 7. 3 «وسيلة المآل». رواه الحضرمي باسناده عن جعفر بن محمد عن ابيه. 4 «نهج البلاغة» خطبة 40 ص 83. 5 «نهج البلاغة» كتاب 5 ص 463. 6 «نهج البلاغة» - كتاب 5 ص 463. 7 م. ن. – كتاب 53 ص 547. 8 م. ن. – خطبة 40 ص 83. 9 سورة النساء: آية 59. 10 «نهج البلاغة» - خطبة 3 ص 39. 11 م. ن. – خطبة 40 ص 83. 12 «نهج البلاغة» - باب المختار من حكمه (ع) رقم 427 ص 695. 13 «شرح نهج البلاغة» ج 7 ص 36 – 37. 14 م. ن. – خطبة 136 ص 238. 15 سورة النحل: آية 90. 16 سورة المطففين: آية 1 – 3. 17 سورة النور: آية 33. 18 سورة الحشر: آية 7. 19 «نهج البلاغة» - المختار من حكمه (ع) رقم 466 ص 702. 20 «نهج البلاغة» - خطبة 216 ص 419. 21 م. ن. – كتاب 46 ص 538. 22 م. ن. – كتاب 53 ص 549. 23 م. ن. – كتاب 53 ص 551. 24 م. ن. – كتاب 53 ص 549. 25 م. ن. – كتاب 53 ص 570. 26 «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص 552. 27 م. ن.- كتاب 53 ص 549. 28 «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص 566. 29 م. ن.- كتاب 35 ص 519. 30 م. ن.- كتاب 38 ص 522. 31 م. ن.- خطبة 120 ص 218. 32 «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص 550. 33 «نهج البلاغة» كتاب 53 ص 560. 34 م. ن. – كتاب 21 ص 477. 35 م. ن. – كتاب 45 ص 530. 36 م. ن. – كتاب 53 ص 560. 37 م. ن. – كتاب 33 ص 517. 38 م. ن. - كتاب 53 ص 550. 39 م. ن. – كتاب 53 ص 552. 40 م. ن. – كتاب 53 ص 554. 41 م. ن. – كتاب 53 ص 550. 42 م. ن. – كتاب 53 ص 556. 43 م. ن. – كتاب 53 ص 550. 44 «نهج البلاغة» - كتاب 41 ص 526. 45 م. ن. – كتاب 71 ص 594. 46 «نهج البلاغة» - المختار من حكمه (ع) رقم 201 ص 645. 47 «نهج البلاغة» - المختار من كتبه (ع) رقم 67 ص 589. 48 م. ن. – المختار من كتبه (ع) رقم 45 ص 532. 49 م. ن. – المختار من حكمه (ع) رقم 319 ص 672. 50 «شرح نهج البلاغة» ج 2 ص 199. 51 سورة البقرة: آية 275. 52 «نهج البلاغة» - المختار من حكمه (ع) رقم 437 ص 697. 53 «نهج البلاغة» - خطبة 129 ص 230. 54 م. ن. – كتاب 53 ص 563. 55 «المحاسن» - البرقي ص 319. 56 «الغارات» - الثقفي ص 75. 57 «الكافي» - كتاب الحدود ج 7 ص 260. 58 «الغارات» ص 12. 59 «الاختصاص» - المنسوب للشيخ المفيد ص 235. 60 سورة آل عمران: آية 190. 61 سورة العنكبوت: آية 43. 62 «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص 552. 63 «نهج البلاغة» - القصار من حكمه (ع) رقم 410 ص 692. 64 «الغارات» ص 5. 65 «نهج البلاغة» - خطبة 53 ص 556. 66 «المناقب» - في اجوبته على المسائل العويصة. 67 «تهذيب الاحكام» - كتاب الحدود في اواخر حد الزنى. 68 «من لا يحضره الفقيه» - الشيخ الصدوق ج 4 ص 127. 69 «الكافي» - كتاب الديات. باب من لا دية له. ج 7 ص 292. 70 م. ن. – ج 7 ص 317. 71 م. ن. – باب الحدود ج 7 ص 199. 72 «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص 557. 73 سورة الاحقاف: آية 15. 74 سورة البقرة: آية 233. [75] نهج البلاغة – كتاب 53 ص 557. 76 «نهج البلاغة» - كتاب 53 ص 556. 77 «الوسائل» ج 18 ص 156. 78 «مستدرك الوسائل» ج 3 ص 195. 79 «الوسائل» ج 18 ص 155. 80 سورة البقرة: آية 179. 81 «الغارات» ص 79. 82 «من لا يحضره الفقيه» - الشيخ الصدوق. كتاب القضاء ج 3 ص 20. 83 م. ن. – ج 3 ص 20. 84 «الكافي» - كتاب القضاء. النوادر. ج 7 ص 423. 85 م. ن. – ج 7 ص 422. 86 م. ن. – ج 7 ص 371. 87 «من لا يحضره الفقيه» - نوادر الديات ج 4 ص 127. 88 «الكافي» - كتاب الديات ج 7 ص 264.
|