معرفة الله وصفاته الذاتية:

يؤكد نهج البلاغة على بعض صفات الله أكثر من تأكيده على غيرها، وذلك لأ نّها تمثل الصفات الأصلية من جهة، ومن جهة اُخرى تعدّ من اُمهات أسماء الحقّ التي تنبع منها الصفات الاُخرى.

لقد أشرنا فيما سبق إلى سبب اختيار البحث من منظار نهج البلاغة، وقلنا أن ذلك يرجع إلى أن أميرالمؤمنين(عليه السلام) حكيم متألّه وعالم الهي في الحكمة النظرية، وحكيم لا نظير له في الحكمة العملية، هذا فضلا عن رسوخ هاتين الحكمتين في نفسه(عليه السلام) وامتلاكه لقدرة فائقة في الإعراب والبيان عن ذلك.

يقول(عليه السلام) عن نفسه في هذا المجال: «وَإِنَّا لاَُمَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ»(1) أي إنّا اُمراء الكلام، وأن الكلام البليغ والحسن هو طوع أمرنا، لأنا حكّام عليه وهو مأمور لنا ونحن اُمراؤه، كما أن جذور الكلام والأفكار الصحيحة انطلقت منّا وتعلّقت بنا، أمّا أغصان شجرة الكلام فمتدلية علينا، إن جذور الأفكار والعلوم التي هي أصل الكلام نشأت فينا، بل إن شكل الكلام والعبارات التي هي غصون الحديث وثماره متهدلة علينا «وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ».

وبناءً على هذا رغبنا في بحث الحكمتين المذكورتين من منظار نهج البلاغة، إن نهج البلاغة يعتمد في معرفة الله التي هي أوّل الدين طبقاً لقوله(عليه السلام): «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ» على عدم التناهي وعلى الإطلاق الذاتي للحقّ تعالى أكثر من أي صفة من الأوصاف الذاتية لله، وذلك للتدليل على أزليته سبحانه وعلى أبديته وعدم محدوديته.

إن هذه اللامحدودية هي المحور الّذي تدور حوله الكثير من خطب أميرالمؤمنين(عليه السلام) بالإضافة إلى بساطة الذات وتجرّدها.

إن أصل وجود الله الّذي تمّ بحثه ـ إلى حد ما ـ في الدروس السابقة سنتناوله بالبحث والتحقيق بنحو مختصر مرة اُخرى، ثمّ سنتطرق إلى تجرد الذات وإلى بساطتها وإطلاقها.

يقول الإمام عليّ(عليه السلام): «كُلُّ شَيْء خَاضِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْء قَائِمٌ بِهِ، غِنى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف»(2) لقد أثبتنا سابقاً ـ ومن منظار أميرالمؤمنين(عليه السلام)ـ أن نظام العالم قائم على العلّة والمعلول، فهو يقول(عليه السلام): «كُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ» أي أن كلّ موجود غير الله هو موجود معلول وأن الله هو العلة وكافة الموجودات الاُخرى موجودات معلولة، فهو الخالق وغيره مخلوق.

إذن لا يوجد شيء في العالم مستنىً من نظام العلة والمعلول، وأن العلة الحقيقية هي الله، بل ان مسبب الأسباب هو، وغيره معلول له سبحانه، وحتى العلل الوسطية ترجع إلى العلة بالذات يقول(عليه السلام): «كُلُّ شَيْء قَائِمٌ بِهِ» أي أن الموجودات قائمة بالله، ولا يوجد موجود قائم بذاته لعدم كون وجوده عين ذاته، وكلّ شيء عين الوجود ولا يكون وجوده عين ذاته، لا يكون قائماً بالذات بل يكون قائماً بالغير.

فإذا كان الشيء لا يملك وجوده يكون محتاجاً لمفيض الوجود الّذي يكون وجوده عين ذاته: «وكُلُّ شَيْء قَائِمٌ بِهِ» إن هذه العبارة تبيّن العلة والمعلول بلفظ هو غير لفظ العلة الوارد في خطبة اُخرى والتي جاء فيها: «كُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ».

إذن كلّ موجود إنّما يكتسب حقيقته من الله سبحانه وبهذا يتّضح الجواب على السؤال الّذي يستفهم عن سبب وجود الله تعالى أن ضرورة وجوده سبحانه تكمن في عدم قيام الموجودات بذاتها، وعدم كون وجودها عين ذاتها، وأ نّها محتاجة إلى موجود يكون وجوده عين ذاته، وإذا كانت لها قدرة فإن قدرتها بالضرورة متقوّمة بالله تعالى، وكذا عزّتها، فعزّتها وقدرتها ليست عين وجودها ولا عين ذاتها، إذ أن عزتها وقدرتها كوجودها وكذاتها، وكلّ شيء لا يكون وجوده ولا صفاته الوجودية ذاتية سيكون احتياجه لغير يكون وجوده عين ذاته، وهذا دليل على وجود الله سبحانه، إذ أن وجود غير الله لا يكون عين ذاته، وكلّ ما لا يكون وجوده عين ذاته يكون محتاجاً إلى مبدأ يكون عين الوجود ويكون الوجود ذاته، وبناءً على هذا فإن الموجودات الاُخرى محتاجة إلى مبدأ يكون وجوده عين ذاته وذلك المبدأ هو الله.

اتضح ممّا سبق أصل وجود الله ولا داعي للإسهاب فيه أكثر لوضوح الأدلة السابقة ولوضوح البحث إلى حد ما.

أمّا ما يأتي بعد اثبات وجود الحقّ تعالى فهو مسألة تجرّد الذات وبساطتها، وكذا مسألة الإطلاق الذاتي وعدم تناهيها، أي أن الله موجود متجرّد، بسيط غير متناهي.

لقد تبيّن في الدروس السابقة أ نّه لا يمكن اثبات موجود مجرّد أو بسيط أو غير متناه وغير محدود بالمنطق الرياضي ولا باُصول الديالكتيك، ذلك لأن أحد الاُصول المسلّمة للديالكتيك هو عمومية الحركة، أي أ نّه لا يوجد عندنا موجود ساكن أو ثابت، وأن الشيء الّذي لا يتحرك هو شيء غير موجود في عالم العين والأثر والخارج.

الماركسيون يرون أن الموجود هو ما كان مادة وما كان مادياً، وأن الحركة والتغيّر من ضرورياته، كما أن الزمن من ضرورياته أيضاً لملازمة الحركة له.

أمّا أميرالمؤمنين(عليه السلام) فإنّه يرى أن الله ليس بخاضع للحركة ولا للزمن، ولا تتعرض ذات الواجب للتغير ولا للتبدل، يقول(عليه السلام): «أَنْتَ الاَْبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَكَ»(3)، أي أن الله موجود أبدي لا يقبل الأمد ولا المدة، وأن كلّ موجود مادي ينتابه التغيّر والزوال هو موجود ذو أمد ومدة، ذلك لأ نّه يبلغ حداً ما ثمّ يتخلّى عن ذلك الحدّ، إنّه ذو أمد وزمن من سواء تمكّنا من احصائه أم لم نتمكن، أمّا كون الله أبدياً فهو لعدم قبوله الأمد والزمن.

يقول الإمام عليّ(عليه السلام) في عدم خضوع الله للزمان والمكان وللتغير: «لاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ، وَلاَ يَحْوِيهِ مَكَانٌ»(4) أي لا شيء يستوعبه ويشغله أو يحجزه عن غيره، لأ نّه إذا ما أراد فعل شيء فإنّه لا يكون عاجزاً عن فعل شيء آخر وذلك لعدم تناهيه، وسنتطرق ـ فيما بعد ـ إلى هذا الموضوع.

إنّ الزمان الّذي هو عبارة عن مقدار الحركة، وإن الحركة هذه هي عبارة عن جريان ومرور المادة وعبارة عن تغيّرها التدريجي، هذا الزمان لا سبيل له إلى الواجب، لأ نّه مجرد، فهو ليس بمادي كي يقبل الزمان والحركة «وَلاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ» إنّه لا حكومة للزمان عليه، أمّا الحركة فإنّها تقوم بالزمان، ولكونه يمثل مقداراً للحركة فإنّها ذات حكومة ونفوذ على المادة، إنّ الشيء الّذي له جهة ويتحرك نحو هدفه من خلال المرور من قناة ما هو إلاّ موجود مادي ومتحرك.

وسترافق هذه الحركة مدة ووقت نطلق عليها اسم الزمان، إذ لو لم يكن هناك زمان لا تكون هناك حركة، وإذا انعدمت الحركة فإنّه سوف لن تكون هناك مادة، ولهذا قال(عليه السلام): «وَلاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ» أي لا يتغير بالزمان ولا سبيل للتغيّر الزماني إليه، إذن لا سبيل للحركة ولا للمادة إليه سبحانه «وَلاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ» ، ومن هنا أي من كونه سبحانه ليس بمادي فإنّه لا يحويه مكان أيضاً قال(عليه السلام): «وَلاَ يَحْوِيهِ مَكَانٌ».

إنّ هذا يؤكد بنحو واضح بأن الله سبحانه مجرّد وذلك لتنزهه عن الزمان والمكان والتغيّر، فالشيء المجرد هو الشيء الّذي لا يخضع لسيطرة ولنفوذ التغيّر والزمان والمكان.

وبهذا ننتهي إلى أن كلّ مادي هو متحرّك ومتغيّر وزماني، أي أن لكلّ موجود مادي حركة وتغيّر وزمان ومكان. ونقيضه هو أن كلّ ما ليست له حركة وتغير ومكان ليس بمادي وأ نّه مجرّد.

يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام) في كون الله سبحانه منزهاً عن الزمان: «وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلاَ زَمَانٌ، ولَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ»(5) أي أن الله غير مسبوق بوقت أو زمان، ولو كان سبحانه موجوداً مادياً لكان له وقت وزمان ولكان مسبوق بهما، إذ أن كلّ موجود مادي هو حادث مادي وزماني، وتعتوره الزيادة والنقصان، كما أ نّه يفقد شيئاً ويحصل على شيء آخر، يفقد صفة، ويحصل على كمال ما، بل أ نّه تطاله الزيادة والنقصان، وكذا الوقت والزمان.

أمّا إذا كان هناك موجود منزّه عن الوقت والزمان وعن الزيادة والنقصان، فإنّه سوف لن يكون مادياً، بل سيكون مجرداً لأن كلّ مادي له وقت وزمان وعليه زيادة ونقصان.

ونقيض الموجود المادي، الموجود الّذي لا وقت له ولا زمان ولا زيادة ولا نقصان ولا مادة، فهو موجود غير مادي، وإذا كان كذلك كان مجرداً، يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام) في وصفه لله بأ نّه غير مجرد وغير متغير: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حالا، فَيَكُونَ أَوَّلا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً، وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً»(6) أي لو كان الله موجوداً مادياً لبرزت حالاته في اطار المادة حالة بعد حالة، ولتقدمت كلّ صفة من صفاته الواحدة على الاُخرى، فمثلا لو كان أوّلا لم يكن آخراً، ولو كان آخراً لم يكن أوّلا، ولو كان ظاهراً لم يكن باطناً، ولو كان باطناً لم يكن ظاهراً.

وهذه هي الأسماء الأربعة التي تعدّ من اُمّهات الحقّ تعالى: (هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن)(7) أي أن الله أوّل وآخر وظاهر وباطن، أمّا الموجود المادي فإنّه لو كان أوّلا لم يكن آخراً لكنه بطروء التغير عليه يكون كذلك، ولو كان ظاهراً لم يكن باطناً، لكنه يكون بالتغيّر كذلك، وبالعكس، أمّا الله فله هذه الأسماء جميعاً من غير تحوّل أو تبدل، فأولاه غير اُخراه، وكونه ظاهراً عين كونه باطناً، ذلك لأ نّه وجود محض. أمّا ظهوره فلكونه محيطاً محضاً، أمّا كونه باطناً فلشدة النورانية التي لا تسمح باكتناهه وبإدراكه بنحو كامل، إذن فكونه باطناً هو عين كونه ظاهراً.

كما أنّ كونه أوّلا هو عين كونه آخراً، لأ نّه كمال محض ومبدأ لكلّ الكمالات، وأن كافة الكمالات تتحرك وتسير نحوه، إذن فهو أوّل وهو آخر.

أمّا إذا كان الله موجوداً مادياً فإن هذه الصفات والأسماء سوف لن تكون منها عين الاُخرى.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإننا إذا أردنا إثبات الله بالاعتماد على الاُصول والاُسس الديالكتيكية فإنّ هذه الاُصول ستدور في فلك الحركة العامة للعالم، أي أ نّه لا يوجود موجود في العالم لا يخضع للحركة، أمّا إذا أردنا اثبات وجود الله من خلال الاعتماد على المنطق الرياضي ـ الّذي يعد تفسيراً كمياً للعالم الخارجي ـ فإن ذلك سوف لن ينتهي بنا إلى نتيجة صحيحة، لأن الشيء الّذي لا كمية له ولا بداية ولا نهاية، ولا ظاهر له بمعزل عن الباطن ولا أوّل له مخالف للآخر، لا يقبل الكمّية.

وبناءً على هذا لا يمكن اثباته ولا معرفته بالتفسير الكمّي، ولا بالتفسير الديالكتيكي الّذي يعتمد على الحركة العامة.

لقد اعتمد نهج البلاغة على أصل التجرّد كثيراً في أن الله تعالى منزّه عن التغيّر والحركة، فهو سبحانه ليس فقط لا حركة مادية له ولا مكانية ولا كيفية ولا فكرية ـ أي ليس هو كالإنسان يفكر ثمّ يعمل، ويفكر ثمّ يتحرك ـ بل حتى علمه بسيط وعين ذاته.

أمّا في مقام الصفات الفعلية فإن صفة فعله التي هي علم فعلي وإرادة فعلية تنتزع من أصل الفعل لا من أصل الذات، لهذا نفى أميرالمؤمنين(عليه السلام) مسألة الفكر أيضاً وأكد على أن الله خلق العالم بلا أعمال نظر أو فكر أو تأمل، يقول(عليه السلام): «الْحَمْدُ للهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَة، الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة»(8)، إنّه لابدّ من معرفة الله ولكن لا بالعين، ولابدّ من درك أن الله خالق بلا اعمال للفكر وبلا ترو أو تفكّر، إذ التفكّر ما هو إلاّ حركة فكرية، والإنسان المتروي هو أهل رؤية وإعمال للنظر في أفكاره ليختار ويقدم... أمّا الله فعلمه قبل المعلوم ، وهو الباعيث لظهور المعلوم مع كافة مبادئه.

إذن لا وجود للتروي ـ الّذي هو شكل من أشكال التفكير، والتفكير هو حركة الفكر ـ في الله . إذن فالله ليس منزهاً عن الحركات الظاهرية وعن الكمية والكيفية والمادية ، بل ومنزهاً عن الحركات الفكرية أيضاً. يقول عليّ(عليه السلام): «الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً»(9) وهذه المسألة هي من مسائل الأزلية والإطلاق الذاتي حيث سنشير إليها فيما بعد، أمّا الآن فسنبحث في تجرّد الله وفي كونه منزّهاً عن تأثير قوانين الحركة.

يقول الإمام عليّ(عليه السلام) في ذلك: «الْحَمْدُ للهِ الاَْوَّلِ فَلاَ شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالآخِرِ فَلاَ شَيْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرِ فَلاَ شَيْءَ فَوْقَهُ، وَالْبَاطِنِ فَلاَ شيَ دُونَهُ»(10) أي أن أولية الله أولية ليست نسبية وأ نّه أوّل محض، فلا شيء قبله، كما أن آخريته هي الاُخرى ليست نسبية لكي يوجد بعده شيء، فلا شيء بعده، وهكذا ظاهره، فهو ظاهر غير نسبي، لذا لا يكون غير الباطن، وباطنه أيضاً ليس نسبياً فلا يكون غير الظاهر، وهذا الأمر وإن كان متعلقاً بالإطلاق الذاتي وبعدم التناهي إلاّ أ نّه يثبت التجرد أيضاً بنحو أولي ويقيني، وهناك شواهد اُخرى أيضاً سنتعرض لها عند بحث المرحلة الثالثة والرابعة.

إن ما يتمخّض عما سبق هو أن الله منزّه عن أي تغير وعن أية حركة وزمان وأمد وتحوّل فهو مجرد، أمّا في مجال كونه سبحانه بسيطاً ولا جزء له فيقول(عليه السلام): «وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ: الاَْوَّلُ لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالآخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ، لاَ تَقَعُ الاَْوْهَامُ لَهُ عَلى صِفَة، وَلاَ تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّة، وَلاَ تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلاَ تُحِيطُ بِهِ الاَْبْصَارُ وَالْقُلُوبُ»(11).

لقد أكد أميرالمؤمنين(عليه السلام) عند بحث المرحلة الثالثة المتعلقة بالبساطة على أن الله بسيط لا جزء له ولا بعض، وأ نّه غير قابل للتجزئة، ولا يمكن فرض البعض عليه ذلك لأن الجزء والبعض إمّا في الكميات أي في المتكمم الّذي يمكن أن نقسّمه إلى نصف وثلث وربع كأجزاء وأبعاض له، أو أ نّا نجد التركيب في الشيء المركّب من المادة والصورة فتجزئه إلى مادة وصورة، أو في الشيء الّذي لا مادة ولا صورة، أو في الشىء لا مادة ولا صورة له فنجزئه في الذهن إلى مشترك ومختص وإلى جنس وفصل وأمثال ذلك، وهذه ثلاثة أنواع.

أو أ نّه وإن كان لا يقبل المشترك وللمختص فإنّه في الأقل مركب من الوجود والماهية، أي أن وجوده ليس عين ذاته، وهذا أيضاً هو نوع من التجزئة والتبعيض حيث يعتبر المرحلة الرابعة من مراحلها، أو أ نّه إذا لم يكن مركباً من الوجود والماهية فإنّه يكون مركباً من الوجدان والفقدان أي أن يكون ذا مرحلة واحدة وفاقداً للمراحل التي تليها، وهذا التركيب من الوجود والعدم، من الوجدان والفقدان هو أدنى أنحاء التركيب، وبهذا تكون قد تمت الأقسام الخمسة للتجزئة والتبعيض، فالمركب إما مركّب كمّي مركب من النصف والثلث ، أو مركب من المادة والصورة كالمركبات الخارجية، أو مركب من الجنس والفصل كالمركبات الذهنية، أو مركب من الوجود والماهية كما في البسائط المجردة، أو كالمركب من الوجدان والفقدان كما في الوجودات المجردة وهنا ليس المعنى بالموجودات المجردة الموجود المجرد المركب من الماهية والوجود، بل المقصود مستوى درجة الوجود.

إن هذه المراحل الخمس تنطوي جميعها على الكمية، أمّا الله فلا مادة له ولا صورة، ولا جنس له ولا فصل، ولا وجود له ولا ماهية كما أن وجود غير محدود «لاَ تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ».

وبناءً على هذا لا يمكن للعين مشاهدته، ولا للقلوب الإحاطة به: «وَلاَ تُحِيطُ بِهِ الاَْبْصَارُ وَالْقُلُوبُ» وبهذا تكون قد اتضحت بساطته.

أمّا إذا أردنا اثبات وجود موجود بسيط هو فوق التجرّد فبأي الاُصول والاُسس يمكن أن نستعين على اثباته؟ انثبته بالمنطق الرياضي الّذي يفسّر العالم تفسيراً كمياً؟ أم نثبته باُصول الديالكتيك التي تعتمد على الحركة العامة وتنفي الموجود غير المادي؟ إنّه لا يمكن اثباته بذلك لأن الله وطبقاً لما يراه أميرالمؤمنين(عليه السلام) بسيط محض، ولا سبيل للتجزئة والتبعيض إليه بأي نحو من الأنحاء، ولو وجدت مرحلة من المراحل الخمس ـ الآنفة الذكر ـ طريقاً وسبيلا إليه لما كانت العبارة التالية صادقة بنحو مطلق: «لاَ تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ» ومن كونه سبحانه لا جزء له مطلقاً ولا بعض ولا تركيب ولا سبيل للتجزئة إليه فإنّه يكون بسيطاً محضاً، وإذا كان كذلك فإن المرحلة الرابعة والصفة الرابعة ـ الآنفة الذكر ـ والتي هي عبارة عن الإطلاق الذاتي وعدم التناهي ستكون واضحة وجلية بنحو أدق، وهذه الصفة هي نفسها أزلية الله تعالى، وأ نّه تعالى حاد كلّ محدود، وأن كلّ ما سواه محدود، وأ نّه سبحانه حاد له من غير أن يقبل الحد، وقد تناولنا هذه المسألة أيضاً في الدرس السابق وذكرنا عبارة الإمام(عليه السلام) في هذا المجال وهو قوله: «الاَْوَّلُ لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالآخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ» أي أن الشيء الّذي لا نهاية له إذا لم يكن محدوداً ولم يكن أزلياً محضاً وليس له اطلاق ذاتي فسيكون له حد وما وراءه هو غايته ونهايته، أي سيكون له آخر.

إن الموجود الّذي لا آخر له ولا أوّل يفهم منه على أ نّه موجود بلا حد، كما أن الموجود الّذي تكون أوليته عين آخريته يفهم منه أ نّه موجود بسيط لا جزء له، وبذلك تثبت البساطة وعدم التناهي معاً لله تعالى، أمّا إذا كان الله موجوداً محدوداً فإنّه سيكون مسبوقاً من جهة وملحوقاً من جهة اُخرى، أي أن له نهاية وبداية.

لكن إذا كان هناك شيء لا أوّل له ولا آخر فإنّه سيكون واضحاً أ نّه لا حدّ له، كما أ نّه إذا كان هناك شيء أوّله عين آخره فإنّه سيتّضح أ نّه بسيط ولا جزء له، وكذا إذا كان هناك شيء لا سلطة للتاريخ وللزمان وللتغيّر وللحركة عليه فإنّه سيتضح أ نّه مجرد، ومن هنا ننتهي إلى أن الله موجود مجرد بسيط غير محدود.

وقد جاءت مسألة عدم المحدودية هذه على لسان القرآن الكريم بعبارات شتى كقوله تعالى: (وكان الله بكلّ شيء محيطاً)(12)(إنّ الله كان على كلّ شيء شهيداً)(13) (وإن الله بكلّ شيء عليم)(14) (وكان الله على كلّ شيء قديراً)(15) إنّ كلّ هذه الآيات تؤكد الإطلاق الذاتي وعدم تناهي الذات، أي أينما كانت الشيئية والوجود كانت إحاطة الله تعالى لها، وهذا يعني أ نّه لا حدّ له سبحانه، كما أ نّه أينما وجدت الشيئية والوجود كانت في متناول قدرة الله، فلا يوجد مكان خارج عن إحاطته وقدرته سبحانه، وأن قدرته غير محدودة ، وأ نّه لا حد له سبحانه.

وما دامت هذه هي الأسماء الحسنى لله والصفات الذاتية له فإن ذات الله ذات مطلقة وغير محدودة وأ نّها وجود محض لا سبيل لأي أحد إليها، يقول الإمام عليّ(عليه السلام): «أَنْتَ الاَْبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَكَ»(16) أي أ نّك أبدي الوجود وأ نّك لا تقبل الأمد، «لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً» فهو سبحانه أزلي أبدي، وأ نّه لم يزل قائماً، وأن الموجودات الاُخرى قائمة به، وأ نّه لم يزل دائماً، وأن استمرارية الموجودات به.

إن هذه الأسماء هي من اُمهات أسماء الله التي تنطلق منها سائر الصفات، فمسألة الخالقية والرازقية تنطلق من القدرة، ومسألة كونه خبيراً بصيراً تنطلق من كونه عالماً، كما أن مسألة الإحاطة بالأفراد تنبع من إحاطته المطلقة.

إذن فلا حدّ لله من هذه الجهة وأ نّه(عليه السلام) يكرّر القول في كون الله غير متناه، هذا من جهة ومن جهة اُخرى فإنّه سبحانه لمّا كان لا يقبل الحدّ فإن أزليته حالت أمام نعته سبحانه بمنذ أو بحد أو بمتى أو بأمثال ذلك.

وبناءً على عدم تناهيه سبحانه واطلاق ذاته يقول(عليه السلام) في خطبة الأشباح المعروفة ـ والتي تعد من خطبه الجليلة ـ : «الأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيءٌ قَبْلَهُ، وَالآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ»(17) ثمّ يردف حديثه هذا بقوله: «وأَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً»(18).

وما دمنا قد انتهينا إلى الأزلية والأبدية التي هي عبارة عن الإطلاق الذاتي بعد أن أثبتنا وجود وتجرد الوجود وبساطته نشير إلى قوله(عليه السلام): «وأَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ» أي لا يمكن لعقل ولا لحكمة ولا لحكيم أن يطلع عليك ويدركك بالنحو الّذي أنت عليه، ولو اطلع لكان الله متناه، ولما كان هذا المتناهي هو الله، وذلك لما يستتبع من بداية ونهاية، في حين أ نّه لا تناه لله لا في العقل ولا في الفكر، إذ العقل والفكر هما من مخلوقاته وفي دائرة قدرته وأ نّهما محدودان ومحاطان به سبحانه «لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً» أي لا تحتويك الخواطر والأفكار فتكون محدوداً.

وهل تقع العنقاء في شرك الصياد، كما أ نّه لا يمكن للعقل مطلقاً أن يدرك غير المحدود، إن العقل يفهم أ نّه لا يفهم، ولهذا فإن كلّ ما يدركه بالمعرفة يقرنه إلى جانب الاعتراف كقوله تعالى: (ليس كمثله شيء)(19) وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما عرفناك حقّ معرفتك».

نأمل أن يمنّ الله على الجميع المعرفة التي يعبّر عنها أميرالمؤمنين(عليه السلام) بأول الدين، بالقدر الّذي يطيقه الانسان، هذه المعرفة التي إن تحققت تحققت سائر الكمالات بعدها.

إن ما طرحناه فيما سبق كان عبارة عن موضوعات في مجال الحكمة النظرية والحكمة العملية من منظار أميرالمؤمنين عليّ أبي طالب(عليه السلام) الواردة في نهج البلاغة، وقد اتضح فيها ـ إلى حد ما ـ معنى الحكمة النظرية والحكمة العملية، كما اتضح الفرق بين الحكمة النظرية والعقل النظري، والفرق بين الحكمة العملية والعقل العملي.

وخلصنا إلى أن عالم الوجود ونظام الكون ـ قائم على أساس نظام العلة والمعلول، أي أن الموجود الّذي لا يكون وجوده عين ذاته لا يكون موجداً لنفسه ولا حادثاً بالصدفة، بل معتمداً على ذاتي يكون وجوده عين ذاته: «كُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ»، فكلّ موجود له قيام وتقوم وله حض من الوجود وهو موجود معلول لله سبحانه، ذلك لأن الله مبدأ خلق العالم، وأن الموجودات الاُخرى متقوّمة به لعدم وجود أي موجود من الموجودات يكون وجوده عين ذاته، ولما كان وجود هذه الموجودات غير ذاتها وأن وجودها مستمد من الغير، فإن ذلك الغير لابدّ له أن يكون وجوداً محضاً ليمنحها الوجود، ولهذا قال أميرالمؤمنين «كُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ»(20) أي أن عليّاً(عليه السلام) يستدل بعالم الإمكان على أصل وجود الله تعالى، كما أ نّه ولكون عالم الإمكان حادثاً والله أزلي نجده يقول(عليه السلام) في مكان آخر من النهج: «الْحَمْدُ للهِِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّته»(21) أي لما كان المخلوق حادثاً فلابدّ للخالق من أن يكون أزلياً، إذ لو كان الخالق حادثاً لاحتاج إلى خالق أزلي، وعلى هذا الأساس عرض أميرالمؤمنين(عليه السلام) مراحل أربع:

المرحلة الاُولى: مرحلة بساطة الله، أي أن الله بسيط غير مركب.

المرحلة الثانية: المتفرعة عن المرحلة الاُولى هي عدم قبوله سبحانه للتجزئة.

المرحلة الثالثة: هي الاُخرى متفرعة عن الاُولى أيضاً وهي مرحلة عدم قبوله تعالى للتبعيض بأي نحو من الأنحاء «وَلاَ تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ»(22).

المرحلة الرابعة: المنبثقة عن المرحلة الاُولى فهي الإطلاق الذاتي لله، أي أن الله حقيقة غير محدودة، حيث لا حدّ لذات الله تعالى، ولو كان محدوداً لكان ناقصاً لفقده ما وراء الحد، وبالتالي لأصبح مركباً من الوجدان والفقدان، ومالكاً لبعض كمالات الوجود، وفاقداً لبعضها الآخر، ومن يكون كذلك يكون محتاجاً، والمحتاج لا يكون خالقاً ولا إلهاً.

لقد بحثنا ـ فيما سبق ـ كلّ واحدة من هذه المراحل الأربع على نمو الاختصار، إلاّ أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن أهم مرحلة من المراحل الأربع وأبرزها عند أميرالمؤمنين(عليه السلام) حيث اعتمدها في خطبه هي أزلية الذات وإطلاقها، وعدم محدودية الله، وأ نّه حقيقة مطلقة لا نهاية لها، ولا حدّ لذاته ولا لوجوده.

إن الإطلاق الذاتي مصدر العديد من صفات وأسماء الله الحسنى، كما أن ثبوت كون الله حقيقة غير محدودة ووجود مطلق ومحض يستدعي عدم إمكانية اكتناه الله وعدم إمكان الإحاطة العلمية به وعدم معرفته كما هو عليه ذلك لأن عقل الإنسان المحدود، بل وعقل أي من الملائكة الأرفع من عقل الإنسان لا يمكن بذاته المحدودة أن يحيط بالوجود المطلق لمكان عدم إمكانية حصول الإحاطة العلمية بذات الحقّ بالضرورة، وممّا يتفرّع عن ذلك الأصل ـ أي الإطلاق الذاتي ـ هو أن الله قريب في نفس الوقت الّذي هو فيه عال.

أمّا الثالث من مستلزمات الإطلاق الذاتي لله تعالى فهو أ نّه مع كلّ شيء من غير أن يحل فيه أو يتّحد معه، هذه ثلاث مستلزمات للإطلاق الذاتي، وهناك فروع اُخرى تنبثق عن هذا الأصل شارت إليها خطب أميرالمؤمنين(عليه السلام).

أمّا فيما يتعلق بعدم معرفة الله تعالى كما هو عليه فيقول(عليه السلام) في خطبة مشهورة له: «الَّذِي لاَ يُدْركُهُ بُعْدُ الهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الفِطَنِ»(23) أي أن الهمم مهما كانت بعيدة المرام وعالية لا يمكنها معرفة الله تعالى ـ كما هو عليه ـ ولا يمكنها الوصول إلى قعر بحر المعرفة لا بالغور ولا بالغوص في العمق، فلا يقدر الإنسان على الإحاطة بالله سبحانه لا بالتحليق في العلو، ولا بالغوص في العمق، أي أن العارف لا يتمكن بالغور والغوص في معرفة النفس، ولا الفيلسوف بالعقل من معرفة كنه الله تعالى كما هو عليه، إنّه لا يتاح لأي منهما معرفة كنه الله سبحانه لا بالغوص في النفس ولا بالتحليق بالفكر ولا بالرياضة، لا بالمعادلات الفلسفية ولا بالمشاهدات العرفانية، لا بهذه ولا بأي طريق آخر يمكن الاحاطة بالله، والسبب هو لأن الله محيط بالطريق وبالسائر فيه وبسيره، إنّه محيط بأفكار المفكر وبمنط تفكيره ومحيط بالمفكر نفسه، وكذا محيط بالمشاهدات العرفانية، وبالعارف بمعرفته وبمشاهداته. فما يشاهده العارف وما يفكّر به الحكيم هو أمر محدود وفي اطار احاطة الله، وهذا هو منطق القرآن الكريم أيضاً حيث يقول تعالى: (ولا يحيطون به علماً)(24) إنّه لا يمكن حصول الإحاطة العلمية بالله، لعدم إمكانية المحدود من اخضاع اللامحدود لإحاطته، وفي هذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن العقل يقف قاصراً أمام الإكتناه وأمام الإحاطة العلمية لذات الله تعالى، فلا يتيسر له إدراك كنه الذات لأن المحيط المحض لا يقع مطلقاً تحت طائلة احاطة المحدود مطلقاً، يقول(عليه السلام): «الْحَمْدُ للهِِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ»(25).

فعقل وفكر العلماء يقف قاصراً ويتراجع خائباً أمام كنهه وأمام الإحاطة به سبحانه. إنّ عظمته تعالى شأنه امتنعت على العقول وعلى أفكار المفكرين العميقي الغور والتفكير، فليس بمقدورهم بلوغ نهاية ملكوت الله، أو معرفته كما هو عليه، ولهذا فما من قدر من معرفتهم إلاّ ويرافقه اعتراف بالنقص وهو مصداق قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما عرفناك حقّ معرفتك».

وهذا هو أحد الفروع المنبثقة عن الإطلاق الذاتي وعن عدم كون الحقّ محدوداً.

أمّا الفرع الثاني فهو أن الله مع كونه غير محدود ولا نهاية له فهو موجود مع شيء من غير أن يحل فيه، وإذا كان غير محدود فإنّه سوف يحيط بكلّ محدود، ويكون مع كلّ محدود، بل مقوّماً له من غير أن يمتزج معه، ذلك لأ نّه إذا صار قريناً أو ممتزجاً أو مختلطاً أو حالا أو متحداً لصار محدوداً كالمحدودات والممكنات.

فمثلا إذا كان الله سبحانه حالا في الماء فإنّه سيتّخذ حكم الماء، وسيكون موجوداً مادياً «سبحانك ما أعظم شأنك»(26) أي أ نّك منزّه عن كلّ عيب ومبرأ عن كلّ نقص، فهو سبحانه منزّه عن الاختلاف والحلول في أي موجود مادي ومنزّه عن أن يقبل حكم المادة والمادي، هذا من جهة ومن جهة اُخرى فإنّه إذا لم يكن مع الموجودات المحدودة فسيكون محدوداً أيضاً كما لو حلّ فيها لذا فإن الشرط الأساس لتحقق الأزلية مع عدم محدودية الحقّ ومع إطلاق ذاته هو أن يكون الله مع كلّ شيء، ولكن بلا حلول، وخارجاً عن كلّ شيء، بلا انفصال أو مفارقة، أمّا كون الله خارجاً عن الشيء فهو لعدم حلوله فيه مع احاطته به، لذا يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام) في عدم مفارقة الله تعالى للشيء، أ نّه سبحانه: «مَعَ كُلِّ شَيْء لاَ بِمُفَارَقَة، وَغَيْرُ كُلِّ شيء لا بِمُزَايَلَة»(27) وفي هذه المسألة بحث دقيق أيضاً في هل أن هذا الإطلاق هو نفس ذلك الإطلاق الذاتي للحقّ، أي أن ذات الله هي هكذا أم أن هذا الإطلاق مرتبط بفعله سبحانه وأن فعله وفيضه المنبسط هو مع كلّ شيء بلا أن يصطبغ بلون ذلك الشيء وبلا أن يكون خارجاً عنه ولا مجانباً له؟

إنّ ما أشار إليه صدر المتألهين في شرحه لاُصول الكافي عند تناوله لخطب أميرالمؤمنين(عليه السلام) إنّما تتناول شرح صفة الفعل لا مقام الذات، وهذا المعنى خارج عن حدود بحثنا الّذي نحن فيه.

إذن فالفرع الثاني لأصل الإطلاق الذاتي هو أن الله موجود في كلّ مكان وغير ممتزج أو متّحد مع الشيء، كما أ نّه حال فيه، لأن حلوله يعني اكتسابه لحكم ذلك الشيء، ولو كان كذلك لكان مادياً ومحدوداً، ولما كان أزلياً ولما كان غير محدود.

أمّا الفرع الثالث المتفرع عن ذلك الأصل فهو أن الله في نفس الوقت الّذي هو فيه مع الموجودات مجرد ومتسام أيضاً، كما أ نّه في نفس الوقت الّذي هو فيه في كمال السمو والعظمة قريب أيضاً، فهو لا يكون كائناً في مقام عال وسام من غير أن يكون حاضراً في مقام الدنو والقرب، إنه: «دان في علوّه، وعال في دنوّه»، ففي عين الحال الّذي هو فيه نازل مع الموجودات، حاضر أيضاً في المقام العالي، في نفس الوقت الّذي يكون فيه ذو مقام عال وحاضر إلى جوار الموجودات العالية له اشراف على الموجودات الدانية وله احاطة بها، وهذا يؤكد قوله(عليه السلام) بأن الله تعالى شأنه: «دان في علوّه وعال في دنوّه» كما يؤكد قوله «سبق في العلو فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به»(28) أي أ نّه سبحانه عال بنحو لا يناله فكر أحد، ودان وقريب بنحو لا شيء أقرب إلى الإنسان أو إلى غيره منه، فهو في نفس الوقت الّذي هو فيه في مقام العلو بل وأعلى من كلّ علو ومن كلّ عال، وأن علوه سابق على كلّ اعتلاء، وأ نّه سبحانه علو كلّ عال في عين هذا الحال فإنّه موجود مع أخس الموجودات وأنزلها، وأقرب إلى كلّ موجود من نفسه فهو أقرب إلى الإنسان من نفس الإنسان.

يقول سبحانه واصفاً قربه من الإنسان ، بأ نّه أقرب إلى المحتضر المستلقي على فراش المرض المؤدي بالإنسان إلى الموت من الحاضرين إلى جواره: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(29) بل إنّه أقرب إليه منهم غير أ نّهم لا يرون حضوره: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(30) بل إنّه سبحانه يكون في بعض الأحيان أكثر قرباً إلى الإنسان من ذلك (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)(31) أي يحول بيننا وبين أنفسنا، وأ نّه أقرب إلينا منها، وبإمكانه أن ينقض ما ـ نهّم به ـ ويفسخ ما نعزم عليه، فهو يعلم ما يجول في خواطرنا أكثر ممّا نعلم، بل وقبل أن نعلم، فعلمه بها سابق على علمنا بها، إنه سبحانه أقرب منا إلى القدرة المودعة في نفوسنا، كما لا يوجد شيء لا يكون الله أقرب إليه منه، وسر ذلك هو أن هذا من مستلزمات الإطلاق الذاتي ومن مستلزمات اللامحدودية يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «فَلاَ اسْتِعْلاَؤُهُ بِاعَدَهُ عَنْ شَيْء مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ في المَكَانِ بِهِ» وذلك لأن هذا من مستلزمات الحقيقة المطلقة غير المحدودة وإن كان هناك شيء غير محدود فإنّه بالضرورة سيكون على هذا النحو.

إن أحد الفروع المبثقة عن الإطلاق الذاتي وعن عدم تناهي الحقّ تعالى هو ظهوره تعالى بنحو تكون فيه معرفتنا له أكثر من معرفتنا لأي شيء آخر، إذ لا يمكن أن يكون هناك شيء أعرف لنأمن الله، وأن كلّ ما نعرفه إنّما نعرفه بواسطة النور الإلهي، ففي البدء نعرف الله، ثمّ نعرف غيره، أمّا أن تكون هناك غفلة فهذه مسألة اُخرى، وإلاّ فإنّه أعرف من أي معروف وأجلى من أي جلي، إنّه الحقّ المبين.

قال(عليه السلام) في خطبة له: «هو الله الحقّ المبين»(32) فالله بيّن ومعلوم وظاهر محض، إنّه «أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ»(33) فقد ترى العين شيئاً فتراه على غير ما هو عليه، بل قد لا ترى الشيء الموجود في الخارج بنحو دقيق أو أ نّها ترى شيئاً لا وجود له، إذن فالله أثبت وأحق بالوجود ممّا تراه العين من الأشياء التي تطمئن إلى رؤيتها لأ نّه عين الوجود.

وبناءً على هذا فإن كلّ ما تراه العين غير قابل لأن يقاس بالله، لأ نّه أثبت من حواسنا وأليق به لأن يكون حقاً: «وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ» إنّه أظهر المحسوسات التي يحسها الإنسان، ذلك لأن روح الإنسان تبصر بواسطة شبكية العين، وتدرك أن عملية الإدراك إنما تتم من خلالها فالأعمال الفسلجية تتم عبر شبكية العين، حيث تقوم آلة تصويرها بوظائفها المادية أمّا الإدراك فهو من وظيفة الروح البشرية.

هذه الروح هي في الحقيقة التي تبصر وتفهم وتدرك، وما نفس هذا النظر والتصوّر والتفكير والمطابقة مع الواقع إلاّ موجودات محدودة ومخلوقة لله. فالإنسان يبصر المطلق الخالق في البدء، ثمّ يرى بعد ذلك المحدودات، فيدرك الله ثمّ يعقب هذا الإدراك إدراك المحدودات، ولولا وجود تلك الحقيقة لما كانت هناك رؤية، ولما وجد الشيء المرئي أيضاً، وبالتالي لو لم تكن الحقيقة المحضة موجودة لما كان هنالك ناظر، ولهذا أكد(عليه السلام) أ نّه لا يمكن انكار وجود الله. لأن نفس الإنكار دليل على وجوده سبحانه باعتباره فعلا من الأفعال وموجوداً من موجودات الكون، فنفس الشك في وجود الله دليل على وجوده سبحانه، لأن الشك لا يعدو أكثر من كونه وجوداً وحادثاً يعتمد في وجوده على غيره، لذا فلا يمكن انكار وجود الله بأي شكل من الأشكال، وحتى المنكر لوجود الله بلسانه هو مؤمن بوجوده غير أ نّه غافل لا يدرك ما يقول، فالله تعالى حقيقة لا تقبل الإنكار، فهو أثبت وأجلى وأظهر من جميع المحسوسات يقول(عليه السلام): «أحق وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ» فإذا كان هناك استدلال فإنّه سبحانه هو الّذي يوجد العلاقة بين الدليل والمدلول، وهو الّذي يخلق الدليل ويوجده، كما أ نّه هو الّذي يوجد العلاقة بين الدليل والمدلول والمدّعي، لأن جميع هذه الاُمور موجودات محدودة وممكنة، وإذا كانت كذلك فإنّها طبقاً للاستدلال الآخر لأمير المؤمنين(عليه السلام): «الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه» تكون محتاجة إلى مبدأ، وهذا بدوره يتطابق مع قاعدته(عليه السلام) الكلية: «كُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ» إذ كلّ موجود لا يكون وجوده عين ذاته يكون محتاجاً إلى الله. كما أن كلّ ما كان مسبوقاً بالعدم ثمّ وجد فإنّه يجب أن يكون معتمداً على وجود محض، باعتبار أن الصدفة العمياء لا دور لها في نظام العلة والمعلولية.

إذن فنفس الشكّ والتردّد في وجود الله وحتى الإنكار هو عبارة عن موجود خارجي يدلّل على وجوده سبحانه، فمن غير الممكن نفي وجود الله، ومن غير الممكن رفض وجوده سبحانه، وإذا ما فعل شخص ما ذلك فإنّه أخطأ في حساباته أو أ نّه لا يريد الانصياع لله وللإيمان به، إذ الإيمان غير العلم لأن الإيمان عمل إرادي، أمّا العلم والإدراك فإنّه غير إرادي.

إن الباحث إذا ما كان دقيقاً في وضع الدليل، وجاء بالمقدمة اللازمة للبحث فإنّه سينتهي إلى نتيجة، وسيحصل على ثمرة من وراء بحثه، ولا يقبل منه ـ عندئذ ـ قوله بعدم الرغبة في فهم وإدراك النتيجة التي بلغها وحصل عليها في بحثه وتدقيقه، كما لا يقبل منه القول بأ نّني لا اُريد أن أكون عالماً بهذه النتيجة، إن الأمر ليس كذلك، بل إنّه بعد أن ترسخ الدليل القوي في نفسه، وبعد أن استعمل عقله في بحث موضوعه العلمي فإنّه سيفهم ـ لا محالة ـ نتيجة موضوعه سواء رغب أم أعرض، ومع ذلك بإمكانه أن لا يؤمن، وأن لا يرفض ولا يرضخ للنتائج، بل ويعترض عليها ولا يسلّم لها. إنّه باستطاعته أن يكفر بها، لكنه لا يمكن أن لا يفهمها وأن لا يعيها ذلك لأن الفهم والإدراك يكون أمراً ضرورياً بعد الانتهاء من وضع المقدمات، وبعد قيام الدليل على الموضوع خاصة أن الفهم عمل غير إرادي، أمّا وضع المقدمات وعدم التفكير فإنّه أمر إرادي وبامكانه الإعراض عنه، وعن مطالعة الموضوع أو مناقضته، لكنه إذا بحث وطالع واستدل واستمع واستوعب موضوعاً ما وحقّق تحقيقاً حصل القطع له في النتائج فإنّه سيفهم وسيدرك سواء أراد أم لم يرد، كما بإمكانه أن يؤمن وأن يكفر وبالعكس، إذ الإيمان والكفر هو فعل إرادي للنفس وأن بين الإنسان والإيمان والإرادة حائل وحاجز، أمّا بين الإنسان وبين فهم الإرادة فلا حائل ولا حاجز إذ أ نّه إذا ما اُقيم الدليل على أمر ما فإنّه لابدّ للإنسان حينئذ من الفهم والإدراك للنتائج المترتبة عليه، ولهذا أكد أميرالمؤمنين(عليه السلام) على أن الله غير قابل للإنكار وأ نّه أقوى في ثبوته من محسوس، وأثبت من كلّ مشهود.

يقول(عليه السلام) إنّه سبحانه: «أحقّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ».

فحينما نبحث في تلكم الموضوعات والفروع وندقق فيها نجدها ترجع جميعها إلى أصل واحد هو عدم محدودية الله سبحانه، حيث لا يبلغ أحد كنه ذاته. وقد قالوا أن العقل لا يبلغ كنه ذات الله حتى يبلغ الزبد قعر البحر، وهو من باب تعليق المحال على المحال، فمثلما لا يبلغ الزبد قعر البحر فإن عقل الإنسان لا يدرك هو الآخر كنه الله، وحتى لو أدخلوا الزبد بوسيلة ما إلى قعر البحر فإن معرفة كنه الله ستبقى مستحيلة أيضاً، لأن بلوغ الزبد قعر البحر ليس بمحال ذاتاً، فإنّه لا يستطيع بلوغ القعر بنفسه، إلاّ أ نّه يمكن إيصاله بوسيلة ما، أمّا العقل فإنّه محال ذاتاً أن يدرك ويعرف كنه الله، مضافاً إلى أن الوسائل ـ إن وجدت ـ هي الاُخرى محدودة كالعقل، وهل هناك وسيلة بإمكانها ايصال العقل إلى كنه الله تعالى؟ فمن الممكن ايصال الزبد إلى قعر البحر أمّا العقل فلا يمكن ايصاله بأية وسيلة كانت إلى معرفة كنه الله إذ الوسائل ـ كما قلنا ـ محدودة كمحدودية العقل (ولا يحيطون به علماً)(34) وهكذا الملائكة أيضاً عاجزة عن معرفة كنه الله وهو مصداق قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما عرفناك حقّ معرفتك» وهو قول الراسخين في العلم.

أمّا الفرع الثاني المنبثق عن أصل الإطلاق الذاتي واللامحدودية فهو أ نّه: «دان في علوّه وعال في دنوّه» وأمّا الفرع الثالث أو اللازم الثالث للإطلاق الذاتي فهو أ نّه مع كلّ شيء من غير اتحاد وحلول. أمّا الفرع الرابع فهو أ نّه أعلم من أي معلوم وأثبت من أي حق.

وبديهي أ نّه إذا ما اتضحت هذه الفروع وهذه المراحل فإنّنا سندرك أ نّنا في محضر الله تعالى، وأن الله ناظر وشاهد على كافة أعمالنا، وأن كلّ قدراتنا ما هي إلاّ جنداً للحق، ولهذا لا يمكن تحدّي الله أو الوقوف ضدّه، أو عدم انفاذ إرادته ومشيئته، لأن قدرتنا الجسمية والفكرية وكلّ طاقاتنا خاضعة لإحاطة قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله اضلال شخص ما فإنّما يضلّه بعقيدته التي يعتقدها، كما أ نّه إذا أراد أن يبتليه فإنّه يبتليه بيده وبلسانه، جاء ذلك في احدى خطب أميرالمؤمنين(عليه السلام) قوله: «وَجَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ»(35) أي أن كافة أعضائكم هي جند لله، وأن من لم يشمله حبّ الله تعالى، وعصاه فإنّه سبحانه يبتليه بلسانه وبيده، كأن يقول قولا فيبتليه بقوله، أو يقدم على عمل ما بنفسه فيؤدي به إلى السجن، أو يذهب إلى مكان ما أو يرتقي محلا فيكون سبباً لسقوطه ولانزلاقه.

يقول(عليه السلام): «وَجَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ، وَضَمائِرُكُمْ عُيُونُهُ، وَخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ»(36) أي أن خلواتكم وأسراركم وسمّاركم، كلّ اُولئك هم في محضر الله، فعلمه محيط بسمّاركم مثلما هو حاضر في خلواتكم، بل إنّه تعالى حاضر بينكم وأنتم تعقدون المؤتمرات السرية، لقد بحثنا ذلك في بحوثنا التي عقدناها في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم وتناولناه في معرض تفسير قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم)(37) أي ما اجتمع ثلاثة وتدالوا في أمر ما إلاّ كان الله رابعهم ومحيطاً بهم، وما تداول خمسة إلاّ كان الله سادسهم، وما يجتمع جمع إلاّ كان محيطاً بهم، إذن فمن شرط ولازم اللامحدود أن لا يخلو من مكان، وأن يكون محجوباً عن الوصف بما هو عليه، أمّا لو عبد الله فإنّه لابدّ من أن يعبد بأوصافه الذاتية لا بمقدار وحجم فكر العابد (سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون)(38) فعباد الله المخلصين العابدين له إنّما يعبدونه بما عرّف به نفسه، وبما وصف به نفسه لا أ نّهم هم الذين يصفونه، إذ لو أراد شخص وصف الله فإنّه سيصفه بصفات تكون غير الذات لا محالة، وإذا أصبحت الصفة غير الذات فيعني أن الذات ستكون محدودة، كما أن الصفة نفسها ستكون هي الاُخرى محدودة، ذلك لأن الصفة لو كانت كمالا غير الذات فإنّها ستعني أن الذات فاقدة له ومفتقرة إليه، وهذا عين محدوديتها، فلا الذات ستكون حينئذ هي ذات الله ولا الصفة هي صفته سبحانه.

يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ»(39)ويقول: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ»(40) أي أن بداية الدين هي معرفة الله «وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاِْخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الاِْخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ»(41) إن في هذه العبارة نقطة لا بأس بتناولها، وهي أن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يرى أن توحيد الموحّد لا يكون خالصاً حتى يكون نافياً للصفات الزائدة على الذات، فإذا كانت الصفة علماً لابدّ لها أن تكون عين ذات الله، وإذا كانت قدرة كانت عين ذات الحقّ، وكذا إذا كانت حياة، وذلك لأنّ الصفة إذا كانت زائدة على ذات الله فإن الذات ستكون فاقدة لها، كما أن الصفة ستكون منفصلة عن الذات. وستكون الذات والصفة كلاهما محدودين، وبديهي أن الموجود المحدود هو غير الله. وسيكون بالتالي محتاجاً لمن هو أعلى منه، وبهذا الإستدلال يستدلّ أميرالمؤمنين على هذا الموضوع بقوله: «لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوفِ»(42) إن الصفة الزائدة على الذات في صفة محدودة وهي بنفسها تدل على غير الموصوف لزيادتها عليه، كما أن الموصوف الفاقد لها لو وصف بها فإنّه سيشهد على أ نّه غير الصفة، وبناءً على هذا لا يمكن وصف الله بصفات هي زائدة على ذاته، ولما كانت صفاته عين ذاته فإنها لابدّ لها من أن تكون غير محدودة.

وينهي أميرالمؤمنين(عليه السلام) كلّ هذه الاستدلالات إلى عدم حدودية الذات المقدسة وإلى أزليتها، يقول(عليه السلام): «لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ»(43) وهذا بنفسه دليل على أن المراد من تلك الصفة هي الصفة الزائدة على الذات، يقول(عليه السلام): «وَكَمَالُ الاِْخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ» أي نفي الصفات الزائدة على الذات، «فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ»(44) أي أن الواصف لله بصفة زائدة على ذاته فإنّه سيكون قد جعل الله قريناً في حين أ نّه غير محدود، ولا يكون على هذا النحو «وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ»(45).

إن من يفترض صفة زائدة على الذات يكون في الحقيقة قد اعتبر الله مركباً من الصفة والموصوف، وبالتالي سينتهي إلى الاثنين قرينين، كما أ نّه سيخرج الله من الوحدة إلى الاثنينية، وينتهي به ذلك إلى القول بوجود مبدئين، وهذا خروج عن التوحيد، لأن الصفة الزائدة ستكون موجوداً قديماً، وسيكون الله وصفته موجودين قديمين، وهنا يحذّر أميرالمؤمنين(عليه السلام) في هذا المجال ويرى أن من أشار إلى الله بإشارة عقلية «فَقَدْ حَدَّهُ»(46) أي جعله محدوداً، لانه إذا كان قابلا للإشارة سواء أكانت تلك الإشارة حسية أم حدسية أم فكرية أم عرفانية فإنّه سيكون محدوداًظ، وإذا ما أصبح كذلك فإنّه سوف لن يكون إلهاً.

إذ الله هو الحقيقة التي لا حدّ لها، وإذا ما حدّ فإنّه سيصبح رقماً عددياً، يقول(عليه السلام): «وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ»(47) أي جعله رقماً عددياً قابل للعدّ إلى جانب الأعداد الاُخرى، إذ أن كلّ موجود محدود، يكون إلى جواره موجود محدود آخر. فيكون هذا واحداً والآخر ثانياً، أمّا إذا كان مجرداً فسوف لن تكون وحدته عددية بل ستكون وحدة منبثقة عن وحدة الذات المطلقة.

يقول(عليه السلام) في إحدى خطبه أن من يصف الله بهذه الأوصاف الزائدة على الذات «فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ»(48) أي أخرج الله من أزليته وأبطلها، وإذا كان الله غير أزلي فإنّه سوف لن يكون إلهاً، لأن الأزلية من مستلزمات الوجود اللامحدود، وإذا سلبت منه فإنّه سيكون حادثاً وسيكون محدوداً.

إن هذا الفهم وهذه المعرفة تمنح الإنسان وعياً يدرك به أ نّه في كلّ حالاته هو في محضر الله، وحتى لو استعان بغيره إنّما يستعين به على أ نّه وسيلة لا هدف، وإذا ما طلب شيئاً من غيره فإن هذا الغير هو سب يل وممر يمر من خلاله فيض الله لا أ نّه هو أصل ومصدر الفيض، وقد أشرنا إلى ذلك في دروسنا الخاصة بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم عند التعرض لقوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون)(49) أي أن أكثر المؤمنين مشركون، إلاّ أن المعنى هنا بالمشركين هو غير المشركين الذين ذكروا في قوله تعالى: (الذين أشركوا)(50).

وحينما يسأل أحد الأئمة المعصومين(عليهم السلام) عن كيفية اجتماع الشرك إلى الإيمان؟ وكيف يمكن أن يكون المؤمن مشركاً؟ يجيب بأن ذلك يكون حينما يقول القائل لولا فلان لهلكت، أو أن يقال أن الله هو الّذي حلّ هذه المشكلة أوّلا ثم الشخص الفلاني ثانياً، إن هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ تعبير ملوّث بالشرك.

نأمل أن ننعم جميعاً بالتوحيدالخالص النقي الذي هو أفضل نعمة إلهية نتنعم بها.

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/12.

(2) المصدر السابق: 7/194.

(3) المصدر السابق: 7/194.

(4) المصدر السابق: 10/58.

(5) المصدر السابق: 10/81.

(6) المصدر السابق: 5/153.

(7) الحديد: 3.

(8 و 9) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6/392.

(10) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7/67.

(11) المصدر السابق: 6/345.

(12) النساء: 126.

(13) النساء: 33.

(14) المائدة: 97.

(15) الأحزاب: 27.

(16) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7/194.

(17) المصدر السابق: 6/398.

(18) المصدر السابق: 6/413.

(19) الشورى: 11.

(20) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/69.

(21) المصدر السابق: 9/147.

(22) المصدر السابق: 6/345.

(23) المصدر السابق: 6/57.

(24) طه: 110.

(25) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/181.

(26) الصحيفة الكاملة السجادية ـ الدعاء الثاني والخمسون ـ الفقرة الرابعة ـ ط دار التربية ـ مكتبة المنار ـ بغداد.

(27) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/78.

(28) المصدر السابق: 3/216.

(29 و 30) ق: 16.

(30) الأنفال: 24.

(31 و 32) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/181.

(33) طه: 110.

(34 و 35) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10/203.

(36) المجادلة: 7.

(37) الصافات: 180.

(38) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/57.

(39) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/72.

(40) المصدر السابق: 1/72.

(41) المصدر السابق: 1/72.

(42) المصدر السابق: 1/72.

(43 و 44) المصدر السابق: 1/72 ـ 73.

(45) المصدر السابق: 1/72 و73.

(46 و 47 و 48) المصدر السابق: 9/147.

(49) يوسف: 106.

(50) البقرة: 96.