صفحة 31 7ـ إِيّاك وما يُعتذَرُ منهُ (1) . جاء المثل في كتاب له (عليه السّلام) إلى قثم بن عبّاس ، وهو عامله على مكّة. قال الميداني بعد المثل المذكور: (أي لا ترتكب أمراً تحتاج فيه إلى الاعتذار منه) (2) . وهو من الأمثال المرسلة وإن لم يرسله الإمام (عليه السّلام) . ثم الاعتذار ، ممّا يوجبه ، إنّما هو من صنع الجاهل ، حيث يقدم على ما لا يدري مغبّته ولا حسنه من قبحه أو خيره من شرّه ، فإذا انكشف الحال ندم واعتذر . أمّا العاقل ، فلا يترأّى قبل أن يتروّى ، ولا يقدم على عمل إلاّ بعد التثبّت والعلم بمغبّته . وقد قالوا المثل : (شر الرأي الدُّبري : والدّبري الذي يجيء بعد ما يفوت الأمر) (3) . ومن أجله رُغّبت المشورة وأُمر الجاهل بالسؤال من أهل الذكر في الكتاب والسنّة في أمور الدّين والدّنيا ، والمستبدّ برأيه هالك ، والتثبّت في كلّ شيء حتّى لا يقع فيما لا يحمد عقباه ، وعدم جواز الأخذ بنبأ الفاسق إلاّ بعد التبيّن ؛ لئلاّ يصيب إنساناً بجهالة فيصبح على ما فعل نادماً كما قال تعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (4) . والمورد لا يخصَّص فيجري فيما ماثله من نوعه . ثم المثل يشمل كلّ ما ذكر وما لم يذكر من الموارد الّتي تورث ــــــــــــــــ (1) النهج 16 : 138, 33/ك. (2) مجمع الأمثال 1 : 44 حرف الهمزة. (3) الجمهرة على هامش مجمع الأمثال 1 : 13 حرف الشين. (4) سورة الحجرات الآية 6. صفحة 32 الاعتذار بعدها ، سواء كان من قول أو عمل ، بل مطلق السّكون والحركة التي لا يخلو منهما الإنسان . فلابدّ من التفكر فيه أوّلاً ، فإن عَلِم أنّ في ذلك رشداً أقدم ، أو غيّاً أحجم عنه . ويقف عند الشبهة لئلاّ يهلك من حيث لا يعلم كما جاء فيه حديث التثليث : (الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وشبهات بين ذلك ، فمن أخذ بها هلك من حيث لا يعلم ومن وقف نجا) (1) ما مضمون الحديث فراجع. ــــــــــــــــــ (1) الوسائل 18 : 114. صفحة 33 صفحة 34 صفحة 35 الباء مع العين 8 ـ بعدَ اللُتَّيّا والَّتي (1) . قال (عليه السّلام) في خطبة له: (فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ ! وإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ ! هَيْهَاتَ ! "بَعْدَ اللَّتَيَّا والَّتِي" واللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه ِ...) . اللُّتيا تصغير الّتي ، كما أنّ اللُّذيا تصغير الّذي ، وفي القاموس : بفتح اللام المشدّدة وضمّها . و((هَيْهَاتَ) : لظنّهم فيه الجزع . أي: أَبَعْدَ اللّتيا والّتي أجزعُ ؟! أبَعْدَ أن قاسيتُ الأهوال ، الكبار والصغار ، ومُنيت بكلّ داهية عظيمة وصغيرة ؟! فاللّتيا للصغيرة ، والّتي للكبيرة) (2) . (بعد اللّتيا والّتي) : (هما الداهية الكبيرة والصغيرة ، وكنّى عن الكبيرة بلفظ التصغير تشبيهاً بالحيّة فإنّها إذا كثر سمّها صغرت ؛ لأنّ السمّ يأكل جسدها . وقيل : الأصل فيه أنّ رجلاً من حديس تزوّج امرأة قصيرة ، فقاسى منها الشدائد وكان يعبّر عنها بالتصغير ، فتزوّج امرأة طويلة فقاسى منها ضعف ما قاسى من الصغيرة ، فطلّقها وقال: بعَدْ اللُّتيا والّتي لا أتزوّج أبداً ، فجرى ذلك على الداهية . وقيل: إنّ العرب تصغّر الشيء العظيم كالدهيم واللهيم وذلك منهم رمز) (3) . وهو مثل سائر يضرب لأمرين داهيتين إحداها أدهى من الأخرى . ـــــــــــــــــ (1) النهج 1 : 213, 5/ط. (2) شرح النهج 1 : 214 [نقل بتلخيص وتصرُّف] . (3) مجمع الأمثال 1 : 92 حرف الباء. صفحة 36 يريد (عليه السّلام) بالقول مطالبة الخلافة من الشيخين . إذا طالبهما بها ، قال الناس حرص على الملك الدنيوي ! أترى حين تقمّصاها لمَ لا يقولوا لهما حرصتما على الملك ويقولون ذلك لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ؟! وهو على حدّ أن يقولوه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) : إنّ النبوّة والخلافة كلتيهما أمر سماوي . صفحة 37 صفحة 38 صفحة 39 التّاء مع القاف 9 ـ تَقْصِرُ دُونَها الأَنْوَقُ , وَيُحاذى العَيُّوقُ (1) . من كتابه (عليه السّلام) إلى معاوية : (... وقَدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفَانِينَ مِنَ الْقَوْلِ ، ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ ، وأَسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا مِنْكَ عِلْمٌ ولَا حِلْمٌ ، أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ والْخَابِطِ فِي الدِّيمَاسِ ، وتَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَةٍ بَعِيدَةِ الْمَرَامِ نَازِحَةِ الْأَعْلَامِ "تَقْصُرُ دُونَهَا الْأَنُوقُ ويُحَاذَى بِهَا الْعَيُّوقُ") . في كلامه (عليه السّلام) أكثر من تمثيل يظهر بعد شرح مفرداته: أفانين القول : أساليبه المتنوّعة . وضعف قوى الأفانين عن السّلم : أي الإسلام ، أي عدم صدورها عن مسلم ، حيث طَلَبَ تولّيه العهد وإبقائه بالشام رئيساً . والأساطير ، جمع أسطورة : الأباطيل . حوكها : نظها . والدِّهاس (بالكسر) : جمع دهس و(بالفتح) مفرد ، وهو المكان السهل ، ليس هو بتراب ولا طين . والدِّيماس (بالكسر) : السر المظلم تحت الأرض . والمرقبة : الموضع العالي يراقب عليه . والأعلام ، جمع علم : ما يهتدى به في الطرقات . والأنوق (بالفتح) : (طائر ، وهو الرخمة ، وفي المثل : أعزّ من بيض الأنوق (2) ؛ لأنّها تُحرزِه فلا يظفر به أحد) . والعيّوق : كوكب فوق زحل في العلو . أي : أنت بكتابك المشتمل على دعاوٍ باطلة لا تصدر عن مسلم ، ولا يحكي عن علم وحلم كاتبه ، لستَ إلاّ كالخائض في أرض رخوة تقوم وتقع ، ــــــــــــــــ (1) النهج 18 : 22, 65/ك. (2) مجمع الأمثال 2 : 44 حرف العين [ هذا المثل ورد في مجمع الأمثال كما أشار المؤلف ، ولكن جميع العبارة ، وقد وضعناها بين قوسين ، هي لابن أبي الحديد المدائني في شرح النهج ] . صفحة 40 والخابط في نفق مظلم لا يهتدي الطريق ، سَمَتْ همتَّك إلى الخلافة وهي منك بموضع مرتفع عال لا سبيل إليه ، ولا أعلام تَهتدي بها ، وهي كالرخمة الّتي لا يُظفر ببيضها , والكوكبِ الذي فوق الكواكب كلّها .. فكيف ترومها ؟! (1) ضربت هذه الأمثال لبُعد معاوية عن الخلافة الّتي يريدها ، ويضرب المثل المذكور لقصور طالب الشيء . وفي معنى المثْلَين قولهم: (دونه بيض الأنوق) و(دونه العيّوق) (2) . ــــــــــــــــ (1) تلخيص من شرح النهج 18 : 25ـ27. (2) مجمع الأمثال 1 : 265 حرف الدال. |