[511]


شاخصا قال تعالى : * ( ولما فصلت العير ) * .
( أو في أمر تعذر به ) أي لضرورة تكون عذرا شرعا .
[ قوله عليه السلام ] ( في جمل أمورك ) أي في جملتها وكلها ( وخادع نفسك ) أي بأخذ عفوها ونشاطها وترغيبها إلى العبادة بذكر الوعد والوعيد وصحبة العباد والنظر إلى أطوارهم الحسنة من غير قهر وجبر حتى يمل ويضجر بل بأن يتلطف لها ولا يحملها فوق طاقتها وقال الجوهري : عفو المال : ما يفضل عن النفقة .
( فإن الشر بالشر ) لعل المراد بالشر الثاني صحبة الفاسق وبالاول سوء العاقبة أو بالاول ما تكتسبه النفس من تلك المصاحبة وقيل الشر يقوى بالشر كالنار تقوى بالنار فمخالطتهم جاذبة لك إلى مساعدتهم وفي بعض النسخ ( ملحق ) بصيغة اسم الفاعل أي يلحقك الشر بالشر .
708 - نهج : ومن كتاب له عليه السلام إلى الاسود بن قطبة صاحب جند حلوان : أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل فاجتنب ما تنكر أمثاله وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك راجيا ثوابه ومتخوفا عقابه .
واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها قط فيها ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة وأنه لن يغنيك عن الحق شئ أبدا .
ومن الحق عليك حفظ نفسك والاحتساب على الرعية بجهدك فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك والسلام .
بيان : قوله عليه السلام ( إذا اختلف هواه ) كما إذا لم يكن الخصمان

________________________________________________________
708 - رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار : ( 59 ) من باب كتب أميرالمؤمنين عليه السلام من نهج البلاغة .

[512]


عنده سواء بل كان هواه وميله إلى أحدهما أكثر ظلم وجار .
[ قوله عليه السلام ] ( ما تنكر أمثاله ) أي إذا فعله غيرك .
وابتذل الثوب وغيره امتهانه قاله الجوهري وقال : البلية والبلاء والبلوى واحد والفرغة المرة من الفراغ وقال الجوهري : احتسبت عليه كذا إذا أنكرت عليه .
قاله ابن دريد .
( فإن الذي يصل إليك ) أي النفع الذي يصل إلى نفسك من الثواب أفضل من الذي يصل إلى رعيتك بسببك وهو عدلك وإحسانك .
709 - نهج : ومن كتاب له عليه السلام إلى الاشعث بن قيس عامل آذربيجان : وإن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة وأنت مسترعي لمن فوقك .
ليس لك أن تقتات في رعية ولاتخاطر إلا بوثيقة وفي يديك مال من مال الله عزوجل وأنت من خزاني حتى تسلمه إلي ولعلي أن لاأكون شر ولاتك لك والسلام .
بيان : قال ابن ميثم رحمه الله وغيره : روي عن الشعبي أنه عليه السلام لما قدم الكوفة وكان الاشعث بن قيس على ثغر آذربيجان من قبل عثمان فكتب إليه بالبيعة وطالب بمال آذربيجان مع زياد بن مرحب الهمداني وصورة الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى الاشعث بن قيس أما بعد فلولا هنات وهنات كن منك كنت المقدم في هذا الامر قبل الناس ولعل آخر أمرك يحمل أوله وبعضها بعضا ان اتقيت الله عزوجل وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك وكان طلحة والزبير أول من بايعني ثم

________________________________________________________
709 - رواه الشريف الرضي رضوان الله عليه في المختار : ( 5 ) من الباب الثاني من كتاب نهج البلاغة .

[513]


نقضا بيعتي عن غير حدث وأخرجا عائشة فساروا بها إلى البصرة فصرت إليهم في المهاجرين والانصار فالتقينا فدعوتهم إلى أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه فأبوا فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقية واعلم أن عملك .
إلى آخر ما مر .
وكتب عبيدالله بن أبي رافع في شعبان سنة ست وثلاثين .
وروي أنه لما أتاه كتابه عليه السلام دعا بثقاته وقال لهم : إن علي بن أبي طالب قد أوجسني وهو آخذي بمال آذربيجان على كل حال وأنا لاحق بمعاوية .
فقال له أصحابه : الموت خير لك من ذلك تدع مصرك وجماعة قومك فتكون ذنبا لاهل الشام ؟ فاستحيى من ذلك وبلغ قوله أهل الكوفة فكتب إليه عليه السلام كتابا يوبخه فيه ويأمره بالقدوم عليه وبعث حجر بن عدي فلامه حجر على ذلك وناشده الله وقال : أتدع قومك وأهل مصرك وأمير المؤمنين وتلحق بأهل الشام .
ولم يزل به حتى أقدمه إلى الكوفة فعرض عليه عليه السلام ثقله فوجد فيها مائة ألف درهم وروي أربعمائة ألف درهم فأخذها وكان ذلك بالنخيلة فاستشفع الاشعث بالحسن والحسين عليهما السلام وبعبدالله بن جعفر فأطلق له منها ثلاثين الفا فقال : لايكفيني فقال : لست بزائدك درهما وأيم الله لو تركتها لكان خيرا لك وما أظنها تحل لك ولو تيقنت ذلك لما بلغتها من عندي فقال الاشعث : خذ من جذعك ما أعطاك .
وأقول : الآذربيجان اسم أعجمي غير مصروف والالف مقصورة والذال ساكنة
.
-بحار الانوار مجلد: 30 من ص 513 سطر 19 الى ص 521 سطر 18 ومنهم من يقول آذربيجان بمد الهمزة وضم الدال وسكون الراء .
ولعل المراد بالهنات - أي الامور القبيحة - ما كان من ارتداده وموافقته لخلفاء الجور في جورهم أي لولا تلك الامور لكنت في هذا الامر متقدما على غيرك في الفضل والسابقة .
ويحتمل أن يراد بالهنات ما في قلبه من النفاق والحقد والعداوة أي لولا تلك الامور لكان ينبغي أن تكون متقدما على غيرك في بيعتي ومتابعتي ( ولعل

[514]


آخر أمرك ) يؤيد الاول أي لعله صدر منك في آخر الامر أشياء تصير سببا للتجاوز عما صدر منك أولا ( وبعضها ) أي بعض أمورك من الخيرات ( يحمل بعضا ) أي سائرها من السيئات .
والبقية : الاب ؟ ؟ ؟ لشفقة .
وقال في النهاية : الطعمة بالضم شبه الرزق والطعمة بالكسر والضم : وجه الكسب يقال : هو طيب الطعمة وخبيث الطعمة وهي بالكسر خاصة حالة الاكل ( واسترعاه ) أطلب منه الرعاية أي أنت راع من قبل سلطان هو فوقك .
قوله عليه السلام ( أن تقتات ) في بعض النسخ بالقاف من القوت يقال قته فاقتات أي رزقته فارتزق وفي بعضها بالفاء والالف من الفوت بمعنى السبق يقال : تفوت فلان على فلان في كذا وافتات عليه إذ انفرد برأيه في التصرف فيه ولما ضمن معنى التغليب عدي ( على ) .
وقال ابن ميثم : بالهمزة ولعله [ منه ] سهو .
قوله عليه السلام : ( ولاتخاطر ) أي ولا أن تخاطر في شئ من الامور إلا بوثيقة أي لاتقدم على أمر مخوف مما يتعلق بالمال الذي تتولاه إلا بعد أن تتوثق لنفسك يقال أخذ فلان بالوثيقة في أمره أي احتاط ويقال : خاطر بنفسه أي أشفى بها على خطر .
وقال الزمخشري في المستفصى في قولهم ( خذ من جذع ما أعطاك ) هو جذع بن عمرو الغساني أتاه سبطة بن المنذر السليحي يسأله دينارين كان بنو غسان يؤدونهما إتاوة في كل سنة من كل رجل إلى ملوك سليح فدخل منزله وخرج مشتملا على سيفه فضربه به حتى سكت ثم قال ذلك وامتنعت بعد غسان عن الاتاوة [ والاتاوة : الخراج ] .
وقال الفيروزآبادي : الجذع هو ابن عمرو الغساني ومنه : ( خذ من جذع ما أعطاك ) كان غسان تؤدي إلى ملك سليح دينارين من كل رجل وكان يلي ذلك سبطة بن المنذر السليحي فجاء سبطة يسأله الدينارين فدخل جذع منزله فخرج مشتملا بسيف فضرب به سبطة حتى برد وقال خذ من جذع ما أعطاك .
أو أعطى بعض الملوك سيفه رهنا فلم يأخذه وقال : اجعل من كذا في كذا فضربه به وقتله وقال : يضرب في

[515]


اغتنام ما يجود بخ البخيل .
وفي الصحاح قال : اجعل هذا في كذا من أمك .
710 - نهج : [ و ] من كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله : أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك بلغني أنك جردت الارض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك فارفع إلي حسابك واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس .
بيان : ( وأخزيت أمانتك ) أي ذللتها وأهنتها ( أنك جردت الارض ) أي أخربت الضياع وأخذت حاصلها لنفسك يقال جردت الشئ كنصرت أي أفشرته وأزلت ما عليه ومنه سمي الجراد لانه يجرد الارض .
711 - نهج : [ و ] من كتاب له عليه السلام إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله على البحرين فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه : أما بعد فإني قد وليت النعمان بن العجلان على البحرين ونزعت يدك من غير ذم لك ولاتثريب عليك فلقد أحسنت الولاية وأديت الامانة فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام وأحببت أن تشهده معي فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين .
بيان : عمر هو ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله أمه أم سلمة .
والنعمان هو من الانصار وقال في الاستيعاب : كان لسان الانصار وشاعرهم والزرقي كجهني نسبة إلى زريق .
والتثريب : التعيير والاستقصاء في اللوم

________________________________________________________
710 - رواه الشريف الرضي رفع الله مقامه في المختار : ( 40 ) من باب الكتب من كتاب نهج البلاغة .
711 - رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار : ( 42 ) من باب كتب أميرالمؤمنين عليه السلام من نهج البلاغة .

[516]


والظنين : المتهم .
وفي القاموس : أثمه الله في كذا كمنعه ونصره : عده عليه إثما فهو مأثوم .
والاستظهار : الاستعانة .
712 - نهج : [ و ] من كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني وهو عامله على أردشير خرة : بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وأغضبت إمامك [ بلغني ] أنك تقسم فئ المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك ، فوالذي فلق الحبة وبرء النسمة لئن كان ذلك حقا لتجدن بك علي هوانا ولتخفن عندي ميزانا فلا تستهن بحق ربك ولاتصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الاخسرين أعمالا .
ألا وإن حق من قبلنا وقبلك من المسلمين في قسمة هذا الفئ سواء يردون عندي عليه ويصدرون عنه والسلام .
بيان : ( أردشير خرة ) بضم الخاء وتشديد الراء المفتوحة كورة من كور فارس ( أنك تقسم ) في بعض النسخ بفتح الهمزة بدلا من : ( أمر ) وفي بعضها بالكسر بتقدير حرف الاستفهام ليلائم قوله عليه السلام : ( إن كنت فعلته ) وقوله : ( لئن كان ذلك حقا ) وقال في النهاية : اعتام الشئ يعتامه إذا اختاره .
وعيمة الشئ بالكسر : خياره .
وقال ابن أبي الحديد : وروي ( فيمن اعتماك ) على القلب والمشهور الصحيح الاول والمعنى قسمة الفئ فيمن اختاروك سيدا لهم ( لتجدن بك ) أي لك أو بسبب فعلك .
و ( ميزانا ) منصوب على التميز وهو كناية عن صغر منزلته ويقال : صدرت عن الماء أي رجعت والاسم : الصدر بالتحريك خلاف الورد وفيه تشبيه للفي ء بالماء الذي تتعاوره الابل العطاش .

________________________________________________________
كتاب نهج البلاغة .

[517]


713 - نهج : ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أن معاوية قد كتب إليه يريد خديعته بالستلحاقه : وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك ويستفل غربك فاحذره .
فإنه الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ويستلب غرته وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس ونزغة من نزغات الشيطان لايثبت بها نسب ولا يستحق بها إرث والمتعلق بها كالواغل المدفع والنوط المذبذب .
فلما قرأ زياد كتابه قال : شهد بها ورب الكعبة ولم تزل في نفسه حتى ادعاه معاوية .
قال السيد [ الرضي ] رضي الله عنه قوله عليه السلام : ( كالواغل المدفع ) الواغل : الذي يهجم على الشرب ليشرب معهم وليس منهم فلا يزال مدفعا محاجزا والنوط المذبذب هو الذي يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره واستعجل سيره .
تبيين : قال ابن أبي الحديد ( 1 ) : أما زياد فهو زياد بن عبيد فمن الناس من يقول عبيد بن فلان وينسبه إلى ثقيف والاكثرون يقولون : أن عبيدا كان عبدا وانه بقي إلى أيام زياد فابتاعه وأعتقه ونسب زياد إلى غير أبيه لخمول أبيه وللدعوة التي استلحق بها فقيل تارة زياد بن سمية وهي كانت أمة للحارث بن كلدة الثقفي وكانت تحت عبيد وقيل تارة زياد بن أبيه وتارة زياد بن أمه ، ولما استلحق قال له الاكثر زياد بن أبي سفيان لان الناس مع الملوك ثم روى عن ابن عبدالبر والبلاذري والواقدي عن ابن عباس وغيره أن عمر بعث زيادا في أصلاح فساد وقع باليمن فلما رجع خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها وأبو

________________________________________________________
713 - رواه السيد الرضي قدس الله سره في المختار : ( 44 ) من باب كتب أميرالمؤمنين عليه السلام من كتاب نهج البلاغة .
( 1 ) جميع ما ذكره المصنف ها هنا عن ابن أبي الحديد ، هو تلخيص ما رواه ابن أبي الحديد في شرح المختار : ( 44 ) من نهج البلاغة : ج 4 ص 804 ط الحديث ببيروت .

[518]


سفيان حاضر وعلي عليه السلام وعمرو بن العاص فقال عمرو : لله أبوهذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال أبوسفيان : إنه لقرشي وإني لاعرف الذي وضعه في رحم أمه فقال علي عليه السلام : ومن هو ؟ قال : أنا فقال : مهلا يا أبا سفيان .
فقال أبوسفيان : أما والله لولا خوف شخص * يراني يا على من الاعادي لاظهر أمره صخر بن حرب * ولم يخف المقالة في زياد وقد طالت مجاملتي ثقيفا * وتركي فيهم ثمر الفؤاد عنى بقوله : ( لولا خوف شخص ) عمر بن الخطاب وفي رواية أخرى : قال : أتيت أمه في الجاهلية سفاحا فقال علي عليه السلام : [ مه ] يا أبا سفيان فإن عمر إلى المساءة سريع قال : وعرف زياد ما دار بينهما فكانت في نفسه .
وفي [ رواية ] أخرى قال له عمرو بن العاص : فهلا تستلحقه ؟ قال : أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي .
قال : وروى المدائني أنه لما كان زمن علي عليه السلام ولى زيادا فارس أو بعض أعمال فارس فضبطها ضبطا صالحا وجبا خراجها وحماها وعرف ذلك معاوية فكتب إليه : أما بعد فإنه غرتك قلاع تأوي إليها ليلا ليلا كما يأوي الطير إلى وكرها وأيم الله لولا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان لك مني ما قاله العبد الصالح : ( فلنأتينهم بجنود لاقبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) وكتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته : تنسى أباك وقد شالت نعامته * إذ تخطب الناس والوالي لهم عمر فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس وقال : العجب من ابن آكلة الاكباد ورأس النفاق يتهددني وبيني وبينه ابن عمر رسول الله صلى الله عليه واله وزوج سيدة نساء العاليمن وأبوالسبطين وصاحب الولاء والمنزلة والاخاء في مائة ألف من المهاجرين والانصار والتابعين لهم بإحسان أما والله لو تخطى

[519]


هؤلاء أجمعين إلى لوجدني أحمر مخشا ضرابا بالسيف ثم كتب إلى علي عليه السلام وبعث بكتاب معاوية في كتابه .
فكتب إليه علي عليه السلام : أما بعد فإني قد وليتك ما وليتك وأنا أراك لذلك أهلا وإنه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيام عمر من أماني التيه وكذب النفس لم تستوجب بها ميراثا ولم تستحق بها نسبا وإن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذره ثم احذره والسلام .
قال : وروى أبوجعفر محمد بن حبيب رحمه الله قال : كان علي عليه السلام قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس واصطعنه لنفسه فلما قتل علي عليه السلام بقي زياد في عمله وخاف معاوية جانبه وأشفق من ممالاته الحسن بن علي عليه السلام فكتب إليه كتابا يهدده ويوعده ويدعوه إلى بيعته فأجابه زياد بكتاب أغلظ منه .
فشاور معاوية في ذلك المغيرة بن شعبة فأشار عليه بأن يكتب إليه كتابا يستعطفه فيه ويذهب المغيرة بالكتاب إليه فلما أتاه أرضاه وأخذ منه كتابا يظهر فيه الطاعة بشروط فأعطاه معاوية جميع ما سأله وكتب إليه بخط يده ما وثق به فدخل إليه الشام وقربه وأدناه وأقره على ولايته ثم استعمله على العراق .
وقال المدائني : لما أراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه الشام جمع الناس وصعد المنبر وأصعد زيادا معه على مرقاة تحت وحمدالله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني قد عرفت شبهنا أهل البيت في زياد فمن كانت عنده شهادة فليقم بها .
فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان وأنهم سمعوه أقربه قبل موته .
فقام أبومريم السلولي وكان خمارا في الجاهلية فقال : أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف فأتاني فاشتريت له لحما وخمرا وطعاما فلما أكل قال : يا أبا مريم أصب لي بغيا فخرجت فأتيت بسمية فقلت لها إن

[520]


أبا سفيان من قد عرفت شرفه وجوده وقد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك ؟ فقال : نعم يجئ الآن عبيد بغنمه وكان راعيا فإذا تعشى ووضع رأسه أتيته فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته فلم يلبث أن جاءت تجر ذيلها فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت فقلت له لما انصرفت : كيف رأيت صاحبتك ؟ فقال : خير صاحبة لولا ذفر في إبطيها .
فقال زياد من فوق المنبر : يا أبا مريم لاتشتم أمهات الرجال فتشتم أمك .
فلما انقضى كلام معاوية ومناشدته قام زياد فحمدالله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن معاوية والشهود قد قالوا ما سمعتم ولست أدري حق هذا من باطله وهو والشهود أعلم بما قالوا وإنما عبيد أب مبرور ووال مشكور ثم نزل .
انتهى كلام ابن أبي الحديد .
أقول : وإنما أوردت تلك القصص لتعلم أن ما صدر من زياد وولده لعنة الله عليهما إنما نشاء من تلك الانساب الخبيثة وتزيد إيمانا ويقينا بأنه لا يبغضهم إلا من ولد من الزنا كما تواتر عن أئمة الهدى .
ولنرجع إلى شرح الكتاب قال في النهاية : الغرب : الحدة ومنه غرب السيف .
والفل : الكسر والفلة الثلمة في السيف ومنه حديث علي عليه السلام ( يستفل غربك ) من الفل : الكسر قوله عليه السلام ( ليقتحم غفلته ) أي ليلج ويهجم عليه وهو غافل جعل اقتحامه إياه اقتحاما للغفلة نفسها .
كذا ذكره ابن أبي الحديد وقال : ليس المراد باستلاب الغرة أن يأخذ الغرة لانه لو كان كذلك لصار ذلك الغافل لبيبا عاقلا وإنما المعنى ما يعنيه الناس بقولهم : أخذ فلان غفلتي وفعل كذا أي أخذ ما يستدل به على غفلتي كذا انتهى .
وأقول : لو كان الاسناد مجازيا كما حمل عليه الفقرة الاولى لم يفد هذا