[261]
تزويج فاطمة لعلي بن أبي طالب عليهما السلام يوم خمسة وعشرين من ذي الحجة ، وكان يوم
غديرخم يوم ثمانية عشر من ذي الحجة ، هذا آخر كلام النقاش .
وقد ذكر الخطيب في
تاريخ بغداد فضل أبي بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش وكثرة رجاله وأن الدار قطني
وغيره رووا عنه ، وذكر أنه قال عند موته : ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) ثم مات
في الحال .
ومن ذلك مارواه مسلم في صحيحه ( 1 ) من طرق : فمنها في الجزء الرابع في باب
فضائل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في ثالث كراس من أوله من الكتاب الذي
نقل الحديث منه في تفسير قوله تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة
الله على الكاذبين ) فرفع مسلم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو طويل يتضمن عدة فضائل
لعلي بن أبي طالب عليه السلام خاصة ، يقول في آخره : ولما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وآله
عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي .
ورواه أيضا مسلم في أواخر الجزء المذكور على حد كراسين من النسخة المنقول
منها ، ورواه أيضا الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند سعد بن أبي وقاص في
الحديث السادس من أفراد مسلم ، ورواه الثعلبي في تفسير هذه الآية عن مقاتل والكلبي ( 2 )
أقول : ثم ساق الحديث مثل مامر في الرواية الاولى للزمخشري ، ثم قال
السيد رحمه الله : ورواه أيضا أبوبكر بن مردويه بأجمل من هذه الالفاظ وهذه المعاني عن ابن
عباس والحسن والشعبي والسدي ، وفي رواية الثعلبي زيادة في آخر حديثه وهي : قال
والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ، ولو لا عنو المسخوا قردة وخنازير
ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولا ستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، ولما
حال الحول على النصاري كلهم حتى هلكوا ، فأنزل الله تعالى : ( إن هذا لهو القصص الحق
_________________________________________________________
( 1 ) ج 7 : 120 ؤ 121 .
( 2 ) الطرائف : 13 و 14 .
وسقط ما بعد ذلك عنه .
[262]
وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليهم بالمفسدين ( 1 ) )
ورواه الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب عن الشعبي عن جابر بن عبدالله قال : قدم
وفد النجران على النبي صلى الله عليه وآله العاقب والطيب ، فدعا هما إلى الاسلام فقالا : أسلمنا يا محمد
قبلك ( 2 ) ، قال : كذبتما إن شئتما أخبر تكما ما يمنعكما من الاسلام ؟ قالا : هات ، قال
حب الصليب وشرب الخمر وأكل الخنزير ، فدعا هما إلى الملاعنة فواعداه أن يغادياه
بالغدوة ( 3 ) ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ثم
أرسل إليهما : فأبيان أن يجيبا فأقرا بالخراج ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : والذي بعثني بالحق
نبيا لو فعلا لامطرالله عليهما الوادي نارا ، قال جابر : فيهم نزلت هذه الآية : ( ندع أبناءنا
وأبناءكم ) الآية قال الشعبي : أبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة وأنفسنا علي
ابن أبي طالب عليهم السلام .
أقول : وقال السيوطي في الدر المنثور : أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه و
أبونعيم في الدلائل عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وآله العاقب والسيد ، فدعاهما إلى
الاسلام ، وذكر نحو مامر ، وقال في آخره : قال جابر : أنفسنا وأنفسكم رسول الله صلى الله عليه وآله
وعلي ، وأبناءنا الحسن والحسين ونساءنا فاطمة عليهم السلام .
قال : وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده
أن رسول الله صلى الله عليه وآله كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه ( طس ) سليمان ( 4 ) : بسم إله
إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمد رسول الله إلى اسقف نجران وأهل نجران ، إن أسلمتم
فإني أحمد إليكم إله إبراهيم ( 5 ) وإسحاق ويعقوب ، أما بعد فإني أدعو كم إلى عبادة
_________________________________________________________
( 1 ) آل عمران : 62 و 63 .
( 2 ) أى قبل دعوتك .
( 3 ) غادى مغاداة : باكره .
والغدوة : البكرة : ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس .
اول النهار
وهو المرادهنا .
( 4 ) يعنى سورة النمل .
( 5 ) في المصدر : اليكم الله اله إبراهيم .
[263]
الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم
فقدا وذنتم ( 1 ) بحرب ، والسلام ) فلما قرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا ( 2 )
فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له : شرحبيل بن وادعة ( 3 ) ، فدفع إليه كتاب رسول
الله صلى الله عليه وآله فقرأه ، فقال له الاسقف : ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعدالله إبراهيم
في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يؤمن من أن يكون ( 4 ) ذلك الرجل ، ليس لي في
النبوة رأي ، لوكان أمر ( 5 ) من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك ، فبعث الاسقف
إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل ، فاجتمع رأيهم على
أن يبعثوا شرحبيل بن وادعة وعبدالله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر
رسول الله صلى الله عليه وآله فانطلق والوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فسألهم وسألوه ، فلم تنزل به وبهم
المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى بن مريم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما عندي فيه
شئ يومي هذا فأقيموا حتى اخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة ( 6 ) ، فأنزل الله ( إن
مثل عيسى عندالله كمثل آدم ) إلى قوله : ( فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) فأبوا أن يقروا
بذلك ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين
في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره ( 7 ) للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل
لصاحبيه : إني رأى أمرا مقبلا ، إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فنلا عنه ( 8 ) لا يبقى على
وجه الارض منا شعر ولا ظفر إلا هلك ، فقالا له : ما رأيك ؟ فقال : رأيي أن احكمه ( 9 )
_________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : آذنتكم .
( 2 ) فظع فلان بالامره ومن الامر : هاله الامر فلم يثق بأن يطيقه .
ذعر : خاف .
( 3 ) في المصدر : وداعة وكذا فيما يأتى .
( 4 ) في المصدر : فما يؤمن أن يكون .
( 5 ) في المصدر : لوكان رأى :
( 6 ) في المصدر : صبح الغد ، فانزل الله هذه الاية اه .
( 7 ) في المصدر : خلف ظهره .
( 8 ) في المصدر : فلا عنساه .
( 9 ) حكمه في الامر : فوض اليه الحكم فيه .
[264]
فإني أرى رجلا مقبلا لايحكم شططا أبدا ( 1 ) ، فقال له : أنت وذاك ، فتلقى شرحبيل
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك ، قال : وماهو ؟ قال : احكمك ( 2 )
اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله
ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية .
وأخرج أبونعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن وفد
نجران من النصاري قدموا على رسول الله وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، منهم السيد
وهو الكبير ، والعاقب وهو الذي يكون بعده صاحب رأيهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أسلما
قالا : أسلمنا ، قال : ما أسلمتما ، قالا : بلى قد أسلمنا قبلك ، قال : كذبتما يمنعكما من
الاسلام ثلاث فيكما : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وزعمكما أن لله ولدا ، فنزل
( إن مثل عيسى ) الآية ، فلما قرأها عليهم قالوا : ما نعرف ما تقول ، فنزل ( فمن حاجك
فيه من بعد ما جاءك من العلم ) يقول : من جادلك في أمر عيسى من بعده ماجاءك من القرآن
( فقل تعالوا ) إلى قوله : ( ثم نبتهل ) يقول : نجتهد في الدعاء أن الذي جاء به محمد هو
الحق وأن الذي يقولون هو الباطل ، فقال لهم : إن الله قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن
اباهلكم ، فقالوا : يا أباالقاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض
ليصادقوا ( 3 ) ، فيما بينهم : قال السيد للعاقب : قد والله علمتم أن الرجل نبي ، فلو لا عنتموه
لاستؤصلتم ( 4 ) ، وما لاعن قوم قط نبيا فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم ( 5 ) ، فإن أنتم لم تتبعوه
وأبيتم إلا إلف دينكم فوا دعوه وارجعوا إلى بلادكم ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله خرج و
معه علي والحسن والحسين وفاطمه عليهم السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن أنا دعوت فأمنوا
أنتم ، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية .
_________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : رجلا لا يحكم شططا أبدا .
والشطط : التباعد عن الحق .
( 2 ) في المصدر : حكمك .
( 3 ) في المصدر : وتصادقوا .
( 4 ) في المصدر : نبى مرسل ولئن لا عنتموه انه ليستأ صلكم .
( 5 ) في المصدر : فبقى كبيرهم ولانبت صغيرهم .
[265]
وأخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبدبن حميد وابن جرير وأبونعيم عن الشعبي
وساق الحديث إلى قوله : فواعدوه لغد ، فغدا النبي صلى الله عليه وآله ومعه الحسن والحسين وفاطمة
عليهم السلام فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : لقد أتاني البشر
بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لوتموا على الملاعنة .
وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي
وقاص قال : لما نزلت هذه الآية : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله
عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
وأخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري قال : لما نزلت هذه الآية ( قل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى علي وفاطمة وابنيها : ( 1 )
الحسن والحسين عليهم السلام ودعا اليهود ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود : ويحكم أليس عهدكم
بالامس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لاتلاعنوا فانتهوا ( 2 ) .
[ بيان : قطع به على بناء الفاعل أي جزم بحقيته ( 3 ) ، ويقال : قطع كفرح وكرم
إذا لم يقدر على الكلام ، أو على بناء المفعول أي عجز أوحيل بينه وبين ما يؤمله .
والخميلة
القطيفة ، وكل ثوب له خمل ( 4 ) ]
أقول : روى ابن بطريق في العمدة ( 5 ) نزول آية المباهلة فيهم بأسانيد من صحيح
مسلم وتفسير الثعلبي ومناقب ابن المغازلي ، وروى ابن الاثير في جامع الاصول من صحيح
مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية ( ندع أبناءنا وأبناءكم ) دعا
رسول الله صلى الله عليه وآله عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال : اللهم هؤلاء أهلي ( 6 ) .
-بحار الانوار جلد: 31 من صفحه 265 سطر 19 إلى صفحه 273 سطر 18
_________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : وابنيهما .
( 2 ) الدر المنثور 2 : 38 - 40 .
ولم تذكر الروايات فيه بهذا الترتيب الذي ذكره المصنف .
( 3 ) هذا وهم من الشارح حيث صحف وقرء ( فظع به ) - ث 263 س 2 - ( قطع به ) وهذا
البيان يوجد في هامش ( ك ) فقط ( ب ) .
( 4 ) الخمل : ما يكون كالزغب على وجه الطنفسة أو نحوها وهو من أصل النسيج .
( 5 ) ص 95 و 96 .
( 6 ) أخرجه ابن الديبع في التيسير عن صحيح الترمذى ، راجع 3 : 295 .
[266]
وقال الطبرسي رحمه الله : أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين
عليهما السلام قال أبوبكر الرازي : هذا يدل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله و
أن ولد الابنة ابن على الحقيقة ( 1 ) ، وقال ابن أبي علان - وهو أحد أئمة المعتزلة - :
هذا يدل على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا مكلفين في تلك الحال ، لان المباهلة لا
تجوز إلا مع البالغين ، وقال أصحابنا : إن صغر السن ونقصانها عن حد بلوغ الحلم لا
ينافي كمال العقل ، وإنما جعل بلوغ الحلم حدا لتعلق الاحكام الشرعية ، وكان سنهما
في تلك الحال سنا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل ( 2 ) ، على أن عندنا يجوز أن
يخرق الله العادات للائمة ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم ، فلوصح أن كمال العقل
غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ، ودلالة على مكانهم من
الله تعالى واختصاصهم به ، ومما يؤيده من الاخبار قول النبي صلى الله عليه وآله : إبناي هذان إمامان
قاما أو قعدا .
( ونساءنا ) اتفقوا على أن المراد به فاطمة عليها السلام لانه لم يحضر المباهلة غيرها
من النساء ، وهذا يدل على تفضيل الزهراء على جميع النساء ( وأنفسنا ) يعني عليا خاصة
ولا يجوز أن يكون المعني به النبي صلى الله عليه وآله لانه هو الداعي ، ولايجوز أن يدعو الانسان
نفسه ، وإنما يصح أن يدعو غيره ، وإذا كان قوله : ( وأنفسنا ) لابد أن يكون إشارة إلى
غير الرسول وجب أن يكون إشارة إلى علي عليه السلام لانه لا أحديد عي دخول غير أميرالمؤمنين
عليه السلام وزوجته وولديه عليهم السلام في المباهلة ، وهذا يدل على غاية الفضل وعلو الدرجة والبلوغ
منه إلى حيث لا يبلغه أحد ، إذ جعله الله سبحانه نفس الرسول ، وهذا ما لا يدانيه أحد ولا
يقاربه انتهى ( 3 ) .
أقول : ويدل على كون المراد بأنفسنا أميرالمؤمنين عليه السلام ما رواه ابن حجر في
_________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : في الحقيقة .
( 2 ) لايخفى ما فيه ، والصحيح ما يذكر بعده .
( 3 ) مجمع البيان 2 : 452 و 453 .
[267]
صواعقه رواية عن الدار قطني أن عليا عليه السلام يوم الشورى احتج على أهلها فقال لهم :
انشدكم الله هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في الرحم مني ؟ ومن جعله نفسه و
وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه غيري ؟ قالوا : اللهم لا ، انتهى ( 1 ) .
ولا يخفى أن تخصيص هؤلاء من بين جميع أقاربه صلى الله عليه وآله للمباهلة دون عباس وعقيل و
جعفر وغيرهم لايكون إلا لاحد شيئين : إما لكونهم أقرب الخلق إلى الله بعده حيث استعان
بهم في الدعاء على العدو دون غيرهم ، وإما لكونهم أعز الخلق عليه حيث عرضهم للمباهلة
إظهارا لوثوقه على حقيته ، حيث لم يبال بأن يدعو الخصم عليهم مع شدة حبه لهم ، وظاهر
أن حبه صلى الله عليه وآله لم يكن من جهة البشرية والامور الدنيوية ، بل لم يكن يحب إلا من
يحبه الله ، ولم يكن حبه إلا خالصا لله ، كيف لا وقد ذم الله تعالى ورسوله ذلك في كثير من
الآيات والاخبار ، وكل من يدعي درجة نازلة من الولاية والمحبة يتبرأ من حب الاولاد
والنساء والاقارب لمحض القربة أو للاغراض الفاسدة ، وقد نرى كثيرا من الناس يذمهم
العقلاء بأنهم يحبون بعض أولادهم مع أن غيرهم أعلم وأصلح وأتقى وأورع منهم ، وأيضا
معلوم من سيرته صلى الله عليه وآله أنه كان يعادي كثيرا من عشائره لكونهم أعداء الله ، ويقاتلهم ،
وكان يحب ويقرب الا باعد ومن ليس له نسب ولا حسب لكونهم أولياء الله ، كما قال :
سيد الساجدين : ووالى فيك الابعدين وعادى فيك الاقربين ( 2 ) ، وأيضا استدل المخالفون
بخبرهم الموضوع المفترى : لو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبابكر خليلا ! على فضله و
كيف يثبت له فضل لو كانت خلته منوطة بالاغراض الدنيوية ( 3 ) ؟ فإذا ثبت ذلك فيرجع
_________________________________________________________
( 1 ) توجد مناشدة على عليه السلام يوم الشورى في الصواعق : 124 ، لكن اسقط منها كثير من
المناشدات ومن جملتها هذه ، ويوجد فيما عندنا من نسخته المطبوعة ما هذا لفظه : واخرج الدار قطنى
ان عليا قال للستة الذين جعل عمر الامر شورى بينهم كلاما طويلا من جملته اه .
والظاهر أن ابن حجر ذكر هذا الكلام الطويل الحاوى لجميع المناشدات ، لكن القوم اسقطوا
عن كلامه ما اسقطوا ، وهيهات انهم يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره
ولوكره الكافرون .
( 2 ) الدعاء الثانى من الصحيفة السجادية ( ص 31 ط دار الكتب الاسلامية 1321 ) .
( 3 ) وخلاصة الكلام ان مدار الحب في رسول الله صلى الله عليه وآله التقوى والورع وسائر
الفضائل والملكات الحسنة لا الاغراض الدنيوية الفاسدة ، فتخصيصه صلى الله عليه وآله هؤلاء من
بين جميع أقاربه دليل على محبته اياهم ، ومحبته دليل على كونهم أتقى وأورع وأفضل
من غيرهم .
[268]
هذا أيضا إلى كونهم أقرب الخلق وأحبهم إلى الله ، فيكونون أفضل من غبرهم ، فيقبح
عقلا تقديم غيرهم عليهم ، وأيضا لما ثبت أنه المقصود بنفس الرسول الله صلى الله عليه وآله في هذه الآية
وليس المراد النفسية الحقيقية لامتناع اتحاد الاثنين ، وأقرب المجازات إلى الحقيقة
اشتراكهما في الصفات والكمالات ، وخرجت النبوة بالدليل فبقي غيرها ، ومن جملتها وجوب
الطاعة والرئاسة العامة ، والفضل على من سواه ، وسائر الفضائل ، ولو تنزلنا عن ذلك
فالمجاز الشائع الذائع في استعمال هذا اللفظ كون الرجل عزيزا على غيره ، وأحب الخلق
إليه كنفسه ، فيدل أيضا على أفضليته وإمامته بمامر من التقرير .
* [ أقول : وذكر إمامهم الرازي في التفسير والاربعين ( 1 ) الاستدلال بهذه على كون
أميرالمؤمنين عليه السلام أفضل من الانبياء وسائر الصحابة عن بعض الامامية بمامر ، لكن على
وجه مبسوط ، ثم قال في الجواب ( 2 ) : كما أن الاجماع إنعقد على أن النبي أفضل من
الانبياء فكذلك انعقد الاجماع على أن الانبياء أفضل من غيرهم ، وأعرض عن ذكر الصحابة
لانه لم يكن عنده فيهم جواب ! وما ذكره في الجواب عن الانبياء فهو في غاية الوهن ، لان
الاجماع الذي ادعاه إن أراد به إجماعهم فحجيته عند الامامية ممنوعة ، وإن أراد إجماع
الامة فتحققه عندهم ممنوع ، لان أكثر الامامية قائلون بكون أئمتنا عليهم السلام أفضل
_________________________________________________________
( * ) من هنا إلى قوله ( وفى المقام تحقيقات طريفة ) يوجد في هامش ( ك ) و ( د ) فقط .
( 1 ) مفاتيح الغيب 2 : 489 .
الاربعين : 465 ولنذكر ما قاله في الاربعين فانه لا يخلو عن
فائدة : قال فيه ما هذا لفظه :
وأما الشيعة فقد احتجوا على أن عليا أفضل الصحابة بوجوه : الحجة الاولى التمسك بقوله
تعالى : ( فقل تعالوا ) الاية وثبت بالاخبار الصحيحة ان المراد من قوله ( وأنفسنا ) هو على ، ومن
المعلوم انه يمتنع أن تكون نفس على هى نفس محمد بعينه ، فلا بد وان يكون المراد هو المساواة
بين النفسين ، وهذا يقتضى ان كل ما حصل لمحمد من الفضائل والمناقب فقد حصل مثله لعلى ، ترك
العمل بهذا في فضيلة النبوة فوجب ان تحصل المساواة بينهما فيما وراء هذه الصفة ، ثم لا شك ان
محمدا صلى الله عليه وآله كان أفضل الخلق في سائر الفضائل ، فلما كان على مساويا له في تلك
الفضائل وجب أن يكون أفضل الخلق ، لان المساوى للافضل يجب أن يكون أفضل .
( 2 ) أى في الجواب عن كون اميرالمؤمنين عليه السلام أفضل من جميع الناس غير النبى
صلى الله عليه وآله .
[269]
من سائر الانبياء ، وأخبارهم الدالة على ذلك مستفيضة عندهم ، لم يتصرف في سائر المقدمات
ولم يتعرض لمنعها ودفعها - مع أنه إمام المشككين عندهم - لغاية متانتها ووضوحها ،
ولنتعرض لدفع بعض الشبه الواهية والمنوع الباردة التي يمكن أن يخطر ببال بعض
المتعسفين .
فنقول : إن قال قائل : يمكن أن تكون الدعوة متعلقة بالنفس مجازا وما ارتكبتموه
من التجوز ليس بأولى من هذا المجاز ( 1 ) ، فنقول : يمكن الجواب عنه بوجهين .
الاول أن التجوز في النفس أشهر وأشيع عند العرب والعجم ، فيقول أحدهم
لغيره : يا روحي ويا نفسي ! وفي خصوص هذه المادة وردت روايات كثيرة بهذا المعنى من
الجانبين ، كما سنذكره في باب اختصاصه عليه السلام به ، وقد ورد في صحاحهم أنه صلى الله عليه وآله قال
لعلي عليه السلام : أنت مني وأنا منك ( 2 ) ، وقال : علي مني بمنزلة رأسي من جسدي ، وفي
رواية اخرى : بمنزلة روحي من جسدي ، وقوله صلى الله عليه وآله : لابعثن إليكم رجلا كنفسي ،
وأمثال ذلك كثيرة ، فكل ذلك قرينة مرجحة لهذا المجاز .
والثاني أن نقول : الآية على جميع محتملاتها تدل على فضله عليه السلام وكونه أولى
بالامامة ، لان قوله تعالى : ( ندع ) بصيغة التكلم ( 3 ) إما باعتبار دخول المخاطبين أو للتعظيم
أولدخول الامة أو الصحابة ، وعلى الاخيرين يكون المعنى : ندع أبناءنا وتدعوا أبناء كم ،
ولا يخفى أن الاول أظهر ، وهو أيضا في بادئ النظر يحتمل الوجهين : الاول أن يكون
المعنى : يدعو كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه ، الثاني أن يكون المعنى : يدعو كل
منا ومنكم أبناء الجانبين وهكذا ، والاول أظهر كما صرح به أكثر المفسرين ، وهذه
الاحتمالات لامدخل لها فيما نحن بصدده ، وسيظهر حالها فيما سنورده في الوجوه الآتية
وأما جمعية الابناء والنساء والانفس فيحتمل أن تكون للتعظيم ، أو لدخول الامة أو
_________________________________________________________
( 1 ) وتوضيحه أنه لابد من ارتكاب المجاز اما في النفس بأن يراد منه اميرالمؤمنين عليه السلام
أو في الدعوة ، ولا رجحان لاحدهما على الاخر .
( 2 ) اخرجه البخارى في الصحيح ( ج 2 : 185 ) وستأتى الاشارة إلى سائر الروايات في باب
اخبار المنزلة وغيره .
( 3 ) يعنى التكلم مع الغير .
[270]
الصحابة فيها ، أو لدخول المخاطبين فيها ، فيكون التقدير : أبناءنا وإياكم ، ويكون
إعادة الابناء لمرجوحية العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، أو تكون الجمعية
باعتبار أنه بظاهر الحال كان يحتمل أن يكون من يصلح للمباهلة جماعة من كل صنف ،
فلما لم يجد من يصلح لذلك من جانبه سوى هؤلاء اقتصر عليهم ، وتعيين الجماعة قبل
تحقيق المباهلة لم يكن ضرورا ، وكذا جمعية الضمير في أبناءنا ونساءنا وأنفسنا تحتمل ما
سوى الوجة الثالث ، والوجه الثالث في الاول أيضا بعيد جدا ، لانه معلوم أن دعوة كل
منهما تختص بفريقه .
فنرجع ونفول : لو كانت الجمعية للتعظيم وكان المراد ( 1 ) نفس من تصدى للمباهلة
وكان المتصدي لها من هذا الجانب الرسول فلاوجه لادخال أميرالمؤمنين عليه السلام في ذلك مع
أنه كان داخلا باتفاق الفريقين ورواياتهم ، وكان للنصارى أن يقولوا : لم أتيت به وهو
لم يكن داخلا فيمن شرطنا ؟ إلا أن يقولوا : كان لشدة الاختصاص والتناسب وقرب
المنزلة بمنزلة نفسه فلذا أتى به ، وهو مع بعده لوارتكبته ( 2 ) كان مستلزما لمقصودنا على
أتم وجه بل هو أدعى لمطلوبنا من الوجه الذي دفعتم ( 3 ) ، فقد وقعتم فيما منه فررتم !
وأما الوجه الثاني فنقول : لوكانت الامة والصحابة داخلين في المباهلة فلم لم يأت
بجميع من حضر منهم ؟ إلا أن يقال : إحضار الجميع لما كان موجبا للغوغاء ( 4 ) العام و
موهما لعدم اعتماده على حقيته ، بل كان اعتماده على كثرة الناس ليرهب به العدو أو ليتكل
على دعائهم ، فلذلك ( 5 ) أتى بنفسه لانه كان نبيهم وأولى بهم وضامنا لصحة معتقدهم ،
وبعلي عليه السلام لانه كان إمامهم وقائدهم وأولى بهم والشاهد على صحة نبوة نبيهم ، و
التالي له في الفضل ولا تحاد أبنائهما ، وانتساب فاطمة عليها السلام إليهما ، فأتى كل منهما مع
_________________________________________________________
( 1 ) اى وكان المراد من كلمة ( انفسنا ) :
( 2 ) في ( د ) : لوار تكبتموه .
( 3 ) لان المدعى قد اثبت بذلك اتحادهما صلوات الله عليهما بحيث لم يكن ادخال اميرالمؤمنين
عليه السلام مخالفا للشرط حتى في نظر النصارى .
فافهم جيدا فانه نفيس جدا .
( 4 ) الغوغاء : الكثير المختلط من الناس .
( 5 ) جواب لما .