[ 41 ]


عزوجل لجبرئيل وميكائيل : إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر أخاه ( 1 ) ؟ فاختار كل منهما الحياة ، فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب ؟ آخيت بينه وبين ممد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إليه فاحفظاه من عدوه ، فنزلا إليه فحفظاه : جبرئيل عليه السلام عند رأسه وميكائيل عليه السلام عند رجليه ، وجبرئيل يقول : بخ بخ ( 2 ) يا ابن أبي طالب ، من مثلك وقد باهى الله بك الملائكة ( 3 ) ؟ يف ، مد : عن الثعلبي مثله ( 4 ) .
3 - فر : عبيد بن كثير ، عن هشام بن يونس ، عن محمد بن فضيل ، عن الكلبى ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله تعالى : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " قال : نزل في علي بن أبي طالب عليه السلام حين بات ( 5 ) على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله حيث طلبه المشركون ( 6 ) .
أقول : روى ابن بطريق في المستدرك عن أبي نعيم بإسناده عن عبدالله بن معبد ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله .
4 - يف : أحمد في مسنده في حديث طويل يرويه عن عمر بن ميمون في قوله : " ومن الناس من يشري " الآية قال : وشرى علي نفسه ( 7 ) لبس ثوب رسول الله ، ثم نام مكانه ، قال : وكان المشركون يتوهمون أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال فيه : وجعل علي يرمى بالحجارة كما يرمى نبي الله صلى الله عليه وآله وهو يتضور ، قد لف رأسه بالثوب لا يخرجه حتى أصبح ، ثم كشف رأسه فقالوا : لما كان صاحبك كلما نرميه بالحجارة فلا يتضور قد

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : يؤثر اخاه بالبقاء .
( 2 ) بخ اسم فعل للمدح واظهار الرضى بالشئ ، ويكرر للمبالغة .
( 3 ) كشف الغمة : 91 ، ونقله عن ابن مردويه في ص 95 .
( 4 ) الطرائف : 11 و 12 .
العمدة : 124 .
( 5 ) في المصدر : ليلة بات .
( 6 ) تفسير فرات : 6 .
( 7 ) في المصدر بعد ذلك : ابتغاء مرضاة الله .

[ 42 ]


استنكرنا ذلك ( 1 ) .
مد : بإسناده عن عبدالله بن أحمد ، عن أبيه ، عن يحيى بن حماد ، عن أبي عوانة ، عن أبي بلح عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس مثله ( 2 ) .
بيان : قال الجزري : فيه : أنه دخل على امرأة وهي تتضور من شدة الحمى أي تتلوى وتصيح ( 2 ) وتنقلب ظهر البطن ، وقيل : تتضور : تظهر الضور بمعنى الضر ، يقال : ضارة بضورة ويضيره ( 4 ) .
5 - مد : بإسناده عن الثعلبي ، عن محمد بن عبدالله بن محمد القايني ، عن محمد بن عثمان النصيبي ، عن محمد بن الحسين بن صالح السبيعي ، عن أحمد بن محمد بن سعيد ، عن محمد بن منصور ، عن أحمد بن عبدالرحمان ، عن الحسن بن محمد بن فرقد ، عن الحكم بن ظهير ، عن السدي في قوله عزوجل : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " قال : قال ابن عباس : نزلت في علي بن أبي طالب حين هرب النبي صلى الله عليه وآله من المشركين إلى الغار مع أبي بكر ، ونام علي على فراشه ( 5 ) .
6 - قب : نزل قوله تعالى : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " في علي عليه السلام حين بات على فراش رسول الله .
رواه إبراهيم الثقفي والفلكي الطوسي بالاسناد عن الحكم عن السدي ، وعن أبي مالك ، عن ابن عباس .
ورواه أبوالمفضل الشيباني بإسناده عن زيد العابدين عليه السلام ، وعن الحسن البصري عن أنس ، وعن أبي زيد الانصاري ، عن أبي عمرو بن العلاء ، ورواه الثعلبي عن ابن عباس والسدي ومعبد أنها نزلت في علي بين مكة والمدينة لما بات علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله .
فضائل الصحابة عن عبدالملك العكبري ، وعن أبي المظفر السمعاني بإسنادهما عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : أول من شرى نفسه لله علي بن أبي طالب عليه السلام كان

___________________________________________________________
الطرائف : 11 .
( 2 ) العمدة : 123 .
( 3 ) في المصدر : وتضج .
النهاية 3 : 28 .
( 5 ) العمدة : 124 .

[ 43 ]


المشركون يطلبون رسول الله صلى الله عليه وآله فقام من فراشه وانطلق هو وأبوبكر ، واضطجع علي عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء المشركون فوجدوا عليا عليه السلام ولم يجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله .
الثعلبي في تفسير ، وابن عقب في ملحمته ، وأبوالسعادات في فضائل العشرة ، والغزالي في الاحياء وفي كيمياء السعادة أيضا برواياتهم عن أبي اليقظان ، وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي إلينا نحو ابن بابويه وابن شاذان والكليني والطوسي وابن عقدة والبرقي وابن فياض والعبدلي والصفواني والثقفى بأسانيدهم عن ابن عباس ، وأبي رافع وهند بن أبي هالة أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل : أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ، فأيكما يؤثر أخاه ؟ فكلاهما كرها الموت ، فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب ؟ آخيت بينه و بين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه ، ثم ظل أورقد ( 1 ) على فراشه يقيه بمهجته ، اهبطا إلى الارض جميعا فاحفظاه من عدوه ، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرئيل يقول : بخ بخ من مثل يا ابن أبي طالب والله يباهي بك الملائكة ؟ فأنزل الله : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ( 2 ) .
7 - [ الخصايص للسيد الرضي - رضي الله عنه - بإسناده رفعه قال : قال ابن الكواء لامير المؤمنين عليه السلام : أين كنت حيث ذكر الله نبيه وأبا بكر " ثاني اثنين إذهما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ويلك يا ابن الكواء كنت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وقد طرح علي بردة ، فأقبلت قريش مع كل رجل منهم هراوة فيها شوكها ( 3 ) ، فلم يبصروا رسول الله صلى الله عليه وآله حيث خرج ، فأقبلوا علي يضربوني بما في أيديهم ، فتنفط جسدي وصار مثل البيض ( 4 ) ، ثم انطلقوا يريدون قتلي ، فقال بعضهم :

___________________________________________________________
( 1 ) رقد : نام .
وفى المصدر : ثم ظل اؤرقه .
اى اسهره .
( 2 ) مناقب آل ابى طالب 1 : 282 و 283 .
( 3 ) الهراوة : العصا الضخمة كهراوة الفاس والمعول .
الشوك : ما يخرج من البنات شبيها بالابرة .
( 4 ) أى قرحت وتجمعت بين الجلد واللحم ماء مثل البيض ( ب ) .

[ 44 ]


لا تقتلوه الليلة ولكن أخروه واطلبوا محمدا ، قال : فأوثقوني بالحديد ( 1 ) وجعلوني في بيت ، واستوثقوا مني ومن الباب بقفل ( 2 ) ، فبينا أنا كذلك إذ سمعت صوتا من جانب البيت يقول : يا علي ! فسكن الوجع الذي كنت أجده ، وذهب الورم الذي كان في جسدي ، ثم سمعت صوتا آخر يقول يا علي ! فإذا الذي في رجلي قد تقطع ، ثم سمعت صوتا آخر يقول : يا علي ! فاذا الباب قد تساقط ما عليه وفتح ، فقمت وخرجت وقد كانوا جاؤوا بعجوز كمهاء ( 3 ) لا تبصر ولا تنام تحرس الباب ، فخرجت عليها وهي لا تعقل من النوم ]
-بحار الانوار مجلد: 32 من ص 44 سطر 7 الى ص 52 سطر 7 بيان : قد مرت الاخبار في نزول تلك الآية في أمير المؤمنين عليه السلام في باب الهجرة ، وسيأتي في باب سبق هجرته عليه السلام أيضا ، وروى العلامة في كشف الحق ( 4 ) مثل ما رواه صاحب الانصاف عن الثعلبي ، ووجدته في أصل تفسيره أيضا ، وروى الشيخ الطبرسي ( 5 ) عن السدي عن ابن عباس مثله .
وروى الفخر الرازي ( 6 ) ونظام الدين النيسابوري ( 7 ) أنها نزلت في علي عليه السلام .
وقال الطبرسي رحمه الله : وقال عكرمة : نزلت في أبي ذر الغفاري وصهيب بن سنان ، لان أهل أبي ذر أخذوا أبا ذر فأنفلت ( 8 ) منهم فقدم على النبي صلى الله عليه وآله ، وأما صهيب فإنه أخذه المشركون من أهله ، فافتدى منهم بماله ثم خرج مهاجرا ، وروى الفخر ، والنيسابوري ( 9 ) عن سعيد بن المسيب نزوله في صهيب أيضا .
ولا يخفى على المنصف أن بعد نقل أعاظم المفسرين والمحدثين من الامامية و

___________________________________________________________
( 1 ) أى شدونى بالحديد .
( 2 ) استوثق من الاموال : شدد في التحفظ عليها .
( 3 ) كمه : عمى .
والمرأة الكمهاء : التى زال عقلها .
( 4 ) ص : 89 .
( 5 ) مجمع البيان 2 : 301 .
( 6 ) مفاتيح الغيب 2 : 198 .
( 7 ) غرائب القرآن 1 : 220 .
( 8 ) أى تخلص .
( 9 ) راجع ما ذكر من أرقام تفاسيرهم .

[ 45 ]


المخالفين أنها نزلت في علي عليه السلام لا عبرة بإخفاء حثالة ( 1 ) من متعصبي المتأخرين كالزمخشري والبيضاوي ( 29 ، واقتصارهم على رواية نزولها في صهيب وتركهم أبا ذر أيضا لحبه لامير المؤمنين عليه السلام ! مع أنهم فسروا الشراء بالبيع وإعطاء المال فدية ليس بيعا للنفس بل اشتراء لها ، والشراء بمعنى البيع أكثر استعمالا لا سيما في القرآن ، بل لم يرد فيه إلا بهذا المعنى كقوله تعالى : " وشروه بثمن بخس دارهم معدودة ( 3 ) " وقوله تعالى : " لبئس ما شروا به أنفسهم ( 4 ) " وقوله عزوجل : " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ( 5 ) ، وأيضا الانسب بمقام المدح بيع النفس وبذلها في طلب رضى الله تعالى لا اشتراؤها واستنقاذها واستخلاصها ، فإن ذلك يفعله كل أحد ، مع أن راويها عكرمة وهو من الخوارج ، وسعيد بن المسيب وكان منحرفا عن أهل البيت عليهم السلام حتى أنه لم يصل على علي بن الحسين عليهما السلام كما سيأتي ، فلا عبرة بروايتهما سيما فيما إذا عارضت الاخبار الكثيرة المعتبرة .
ثم إنه استدل بها على إمامته عليه السلام لان هذه الخلة الحميدة فضيلة جزيلة عظيمة لا يساويها فضل ، لان بذل النفس في رضى الله تعالى أعلى درجات الكمال ، وقد مدح الله تعالى ذبيحه بتسلمه للقتل بيد خليله عليه السلام ، وهذا علي قد استسلم للقتل تحت مائة سيف من سيوف الاعادي ، وليس لسائر الصحابة مثل تلك الفضيلة ، فهو أحق بالامامة ، لان تفضيل المفضول قبيح عقلا ، وأيضا يدل عليها قول جبرئيل عليه السلام له : من مثلك ، لان يدل على انتفاء مثل له في العالم ولا أقل في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فإذا ثبت فضله عليهم ثبتت إمامته بما مر من التقرير .
فائدة : قال الشيخ المفيد - قدس الله روحه في كتاب الفصول : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله الاختفاء من قريش والهرب منهم إلى الشعب لخوفه على نفسه استشار أبا طالب

___________________________________________________________
( 1 ) حثالة الناس رذالتهم .
( 2 ) راجع تفسير البيضاوى 1 .
53 : ، والكشاف : 1 : 258 .
( 3 ) يوسف : 20 .
( 4 ) البقرة : 102 .
( 5 ) النساء : 74 .

[ 46 ]


رحمه الله ( 1 ) فأشار به عليه ، ثم تقدم أبوطالب إلى أمير المؤمنين عليه السلام أن يضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليوقيه ( 2 ) بنفسه ، فأجابه إلى ذلك ، فلما نامت العيون جاء أبوطالب ومعه أمير المؤمنين عليه السلام ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضطجع أمير المؤمنين عليه السلام مكانه فقال أمير المؤمنين : يا أبتاه إني مقتول ، فقال أبوطالب : اصبرن يا بني فالصبر أحجى * كل حي مصيره لشعوب قد بذلناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب لفداء الاعز ( 3 ) ذي الحسب الثا * قب والباع والفناء الرحيب ( 4 ) إن تصبك المنون فالنبل تترى ( 5 ) * فمصيب منها وغير مصيب كل حي وإن تملى بعيش ( 6 ) * آخذ من سهامها بنصيب قال : فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أتأمرني بالصبر في نصر أحمد * فوالله ما قلت الذي قلت جازعا ولكنني أحببت أن تر نصرتي ( 7 ) * وتعلم أني لم أزل لك طائعا وسعيي لوجه الله في نصر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا ( 8 ) وقال أمير وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعد تسليمه ذلك : وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله الخلق إذ مكروا به * فنجاه ذو الطول الكريم من المكر وبت اراعيهم وهم يثبتونني * وقد صبرت نفسي على القتل والاسر وبات رسول الله في الشعب آمنا * وذلك في حفظ الاله وفي ستر

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر استشار ابا طالب رحمه الله في ذلك .
( 2 ) في المصدر " ليقيه " .
( 3 ) في المصدر : لفداء الاغر .
( 4 ) الباع : قدر مد اليدين .
ويقال : طويل الباع ورحب الباع أى كريم مقتدر .
( 5 ) في المصدر : ان يصبك المنون فالنبل يبرى .
( 6 ) أى طال عيشه واستمتع به .
( 7 ) في المصدر : اظهار نصرتى .
( 8 ) يفع الغلام : ترعرع وناهز البلوغ .

[ 47 ]


أردت به نصر الاله تبتلا ( 1 ) * وأضمرته حتى اوسد في قبري ثم قال الشيخ - رحمه الله - : وأكثر الاخبار جاءت بمبيت أمير المؤمنين عليه السلام على فراش رسول الله في ليلة مضى رسول الله إلى الغار ، وهذا الخبر وجدته في ليلة مضيه إلى الشعب ، ويمكن أن يكون قد بات عليه السلام مرتين على فراش الرسول ، وفي مبيته عليه السلام حجج على أهل الخلاف من وجوه شتى : أحدها قولهم : إن أمير المؤمنين عليه السلام آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن خمس سنين أو سبع سنين أو تسع سنين ، ليبطلوا بذلك فضيلة إيمانه ويقولوا : إنه وقع منه على سبيل التلقين دون المعرفة واليقين ، إذا كانت سنه عند دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله على ما ذكروا له لم يكن أمره يلتبس عند مبيته على الفراش ويشتبه برسول الله حتى يتوهم القوم أنه هو يترصدونه إلى وقت السحر ، لان جسم الطفل لا يلتبس بجسم الرجل الكامل ، فلما التبس على قريش الامر في ذلك حتى ظنوا أن عليا عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله بائتا على حاله في مكانه وكان هذا أول الدعوة وابتداؤها وعند مضيه إلى الشعب دل على أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان عند إجابته للرسول بالغا كاملا في صورة الرجال ومثلهم في الجسم أو يقاربهم ( 2 ) ، وإن كانت الحجج على صحة إيمانه وفضيلته وأنه لم يقع إلا بالمعرفة لا يفتقر إلى ذكر هذا ، وإنما أوردناه استظهارا .
ومنها أن الله تعالى قص علينا في محكم كتابه قصة إسماعيل عليه السلام في تعبده بالصبر على ذبح أبيه إبراهيم عليه السلام ثم مدحه بذلك وعظمه وقال : " إن هذا لهو البلاء المبين ( 3 ) " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في افتخاره بآبائه : " أنا ابن الذبيحين " يعني إسماعيل وعبدالله ، ولعبدالله في الذبح قصة مشهورة يطول شرحهما ، يعرفها أهل السير ، وإن أباه عبدالمطلب فداه بمائة ناقة حمراء ، وإذا كان ما خبر الله ( 4 ) به من محنة إسماعيل بالذبح يدل على أجل

___________________________________________________________
( 1 ) التبتل : الانقطاع عن الدنيا إلى الله .
( 2 ) في المصدر : ومقاربهم .
( 3 ) الصافات : 106 .
( 4 ) في المصدر و ( ت ) : ما أخبر الله .

[ 48 ]


فضيلة وأفخر منقبة ، احتجنا أن ننظر في حال مبيت أمير المؤمنين عليه السلام على الفراش ، وهل يقارب ذلك أو يساويه ؟ فوجدناه يزيد في الظاهر عليه ، وذلك أن إبراهيم عليه السلام قال لابنه إسماعيل : " إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( 1 ) " فاستسلم لهذه المحنة مع علمه بإشفاق الوالد على الولد ورأفته به ورحمته له ، وأن هذا الفعل لا يكاد يقع من الوالد بولده بل لم يقع فيما مضى ( 2 ) ولم يتوهم فيما يستقبل ، وكان هذا الامر ( 3 ) يقوي في ظن إسماعيل أن المقال من أبيه خرج مخرج الامتحان له في الطاعة دون تحقيق العزم ( 4 ) على إيقاع الفعل فيزول كثير من الخوف معه وترجى السلامة عنهد ، وأمير المؤمنين عليه السلام دعاه أبوطالب إلى المبيت على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وفداءه بنفسه ، وليس له من الطاعة عليه ما للانبياء عليهم السلام على البشر ، ولم يأمره بذلك عن وحي من الله عزوجل كما أمر إبراهيم عليه السلام ابنه وأسند أمره إلى الوحي .
ومع علم أمير المؤمنين عليه السلام أن قريشا أغلظ الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وأقساهم قلبا ، وما يعرفه كل ما عاقل من الفرق بين الاستسلام للعدو المناصب والمبغض المعاند الذي يريد أن يشفي نفسه ولا يبلغ الغاية في شفائها إلا بنهاية التنكيل وغاية الاذى بضروب الآلام وبين الاستسلام للولي المحب والوالد المشفق الذي يغلب في الظن أن إشفاقه يحول بينه وبين إيقاعه الضرر بولده ، إما مع الطاعة لله عزوجل بالمسألة المراجعة أ بارتكاب المعصية ممن يجوز عليه ارتكاب المعاصي ، أو يحمل ذلك منه على ما قدمناه من الاختبار والتورية في الكلام ليصح له مطلوبه من الامتحان ، وإذا كان محنة أمير المؤمنين عليه السلام أعظم من محنة إسماعيل بما كشفناه ثبت أن الفضيلة التي حصل بها أمير المؤمنين عليه السلام ( 5 )

___________________________________________________________
( 1 ) الصافات : 102 .
( 2 ) في المصدر : فيما سلف .
( 3 ) اى عدم وقوع ذبح الوالد الولد .
( 4 ) في المصدر : دون تحقق العزم .
( 5 ) : أن الفضل بالذى حصل به لامير المؤمنين عليه السلام .

[ 49 ]


ترجح على كل فضيلة لاحد من الصحابة ( 1 ) وأهل البيت عليهم السلام ، وبطل قول من رام ( 2 ) المفاضلة بينه وبين أبي بكر من العامة والمعتزلة الناصبة له عليه السلام ، إذ قد حصل له عليه السلام فضل يزيد على الفضل الحاصل للانبياء عليهم السلام .
ولعل قائلا يقول عند سماع هذا : فكيف يسوغ لكم ما ادعيتموه في هذه المحنة وهو تعظيمها على محنة إسماعيل عليه السلام وذاك نبي وهذا عندكم وصي ( 3 ) ؟ وليس يجوز أن يكون من ليس بنبي أفضل من أحد من الانبياء عليهم السلام ، فإنه يقال له : ليس في تفضيلنا هذه المحنة على محنة إسماعيل عليهم السلام تفضيل لامير المؤمنين عليه السلام على أحد من الانبياء ، وذلك عليا وإن حصل له فضل لم يحزه نبي فيما مضى فإن الذي حاز به الانبياء عليهم السلام من الفضل الذي لم يحصل منه شئ لامير المؤمنين عليهم السلام يوجب فضلهم عليه ، ويمنع من المساواة بينه وبينهم أو تفضيله عليهم كما بيناه ، وبعد فإن الحجة إذا قامت على فضل أمير المؤمنين عليه السلام على بني من الانبياء ولاح ( 4 ) على ذلك البرهان وجب علينا القول به وترك الخلاف فيه ولم يوحشنا منه خلاف العامة الجهال ( 5 ) ، وليس في تفضيل سيد الوصيين وإمام المتقين وأخي رسول رب العالمين سيد المرسلين ونفسه بحكم التنزيل وناصره في الدين و أبي ذريته الائمة الراشدين الميامين على بعض الانبياء المتقدمين أمر يحيله العقل ، ولا يمنع منه السنة ، ولا يرده القياس ولا يبطل الاجماع ، إذا عليه جمهور شيعته ، وقدنقلوا ذلك عن الائمة من ذريته ، وإذا لم يكن فيه إلا خلاف الناصبة له أو المستضعفين ممن يتولاه لم يمنع من القول به .
فإن قال قائل : إن محنة إسماعيل أجل قدرا من محنة أمير المؤمنين عليه السلام وذلك أن أمير المؤمنين قد كان عالما بأن قريشا إنما تريد غيره وليس غرضها قتله ، وإنما قصدها

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : حصلت لاحد من الصحابة .
( 2 ) اى اراد .
( 3 ) في المصدر : وصى نبى .
( 4 ) أى بدا وظهر .
( 5 ) في المصدر : العامة الجهلاء .

[ 50 ]


لرسول الله صلى الله عليه وآله دونه ، فكان على ثقة من السلامة ، وإسماعيل عليه السلام كان متحققا لحلول الذبح به من حيث امتثل الامر بالذي نزل به الوحي ، فشتان بين الامرين ! قيل له : إن أمير المؤمنين عليه السلام وإن كان عالما بأن قريشا إنما تقصد رسول الله دونه فقد كان يعلم - بظاهل الحال وما يوجب غالب الظن من العادة الجارية بشدة غيظ قريش على من فوتهم غرضهم في مطلبهم ، ومن حال بينهم وبين مرادهم من عدوهم ، ومن لبس عليهم الامر حتى ضلت حيلتهم ، وخابت آمالهم ، أنهم يعاملونه بأضعاف ما كان في أنفسهم أن يعاملوا به صاحبه لتزايد حنقهم ( 1 ) وحقدهم ، واعتراء الغضب لهم ، فكان الخوف منهم عند هذه الحال أشد من خوف الرسول الله صلى الله عليه وآله ، واليأس من رجوعهم عن إيقال الضرر به أقوى من يأس النبي صلى الله عليه وآله ، وهذا هو المعروف الذي لا يختلف فيه اثنان ، لانه قد كان يجوز منهم عند ظفرهم بالنبي صلى الله عليه وآله أن تلين قلوبهم له ، ويتعطفوا بالنسب والرحم التي بينهم وبينه ويلحقهم من الرقة عليه ما يلحق الظافر بالمظفور به ، فتبرد قلوبهم ويقل غيظهم و تسكن نفوسهم ، وإذا فقدوا المأمول من الظفر به وعرفوا وجه الحيلة عليهم في فوتهم غرضهم وعلموا أنه بعلي عليه السلام تم ذلك ، ازدادت الدواعي لهم إلى الاضرار به ، وتوفرت عليه ، فكانت البلية أعظم على ما شرحناه .
وعلى أن إسماعيل عليه السلام قد كان يعلم أن قتل الوالد لولده لم تجربه عادة من الانبياء والصالحين ، ولا وردت به فيما مضى عبادة ، فكان يقوى في نفسه أنه على ما قدمناه من الاختبار ، ولو لم يقع له ذلك لجوز نسخه لغرض توجبه الحكمة أو كان يجوز أن يكون في باطن الكلام خلاف ما في ظاهره ، أو يكون تفسير المنام بضد حقيقته ، أو يحول الله تعالى بين أبيه وبين مراده بالاخترام ، أو شغل يعوقه عنه ، ولا محالة أنه قد خطر بباله ما فعله الله تعالى من فدائه وإعفائه من الذبح ، ولو لم يخطر ذلك بباله لكان مجوزا عنده ، إذ لو لم يجز في عقله لما وقع من الحكيم سبحانه ( 2 ) .

___________________________________________________________
( 1 ) الحنق - بفتح النون وكسره - شدة الاغتياظ .
( 2 ) أى الاعفاء من الذبح لو لم يكن جائزا عقلا لما وقع من الله تعالى أيضا .