[161]

فأجاره وأكرمه وأحسن إليه ، فمدحه وأقام عنده ، ثم إنه لم يرله نصيبا في الجبلين : أجا وسلمى ( 1 ) ، فخاف أن لا يكون له منعة ( 2 ) فتحول فنزل على خالد بن سدوس بن أصمع التيهاني ، فأغارت بنو جديلة على امرى ء القيس وهو في جوار خالد بن سدوس ، فذهبوا بإبله ، وكان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص ، فلما أتى امرأ القيس الخبر ذكر ذلك لجاره ( 3 ) ، فقال له : أعطني رواحلك ألحق عليها القوم فأرد عليك إبلك ، ففعل فركب خالد في أثر القوم حتى أدركهم ، فقال يا بني جديلة أغرتم على إبل جاري ، قالوا : ما هو لك بجار ، قال : بلى والله وهذه رواحله ، قالوا : كذلك ؟ قال : نعم ، فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن وذهبوا بهن وبالابل ! وقيل : بل انطوى خالد على الابل فذهب بها ، فأنشد امرؤ القيس هذه القصيدة .
وحجراته : نواحيه ، الواحدة : حجرة مثل جمرات وجمرة .
وصيح في حجراته أي صياح الغارة .
والرواحل جمع راحلة وهي الناقة التي تصلح لان يشد الرحل ( 4 ) على ظهرها .
ويقال للبعير راحلة .
و انتصب ( حديثا ) بإضمار فعل أي هات حديثا أوحدثني حديثا ، ويروى ( ولكن حديث ) أي ولكن مرادي أو غرضي حديث ، فحذف المبتدا ، و ( ما ) ههنا يحتمل أن يكون إبهامية وهي التي إذا اقترنت بإسم نكرة زادته إبهاما وشياعا ، كقولك : ( ( أطني كتاباما ) تريدأي كتاب كان ، ويحتمل أن يكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم ( 5 ) ) وأما حديث الثاني فقد ينصب وقد يرفع ، فمن نصب أبدله عن حديث الاول ، ومن رفع جاز أن يجعل ( ما ) موصولة بمعنى ( الذي ) وصلتها الجملة ، أي الذي هو حديث الرواحل ، ثم حذف صدر الجملة كما حذف في ( تماما على الذي أحسن ( 6 ) ) ويجوز أن يرفع بجعلها استفهامية ( 7 ) بمعنى أي .

___________________________________________________________
( 1 ) أجأبوزن فعل أحد جبلى طئ وسلمى أحدهما ، راجع المراصد 1 : 28 و 2 : 729 .
( 2 ) المنعة بالتحريك العز والقوة .
( 3 ) وهو خالد بن سدوس .
( 4 ) في المصدر : تصلح أن ترحل أى يشد الرحل اه .
( 5 ) سورة النساء : 155 .
سورة المائدة : 13 .
( 6 ) سورة الانعام : 154 .
( 7 ) في المصدر : ويجوز أن يجعل ( ما ) استفهامية .

[162]

ثم قال : ( وهلم الخطب ) هذا يقوي رواية من يروي عنه عليه السلام أنه لم يستشهد إلا بصدر البيت ، لانه قال : دع عنك ما مضى وهلم ما نحن الآن فيه من أمر معاوية ، فجعل ( هلم ما نحن [ الآن ] فيه من أمر معاوية ) قائما مقام قول امرئ القيس ( ولكن حديثا ما حديث الرواحل ) وهلم لفظ يستعمل لازما ومتعديا ، فاللازم بمعنى تعال ، وأما المتعدي فهي بمعنى هات ، تقول : هلم كذا وكذا ، قال الله تعالى : ( هلم شهداءكم ( 1 ) ) يقول : ولكن هات ذكر الخطب ، فحذف المضاف ، والخطب : الحادث الجليل يعني الاحوال التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا له في الرئاسة ، قائما عند كثير من الناس مقامه ، صالحا لان يقع في مقابلته وأن يكون ندا له ! ثم قال : ( فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه ) يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه ، فلم يقنع الدهر له بذلك حتى جعل معاوية نظيرا له ، فضحك مما يحكم به الاوقات ويقتضيه تصرف الدهر وتقلبه وذلك ضحك تعجب واعتبار .
ثم قال : ( ولا غرو والله ) أي ولا عجب والله .
ثم فسر ذلك فقال : ( ياله خطبا يستفرغ العجب ) أي يستنفده ويفنيه يقول : قد صار العجب لا عجب لان هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب ، وهذا من باب الاغراق والمبالغة [ في المبالغة ] .
والاود : العوج .
ثم ذكر تمالؤ قريش عليه فقال : ( حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه ) يعني ما تقدم من منابذة طلحة والزبير وأصحابهما له وما شفع ذلك من معاوية وعمرو وشيعتهما .
و فوار الينبوع : ثقب البئر .
قوله : ( وجدحوا بيني وبينهم شربا ) أي خلطوه ومزجوه و أفسدوه .
والوبئ : ذو الوباء والمرض وهذا استعارة ، كأنه جعل الحال التي كانت بينه و بينهم قد أفسدها القوم وجعلوها مظنة الوباء والسقم كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسدويوبئ ، ثم قال : فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابتلاء الصابرين والمجاهدين وحصل لي التمكن من الامر حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل ، كاللبن المحض الذي لا يخالطه شئ من الماء .
( وإن تكن الاخرى ) أي

___________________________________________________________
( 1 ) سورة الانعام : 150 .

[163]

وإن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة ومت أو قتلت والامور على ماهي عليه من الفتنة ودولة الضلالة ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) والآية من القرآن العزيز ( 1 ) .
وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام وكان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذاهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له : من يعني عليه السلام بقوله : ( كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ) ؟ ومن القوم الذين عناهم الاسدي بقوله : ( كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ) ؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى ؟ فقال : يوم السقيفة ، فقلت : إن نفسي لا تتابعني ( 2 ) أن أنسب إلى الصحابة عصيان الرسول ودفع النصر ! فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا أن أنسب الرسول إلى إهمال أمر الامامة وأن يترك الناس سدى ( 3 ) مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا و يؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث ؟ ثم قال : ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عاقلا كامل العقل ، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون ( 4 ) أنه حكيم تام الحكمة سديد الرأي ، أقام ملة وشرع شريعة واستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره ، وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات و الذحول ( 5 ) ولو بعد الازمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به و إن لم يكونوا رهطه الادنين ، والاسلام لم يحل طبائعهم ولا غير هذه السجية المركوزة في

___________________________________________________________
( 1 ) من سورة فاطر : 8 .
( 2 ) في المصدر : لا تسامحنى .
( 3 ) السدى : المهمل .
( 4 ) أى يعتقدون .
( 5 ) الذحل : الثار .

[164]

أخلاقهم ( 1 ) ، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وترالعرب ( 2 ) وعلى الخصوص قريشا وساعده على سفك الدماء وإذهاق الانفس وتقلد الضغائن ابن عمه الادنى وصهره وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ويتركه بعده وعنده ابنته وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ومحبة لهما ويعدل عنه في الامر بعده ولا ينص عليه ولا يستخلفه فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه ؟ ألا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية فقد عرض دماءهم للاراقة بعده ؟ بل يكون هو عليه السلام الذي قتلهم وأشاط ( 3 ) بدمائهم ، لانهم لا يعتصمون بعده بأمير يحميهم ، وإنما يكونون مضغة للآكل وفريسة للمفترس ( 4 ) ، يتخطفهم الناس ويبلغ فيهم الاغراض ( 5 ) ، فأما إذا جعل السلطان فيهم والامر إليهم فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها ( 6 ) ، ويرتدع الناس عنهم لاجلها ، ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم وأبقى ( 7 ) في نفسوهم الاحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم واحدا منهم وجعل بنيه سوقة كبعض العامة لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم ، ولوثب عليهم الناس وذوو الاحقاد والتراث ( 8 ) من كل جهة يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد ( 9 ) ، ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك وقام خاصته وخدمه وخوله ( 10 ) بأمره بعده لحقنت دماء أهل بيته

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر بعد ذلك : والغرائز بحالها .
( 2 ) وتر فلانا : أفزعه .
أصابه بظلم أو مكروه .
( 3 ) أشاط فلانا : أهلكه .
( 4 ) المضغة : القطعة التى تمضغ من لحم وغيره .
وفرس الاسد فريسته : دق عنقها ، اصطادها .
( 5 ) تخطف الشئ : اجتذبه وانتزعه .
والغرض : الهدف الذى يرمى اليه .
( 6 ) صال عليه : سطا عليه وقهره .
( 7 ) في المصدر : وألقى .
( 8 ) وتره ترة : أنزعه .
أصابه بمكروه .
( 9 ) شرده : طرده ونفره .
وشرد شملهم : فرق جمعهم .
( 10 ) الخول : العبيد والاماء وغيرهم من الحاشية .

[165]

ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك وابهة السلطنة وقوة الرئاسة وحرمة الامارة .
أفترى ذهب عن رسول الله هذا المعنى ؟ أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده ؟ وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلبه ؟ أتقول : أنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس ( 1 ) ؟ ! وأن يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي وأنس بن مالك الانصاري ؟ ! يحكم الامراء في دمه وعرضه ونفسه وولده ، فلا يستطيع الامتناع ، وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه : ويودون أن يشربوا دمه بأفواههم ويأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم ، والعهد لم يطل والقروح لم تتعرف ( 2 ) والجروح لم تندمل ( 3 ) ؟ فقلت : لقد أحسنت فيما قلت إلا أنه لفظه عليه السلام يدل على أنه لم يكن نص عليه ، ألا تراه يقول : ( ونحن الاعلون نسبا والاشدون بالرسول نوطا ) فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب ، فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك ( وأنا المنصوص علي المخطوب باسمي ) فقال رحمه الله : إنما أتاه من حيث تعلم لامن حيث تجهل ، ألاترى أنه سأله فقال : ( كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ ) فهو إنما سأل عن دفعهم عنه وهم أحق به من جهة اللحمة والقرابة ، ولم يكن الاسدي يتصور النص ولا يعتقده ولا يخطر بباله ، لانه لو كان هذا في نفسه لقال له ( لم دفعك الناس عن هذا المقام وقد نص عليك رسول الله صلى الله عليه وآله ) ولم يقل هذا ، فإنما قال كلاما عاما لبني هاشم
-بحار الانوار مجلد: 34 من ص 165 سطر 19 الى ص 173 سطر 18 كافة ( كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به ؟ ) أي باعتبار الهاشمية والقربى ، فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الاسدي بعينه تمهيدا للجواب ، فقال : ( إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من غيرنا لانهم استأثروا علينا ) ولو

___________________________________________________________
( 1 ) تكفف الناس : مديده اليهم يستعطى .
( 2 ) كذا في النسخ : وفي المصدر ( لم تنقرف ) والصحيح : لم تتقرف وتقرف الجرح : تقشر .
( 3 ) اندمل الجرح .
تماثل وتراجع إلى البرء .

[166]

قال له : ( أنا المنصوص علي ( 1 ) أو المخطوب باسمي في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ) لما كان قد أجابه ، لانه ما سأله : هل أنت منصوص عليك أم لا ؟ ولا : هل نص رسول الله صلى الله عليه وآله بالخلافة على أحد أم لا ؟ وإنما قال : ( لم دفعكم قومكم من الامر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم ؟ ) فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه ، وايضا فلو أخذ يصرح له بالنص ويعرفه تفاصيل باطن الامر لنفرعنه واتهمه ولم يقبل قوله ولم يتحدب ( 2 ) إلى تصديقه ، فكان أولى الامور في حكم السياسة وتدبير الناموس ( 3 ) أن يجيب بما لا نفرة منه ولا مطعن عليه فيه ( 4 ) .
أقول : إنما أطنبت بإيراد هذا الكلام لمتانته وقوته ، ولعمري إنه يكفي للمنصف التدبر فيه للعلم ببطلان قول أهل الخلاف ، والله الموفق والمعين .
أقول : أخبار النصوص عليه صلوات الله عليه مذكورة مسطورة في أكثر الابواب السابقة واللاحقة من هذا المجلد ، لا سيما في أبواب الآيات ، وأبواب المناقب والفضائل وباب ما اهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأميرالمؤمنين عليه السلام وباب جوامع معجزات أميرالمؤمنين عليه السلام وقد أوردتها أيضا في باب فضائل شهر رمضان ، وباب بدء خلق أرواح الائمة عليهم السلام ، وباب الركبان يوم القيامة ، وباب عصمة الامام ، وباب جوامع معجزات الرسول صلى الله عليه وآله .

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : أنا المنصوص عليه .
( 2 ) تحدب : تعطف .
وفي المصدر : ولم ينجذب .
( 3 ) في المصدر : وتدبير الناس .
( 4 ) شرح النهج 2 : 717 723 .

[167]


باب 62 : باب نادر فيما امتحن الله به أميرالمؤمنين صلوات الله عليه في حياة النبى صلى الله عليه وآله وبعد وفاته  

1 ل : أبي وابن الوليد معا ، عن سعد ، عن أحمد بن الحسين بن سعيد ، عن جعفر بن محمد النوفلي ، عن يعقوب بن الرائد قال : قال أبوعبدالله جعفر بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، قال : حدثنا يعقوب بن عبدالله الكوفي عن موسى بن عبيد ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن محمد بن الحنفية ، وعمرو بن أبي المقدام ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال : يا أميرالمؤمنين إني اريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ، قال : سل عما بدالك يا أخا اليهود ، قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عزوجل إذا بعث نبيا أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر امته من بعده وأن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى عليه ( 1 ) ويعمل به في امته من بعده ، وأن الله عزوجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن الله الاوصياء في حياة الانبياء ؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمر الاوصياء إذا رضي محنتهم ؟ فقال له علي عليه السلام : والله الذي لا إله غيره الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرن به ؟ قال : نعم ، قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أجبتك لتسلمن قال : نعم .
فقال له علي عليه السلام : إن الله عزوجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء في سبعة

___________________________________________________________
( 1 ) احتذى مثال فلان وعلى مثاله : اقتدى وتشبه به .

[168]

مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم أمر الانبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الاوصياء في أعناق الامم ممن يقول بطاعة الانبياء عليهم السلام ، ثم يمتحن الاوصياء بعد وفاة الانبياء في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالانبياء ، وقد أكمل لهم السعادة ، قال له رأس اليهود صدقت يا أميرالمؤمنين فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد صلى الله عليه وآله من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمرك ؟ فأخذ علي عليه السلام بيده وقال : انهض بنا انبئك بذلك [ يا أخا اليهود ] فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولم ذاك يا أميرالمؤمنين ؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم ، فقام إليه الاشتر فقال : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك فو الله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الارض وصي نبي سواك ، وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا صلى الله عليه وآله نبينا سواه ، وإن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا .
فجلس علي عليه السلام وأقبل على اليهودي فقال [ له ] : يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن ، فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة الله له مطيعا ( 1 ) ، قال : وفيم وفيم يا أميرالمؤمنين ؟ قال : أما أولهن فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سنا ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه ( 2 ) في أمره ، فدعا صغير بني عبدالمطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه وهجروه ونابذوه ( 3 ) واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس مقصين له [ ومبغضين ] ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم يحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله وحدي إلى ما دعا إليه مسرعا مطيعا موقنا ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الارض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله بما آتاه الله غيري ( 4 ) وغير ابنة خويلد رحمها الله وقد فعل ثم

___________________________________________________________
( 1 ) أى وجدنى الله مطيعا له بنعمته على .
( 2 ) في المصدر : وأسعى في قضاء بين يديه .
( 3 ) نابذه : خالفه وفارقه عن عداوة .
( 4 ) في المصدر : بما أتاه غيرى اه .

[169]

أقبل أميرالمؤمنين عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين ( 1 ) .
فقال عليه السلام : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة ، و إبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ( 2 ) فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل ( 3 ) فخذ من قريش رجل ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعا بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها ، فيمضي دمه هدرا ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا لنفسي بأن اقتل دونه ، فمضى لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنافيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن ابني ربيعة وابن عتبة ( 4 ) كانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله مع صاحبي رضي الله عنهما وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سنا وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عزوجل بيدي وليدا وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي واستشهد ابن

___________________________________________________________
( 1 ) تأتى هذه القطعة من الحديث في باب ( أنه صلوات الله عليه سبق الناس في الاسلام اه ) تحت الرقم 7 .
( 2 ) سيأتي في البيان أن المراد منه مغيرة بن شعبة الثقفى .
( 3 ) الفخذ : الحى والقبيلة .
( 4 ) يعنى شيبته بن ربيعة وعتبة بن ربيعة ووليد بن عتبة .

[170]

عمي في ذلك اليوم رحمة الله عليه ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال علي عليه السلام : وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استحاشوا ( 1 ) من يليهم من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك ، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وعسكر بأصحابه في سد احد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة ، و بقيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومضى المهاجرون والانصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله عزوجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله نيفا وسبعين جرحة منها هذه وهذه ثم ألقى رداءه وأمريده على جراحاته وكان مني في ذلك ما على الله عزوجل ثوابه إن شاء الله ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا ، بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال : وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن قريشا والعرب تجمعت وعقدت بينها عقدا وميثاقا لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك ، فخندق ( 2 ) على نفسه ومن معه من المهاجرين والانصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوهاإلى الله عزوجل ويناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلا عتوا ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود ، يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر ( قد استجابوا ) وهو سهو ، والصحيح ما في المتن ، وسيأتى معناه في البيان .
( 2 ) أى حفر الخندق ، وهو حفير حول المدينة .
والظاهر أنه معرب ( كنده ) كما قاله الفيروزآبادى .