[251]
ايضاح : قال الفيروز آبادي : الحالقة : الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي
تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر ( 1 ) .
وقال ابن أبي الحديد بعد إيراد تلك الوصية في شرح نهج البلاغة : قوله :
" فلا تغيروا أفواههم " يحتمل تفسيرين : أحدهما لا تجيعوهم فإن الجائع فمه تتغير
نكهته ( 2 ) ، والثاني لا تحوجوهم إلى تكرار الطلب والسؤال ، فإن السائل ينضب
ريقه وتنشف لهواته وتتغير ريح فمه ، انتهى ( 3 ) .
قوله عليه السلام : " لم تناظروا " أي لم تمهلوا ، بل ينزل عليكم العذاب من غير
مهلة .
وقال الجزري : في حديث المدينة : " من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا "
الحدث : الامر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة ، والمحدث
يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول ، فمعنى الكسر : من نصر جانيا و
آواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه ، وبالفتح هو الامر المبتدع
نفسه ، ويكون معنى الايواء فيه الرضى به والصبر عليه ، فإنه إذا رضي بالبدعة و
أقر فاعلها عليها ولم ينكرها فقد آواها ، انتهى ( 4 ) .
قوله عليه السلام : " وحفظ فيكم نبيكم " أي جعل الناس بحيث يرعون فيكم
حرمته صلى الله عليه واله ، أو حفظ سننه وأطواره صلى الله عليه واله فيكم ، أو يحفظكم لانتسابكم إليه صلى الله عليه واله
والاول أظهر .
53 - كا : علي بن محمد رفعه قال : قال أبوعبدالله عليه السلام : لما غسل أميرالمؤمنين
عليه السلام نودوا من جانب البيت : إن أخذتم مقدم السرير كفيتم مؤخره ، وإن أخذتم
*
_________________________________________________________
ص 251 ) ( 1 ) هذا المعنى غير مذكور في القاموس ، وذكره في النهاية 1 : 251 .
( 2 ) في المصدر : يخلف فمه ويتغير نكهته .
( 3 ) شرح النهج 2 : 69 .
( 4 ) النهاية 1 : 207 .
وفيه : واقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه .
*
[252]
مؤخره كفيتم مقدمه ( 1 ) .
54 - نبه : محمد بن الحسن القضباني ( 2 ) ، عن إبراهيم بن محمد بن مسلم الثقفي
عن عبدالله بن بلح المنقري ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي حمزة اليشكري ، عن
قدامة الاودي ، عن إسماعيل بن عبدالله الصلعي - وكان ( 3 ) له صحبة - قال : لما
كثر الاختلاف بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وقتل عثمان بن عفان تخوفت على نفسي
الفتنة ، فاعتزمت على اعتزال الناس ، فتنحيت إلى ساحل البحر فأقمت فيه حينا
لا أدري ما فيه الناس ( 4 ) ، فخرجت من بيتي لبعض حوائجي وقد هدأ الليل ونام
الناس ، فإذا أنا برجل على ساحل البحر يناجي ربه ويتضرع إليه بصوت أشج ( 5 )
وقلب حزين ، فآنست ( 6 ) إليه من حيث لا يراني ، فسمعته يقول : يا حسن الصحبة
يا خليفة النبيين يا أرحم الراحمين ، البدئ البديع ليس مثلك ( 7 ) شئ ، والدائم
غير الغافل ، والحي الذي لا يموت ، أنت كل يوم في شأن ، أنت خليفة محمد صلى الله عليه واله و
ناصر محمد ومفضل محمد ، أسألك ( 8 ) أن تنصر وصي محمد وخليفة محمد والقائم بالقسط
بعد محمد ، اعطف عليه بنصر أو توفه برحمة .
*
_________________________________________________________
ص 252 ) ( 1 ) اصول الكافى ( الجزء الاول من الطبعة الحديثة ) 1 : 457 .
( 2 ) في المصدر و ( ت ) : القصبانى .
( 3 ) في المصدر : وكانت .
( 4 ) في المصدر بعد ذلك : معتزلا لاهل الهجر والارجاف اه .
( 5 ) كذا في ( ك ) .
وفى غيره من النسخ " شج " .
والصحيح كما في المصدر : شجى .
اى
حزين .
( 6 ) كذا في ( ك ) : وفى غيره من النسخ " فأنصت " .
وفى المصدر : فنضت إليه
وأصغيت إليه .
( 7 ) في هامش ( ك ) : كمثله خ ل .
( 8 ) في المصدر : أنت الذى أسألك اه .
*
[253]
قال : ثم رفع رأسه وجلس بقدر التشهد ( 1 ) ثم إنه سلم فيما أحسب تلقاء
وجهه ، ثم مضى فمشى على الماء ، فناديته من خلفه : كلمني يرحمك الله ، فلم يلتفت
وقال : الهادي خلفك فاسأله عن أمر دينك ، قال : قلت : من هو يرحمك الله ؟ قال :
وصي محمد صلى الله عليه واله من بعده ، فخرجت متوجها إلى الكوفة فأمسيت دونها ، فبت قريبا
من الحيرة ، فلما جن لي ( 2 ) الليل إذ أنا برجل قد أقبل حتى استتر برابية ( 3 ) ، ثم
صف قدميه فأطال المناجاة ، فكان فيما قال : اللهم إني سرت فيهم بما أمرني رسولك
وصفيك فظلموني ، وقتلت المنافقين كما أمرتني فجهلوني .
وقد مللتهم وملوني و
أبغضتهم وأبغضوني ، ولم تبق خله أنتظرها إلا المرادي ، اللهم فعجل له الشقاء ( 4 )
وتغمدني بالسعادة ، اللهم قد وعدني نبيك أن تتوفاني إليك إذا سألتك ، اللهم
وقد رغبت إليك في ذلك ، ثم مضى ، فتبعته ( 5 ) فدخل منزله ، فإذا هو علي بن أبي
طالب عليه السلام قال : فلم ألبث إذ نادى المنادي بالصلاة ، فخرج وتبعته حتى دخل المسجد
فعمه ابن ملجم لعنه الله بالسيف ( 6 ) .
55 - نبه : لما احتضر أميرالمؤمنين عليه السلام جمع بنيه حسنا وحسينا ومحمد بن
الحنفية والاصاغر من ولده فو صاهم ( 7 ) وكان في آخر وصيته : يا بني عاشروا الناس
عشرة إن غبتم حنوا إليكم وإن فقدتم بكوا عليكم ، يا بني إن القلوب جند ( 8 )
مجندة تتلاحظ بالمودة وتتناجى بها ، وكذلك هي في البغض ، فإذا أحسستم من
*
_________________________________________________________
ص 253 ) ( 1 ) في المصدر : وقعد مقدار التشهد .
( 2 ) كذا في ( ك ) .
وفي غيره من النسخ " جننى " .
وفي المصدر : اجننى .
( 3 ) الرابية : ما ارتفع من الارض .
( 4 ) في المصدر : الشقاوة .
( 5 ) " : فقفوته .
( 6 ) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2 : 2 و 3 .
( 7 ) في المصدر : فوصى لهم .
( 8 ) " ، جنود .
*
[254]
أحد في قلبكم شيئا فاحذروه ( 1 ) .
56 - د : قال الواقدي : آخر كلمة قالها أميرالمؤمنين عليه السلام : يا بني إذا
مت فالحقوابي ابن ملجم لعنه الله اخاصمه عند رب العالمين ، ثم قرأ : " فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( 2 ) " ولما توفي عليه السلام غسله
ابناه الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر ، وقيل : محمد بن الحنفية ، وقيل : إنه لم
يغسل لانه سيد الشهداء ، قيل : كفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا
عمامة وكان عنده من بقايا حنوط رسول الله صلى الله عليه واله ، فحنطوه بها ، وصلى عليه ولده
الحسن عليه السلام ، وكبر عليه خمسا ، وقيل : ستا ، وقيل ، سبعا ( 3 ) .
57 - نهج : من كلام له عليه السلام قبيل موته على سبيل الوصية :
وصيتي لكم أن تشركوا بالله شيئا ، ومحمد صلى الله عليه واله فلا تضيعوا سنته ، أقيموا
هذين العمودين ، وخلاكم ذم ، أنا بالامس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغدا مفارقكم
إن أبق فأنا ولي دمي وإن أفن فالفناء ميعادي ، وإن أعف فالعفولي قربة وهو لكم
حسنة ، فاعفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ والله ما فجأني من الموت وارد كرهته
ولا طالع أنكرته ، وما كنت إلا كقارب ورد وطالب وجد ، وما عندالله خير للابرار .
وقد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب ، إلا أن فيه ههنا زيادة
أو جبت تكراره .
ومن وصية له عليه السلام بما يعمل في أمواله كتبها بعد منصرفه من صفين :
هذا ما أمر به عبدالله علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين في ماله ابتغاء وجه
-بحار الانوار مجلد: 38 من ص 254 سطر 19 الى ص 262 سطر 18
الله ، ليولجني به الجنة ويعطيني الامنة منها ، وإنه يقوم بذلك الحسن بن علي
يأكل منه بالمعروف وينفق منه في المعروف ، فإن حدث بحسن حدث وحسين حي
*
_________________________________________________________
ص 254 ) ( 1 ) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2 : 75 .
وفيه ، فاذا احببتم الرجل من غير خير سبق
منه اليكم فارجوه ، فاذا ابغضتم الرجل من غير سوء سبق منه اليكم فاحذروه .
( 2 ) سورة الزلزال : 7 و 8 .
( 3 ) مخطوط .
*
[255]
قام بالامر بعده ، وأصدر مصدره ، وإن لابني فاطمة ( 1 ) من صدقة علي مثل الذي لبني
علي ، وإني إنما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله وقربة إلى
رسول الله صلى الله عليه واله وتكريما لحرمته وتشريفا لوصلته ، ويشترط على الذي يجعله إليه
أن يترك المال على اصوله وينفق من ثمره حيث امر به وهدي له ، وأن لا يبيع من
أولاد نخيل هذه القرى ودية حتى تشكل أرضها غراسا ، ومن كان من إمائي اللاتي
أطوف عليهن لها ولد أو هي حامل فتمسك على ولدها وهي حظه ، فإن مات ولدها
وهي حية فهي عتيقة ، قد أفرج عنها الرق وحررها ( 2 ) العتق .
قوله عليه السلام في هذه الوصية : " وأن لا يبيع من نخلها ودية " الودية : الفسيلة
وجمعها ودي .
وقوله عليه السلام : " حتى تشكل أرضها غراسا " هو من أفصح الكلام ، والمراد به
أن الارض يكثر فيها غرائس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي
عرفها بها ، فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها ( 3 ) .
بيان : قال الجزري في حديث علي عليه السلام : " خلاكم ذم مالم تشردوا " يقال
افعل ذلك وخلاك ذم ، أي اعذرت وسقط عنك الذم ( 4 ) .
قال ابن أبي الحديد : لقائل أن يقول : إذا أوصاهم بالتوحيد واتباع سنة
النبي صلى الله عليه واله فقد دخل فيهما جميع ما يجب أن يفعل ، ففي أي شئ يقول " وخلاكم
ذم " ؟ والجواب أن كثيرا من الصحابة والتابعين كانوا قد كلفوا أنفسهم امورا
شاقة جدا ، فمنهم من كان يقوم الليل كله ، ومنهم من كان يصوم الدهر كله ، ومنهم
تارك النكاح ، و منهم تارك المطاعم والملابس ، وكانوا يتفاخرون بذلك ويتنافسون ،
فأراد عليه السلام أن المهم الاعظم القيام بالتوحيد والسنن المؤكدة المعلومة من دين محمد
*
_________________________________________________________
ص 255 ) ( 1 ) في المصدر : لبنى فاطمة .
( 2 ) في ( ك ) : وحضرها .
( 3 ) نهج البلاغة ( عبده ط مصر ) 2 : 21 - 23 .
( 4 ) النهاية 1 : 319 .
*
[256]
صلى الله عليه وآله ولا عليكم بالاخلال بما عدا ذلك ( 1 )
وقال الخليل : القارب : طالب الماء ليلا .
قوله عليه السلام : " بالمعروف " أي من
غير إسراف وتقتير .
قوله : " في المعروف " أي في وجوه البر ، والضمير في قوله :
" مصدره " إما راجع إلى الامر أو إلى الحسن عليه السلام .
قوله عليه السلام : " أن يترك المال
على اصوله " كناية عن عدم إخراجه ببيع أو هبة أو غيرهما من وجوه الاملاك .
و
الودية : النخلة الصغيرة .
78 - نهج : من وصيته للحسن والحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله و
أخزاه :
اوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شئ منها
زوي عنكما ، وقولا بالحق واعملا للآخرة ( 2 ) وكونا للظالم خصماو للمظلوم عونا .
اوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح
ذات بينكم ، فإني سمعت جدكما صلى الله عليه واله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة
الصلاة والصيام ، الله الله في الايتام فلا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم ، والله
الله في جيرانكم فإنه وصية نبيكم ، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم
والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غير كم ، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم
والله الله في بيت ربكم لا تخلوه مابقيتم ، فإنه إن ترك لم تناظروا ، والله الله في الجهاد
بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإياكم
والتدابر والتقاطع ، لا تتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم
أشراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم .
ثم قال : يا بني عبدالمطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون :
قتل أميرالمؤمنين ، ألا لا يقتلن ( 3 ) بي إلا قاتلي ، انظروا إذا أنامت من ضربته هذه
*
_________________________________________________________
ص 256 ) ( 1 ) شرح النهج 3 : 647 و 648 .
وقد نقله ملخصا .
( 2 ) في المصدر : للاجر .
( 3 ) في المصدر : لا تقتلن .
*
[257]
فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول :
إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ( 1 ) .
بيان : بغاه : طلبه .
وزواه عنه : قبضه وصرفه .
قوله عليه السلام : " الله الله " أي
اتقوا الله واذكروا الله .
قوله عليه السلام : " فلا تغبوا أفواههم " أي لا تجيعوهم بأن
تطعموهم يوما وتتركوهم يوما .
وروي " فلا تغيروا أفواههم " والمعنى واحد ،
فإن الجائع يتغير فمه .
قوله عليه السلام : " فإنه وصية نبيكم " الحمل للمبالغة ، أي
أوصاكم فيهم .
وألفاه : وجده .
وقال الجزري : يقال : مثلت بالحيوان إذا قطعت أطرافه وشوهت به ، و
مثلت بالقتيل إذا جدعت أنفه واذنه ومذاكيره أو شيئا من أطرافه ، فأما مثل -
بالتشديد - للمبالغة ( 2 ) .
تذنيب : سئل الشيخ المفيد قدس الله روحه في المسائل العكبرية : الامام
عندنا مجمع على أنه يعلم ما يكون ، فما بال أميرالمؤمنين عليه السلام خرج إلى المسجد
وهو يعلم أنه مقتول وقد عرف قاتله والوقت والزمان ؟ وما بال الحسن بن علي
عليهما السلام سار إلى الكوفة وقد علم أنهم يخذلونه ولا ينصرونه وأنه مقتول في سفرته
تبك ؟ ولم لما حصروا وعرف أن الماء قد منع منه وأنه إن حفر أذرعا قريبة نبع
الماء ولم يحفر وأعان على نفسه حتى تلف عطشا ؟ والحسن عليه السلام وادع معاوية و
هادنه وهو يعلم أنه ينكث ولا يفي ويقتل شيعة أبيه عليه السلام ، فأجاب الشيخ رحمه الله
عنها بقوله :
وأما الجواب عن قوله : " إن الامام يعلم ما يكون " فإجماعنا أن الامر
على خلاف ما قال ، وما أجمعت الشيعة على هذا القول ، وإنما إجماعهم ثابت على
أن الامام يعلم الحكم في كل ما يكون دون أن يكون عالما بأعيان مايحدث ويكون
على التفصيل والتمييز ، وهذا يسقط الاصل الذي بنى عليه الاسولة بأجمعها ، ولسنا
*
_________________________________________________________
ص 257 ) نهج البلاغة 2 : 78 - 80 .
( 2 ) النهاية 4 : 77 .
*
[258]
نمنع أن يعلم الامام أعيان ما يحدث ويكون ( 1 ) بإعلام الله تعالى ( له ) ذلك ، فأما
القول بأنه يعلم كل ما يكون فلسنا نطلقه ولا نصوب قائله ، لدعواه فيه من غير
حجة ولا بيان ، والقول : بأن أميرالمؤمنين عليه السلام كان يعلم قاتله والوقت الذي
كان يقتل فيه فقد جاء الخبر متظاهرا أنه كان يعلم في الجملة أنه مقتول ، وجاء
أيضا بأنه يعلم قاتله على التفصيل ، فأما علمه بوقت قتله فلم يأت عليه أثر على التحصيل
ولوجاء به أثر لم يلزم فيه ما يظنه المعترضون ، إذ كان لا يمتنع أن يتعبده الله تعالى
بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل ، ليبلغه بذلك علو الدرجاب مالا يبلغه إلا
به ، ولعلمه بأنه يطيعه في ذلك طاعة لو كلفها سواه لم يردها ، ولا يكون بذلك أمير -
المؤمنين عليه السلام ملقيا بيده إلى التهلكة ، ولا معينا على نفسه معونة تستقبح في العقول .
وأما علم الحسين عليه السلام بأن أهل الكوفة خاذلوه ، فلسنا نقطع على ذلك ، إذ
لا حجة عليه من عقل ولا سمع ، ولو كان عالما بذلك لكان الجواب عنه ما قد مناه
في الجواب عن علم أميرالمؤمنين عليه السلام بوقت قتله ومعرفة قاتله كما ذكرناه .
و
أما دعواه علينا أنا نقول : إن الحسين عليه السلام كان عالما بموضع الماء قادرا عليه ، فلسنا
نقول ذلك ، ولا جاء به خبر ، على أن طلب الماء والاجتهاد فيه يقضي بخلاف ذلك
ولو ثبت أنه كان عالما بموضع الماء يمتنع في العقول أن يكون متعبدا بترك السعي
في طلب الماء من حيث كان ممنوعا منه حسب ما ذكرناه في أميرالمؤمنين عليه السلام ، غير
أن ظاهر الحال بخلاف ذلك على ما قد مناه .
والكلام في علم الحسن عليه السلام بعاقبة موادعته معاوية بخلاف ما تقدم ، وقد
جاء الخبر بعلمه بذلك ، وكان شاهد الحال له يقضي به ، غير أنه دفع به عن تعجيل
قتله وتسليم أصحابه له إلى معاوية ، وكان في ذلك لطف في بقائه إلى حال مضيه
ولطف لبقاء كثير من شيعته وأهله وولده ، ودفع فساد في الدين هو أعظم من الفساد
الذي حصل عند هدنته ، وكان عليه السلام أعلم بما صنع لما ذكرناه وبينا الوجوه فيه
*
_________________________________________________________
ص 258 ) ( 1 ) أى يكون علمه .
*
[259]
انتهى كلامه رفع الله مقامه .
أقول : وسأل السيد مهنا بن سنان العلامة الحلي نور الله ضريحه عن مثل
ذلك في أميرالمؤمنين عليه السلام فأجاب بأنه يحتمل أن يكون عليه السلام اخبر بوقوع القتل
في تلك الليلة ، ولم يعلم في أي وقت من تلك الليلة أوأي مكان يقتل ، وأن تكليفه
عليه السلام مغاير لتكليفنا ، فجاز أن يكون بذل مهجته الشريفة في ذات الله تعالى ، كما
يجب على المجاهد الثبات ، وإن كان ثباته يفضي إلى القتل .
تذييل : رأينا في بعض الكتب القديمة رواية في كيفية شهادته عليه السلام أوردنا
منه شيئا مما يناسب كتابنا هذا على وجه الاختصار ، قال : روى أبوالحسن علي بن
عبدالله بن محمد البكري ، عن لوط بن يحيى ، عن أشياخه وأسلافه قالوا : لما توفي
عثمان وبايع الناس أميرالمؤمنين عليه السلام كان رجل يقال له حبيب بن المنتجب واليا
على بعض أطراف اليمن من قبل عثمان ، فأقره علي عليه السلام على عمله ، وكتب إليه
كتابا يقول فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب إلى حبيب
ابن المنتجب ، سلام عليك ، أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو ، واصلي
على محمد عبده ورسوله ، وبعد فإني وليتك ما كنت عليه لمن كان من قبل ، فأمسك ( 1 )
على عملك ، وإني اوصيك بالعدل في رعيتك ، والاحسان إلى أهل مملكتك ، واعلم
ان من ولي علي رقاب عشرة من المسلمين ولم يعدل بينهم حشره الله يوم القيامة و
يداه مغلولتان إلى عنقه ، لا يفكها إلا عدله في دار الدنيا ، فإذا ورد عليك كتابي هذا
فاقرأه على من قبلك من أهل اليمن ، وخذلي البيعة على من حضرك من المسلمين
فإذا بايع القوم مثل بيعة الرضوان فامكث في عملك ، وأنفذ إلي منهم عشرة يكونون
من عقلائهم وفصحائهم وثقاتهم ، ممن يكون أشد هم عونا من أهل الفهم والشجاعة
*
_________________________________________________________
ص 259 ) ( 1 ) في ( خ ) و ( م ) : فامكث .
*
[260]
عارفين بالله ، عالمين بأديانهم ، وما لهم وما عليهم ، وأجودهم رأيا ، وعليك وعليهم السلام .
وطوى الكتاب وختمه وأرسله مع أعرابي ، فلما وصل إليه قبله ووضعه
على عينيه ورأسه ، فلما قرأه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد و
آله ثم قال : أيها الناس اعلموا أن عثمان قد قضى نحبه ، وقد بايع الناس من بعده
العبد الصالح والامام الناصح أخا رسول الله صلى الله عليه واله وخليفته ، وهو أحق بالخلافة
وهو أخو رسول الله صلى الله عليه واله وابن عمه ، وكاشف الكرب عن وجهه ، وزوج ابنته و
وصيه ، وأبوسبطيه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فما تقولون في بيعته و
الدخول في طاعته ؟ قال : فضج الناس بالبكاء والنحيب ، وقالوا : سمعا وطاعة
وحبا وكرامة لله ولرسوله ولاخي رسوله ، فأخذله البيعة عليهم عامة ، فلما
بايعوا قال لهم : اريد منكم عشرة من رؤسائكم وشجعانكم انفذ هم إليه كما أمرني
به ، فقالوا : سمعا وطاعة ، فاختار منهم مائة ثم من المائة سبعين ، ثم من السبعين
ثلاثين ، ثم من الثلاثين عشرة فيهم عبدالرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله ، وخرجوا
من ساعتهم ، فلما أتوه عليه السلام سلموا عليه وهنؤوه بالخلافة ، فرد عليهم السلام و
رحب بهم ، فتقدم ابن ملجم وقام بين يديه وقال : السلام عليك أيها الامام العادل
والبدر التمام ، والليث الهمام ، والبطل الضرغام ، والفارس القمقام ، ومن فضله
الله على سائر الانام ، صلى الله عليك وعلى آلك الكرام ، أشهد أنك أميرالمؤمنين
صدقا وحقا ، وأنك وصي رسول الله صلى الله عليه واله والخليفة من بعده ، ووارث علمه ،
لعن الله من جحد حقك ومقامك ، أصبحت أميرها وعميدها ، لقد اشتهر بين البرية
عدلك ، وهطلت شآبيب ( 1 ) فضلك وسحائب رحمتك ورأفتك عليهم ، ولقد أنهضنا
الامير إليك ، فسررنا بالقدوم عليك ، فبوركت بهذه الطلعة المرضية ، وهنئت
بالخلافة في الرعية .
ففتح أميرالمؤمنين عليه السلام عينيه في وجهه ، ونظر إلى الوفد فقر بهم وأدناهم
*
_________________________________________________________
ص 260 ) ( 1 ) هطل أى نزل متتابعا .
والشآبيب جمع الشؤبوب : الدفعة من المطر واول ما يظهر
من الحسن .
*