[261]
فلما جلسوا دفعوا إليه الكتاب ، ففضه وقرأه وسر بما فيه ، فأمر لكل واحد
منهم بحلة يمانية ورداء عدنية وفرس عربية ، وأمر أن يفتقدوا ويكرموا ، فلما
نهضوا قام ابن ملجم ووقف بين يديه وأنشد :
أنت الميهمن والمهذب ذوالندى * وابن الضراغم في الطراز الاول
الله خصك يا وصي محمد * وحباك فضلا في الكتاب المنزل
وحباك بالزهراء بنت محمد * حورية بنت النبي المرسل
ثم قال : يا أميرالمؤمنين ارم بنا حيث شئت لترى منا ما يسرك ، فوالله ما
فينا إلا كل بطل أهيس ، وحازم أكيس ، وشجاع أشوس ( 1 ) ورثنا ذلك عن الآباء
والاجداد ، وكذلك نورثه صالح الاولاد ، قال : فاستحسن أميرالمؤمنين عليه السلام كلامه
من بين الوفد فقال له : ما اسمك ياغلام ؟ قال : اسمي عبدالرحمن ، قال : ابن من ؟
قال : ابن ملجم المرادي ، قال له : أمرادي أنت ؟ قال : نعم يا أميرالمؤمنين ، فقال
عليه السلام : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال : وجعل أميرالمؤمنين عليه السلام يكرر النظر إليه ويضرب إحدى يديه على الاخرى
ويسترجع ، ثم قال له : ويحك أمرادي أنت ؟ قال : نعم ، فعندها تمثل عليه السلام يقول :
أنا أنصحك مني بالوداد * مكاشفة وأنت من الاعادي
اريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
قال الاصبغ بن نباته : لما دخل الوفد إلى أميرالمؤمنين عليه السلام بايعوه وبايعه
ابن ملجم ، فلما أدبر عنه دعاه أميرالمؤمنين عليه السلام ثانيا ، فتوثق منه بالعهود و
المواثيق أن لا يغدر ولا ينكث ففعل ، ثم سار عنه ، ثم استدعاه ثالثا ثم توثق منه
فقال ابن ملجم : يا أميرالمؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري ، فقال : امض
لشأنك فما أراك تفي بما بايعت عليه ، فقال له ابن ملجم : كأنك تكره وفودي
عليك لما سمعته من اسمي ؟ وإني والله لاحب الاقامة معك والجهاد بين يديك ، و
*
_________________________________________________________
ص 261 ) ( 1 ) الاهيس : الشجاع .
الاشوس : الشديد الجرئ في القتال .
*
[262]
إن قلبي محب لك ، وإني والله اوالي وليك واعادي عدوك ، قال : فتبسم عليه السلام
وقال له : بالله يا أخا مراد إن سألتك عن شئ تصدقني فيه ؟ قال : إي وعيشك يا
أميرالمؤمنين ، فقال له : هل كان لك داية يهودية فكانت إذا بكيت تضربك وتلطم
جبينك وتقول لك اسكت فإنك أشقى من عاقر ناقة صالح وإنك ستجني في
كبرك جناية عظيمة يغضب الله بها عليك ويكون مصيرك إلى النار ؟ فقال : قد كان
ذلك ، ولكنك والله يا أميرالمؤمنين أحب إلي من كل أحد ، فقال أميرالمؤمنين
عليه السلام : والله ما كذبت ولا كذبت ، ولقد نطقت حقا وقلت صدقا ، وأنت والله
قاتلي لا محالة ، وستخضب هذه من هذه - وأشار إلى لحيته ورأسه - ولقد قرب وقتك
وحان زمانك ، فقال ابن ملجم : والله يا أميرالمؤمنين إنك أحب إلي من كل ما
طلعت عليه الشمس ، ولكن إذا عرفت ذلك مني فسيرني إلى مكان تكون ديارك
من دياري بعيدة ، فقال عليه السلام : كن مع أصحابك حتى آذن لكم بالرجوع إلى
بلادكم ، ثم أمرهم بالنزول في بني تميم ، فأقاموا ثلاثة أيام ، ثم أمرهم بالرجوع
إلى اليمن ، فلما عزموا على الخروج مرض ابن ملجم مرضا شديدا ، فذهبوا وتركوه
فلما برئ أتى أمير المؤمنين عليه السلام وكان لايفارقه ليلا ولا نهارا ، ويسارع في قضاء
حوائجه ، وكان عليه السلام يكرمه ويدعوه إلى منزله ويقربه ، وكان مع ذلك يقول
له : أنت قاتلي ، ويكرر عليه الشعر :
اريد حياته ويريد قتلي * عزيرك من خليلك من مراد
فيقول له : يا أميرالمؤمنين إذا عرفت ذلك مني فاقتلني ، فيقول : إنه لا يحل
-بحار الانوار مجلد: 38 من ص 262 سطر 19 الى ص 270 سطر 18
ذلك أن أقتل رجلا قبل أن يفعل بي شيئا ، وفي خبر آخر قال : إذا قتلتك فمن
يقتلني ؟ قال : فسمعت الشيعة ذلك ، فوثب مالك الاشتر والحارث بن الاعور وغيرهما
من الشيعة ، فجردوا سيوفهم وقالوا : يا أميرالمؤمنين من هذا الكلب الذي تخاطبه
بمثل هذا الخطاب مرارا ؟ وأنت إمامنا وولينا وابن عم نبينا ، فمرنا بقتله ، فقال
لهم : اغمدوا سيوفكم بارك الله فيكم ولا تشقوا عصا هذه الامة ، أترون أني أقتل
[263]
رجلا لم يصنع بي شيئا ؟ فلما انصرف عليه السلام إلى منزله اجتمعت الشيعة وأخبر بعضهم بعضا بما سمعوا
وقالوا : إن أميرالمؤمنين عليه السلام يغلس إلى الجامع ( 1 ) وقد سمعتم خطابه لهذا المرادي
وهو ما يقول إلا حقا ، وقد علمتم عدله وإشفاقه علينا ، ونخاف أن يغتاله هذا
المرادي ، فتعالوا نقترع على أن نحوطه كل ليلة منا قبيلة ، فرقعت القرعة في
الليلة الاولى والثانية والثالثة على أهل الكناس ، فتقلدوا سييوفهم وأقبلوا في ليلتهم
إلى الجامع ، فلما خرج عليه السلام رآهم على تلك الحالة ، فقال : ما شأنكم ؟ فأخبروه
فدعا لهم وتبسم ضاحكا وقال : جئتم تحفظوني من أهل السماء أم من أهل الارض ؟
قالوا : من أهل الارض ، قال : ما يكون شئ في السماء إلا هو في الارض ، وما يكون
من شئ في الارض إلا هو في السماء ، ثم تلا " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ( 2 ) " ثم أمر هم أن يأتوا منازلهم ولا يعودوا لمثلها ، ثم إنه صعد المأذنة وكان إذا تنحنح
يقول السامع : ما أشبهه بصوت رسول الله صلى الله عليه واله ! فتأهب الناس لصلاة الفجر ، و
كان إذا أذن يصل صوته إلى نواحي الكوفة كلها ، ثم نزل فصلى ، وكانت هذه عادته .
قال : وأقام ابن ملجم بالكوفة إلى أن خرج أميرالمؤمنين عليه السلام إلى غزاة
النهروان ، فخرج ابن ملجم معه وقاتل بين يديه قتالا شديدا ، فلما رجع إلى الكوفة
وقد فتح الله على يديه قال ابن ملجم لعنه الله : يا أميرالمؤمنين أتأذن لي أن أتقدمك
إلى المصر لابشر أهله بما فتح الله عليك من النصر ؟ فقال له : ما ترجو بذلك ؟
قال : الثواب من الله والشكر من الناس ، وافرح الاولياء واكمد الاعداء ، فقال
له : شأنك ، ثم أمر له بخلعة سنية وعمامتين وفرسين وسيفين ورمحين ، فسار ابن
ملجم ودخل الكوفة ، وجعل يخترق أزقتها وشوارعهاو هو يبشر الناس بما فتح
الله على أميرالمؤمنين عليه السلام وقد دخله ( 3 ) العجب في نفسه ، فانتهى به الطريق إلى
*
_________________________________________________________
ص 263 ) ( 1 ) الغلس : ظلمة آخر الليل أى يذهب إلى الجامع آخر الليل للعبادة والتهجد .
( 2 ) سورة التوبة : 51 .
( 3 ) في ( م ) و ( خ ) : وقد دخل .
*
[264]
محلة بني تميم فمر على دار تعرف بالقبيلة وهي أعلى دار بها وكانت لقطام بنت سخينة
بن عوف بن تيم اللات ، وكانت موصوفة بالحسن والجمال والبهاء والكمال ، فلما
سمعت كلامه بعثت إليه ( و ) سألته النزول عندها ساعة لتسأله عن أهلها ، فلما قرب
من منزلها وأراد النزول عن فرسه خرجت إليه ، ثم كشفت له عن وجهها وأظهرت
له محاسنها ، فلما رآها أعجبته وهواها من وقته ، فنزل عن فرسه ودخل إليها ، و
جلس في دهليز الدار وقد أخذت بمجامع قلبه ، فبسطت له بساطا ووضعت له متكأ
وأمرت خادمها أن تنزع أخفافه ، وأمرت له بماء فغسل وجهه ويديه ، وقدمت إليه
طعاما ، فأكل وشرب ، وأقبلت عليه تروحه من الحر ، فجعل لا يمل من النظر
إليها ، وهي مع ذلك متبسمة في وجهه ، سافرة له عن نقابها ، بارزة له عن جميع
محاسنها ما ظهر منه وما بطن ! فقال لها : أيتها الكريمة لقد فعلت اليوم بي ما وجب
به بل ببعضه علي مدحك وشكرك دهري كله ، فهل من حاجة أتشرف بها وأسعى في
قضائها ؟ قال : فسألته عن الحرب ومن قتل فيه ، فجعل يخبرها ويقول : فلان قتله الحسن
وفلان قتله الحسين ، إلى أن بلغ قومها وعشيرتها ، وكانت قطام لعنها الله على رأي
الخوارج وقد قتل أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا الحرب من قومها جماعة كثيرة ، منهم أبوها
وأخوها وعمها ، فلما سمعت منه ذلك صرحت باكية ، ثم لطمت خدها وقامت من
عنده ، ودخلت البيت وهي تندبهم طويلا ، قال : فندم ابن ملجم ، فلما خرجت
إليه قالت : يعز علي فراقهم ، من لي بعدهم ؟ أفلا ناصر ينصرني ويأخذلي بثاري
ويكشف عن عاري ؟ فكنت أهب له نفسي وامكنه منها ومن مالي وجمالي ، فرق
لها ابن ملجم وقال لها : غضي صوتك وارفقي بنفسك فإنك تعطين مرادك ، قال :
فسكتت من بكائها وطمعت في قوله ، ثم أقبلت عليه بكلامها وهي كاشفة عن صدرها
ومسبلة شعرها ، فلما تمكن هواها من قلبه مال إليها بكليته ، ثم جذبها إليه و
قال لها : كان أبوك صديقا لي ، وقد خطبتك منه فأنعم لي بذلك ، فسبق إليه الموت
فزوجيني نفسك لآخذ لك بثارك ، قال : ففرحت بكلامه وقالت : قد خطبني الاشراف
[265]
من قومي وسادات عشيرتي فما أنعمت إلا لمن يأخذلي بثاري ، ولما سمعت عنك
أنك تقاوم الاقران وتقتل الشجعان فأحببت أن تكون لي بعلا وأكون لك أهلا
فقال لها : فأنا والله كفو كريم ، فاقترحي علي ما شئت من مال وفعال ، فقالت له :
إن قدمت على العطية والشرط فها أنا بين يديك فتحكم كيف شئت ، فقال لها :
وما العطية والشرط ؟ فقالت له : أما العطية فثلاثة آلاف دينار وعبد وقينة ( 1 ) فقال :
هذا أنا ملي به فما الشرط المذكور ؟ قالت : نم على فراشك حتى أعود إليك .
ثم إنها دخلت خدرها فلبست أفخرثيابها ، ولبست قميصا رقيقا يرى صدرها
وحليها ، وزادت في الحلي والطيب ، وخرجت في معصفرها ، فجعلت تباشره
بمحاسنها ليرى حسنها وجمالها ، وأرخت عشرة ذوائب من شعرها منظومة بالدر و
الجوهر ، فلما وصلت إليه أرخت لثامها عن وجهها ، ورفعت معصفرها وكشفت
عن صدرها وأعكانها ( 2 ) وقالت : إن قدمت على الشرط المشروط ظفرت بها جميعها ( 3 )
وأنت مسرور مغبوط ، قال : فمد ابن ملجم عينيه إليها فحار عقله وهوى لحينه
مغشيا عليه ساعة ، فلما أفاق قال : يامنية النفس ما شرطك فاذكريه لي ؟ فإني
سأفعله ولو كان دونه قطع القفار وخوض البحار وقطع الرؤوس واختلاس النفوس
قالت له الملعونة : شرطي عليك أن تقتل علي بن أبي طالب عليه السلام بضربة واحدة بهذا
السيف في مفرق رأسه ، يأخذ منه ما يأخذ ويبقى مايبقى ، فلما سمع ابن ملجم
كلامها استرجع ورجع إلى عقله وأغاظه وأفلقه ، ثم صاح بأعلى صوته : ويحك
ما هذا الذي واجهتني به ؟ بئس ما حدثتك به نفسك من المحال ، ثم طأطأ رأسه
يسيل عرقا وهو متفكر ( 4 ) في أمره ، ثم رفع رأسه إليها وقال لها : ويلك من يقدر
على قتل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ؟ المجاب الدعاء ، المنصور من السماء ، و
*
_________________________________________________________
ص 265 ) ( 1 ) القينة : الامة المغنية الماشطة .
( 2 ) الاعكان جمع العكنة : ما انطوى وتثنى من لحم البطن .
( 3 ) في ( م ) و ( خ ) : بهذا جميعه .
( 4 ) " " : مفتكر .
*
[266]
الارض ترجف من هيبته ، والملائكة تسرع إلى خدمته ، يا ويلك ومن يقدر على
قتل علي بن أبي طالب وهو مؤيد من السماء ؟ والملائكة تحوطه بكرة وعشية ،
ولقد كان في أيام رسول الله صلى الله عليه واله إذا قاتل يكون جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن
يساره وملك الموت بين يديه ، فمن هو هكذا لا طاقة لاحد بقتله ، ولا سبيل لمخلوق
على اغتياله ، ومع ذلك إنه قد أعزني وأكرمني وأحبني ورفعني وآثرني على
غيري ، فلا يكون ذلك جزاؤه مني أبدا ، فإن كان غيره قتلته لك شر قتلة ولو كان
أفرس أهل زمانه ، وأما أميرالمؤمنين فلا سبيل لي عليه .
قال فصبرت عنه سكن غيظه ودخلت معه في الملاعبة ( 1 ) والملاطفة ، و
علمت أنه قد نسي ذلك القول ، ثم قالت : يا هذا ما يمنعك من قتل علي بن أبي طالب
وترغب في هذا المال وتتنعم بهذا الجمال ؟ وما أنت بأعف وأزهد من الذين قاتلوه
وقتلهم ، وكانوا من الصوامين والقوامين ، فلما نظروا إليه وقد قتل المسلمين ظلما
وعدوانا اعتزلوه وحاربوه ، ومع ذلك فإنه قد قتل المسلمين وحكم بغير حكم الله
وخلع نفسه من الخلافة وإمرة المؤمنين ، فلما رأوه قومي على ذلك اعتزلوه ، فقتلهم
بغير حجة له عليهم ، فقال لها ابن ملجم : يا هذه كفي عني ، فقد أفسدت علي
ديني ، وأدخلت الشك في قلبي ، وما أدري ما أقول لك وقد عزمت على رأي ،
ثم أنشد :
ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلا من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
فأقسمت بالبيت الحرام ومن أتى * إليه جهارا من محل ومحرم
لقد أفسدت عقلي قطام وإنني * لمنها على شك عظيم مذمم
لقتل علي خير من وطئ الثرى * أخي العلم الهادي النبي المكرم
ثم أمسك ساعة وقال : *
_________________________________________________________
ص 266 ) ( 1 ) كذا في ( ك ) .
وفي غيره من النسخ : المداعبة .
*
[267]
فلم أرمهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلا من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
فاقسم بالبيت الحرام ومن أتى * إليه جهارا من محل ومحرم
لقد خاب من يسعى بقتل إمامه * وويل له من حر نار جهنم
إلى آخر ما أنشد من الابيات ، ثم قال لها : أجليني ليلتي هذه حتى أنظر
في أمري وآتيك غدا بما يقوى عليه عزمي ، فلما هم بالخروج أقبلت إليه وضمته
إلى صدرها ، وقبلت ما بين عينيه وأمرته بالاستعجال في أمرها ، وسايرته إلى باب
الدار وهي تشجعه ، وأنشدت له أبياتا ، فخرج الملعون من عندها وقد سلبت فؤاده
وأذهبت رقاده ورشاده ، فبات ليلته قلقا متفكرا ، فمرة يعاتب نفسه ومرة يفكر
في دنياه وآخرته ، فلما كان وقت السحر أتاه طارق فطرق الباب ، فلما فتحه إذا
برجل من بني عمه على نجيب ، وإذا هو رسول من إخوته إليه يعزونه في أبيه وعمه
ويعرفونه أنه خلف مالا جزيلا ، وأنهم دعوه سريعا ليحوز ذلك المال ، فلما
سمع ذلك بقي متحيرا في أمره ، إذ جاءه ما يشغله عما عظم عليه من أمر قطام ، فلم
يزل مفكرا في أمره حتى عزم على الخروج ، وكان له أخوان لابيه وامه ، وامه
كانت من زبيد يقال لها عدنية ، وهي ابنة أبي علي بن ماشوج ، وكان أبوه مراديا
وكانوا يسكنون عجران صنعاء ، فلما وصل إلى النجف ذكر قطام ومنزلتها في قلبه
ورجع إليها ، فلما طرق الباب أطلعت عليه وقالت : من الطارق ؟ فعرفته على حالة
السفر ، فنزلت إليه وسلمت عليه وسألته عن حاله ، فأخبرها بخبره ووعدها بقضاء
حاجتها إذا رجع من سفره ، وتملكها جميع مايجئ به من المال ، فعدلت عنه مغضبة
فدنا منها وقبلها وودعها ، وحلف لها أنه يبلغها مأمولها في جميع ما سألته ، فخرج
وجاء إلى أميرالمؤمنين عليه السلام وأخبره بما جاؤوا إليه لاجله ، وسأله أن يكتب إلى
ابن المنتجب كتابا ليعينه على استخلاص حقه ، فأمر كاتبه فكتب له ما أراد ، ثم
[268]
أعطاه فرسا من جياد خيله ، فخرج وسار سيرا حثيثا حتى وصل إلى بعض أودية
اليمن ، فأظلم عليه الليل ، فبات في بعضها ، فلما مضى من الليل نصفه وإذا هو بزعقة
عظيمة من صدر الوادي ، ودخان يفور ونار مضرمة ، فانزعج لذلك وتغير لونه ، و
نظر إلى صدر الوادي وإذا بالدخان قذ أقبل كالجبل العظيم ، وهو واقع عليه ، و
النار تخرج من جوانبه ، فخر مغشيا عليه ، فلما أفاق وإذا بهاتف يسمع صوته
ولا يرى شخصه وهو يقول :
اسمع وع القول يا ابن ملجم * إنك في أمر مهول معظم
تضمر قتل الفارس المكرم * أكرم من طاف ولبى وأحرم
ذاك علي ذو التقاء الاقدم * فارجع إلى الله لكيلا تندم
فلما سمع توهم أنه من طوارق الجن ، وإذا بالهاتف يقول :
يا شقي ابن الشقي أما ما أضمرت من قتل الزاهد العابد العادل الراكع
الساجد إمام الهدى وعلم التقى والعروة الوثقى فإنا علمنا بما تريد أن تفعله بأمير -
المؤمنين ، ونحن من الجن الذين أسلمنا على يديه ، ونحن نازلون بهذا الوادي ،
فإنا لا ندعك تبيت فيه ، فإنك ميشوم على نفسك ، ثم جعلوا يرمونه بقطع الجنادل
فصعد فوق شاهق فبات بقية ليله ، فلما أصبح سار ليلا ونهارا حتى وصل اليمن ،
وأقام عندهم شهرين وقلبه على حر الجمر من أجل قطام ، ثم إنه أخذ الذي أصابه
من المال والمتاع والاثاث والجواهر وخرج ، فبينا هو في بعض الطريق إذ خرجت
علبه حرامية فسايرهم وسايروه ، فلما قربوا من الكوفة حاربوه وأخذوا جميع ما
كان معه ، ونجا بنفسه وفرسه وقليل من الذهب على وسطه وما كان تحته ، فهرب
على وجهه حتى كاد أن يهلك عطشا ، وأقبل سائرا في الفلاة مهموما جائعا عطشانا ،
فلاح له شبح فقصده ، فإذا بيوت من أبيات الحرب ، فقصد منها بيتا فنزل عندهم ،
واستسقاهم شربة ماء فسقوه ، وطلب لبنا فأتوه به ، فنام ساعة ، فلما استيقظ أتاه
رجلان وقدما إليه طعاما فأكل وأكلا معه ، وجعلا يسألانه عن الطريق فأخبرهما ،
ثم قالا له : ممن الرجل ؟ قال : من ( بني ) مراد ، قال : أين تقصد ؟ قال : الكوفة ،
[269]
فقالا له : كأنك من أصحاب أبي تراب ؟ قال : نعم ، فاحمرت أعينهما غيظا ، وعزما
على قتله ليلا ، وأسرا ذلك ونهضا ، فتبين له ما عزما عليه وندم على كلامه ، فبينما
هو متحير إذ أقبل كلبهم ونام قريبا منهم ، فأقبل اللعين يمسح بيده على الكلب و
يشفق عليه ويقول : مرحبا بكلب قوم أكرموني ، فاستحسنا ذلك وسألاه : ما اسمك
قال : عبدالرحمن بن ملجم ، فقالا له : ما أردت بصنعك هذا في كلبنا ؟ فقال : أكرمته
لاجلكم حيث أكرمتموني ، فوجب علي شكر كم ، وكان هذا منه خديعة ومكرا ،
فقالا الله أكبر الآن والله وجب حقك علينا ، ونحن نكشف لك عما في ضمائرنا ، نحن قوم نرى رأي الخوارج ، وقد قتل أعمامنا وأخوالنا وأهالينا كما علمت ، فلما
أخبرتنا أنك من أصحابه عزمنا على قتلك في هذه الليلة ، فلما رأينا صنعك هذا
بكلبنا صفحنا عنك .
ونحن الآن نطلعك على ما قد عزمنا عليه ، فسألهما عن أسمائهما
فقال أحدهما : أنا البرك بن عبدالله التميمي وهذا عبدالله بن عثمان العنبري صهري
وقد نظرنا إلى ما نحن عليه في مذهبنا ( 1 ) فرأينا أن فساد الارض والامة كلها من
ثلاثة نفر ، أبوتراب ومعاوية وعمرو بن العاص ، فأما أبوتراب فإنه قتل رجالنا كما
رأيت ، وافتكرنا أيضا في الرجلين معاوية وابن العاص وقد وليا علينا هذا الظالم
الغشوم بشر بن أرطاة ، يطرقنا في كل وقت ويأخذ أموالنا ، وقد عزمنا على قتل
هؤلاء الثلاثة ، فإذا قتلناهم توطأت الارض ، وأقعد الناس لهم إماما يرضونه ، فلما
سمع ابن ملجم كلامهما صفق بإحدى يديه على الاخرى وقال : والذي فلق الحبة
وبرأ النسمة وتردى بالعظمة إني لثالثكما ، وإني مرافقكما على رأيكما وإني ( 2 ) أكفيكما أمر علي بن أبي طالب ، فنظرا إليه متعجبين من كلامه ، قال : والله ما أقول
لكما إلا حقا ، ثم ذكر لهما قصته ، فلما سمعا كلامه عرفا صحته وقالا : إن قطام
من قومنا ، وأهله كانوا من عشيرتنا ، فنحن نحمدالله على اتفاقنا ، فهذا لايتم إلا
_________________________________________________________
ص 269 ) ( 1 ) في ( م ) و ( خ ) : من مذهبنا .
( 2 ) في ( م ) و ( خ ) : وأنا .
*
[270]
بالايمان المغلظة ، فنركب الآن مطايانا ونأتي الكعبة ونتعاقد عندها على الوفاء ،
فلما أصبحوا وركبوا حضر عندهم بعض قومهم فأشاروا عليهم وقالوا : لا تفعلوا ذلك
فما منكم أحد إلا ويندم ندامة عظيمة ، فلم يقبلوا وساروا جميعا حتى أتوا البيت و
تعاهدوا عنده ، فقال البرك : أنا لعمروبن العاص ، وقال العنبري : أنا لمعاوية ، وقال
ابن ملجم لعنه الله : أنا لعلي ، فتحالفوا على ذلك ( 1 ) بالايمان المغلظة ، ودخلوا
المدينة وحلفوا عند قبر النبي صلى الله عليه واله على ذلك ، ثم افترقوا وقد عينوا يوما معلوما
يقتلون فيه الجميع ، ثم سار كل منهم على طريقه ، فأما البرك فأتى مصر ودخل
الجامع وأقام فيه أياما ، فخرج عمرو بن العاص ذات يوم إلى الجامع وجلس فيه بعد
صلاته ، فجاء البرك إليه وسلم عليه ، ثم حادثه في فنون الاخبار وطرف الكلام و
الاشعار ، فشعف به عمرو بن العاص وقربه وأدناه ، وصار يأكل معه على مائدة واحدة
فأقام إلى الليلة التي تواعدوا فيها ، فخرج إلى نيل مصر وجلس مفكرا ، فلما
غربت الشمس أتى الجامع وجلس فيه ، فلما كان وقت الافطار افتقده عمروبن
العاص فلم يره ، فقال لولده : ما فعل صاحبنا وأين مضى فأني لا أراه ؟ فبعثه إليه
يدعوه فقال : قل له : إن هذه الليلة ليست كالليالي ، وقد أحببت أن اقيم ليلتي هذه
في الجامع رغبة فيما عندالله ، واحب أن أشرك الامير في ذلك ، فلما رجع إليه و
أخبره بذلك سره سرورا عظيما وبعث إليه مائدة فأكل وبات ليلته ينتظر قدوم عمرو
وكان هو الذي يصلي بهم ، فلما كان عند طلوع الفجر أقبل المؤذن إلى باب عمرو ، وأذن و
قال : الصلاة يرحمك الله الصلاة ، فانتبه فاتي بالماء وتوضأ وتطيب وذهب ليخرج إلى
-بحار الانوار مجلد: 38 من ص 270 سطر 19 الى ص 278 سطر 18
الصلاة فزلق ( 2 ) فوقع على جنبه فاعتوره عرق النساء فأشغلته عن الخروج فقال : قدموا
خارجة بن تميم القاضي يصلي بالناس ، فأتى القاضى ودخل المحراب في غلس فجاء البرك
فوقف خلفه وسيفه تحت ثيابه ، وهو لا يشك أنه عمرو ، فأمهله حتى سجدو جلس
*
_________________________________________________________
ص 270 ) ( 1 ) في ( ك ) : في ذلك .
( 2 ) زلقت القدم : زلت ولم تثبت .
*