[281]

شبيب بن بحيرة ( 1 ) والآخر وردان بن مجالد ، يساعدانه على قتل علي عليه السلام ، فلما أذن عليه السلام ونزل من المئذنة وجعل يسبح الله ويقدسه ويكبره ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه واله ، قال الراوي : وكان من كرم أخلاقه عليه السلام أنه يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم : الصلاة يرحمك الله الصلاة ، قم إلى الصلاة المكتوبة عليك ، ثم يتلو عليه السلام : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( 2 ) " ففعل ذلك كما كان يفعله على مجاري عادته مع النائمين في المسجد ، حتى إذا بلغ إلى الملعون فرآه نائما على وجهه قال له : يا هذا قم من نومك هذا فإنها نومة يمقتها الله ، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النار ، بل نعم على يمينك فإنها نومة العلماء أو على يسارك فانها نومة الحكماء ، ولا تنم على ظهرك فإنها نومة الانبياء .
قال : فتحرك الملعون كأنه يريد أن يقوم وهو من مكانه لا يبرح فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : لقد هممت بشئ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ، ولو شئت لانبأتك بما تحت ثيابك ، ثم تركه وعدل عنه إلى محرابه ، وقام قائما يصلي ، وكان عليه السلام يطيل الركوع والسجود في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضرا قلبه ، فلما أحس به فنهض الملعون مسرعا وأقبل يمشي حتى و قف بإزاء الاسطوانة التي كان الامام عليه السلام يصلي عليها ، فأمهله حتى صلى الركعة الاولى وركع وسجد السجدة الاولى منها ورفع رأسه ، فعند ذلك أخذ السيف و هزه ، ثم ضربه على رأسه المكرم الشريف ، فوقعت الضربة على الضربة التي ضربه عمرو بن عبدود العامري ، ثم أخذت الضربة إلى مفرق رأسه إلى موضع السجود ، فلما أحس الامام بالضرب لم يتأوه وصبر واحتسب ، ووقع على وجهه وليس عنده أحد قائلا : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ، ثم صاح وقال : قتلني ابن ملجم قتلني اللعين ابن اليهودية ورب الكعبة ، أيها الناس لا يفوتنكم ابن ملجم ، وسار *

_________________________________________________________
ص 281 ) ( 1 ) في ( ت ) : بجرة .
( 2 ) سورة العنكبوت : 45 .
*

[282]

السم في رأسه وبدنه وثار جميع من في المسجد في طلب الملعون ، وماجوا بالسلاح فما كنت أرى إلا صفق الايدي على الهامات وعلوا الصرخات ، وكان ابن ملجم ضربه ضربة خائفا مرعوبا ، ثم ولى هاربا وخرج من المسجد ، وأحاط الناس بأميرالمؤمنين عليه السلام وهو في محرابه يشد الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها ، ثم تلا قوله تعالى : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى ( 1 ) " ثم قال عليه السلام : جاء أمرالله وصدق رسول الله صلى الله عليه واله ثم إنه لما ضربه الملعون ارتجت الارض وماجت البحار والسماوات ، واصطفقت أبواب الجامع ، قال : وضربه اللعين شبيب بن بجرة فأخطأه ووقعت الضربة في الطاق .
قال الراوي : فلما سمع الناس الضجة ثار إليه من كان في المسجد ، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدة الصدمة والدهشة ، ثم أحاطوا بأميرالمؤمنين عليه السلام وهو يشد رأسه بمئزره ، والدم يجري على وجهه ولحيته ، وقد خضبت بدمائه وهو يقول : هذا ما وعدالله ورسوله وصدق الله ورسوله .
قال الراوي : فاصطفقت أبواب الجامع ، وضجت الملائكة في السماء بالدعاء ، وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل عليه السلام بين السماء والارض بصوت يسمعه كل مستيقظ : " تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله نجوم السماء و أعلام التقى ، وانفصمت والله العروة والوثقى ، قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى ، قتل والله سيد الاوصياء ، قتله أشقى الاشقياء " قال : فلما سمعت ام كلثوم نعي جبرئيل فلطمت على وجهها وخدها وشقت جيبها و صاحت : وا أبتاه وا علياه وامحمداه واسيداه ، ثم أقبلت إلى أخويها الحسن والحسين فأيقظتهما وقالت لهما : لقد قتل أبوكما : فقاما يبكيان ، فقال لها الحسن عليه السلام : ياأختاه كفي عن البكاء حتى نعرف صحة الخبر كيلا تشمت الاعداء فخرجا فإذا الناس ينوحون وينادون : وا إماماه وا أميرالمؤمنيناه ، قتل والله إمام عابد مجاهد *

_________________________________________________________
ص 282 ) ( 1 ) سورة طه : 55 .
*

[283]

لم يسجد لصنم ، كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه واله فلما سمع الحسن والحسين عليهما السلام صرخات الناس ناديا : وا أبتاه واعلياه ليت الموت أعدمنا الحياة ، فلما وصلا الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس ، وهم يجتهدون أن يقيموا الامام في المحراب ليصلي بالناس ، فلم يطق على النهوض وتأخر عن الصف وتقدم الحسن عليه السلام فصلى بالناس وأميرالمؤمنين عليه السلام يصلي إيماءا من جلوس ، وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمه الشريف ، يميل تارة ويسكن اخرى ، و الحسن عليه السلام ينادي : وا انقطاع ظهراه يعز والله علي أن أراك هكذا ، ففتح عينه و قال : يا بني لاجزع على أبيك بعداليوم ، هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وامك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك ، فطب نفسا وقرعينا وكف عن البكاء ، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء .
قال : ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس حتى المخدرات خرجن من خدرهن إلى الجامع ينظرن إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ، فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره ، وقد غسل الدم عنه وشد الضربة وهي بعدها تشخب دما ، ووجهه قد زاد بياضا بصفرة ، وهو يرمق السماء بطرفه و لسانه يسبح الله ويوحده ، وهو يقول : " أسألك يا رب الرفيع الاعلى " فأخذ الحسن عليه السلام رأسه في حجره فوجده مغشيا عليه ، فعندها بكى بكاء شديدا وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده ، فسقط من دموعه قطرات على وجه أميرالمؤمنين عليه السلام ، ففتح عينيه فرآه باكيا ، فقال له : يا بني ياحسن ما هذا البكاء ؟ يا بني لاروع على أبيك بعد اليوم ، هذا جدك محمد المصطفى وخديجة وفاطمة والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك ، فطب نفسا وقر عينا ، واكفف عن البكاء فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء ، يا بني أتجزع على أبيك وغدا تقتل بعدي مسموما مظلوما ؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا ، وتلحقان بجد كما وأبيكما و امكما ، فقال له الحسن عليه السلام : يا أبتاه ما تعرفنا من قتلك ومن فعل بك هذا ؟

[284]

قال : قتلني ابن اليهودية عبدالرحمن بن ملجم المرادي ، فقال : يا أباه من أي طريق مضى ؟ قال : لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب - وأشار بيده الشريفة إلى باب كندة - قال : ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه ، ثم اغمي عليه ساعة والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب كندة ، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب ، ويرتقبون قدوم الملعون ، وقد غص المسجد بالعالم ما بين باك ومحزون ، فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت وزمرة من الناس وقد جاؤوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفا ، وهذا يلعنه وهذا يضربه ، قال : فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه ، فأقبلوا باللعين مكتوفا وهذا يلعنه وهذا يضربه ، وهم ينهشون لحمه بأسنانهم ويقولون له : يا عدو الله ما فعلت ؟ أهلكت امة محمد وقتلت خير الناس ، وإنه لصامت وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي ، بيده سيف مشهور ، وهو يرد الناس عن قتله ، وهو يقول : هذا قاتل الامام علي عليه السلام حتى أدخلوه المسجد .
قال الشعبي : كأني أنظر إليه وعيناه قد طارتا في ام رأسه كأنهما قطعتا علق ، وقد وقعت في وجهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه ، والدم يسيل على لحيته وعلى صدره ، وهو ينظر يمينا وشمالا وعيناه قد طارتا في ام رأسه ، وهو أسمر اللون حسن الوجه ، وفي وجهه أثر السجود ! وكان على رأسه شعر أسود منشورا على وجهه كأنه الشيطان الرجيم ، فلما حاذاني سمعته يترنم بهذه الابيات : أقول لنفسي بعد ما كنت أنهاها * وقد كنت أسناها وكنت أكيدها أيا نفس كفي عن طلابك واصبري * ولا تطلبي هما عليك يبيدها فما قبلت نصحي وقد كنت ناصحا * كنصح ولود غاب عنها وليدها فما طلبت إلا عنائي وشقوتي * فياطول مكثي في الجحيم بعيدها فلما جاؤوا به أوقفوه بين يدي أميرالمؤمنين عليه السلام ، فلما نظر إليه الحسن عليه السلام

[285]

قال له : يا ويلك يالعين يا عدو الله أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا إمام المسلمين هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك على غير ؟ وهل كان بئس الامام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي ؟ قال : فلم يتكلم بل دمعت عيناه ! فانكب الحسن عليه السلام على أبيه يقبله ، وقال له : هذا قاتلك ياأباه قد أمكن الله منه ، فلم يجبه وكان نائما ، فكره أن يوقظه من نومه ، ثم التفت إلى ابن ملجم و قال له : يا عدو الله هذا كان جزاؤه منك يوأك وأدناك وقربك وحباك وفضلك على غيرك ؟ هل كان بئس الامام لك حتى جازيته بهذا الجزاء يا شقي الاشقياء ؟ فقال له الملعون : يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في النار ؟ فعند ذلك ضجت الناس بالبكاء والنحيب ، فأمرهم الحسن عليه السلام بالسكوت ، ثم التفت الحسن عليه السلام إلى الذي جاء به حذيفة رضي الله عنه ، فقال له : كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته ؟ فقال : يا مولاي إن حديثي معه لعجيب ، وذلك أني كنت البارجة نائما في داري وزوجتي إلى جانبي وهي من غطفان ، وأنا راقد وهي مستيقظة ، إذ سمعت هي الزعقة وناعيا ينعي أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يقول : " تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله أعلام التقى ، قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل علي المرتضى ، قتله أشقى الاشقياء " فأيقظتني وقالت لي : أنت نائم وقد قتل إمامك علي بن أبي طالب ؟ فانتبهت من كلامها فزعا مرعوبا وقلت لها : يا ويلك ما هذا الكلام رض الله ( 1 ) فاك لعل الشيطان قد ألقى في سمعك هذا أو حلم القي عليك ، يا ويلك إن أميرالمؤمنين ليس لاحد من خلق الله تعالى قبله تبعة ولا ظلامة ، وإنه لليتيم كالاب الرحيم ، وللارملة كالزوج العطوف ، وبعد ذلك فمن ذا الذي يقدر على قتل أميرالمؤمنين وهو الاسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام ؟ فأكثرت علي وقالت : إني سمعت ما *

_________________________________________________________
ص 285 ) ( 1 ) في ( خ ) فض الله .
*

[286]

لم تسمع وعلمت ما لم تعلم ، فقلت لها : وما سمعت ؟ فأخبرتني بالصوت فقالت لي : سمعت ناديا ينادي بأعلى صوته " تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله أعلام التقى ، قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل علي المرتضي ، قتله أشقى الاشقياء " ثم قالت : ما أظن بيتا في الكوفة إلا وقد دخله هذا الصوت ، قال : فبينما أنا وهي في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وضجة عظيمة وقائل يقول : " قتل أميرالمؤمنين " فحس قلبي بالشر ، فمددت يدي إلى سيفي وسللته من غمده وأخذته ، ونزلت مسرعا وفتحت باب داري وخرجت ، فلما صرت في وسط الجادة فنظرت يمينا وشمالا وإذا بعدوالله يجول فيها يطلب مهربا فلم يجد ، وإذا قد انسدت الطرقات في وجهه فلما نظرت إليه وهو كذلك رابني أمره ، فناديته : يا ويلك من أنت ؟ وما تريد لا ام لك في وسط هذا الدرب تمر وتجئ ؟ فتسمى بغير اسمه ، وانتمى إلى غير كنيته فقلت له : من أين أقبلت ؟ قال : من منزلي ، قلت : وإلى تريد تمضي في هذا الوقت ؟ قال : إلى الحيرة ، فقلت : ولم لا تقعد حتى تصلي مع أميرالمؤمنين عليه السلام صلاة الغداة وتمضي في حاجتك ؟ فقاك : أخشى أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي ، فقلت : ياويلك إني سمعت صيحة وقائلا يقول : قتل أميرالمؤمنين عليه السلام فهل عندك من ذلك خبر ؟ قال : لا علم لي بذلك ، فقلت له : ولم لا تمضي معي حتى تحقق الخبر وتمضي في حاجتك ؟ فقال : أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك ، فلما قال لي مثل ذلك القول قلت : يالكع الرجال حاجتك أحب إليك من التجسس لاميرالمؤمنين عليه السلام وإمام المسلمين ؟ وإذا والله يا لكع مالك عند الله من خلاق ،
-بحار الانوار مجلد: 38 من ص 286 سطر 19 الى ص 294 سطر 18 وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به فراغ عني ، فبينما أنا اخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت إزاره ، وإذا بسيفه تحت الازار كأنه مرآة مصقولة فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت : يا ويلك ما هذا السيف المشهور تحت ثيابك ؟

[287]

لعلك أنت قاتل أميرالمؤمنين ؟ فأراد أن يقول : " لا " فأنطق الله لسانه بالحق فقال : " نعم " فرفعت سيفي وضربته ، فرفع هو سيفه وهو أن يعلوني به ، فانحرفت عنه فضربته على ساقيه ، فأوقفته ووقع لحينه ، ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت آخذ سيفه فما نعني عنه ، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتى أوثقته كتافا وجئتك به ، فها هو بين يديك ، جعلني الله فداك فاصنع ما شئت .
فقال الحسن عليه السلام : الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه ، ثم انكب الحسن عليه السلام على أبيه يقبله وقال له : يا أباه هذا عدوالله وعدوك قد أمكن الله منه ، فلم يجبه وكان نائما ، فكره أن يوقظه من نومه ، فرقد ساعة ثم فتح عليه السلام عينيه وهو يقول : ارفقوا بي يا ملائكة ربي فقال له الحسن عليه السلام : هذا عدوالله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك ، قال : ففتح أميرالمؤمنين عليه السلام عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه ، فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة : يا هذا لقد جئت عظيما وارتكبت أمرا عظيما وخطبا جسيما أبئس الامام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في إعطائك ؟ ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ؟ ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يالكع وعل أن ترجع عن غيك ، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الاشقياء ، قال : فدمعت عينا ابن ملجم لعنه الله تعالى وقال : يا أميرالمؤمنين أفأنت تنقذ من في النار ؟ قال له : صدقت ، ثم التفت عليه السلام إلى ولده الحسن عليه السلام وقال له : ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه ، وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في ام رأسه ، وقلبه يرجف خوفا ورعبا وفزعا ، فقال له الحسن عليه السلام : يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به ؟ ! فقال له : نعم يا بني نحن أهل بيت لا ؟ ؟ على الذنب إلينا إلا كرما وعفوا ، والرحمة

[288]

والشفقة من شيمتنا لا من شيمته ، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله ، واسقه مما تشرب ، ولا تقيد له قدما ، ولا تغل له يدا ، فإن أنامت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة وتحرقه بالنار ، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله صلى الله عليه واله يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ، وإن أنا عشت فأنا أولى بالعفو عنه ، وأنا أعلم بما أفعل به ، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا عفوا وكرما .
قال مخنف بن حنيف : إني والله ليلة تسع عشرة في الجامع في رجال نصلي قريبا من السدة التي يدخل منها أميرالمؤمنين عليه السلام فبينا نحن نصلي إذ دخل أميرالمؤمنين عليه السلام من السدة وهو ينادي : الصلاة ، ثم صعد المئذنة فأذن ، ثم نزل فعبر على قوم نيام في المسجد فناداهم : الصلاة ، ثم قصد المحراب ، فما أدري دخل في الصلاة أم لا إذ سمعت قائلا يقول : الحكم لله لا لك يا علي ، قال : فسمعت عند ذلك أمير - المؤمنين عليه السلام يقول : لا يفوتنكم الرجل ، قال : فشد الناس عليه وأنا معهم ، و إذا هو وردان بن مجالد ، وأما ابن ملجم لعنه الله فإنه هرب من ساعته ودخل الكوفة ورأينا أميرالمؤمنين عليه السلام مجروحا في رأسه .
قال محمد بن الحنفية : ثم إن أبي عليه السلام قال : احملوني إلى موضع مصلاي في منزلي ، قال : فحملناه إليه وهو مدنف والناس حوله ، وهم في أمر عظيم باكين محزونين ، قد أشرفوا على الهلاك من شدة البكاء والنحيب ، ثم التفت إليه الحسن عليه السلام وهو يبكي .
فقال له : يا أبتاه من لنا بعدك ؟ لا كيومك إلا يوم رسول الله صلى الله عليه واله من أجلك تعلمت البكاء ، يعز والله علي أن أراك هكذا ، فناداه عليه السلام فقال : يا حسين يا أبا عبدالله ادن مني ، فدنا منه وقد قرحت أجفان عينيه من البكاء ، فمسح الدموع من عينيه ووضع يده على قلبه وقال له : يا بني ربط الله قلبك بالصبر ، وأجزل لك ولاخوتك عظيم الاجر ، فسكن روعتك واهدأ من بكائك ، فإن الله قد آجرك

[289]

على عظيم مصابك ، ثم ادخل عليه السلام إلى حجرته وجلس في محرابه .
قال الراوي : واقبلت زينب وام كلثوم حتى جلستا معه على فراشه ، وأقبلتا تند بانه وتقولان : يا أبتاه من للصغير حتى يكبر ؟ ومن للكبير بين الملا ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل ، وعبرتنا لا ترقأ ( 1 ) ، قال : فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب ، وفاضت دموع أميرالمؤمنين عليه السلام عند ذلك ، وجعل يقلب طرفه وينظر إلى أهل بيته وأولاده ، ثم دعا الحسن والحسين عليهما السلام وجعل يحضنهما و يقبلهما ، ثم اغمي عليه ساعة طويلة وأفاق ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه واله يغمى عليه ساعة طويلة ويفيق اخرى ، لانه صلى الله عليه واله كان مسموما ، فلما أفاق ناوله الحسن عليه السلام قعبا من لبن ، فشرب منه قليلا ثم نحاه عن فيه وقال : احملوه إلى أسيركم ، ثم قال للحسن عليه السلام : بحقي عليك يا بني إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه ، وارفقوا به إلى حين موتي ، وتطعمه مماتأكل وتسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه ، فعند ذلك حملوا إليه اللبن وأخبروه بما قال أميرالمؤمنين عليه السلام في حقه ، فأخذ اللعين وشربه .
قال : ولما حمل أميرالمؤمنين عليه السلام إلى منزله جاؤا باللعين مكتوفا إلى بيت من بيوت القصر فحبسوه فيه ، فقالت له ام كلثوم وهي تبكي : يا ويلك أما أبي فإنه لا بأس عليه ، وإن الله مخزيك في الدنيا والآخرة ، وإن مصيرك إلى النار خالدا فيها ، فقال لها ابن ملجم لعنه الله : ابكي إن كنت باكية فوالله لقد اشتريت سيفي هذا بألف وسممته بألف ، ولو كانت ضربتي هذه لجميع أهل الكوفة مانجا منهم أحد .
وفي ذلك يقول الفرزدق : " شعر " : فلا غرو للاشراف إن ظفرت بها ( 2 ) * ذئاب الاعادي من فصيح وأعجمي *

_________________________________________________________
ص 289 ) ( 1 ) رقا الدمع : جف وانقطع .
( 2 ) كذا في النسخ ، والظاهر : فلا عز للاشراف .
*

[290]

فحربة وحشي سقت حمزة الردى * وحتف علي من حسام ابن ملجم قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه : وبتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم إلى قدميه ، وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ، ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه ويخبرنا بأمره وتبيانه إلى حين طلوع الفجر ، فلما أصبح استأذن الناس عليه ، فأذن لهم بالدخول ، فدخلوا عليه وأقبلوا يسلمون عليه ، وهو يرد عليهم السلام ، ثم قال : أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني و خففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم ، قال فبكى الناس عند ذلك بكاءا شديدا ، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفا عنه ، فقام إليه حجربن عدي الطائي وقال : فيا أسفى على المولى التقي * أبوالاطهار حيدرة الزكي قتله كافر حنث زنيم * لعين فاسق نغل شقي ( 1 ) فيلعن ربنا من حاد عنكم * ويبرء منكم لعنا وبي لانكم بيوم الحشر ذخري * وأنتم عترة الهادي النبي فلما بصر به وسمع شعره قال له : كيف لي بك إذا دعيت إلى البراءة مني ، فما عساك أن تقول ؟ فقال : والله يا أميرالمؤمنين لو قطعت بالسيف إربا إربا واضرم لي النار والقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك ، فقال : وفقت لكل خير يا حجر ، جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيك .
ثم قال : هل من شربة من لبن ؟ فأتوه بلبن في قعب ، فأخذه وشربه كله ، فذكر الملعون ابن ملجم وأنه لم يخلف له شيئا ، فقال عليه السلام : " وكان أمرالله قدرا مقدورا " اعلموا أني شربت الجميع ولم أبق لاسيركم شيئا من هذا ، ألا وإنه آخر رزقي من الدنيا ، فبالله عليك يا بني إلا ما أسقيته مثل ما شربت ، فحمل إليه ذلك فشربه .
قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه : لما كانت ليلة إحدى وعشرين وأظلم الليل وهي الليلة الثانية من الكائنة جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ، ثم قال *

_________________________________________________________
ص 290 ) ( 1 ) النغل : المفسد في الارض .
*