(أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام

وطبيعة التورّع عن البغي أصل من اُصول نفسيّة عليّ وخلق من أخلاقه، وهي متّصلة اتّصالاً وثيقاً بمبدئه العام الذي يقوم بمعرفة العهد وصيانة الذمّة والرحمة بالناس حتى يخونوا كلّ عهد ويقسوا دون كلّ رحمة.
ومن أروع صور المودّة وآيات الوفاء أن يقف في حومة الحرب وينظر الى معارفه من منازليه نظرة المؤاخاة الداعية الى السلم ويذكّرهم ما بينه وبينهم من عهدِ سبق ومودّة تربأ بنفسها أن تنقلب أو تخون.. فلعلّ في الصداقة القديمة ما يحيي ضمير هذا العدّو فيكون له رادعاً عن العداوة والبغضاء.
وما كان لعليّ أن يستنجد الصداقة على العداوة لولا ذلك الفيض العظيم من الوفاء والحنان تزخر به نفسه ويطغى على جنانه.
ولكنّ صاحب المودّات لم يرعَ أصدقاؤه له مودّة، لأنّهم لم يكونوا ليطمعوا بأن يحولوا بينه وبين نفسه، فيطلق أيديهم في خيرات الأرض دون سائر الخلق، يقول عليّ ((عليه السلام)): «والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلُبها جُلبَ شعيرة ما فعلتُ، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة»(1) وليس عليّ في هذا المجال قائلاً ثمّ عاملاً، بل هو القول يجري من طبيعة العمل الذي يُعمل والشعور الذي يُحَسّ... فعليّ أكرم الناس مع الناس، وأبعد الخلق عن أن ينال الخلق بالأذى، وأقربهم الى بذل نفسه في سبيلهم على أن يقتنع ضميره بضرورة هذا البذل، أوَليست حياته كلّها سلسلة معارك في سبيل المظلومين والمستضعفين، وانتصاراً دائماً للشعب دون من يريدونه آلة إنتاج لهم من السادة ورثة الأمجاد العائلية، أولم يكن سيفاً صارماً فوق أعناق


(1) نهج البلاغة، الخطبة: 224.

اللاحق   السابق   فهرست الكتاب   كتب متفرقة