بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة الامام / المجلد الخامس عشر / القسم الحادی عشر: التفاوت بین الائمة، زواج عمر مع ام کلثوم

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

كلام‌ الميرزا عبد الله‌ الإصفهاني‌ّ في‌ التفاوت‌ بين‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌

قال‌ آية‌ الله‌ المحقّق‌ العظيم‌ والعالِم‌ الضليع‌ الميرزا عبد الله‌ الافندي‌ الإصفهاني‌ّ ـ الذي‌ كان‌ في‌ الدرجة‌ الاُولي‌ من‌ تلاميذ العلاّمة‌ المجلسي ‌ّـ في‌ مقدّمة‌ «الصحيفة‌ الثالثة‌ السجّاديّة‌ »:

 أمّا بعد؛ فيقول‌ العبد المفتقر الجاني‌ عبد الله‌ بن‌ عيسي‌ بن‌ محمّد الصالح‌ الإصفهاني‌ّ أنّ وفور الادعية‌ المأثورة‌ وكثرة‌ المناجاة‌ المأثورة‌ البهيّة‌ عن‌ مولانا عليُ بن الحسين‌ زين‌ العابدين‌ وغزارة‌ الاوراد والاذكار والندب‌ المنسوبة‌ إلیه‌ صلوات‌ الله‌ علیه‌ متن‌ نظمها ونثرها، طويلها وقصيرها، ونضارتها فيما بين‌ أدعية‌ النبي‌ّ وفاطمة‌ وسائر الائمّة‌، وطراوتها الغالبة‌ وظهور غاية‌ الضراعة‌ والابتهال‌ والمسكنة‌ فيها، ونهاية‌ تأثيرها وإجابة‌ أدعيتها ممّا لا يرتاب‌ فيها أحدٌ من‌ عامّة‌ العلماء فضلاً عن‌ خاصّة‌ الفضلاء، وذلك‌ لما قد خصّ الله‌ كلّ واحدٍ منهم‌ علیهم‌ السلام‌ بمزيّة‌ وخصوصيّة‌ لاتوجد في‌ غيره‌. كظهور آثار العلوم‌ في‌ الباقر والصادق‌ علیهما السلام‌ في‌ الاكثر. وبهور الشجاعة‌ في‌ أميرالمؤمنين‌ والحسين‌ علیهما السلام‌، كما أنّ الغالب‌ هو الحرقة‌ والجذبة‌ الشديدة‌ في‌ أدعية‌ عليّ ابن‌الحسين‌ ظاهرة‌. والفصاحة‌ والبلاغة‌ والهيبة‌ في‌ أدعية‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ باهرة‌. إلاّ أنّ غاية‌ امتياز الادعية‌ المذكورة‌ في‌ مطاوي‌ « الصحيفة‌ الكاملة‌ السجّاديّة‌ » المعروفة‌ بين‌ أصحابنا الإماميّة‌ تارةً بـ « زبور آل‌ محمّد علیه‌ السلام‌ »، وتارةً ب « إنجيل‌ أهل‌ البيت‌ » صلوات‌ الله‌ علیهم‌ أجمعين‌ في‌ تلك‌ الصفات‌ والفضائل‌ والدرجات‌ من‌ بينها، ونهاية‌ الاعتماد علیها ممّا لا يخفي‌ علی‌ أُولي‌ النُّهَي‌.

 لانّ تواتر أدعيتها، وجزالة‌ معانيها، ولطافة‌ ألفاظها، وطرافة‌ عباراتها، بل‌ إعجازها وإفحامها ممّا قد أغنانا من‌ مؤنة‌ إيراد الحجج‌ في‌ إثباتها أو تجشّم‌ زحمة‌ في‌ ذكر أسانيدها وطرقها إلی‌ مولانا السجّاد الذي‌ هو قائلها. [1]

 وقد دحض‌ آية‌ الله‌ المحقّق‌ الخبير والمدقّق‌ البصير الامين‌ العاملي‌ّ في‌ مقدّمة‌ « الصحيفة‌ الخامسة‌ السجّاديّة‌ » هذا اللون‌ من‌ التفكير ونسبته‌ إلی‌ الائمّة‌ الطاهرين‌ صلوات‌ الله‌ وسلامه‌ علیهم‌ أجمعين‌. فقال‌ بعد سرد ما نقلناه‌ آنفاً عن‌ آية‌ الله‌ الميرزا عبد الله‌ الافندي‌ مُبْطِلاً إيّاه‌:

 فتأمّل‌ فيه‌! فإنّ منبع‌ علومهم‌ علیهم‌ السلام‌ واحد، وطينتهم‌ واحدة‌، وكلّهم‌ من‌ نور واحد، وكلامهم‌ متقارب‌، وحالهم‌ متناسب‌، كما يعرف‌ ذلك‌ الممارس‌. بل‌ هو مقتضي‌ أُصول‌ أصحابنا من‌ الاعتقاد بكونهم‌ في‌ أعلی‌ درجات‌ الكمال‌. وظهور الشجاعة‌ في‌ أميرالمؤمنين‌ وولده‌ الحسين‌ علیهما السلام‌ لوجود مظهرها. ولعلّ هذا هو مراده‌. وظهور علوم‌ الصادقين‌ علیهما السلام‌ لخفّة‌ التقيّة‌ بسبب‌ كونهم‌ في‌ آخر الدولة‌ الامويّة‌ وأوّل‌ الدولة‌ العبّاسيّة‌، وغيره‌ من‌ الاسباب‌. فما يظنّه‌ بعض‌ الناس‌ ممّا يُشبه‌ ما قاله‌ هذا الفاضل‌ ما أظنّه‌ إلاّ كلام‌ قشري‌ّ. [2]

 الرجوع الي الفهرس

اختلاف‌ النفوس‌ والاعمال‌ عند الائمّة‌ الطاهرين‌ حتمي‌ّ

 وأمّا ما يتبادر إلی‌ ذهني‌ في‌ هذا المجال‌ فهو أنّ اختلاف‌ الصفات‌ والغرائز والافعال‌ عند أفراد النوع‌ الإنساني‌ّ أمر مسلَّم‌ به‌. ويعود هذا الاختلاف‌ إلی‌ دليل‌ الحسّ والشهود والوجدان‌، والدليل‌ العلمي‌ّ من‌ العلوم‌ الطبيعيّة‌ ومن‌ علم‌ الحكمة‌ المتعإلیة‌ والفلسفة‌ الإلهيّة‌ التكوينيّة‌، ودليل‌ الآثار والخصائص‌ المرويّة‌ والاخبار الواردة‌ والروايات‌ والتواريخ‌ والتراجم‌ والاحوال‌ إلیقينيّة‌. وإذا أردنا هنا أن‌ نتحدّث‌ حديثاً وافياً شافياً في‌ هذه‌ الموضوعات‌، فسنحتاج‌ إلی‌ كتاب‌ مستقلّ، ولكن‌ نقول‌ بنحو مجمل‌ من‌ أجل‌ أن‌ يتبيّن‌ أساس‌ الموضوع‌: إنّ جميع‌ الانبياء والمرسلين‌ والائمّة‌ الطاهرين‌ والاولياء المقرّبين‌ وسائر أفراد البشر مختارون‌، وعلیهم‌ أن‌ يطووا طريق‌ الله‌ وسلوك‌ المعرفة‌ بإرادة‌ حديديّة‌، وقدم‌ راسخ‌، ويؤثروا رضا المحبوب‌ علی‌ هواهم‌ كي‌ ينالوا بغيتهم‌. فكلّ من‌ سار علی‌ الدرب‌ وصل‌، وكلّ من‌ لم‌ يسر لم‌ يصل‌.

 إنّ أفعال‌ الانبياء والائمّة‌ ليست‌ اضطراريّة‌ وجبريّة‌ بحيث‌ إنّ الحسنة‌ تصدر منهم‌ بلا اختيار كتلالؤ ألماس‌، وإنّهم‌ لا قدرة‌ لهم‌ علی‌ المعصية‌ ولايقدّمون‌ رضا أنفسهم‌. ولو كانوا كذلك‌ فلا ميزة‌ لهم‌ علی‌ سائر الخلق‌، إذ خلق‌ الله‌ أصل‌ وجودهم‌ نورانيّاً متلالئاً بغضّ النظر عن‌ الإرادة‌ والاختيار، وهم‌ كانوا يبثّون‌ ذلك‌ النور بلا إرادة‌ تبعاً لخلقتهم‌. بل‌ هم‌ بشر لهم‌ إرادتهم‌، ولا يعصون‌ اختياراً، ويؤثرون‌ رضا الله‌ تعإلی‌ علی‌ أهوائهم‌ حتّي‌ يبلغوا درجة‌ تذوب‌ فيها إرادتهم‌ شيئاً فشيئاً، وتصبح‌ إرادتهم‌ وإرادة‌ الله‌ المحبوب‌ واحدة‌. فلا تعود إلاّ إرادة‌ واحدة‌ واختياراً واحداً، وذلك‌ للذات‌ المقدّسة‌ التي‌ لا تزال‌ ولم‌ تزل‌، وقد تجلّت‌ من‌ نافذة‌ ومرآة‌ هذا الإنسان‌ المتفاني‌ المنكر لذاته‌ والملتحق‌ بالله‌ عزّ وجلّ.

 تلك‌ هي‌ حقيقة‌ وجودهم‌ النوراني‌ّ ومقام‌ ولايتهم‌ المطلقة‌ بإجمال‌، فلابينونة‌ ولا اثنينيّة‌ ولا افتراق‌. وهناك‌ نور واحد، وفطرة‌ واحدة‌، وعرفان‌ واحد. وهذا لا ينافي‌ إرادتهم‌ واختيارهم‌، بل‌ إنّ اختيارهم‌ وإرادتهم‌ المترشّحة‌ منهم‌ تؤيّد وتسدّد وتوطّد الوصول‌ إلی‌ أعلی‌ درجات‌ الكمال‌، وأرفع‌ ذروة‌ الإنسانيّة‌، والظهور علی‌ قمّة‌ التوحيد، وطي‌ّ الاسفار العرفانيّة‌ الاربعة‌، وبلوغ‌ مقام‌ البقاء بالله‌ بعد الفناء في‌ الله‌.

 إنّ جميع‌ ما ورد في‌ الاخبار أ نّهم‌ كانوا نورانيّين‌ في‌ الازل‌، وأ نّهم‌ خلقوا قبل‌ آلاف‌ السنين‌، وأنّ خلقهم‌ يختلف‌ عن‌ خلق‌ سائر الناس‌ هو أمر صحيح‌ لاغبار علیه‌. بَيدَ أنّ الازل‌ لا يعني‌ التقدّم‌ الزماني‌ّ العَرَضي‌ّ. فأزل‌ كلّ أحد وأبده‌ معه‌، كما أنّ إله‌ كلّ أحد معه‌. وكيف‌ يمكن‌ أن‌ يكون‌ إله‌ الإنسان‌ معه‌، أمّا أزله‌ فمفترق‌ عنه‌، ومتقدّم‌ علیه‌ زمنيّاً علی‌ نحو الانفصال‌؟ أو أنّ أبده‌ يباينه‌، ويتأخّر زمنيّاً علی‌ سبيل‌ الانفصال‌؟ هذا الازل‌ والابد ليسا عرضيّين‌، كما أنّ إله‌ الإنسان‌ ليس‌ له‌ تقدّم‌ عرضي‌ّ. ولمّا كان‌ تقدّم‌ الله‌ سبحانه‌ تقدّم‌ العلّة‌ علی‌ المعلول‌، وكان‌ انفصال‌ المعلول‌ عن‌ العلّة‌ محالاً، فإنّ جميع‌ عوالم‌ التجرّد من‌ الازل‌، والابد، واللوح‌، والقلم‌، والملكوت‌ الاعلی‌، والاسفل‌، وعالم‌ القضاء والقدر والمشيئة‌ هي‌ مع‌ الإنسان‌ نفسه‌، وانفصالها عنه‌ محال‌.

 وإذا علمنا أنّ الله‌ نفسه‌ مع‌ الإنسان‌، فهل‌ نتصوّر أنّ هذه‌ العوالم‌ التي‌ تمثّل‌ واسطة‌ فيضـه‌، منفصـلة‌، ولا تجد مكاناً بين‌ الله‌ والإنسان‌؟! هذا المعني‌ غالط‌.

 إنّ خلق‌ الانبياء والائمّة‌ قبل‌ آلاف‌ السنين‌ صحيح‌، بَيدَ أنّ هذه‌ القبليّة‌ قبليّة‌ طوليّة‌، لا عرضيّة‌ وزمانيّة‌. وهي‌ قبليّة‌ العلیة‌ علی‌ المعلوليّة‌. وهي‌ قبليّة‌ رتْبيّة‌ وتقدّم‌ سببي‌ّ. وغيريّة‌ خلقتهم‌ بالنسبة‌ إلی‌ سائر أفراد البشر تامّة‌ أيضاً، لكنّ تلك‌ الغيريّة‌ كانت‌ تحت‌ مظلّة‌ الاختيار، لا خارجها. وعلیك‌ ـمِن‌ هناـ أن‌ تطوي‌ طريقهم‌ بإرادتك‌ واختيارك‌، وتخرج‌ من‌ هوي‌ النفس‌، لكي‌ تجري‌ وتسري‌ لك‌ هذه‌ الغيريّة‌ أيضاً. وقد جعل‌ الله‌ الانبياء والائمّة‌ غير الآخرين‌، لا نّهم‌ هم‌ أنفسهم‌ صاروا غير الآخرين‌ بإرادتهم‌ واختيارهم‌.

 ونلحظ‌ في‌ طريق‌ الصعود والعروج‌ إلی‌ عالم‌ التوحيد أنّ الغيريّة‌ والكثرة‌ والاثنينيّة‌ في‌ الافعال‌ والصفات‌ أُمور ضروريّة‌ وحتميّة‌ بين‌ أفراد البشر جميعهم‌. ولا معني‌ لإمكان‌ الكثرة‌ والاثنينيّة‌ في‌ عالم‌ الوصول‌ والفناء في‌ الذات‌ الاحديّة‌ أبداً. وليس‌ هناك‌ إلاّ الله‌ وحده‌، وإلاّ الولاية‌ الكلّيّة‌ فحسب‌. ومقولة‌: كلّنا محمَّد، أوَّلُنا محمَّد، آخرنا محمّد، مرتبطة‌ بذلك‌ المقام‌ الذي‌ يسطع‌ فيه‌ نور الذات‌ الاحديّة‌ بقوّة‌ تزول‌ معها الاسماء. وفيه‌ ليس‌ لمحمّد عنوان‌ محمّد، ولا وجود لعليّباسم‌ علی‌ّ، وفاطمة‌ غير منفصلة‌ عن‌ الحسن‌ والحسين‌. ولا تمايز بين‌ الائمّة‌ كلّهم‌ حتّي‌ الإمام‌ الحي‌ّ الغائب‌ عن‌ الانظار. جميعهم‌ نورٌ بَحْت‌، وشعاع‌ صِرف‌، وجميعهم‌ سطوع‌ للشمس‌ في‌ سماء التوحيد، كنور الشمس‌ الواسع‌ المبثوث‌، إذ كان‌ متّصلاً بالشمس‌ بلاجهةٍ ولا حدّ ولا مقدار، ولا يمكن‌ أن‌ نضع‌ له‌ اسماً غير لفظ‌ النور المجرّد.

 أجل‌، يتعدّد هذا النور من‌ حيث‌ الظروف‌ الخارجيّة‌ والماهيّات‌ الإمكانيّة‌. فالنور المشعّ علی‌ سفوح‌ الجبال‌ والصحاري‌ هو غير النور المشعّ علی‌ البحار والمحيطات‌. ونور القطب‌ الشمإلی‌ّ هو غير نور القطب‌ الجنوبي‌ّ أو المناطق‌ الاستوائيّة‌. ثمّ إنّهم‌، بعد مقام‌ التوحيد وبلوغ‌ الفناء والاندكاك‌ في‌ ذات‌ الحقّ تعإلی‌، ينزلون‌ إلی‌ عالم‌ الكثرات‌ مرّة‌ أُخري‌، وهم‌ بالله‌ مع‌ جميع‌ الموجودات‌، ويدورون‌ وَبِالحَقِّ في‌ الخَلْقِ.

 وهنا تظهر آثار الاختلاف‌ ثانيةً، ويُشْهَد التفاوت‌ بينها. علماً أنّ هذا الاختلاف‌ هو غير الاختلاف‌ السابق‌. فالاختلاف‌ هناك‌ بلا حقّ وفناء. أي‌: أنّ الاختـلاف‌ كان‌ يظـهر في‌ الماهيّات‌ بإرادة‌ الله‌، بَيدَ أنّ السـالك‌ نفسه‌ لم‌ينتبه‌ إلی‌ هذا الفعل‌ والاثر. لانّ الوصول‌ والفناء واللقاء التامّ أُمور لم‌تحصل‌. بل‌ كان‌ يخال‌ أنّ جميع‌ هذه‌ الاشياء هي‌ منه‌، ومن‌ ترشّحات‌ نفسه‌ وآثارها، وها هو قد رجع‌ من‌ عند الله‌، وزار كعبة‌ المقصود، ونال‌ لقاءالله‌ في‌ حرم‌ الامن‌ والتجرّد المطلق‌ مع‌ فنائه‌ واندكاك‌ وجوده‌، واستمتع‌ بأنوار الجمال‌ والجلال‌. لذا فهذا الرجوع‌ هو رجوع‌ مع‌ المحبوب‌. والله‌ معه‌ وهو مع‌ الله‌ في‌ كلّ زمان‌ من‌ الازمان‌ الطويلة‌، وكلّ مكانٍ من‌ الاماكن‌ العريضة‌ الواسعة‌. وكلّ فعلٍ من‌ أفعال‌ السالك‌ هو فعل‌ الله‌، إذ حلّت‌ إرادة‌ الله‌ واختياره‌ مكان‌ إرادته‌ واختياره‌.

 وهو في‌ الكثرات‌، في‌ عين‌ التوحيد، وفي‌ التوحيد، في‌ عين‌ انغماره‌ في‌ الكثرات‌، وهو مع‌ الحقّ، وأعماله‌ من‌ الحقّ، ومرجعه‌ إلی‌ الحقّ. جَمِيعُ أَفْعَالِهِ وَسَكَنَاتِهِ يَكُونُ مِنَ اللَهِ وَيُرْجَعُ جَمِيعُهَا إلَی‌ اللَهِ.

 ويسـتبين‌ ممّا ذكـرنا جيّـداً ما يأتـي‌: أوّلاً: أنّ الائمّة‌ الطاهـرين‌ صلوات‌الله‌ وسلامه‌ علیهم‌ أجمعين‌، وهم‌ أكمل‌ المخلوقات‌ وأفضلها في‌ عالم‌ التكوين‌ والتشريع‌، قد طووا الاسفار العرفانيّة‌ الاربعة‌ حتماً، لا نّه‌ إذا لم‌يُطْوَ أحدها، فهذا يعني‌ أنّ السالك‌ الذي‌ طواها كلّها سيكون‌ الاعلم‌ بالنسبة‌ إلیهم‌، وهذا محال‌ بسبب‌ ما يتّصفون‌ به‌ من‌ حقّ الاُستاذيّة‌ والتعلیم‌ وتفوّقهم‌ علی‌ جميع‌ الخلائق‌.

 وثانياً: أنّ الروايات‌ الواردة‌ في‌ وحدة‌ نورهم‌ وتجرّدهم‌ وخلقتهم‌ ترتبط‌ بعالم‌ اللقاء والفناء وعرفان‌ الله‌. وعدم‌ تصوّر التعدّد في‌ ذلك‌ المكان‌ العإلی‌ والرفيع‌ يعتبر من‌ بديهيّات‌ العلم‌.

 وثالثاً: رجوعهم‌ إلی‌ عالم‌ الخلقة‌ وكثرات‌ الماهيّات‌ أمر ضروري‌ّ لتربية‌ البشر. لا نّه‌ ما لم‌ يُطْوَ السفر الرابع‌ المتمثّل‌ في‌ السير في‌ الخلق‌ بالحقّ، الذي‌ هو من‌ متمّمات‌ مقام‌ العرفان‌ والكمال‌، فلا يمكن‌ تفويض‌ التدبير في‌ الاُمور التكوينيّة‌ والتشريعيّة‌ إلیهم‌، إذ إنّ فعلهم‌ في‌ الخلق‌ حينئذٍ لن‌يكون‌ فعل‌ الله‌، ولن‌ يتسنّي‌ لهم‌ أن‌ يتعاملوا مع‌ الخلائق‌ تعاملاً إلهيّاً.

 ورابعاً: شرط‌ الرجوع‌ إلی‌ الكثرة‌ هو التعيّن‌ بالماهـيّات‌ الإمكانيّة‌ وتعدّد العوارض‌ الوجوديّة‌ والجوهريّة‌. أي‌: كما خُلِقَ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ في‌ أزمنة‌ مخـتلفة‌، وعاشـوا في‌ أماكـن‌ متفاوتة‌، فإنّ بقـيّة‌ عوارضـهم‌ الجوهريّة‌ ستتباين‌ حتماً حتماً. وستتفاوت‌ الصفات‌ والافعال‌ أيضاً، وفي‌ الوقت‌ نفسه‌، فإنّهم‌ كلّهم‌ أبرار وفي‌ أعلی‌ درجات‌ البرّ والحُسن‌، بل‌ لايمكن‌ أن‌ نتصـوّر حُسـناً أسمي‌ من‌ ذلـك‌، لانّ الفعل‌ هو فعل‌ الحقّ، ولايمكن‌ أن‌ نتصوّر في‌ فعل‌ الحقّ إلاّ الحُسن‌.

 إنّ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ كما خلقوا من‌ آباء وأُمّهات‌ شتّي‌، وتغذّوا من‌ أُمّهات‌ مختلفة‌ عندما كانوا أجنّةً في‌ بطونهنّ، وتباينوا فيما بينهم‌ جسميّاً وطبعيّاً وطبيعيّاً، مع‌ آلاف‌ الظروف‌ ومواضع‌ الاختلاف‌ الاُخري‌، فإنّهم‌ ـكذلك‌ـ يتفاوتون‌ فيما بينهم‌ في‌ الافكار النفسانيّة‌ والملكوتيّة‌.

 كان‌ أمير المؤمنين‌ علیه‌ أفضل‌ صلوات‌ الله‌ وسلامه‌ رَبْعاً، مع‌ ميل‌ إلی‌ القصر، بطيناً، أسمر اللون‌، أدعج‌ العين‌، أصلع‌، رفيع‌ الساقين‌. فهذا ضرب‌ من‌ الخلقة‌ الإلهيّة‌. أمّا الحسن‌ والحسين‌ علیهما السلام‌ فكانا يشبهان‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌. فالحسن‌ علیه‌ السلام‌ يشبهه‌ في‌ رأسه‌ ووجهه‌ حتّي‌ ظهره‌، والحسين‌ علیه‌ السلام‌ يشبهه‌ من‌ ظهره‌ حتّي‌ الاسفل‌. وكان‌ بعض‌ الائمّة‌ بيض‌ الوجوه‌ كالإمام‌ جعفر الصادق‌ علیه‌ السلام‌، وبعضهم‌ سمرها مع‌ ميل‌ إلی‌ السواد كالإمام‌ محمّد الجواد علیه‌ السلام‌، لانّ والدته‌ كانت‌ أمة‌ سوداء من‌ أهإلی‌ النَّوَبة‌ ( إحدي‌ مناطق‌ إفريقية‌ ) . [3]

 وكذلك‌ كانوا متفاوتين‌ في‌ القدّ والقامة‌، وفي‌ الوزن‌ والبدانة‌. فالسجّاد علیه‌ السلام‌ كان‌ نحيفاً حتّي‌ كانت‌ الريح‌ تحرّكه‌ عندما يُغمي‌ علیه‌ في‌ أوقات‌ العبادة‌. أمّا الباقر علیه‌ السلام‌ فقد كان‌ بديناً إلی‌ درجة‌ أ نّه‌ عندما كان‌ يذهب‌ للزراعة‌ في‌ بعض‌ أوقات‌ الحرّ، يتوكّأ علی‌ غلامين‌. وكذلك‌ الامر في‌ سائر جهات‌ الاختلاف‌ الطبعي‌ّ والطبيعي‌ّ، التي‌ لاتُحصي‌.

 ماذا تقولون‌ هنا؟! هل‌ تقولون‌: إنّ المعيار هو بياض‌ الجسم‌ كرسول‌ الله‌؟ فلانتّبع‌ أميرالمؤمنين‌ الذي‌ كان‌ أسمر، ولا سائر الائمّة‌ السُّمر، ولانعدّهم‌ أئمّة‌ لا نّهم‌ لم‌ يكونوا بيضاً! هل‌ البدانة‌ هي‌ المعيار؟ فنعزل‌ الإمام‌ السجّاد منهم‌. أم‌ النحافة‌، فنعزل‌ الباقر منهم‌؟ أم‌ التوسّط‌ بينهما، كالإمام‌ الرضا علیه‌ السلام‌، فنعزل‌ السجاد والباقر علیهما السلام‌؟!

 وأمثال‌ هذه‌ الاسئلة‌ التي‌ تطول‌.

 أم‌ تقولون‌: كلّ ذلك‌ كان‌ صائباً وصحيحاً وحسناً وفي‌ درجة‌ الكمال‌. فصلعُ مولي‌ الموإلی‌ كمال‌ له‌، وشعر النبي‌ّ وتمشيطه‌ كمال‌ له‌. وكلّ خاصّيّة‌ من‌ هذه‌ الخصائص‌ مع‌ فرض‌ اختلافها كمال‌ لاهلها.

 وكذلك‌ الصفات‌ النفسيّة‌ والافعال‌ البدنيّة‌ مع‌ تفاوتها كمال‌ لاصحابها .

 ومن‌ الطبيعي‌ّ أنّ شرط‌ الكمال‌ إحراز العلم‌ المجرّد، وكان‌ الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌ جميعاً أُولي‌ علمٍ تجرّدي‌ّ. مع‌ ذلك‌ فقد عُدّ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ أعلمهم‌ وأفضلهم‌ باستثناء الحجّة‌ بن‌ الحسن‌ العسكري‌ّ أرواحنا فداه‌. وبروز الشجاعة‌ عند أميرالمؤمنين‌ والحسين‌ علیهما السلام‌ كان‌ تبعاً لما تتطلّبه‌ الظروف‌، وليس‌ في‌ هذا إلغاء لشجاعة‌ غيرهما.

 لا جَرَمَ أنّ الحِلْمَ الحَسَنِي‌ّ وَالشَّجَاعَةَ الحُسَيْنِيَّة‌، كانا وفقاً لبروزهما وظهورهما، وإلاّ فما أكثر مواطن‌ الحلم‌ التي‌ تدهش‌ العقل‌ عند سيّد الشهداء علیه‌ السلام‌! وما أروع‌ تلك‌ الشجاعة‌ التي‌ أبداها الإمام‌ الممتحن‌ الحسن‌ المجتبي‌ علیه‌ السلام‌ في‌ حرب‌ الجمل‌ وصفّين‌ حتّي‌ أنّ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ عندما رآه‌ يتشرّع‌ للحرب‌، منعه‌. وعزّ علیه‌ أن‌ يُقْتَلَ ابنُ فاطمة‌! وكان‌ همّ معاوية‌ كلّه‌ أن‌ يُخلي‌ الارض‌ من‌ نسل‌ فاطمة‌.

 وأمّا تفكير الإمام‌ الحسن‌ والإمام‌ الحسين‌ علیهما السلام‌ وموقفهما من‌ معاوية‌ في‌ الحرب‌ والصلح‌ فنقول‌ فيه‌: إنّ الإمام‌ الحسين‌ علیه‌ السلام‌ لم‌يُبايع‌ معاوية‌ بعد صلح‌ الإمام‌ الحسن‌ علیه‌ السلام‌ معه‌. وقال‌ الحسن‌ لمعاوية‌: لا تدعه‌ إلی‌ البيعة‌، فإنّه‌ لن‌ يبايع‌ حتّي‌ لو قُتل‌ هو وأهل‌ بيته‌ جميعاً. وكان‌ قيس‌ بن‌ سعد بن‌ عُبادة‌ هو الآخر لم‌ يبايع‌ أيضاً، وكذلك‌ سليمان‌بن‌ صُرَد الخُزاعي‌ّ. بَيدَ أنّ الإمام‌ الحسن‌ علیه‌ السلام‌ رأي‌ نفسه‌ في‌ ظروف‌ أرغمته‌ علی‌ تجرّع‌ مرارة‌ الصلح‌ حقناً لدماء المسلمين‌، وتفنيداً لسياسة‌ معاوية‌ الماكرة‌. واستجابة‌ لرغبة‌ أهل‌ الكوفة‌ الذين‌ خارت‌ نفوسهم‌ وضعفـت‌ وكانوا علی‌ وشـك‌ تسـليمه‌ لمعـاوية‌ حيّاً، ليمـنّ علیه‌ معـاوية‌ ويطلقه‌، فيُدعي‌: طليق‌ معاوية‌، ويتخلّص‌ معاوية‌ من‌ عار الطلقاء الذي‌ لحق‌ به‌ يوم‌ قال‌ رسول‌ الله‌ له‌ ولابيه‌ أبي‌ سفيان‌ وسائر بني‌ أُميّة‌ في‌ فتح‌ مكّة‌: أَنْتُمُ الطُلَقَاءُ . فعُرِفوا بطلقاء رسول‌ الله‌. وأراد معاوية‌ أيضاً أن‌ يؤسر الإمام‌ الحسن‌ علیه‌ السلام‌ ثمّ يطلقه‌ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فيكون‌ طليق‌ معاوية‌، ويبقي‌ ذلك‌ في‌ تأريخ‌الإسلام والعرب‌؛ ولهذا كله‌ صالح‌ الإمام‌ علیه‌ السلام‌ معاوية‌.

 ولم‌ يكن‌ سيّد الشهداء إماماً يومئذٍ، وما علیه‌ إلاّ اتّباع‌ إمام‌ زمانه‌ وهو المجتبي‌ الذي‌ كان‌ أكبر منه‌ بسنة‌ واحدة‌. فاختار السكوت‌ المحض‌، وجهد في‌ المحافظة‌ علی‌ إمامة‌ أخيه‌، ولم‌ يدّخر وسعاً لتوطيدها وتعزيزها. حتّي‌ إذا مضت‌ عشر سنين‌، دسّ معاوية‌ السمّ إلی‌ الإمام‌ بواسطة‌ زوجته‌ ابنة‌ الاشعث‌ بن‌ قيس‌، فلقي‌ الإمام‌ ربّه‌ شهيداً. وزالت‌ ظروف‌ الصلح‌، وكان‌ بمقدور الإمام‌ الحسين‌ علیه‌ السلام‌ أن‌ يحارب‌ معاوية‌ علی‌ أساس‌ إمامته‌ ورأيه‌ في‌ الحرب‌، بَيدَ أنّ الظروف‌ لم‌ تسمح‌ له‌ بذلك‌. فصبر عشر سنين‌ أُخري‌ حتّي‌ هلك‌ معاوية‌ ودخل‌ الهاوية‌، وغصب‌ يزيد الخلافة‌ علی‌ خلاف‌ موادّ الصلح‌، فثار علیه‌ السلام‌ عندئذٍ. وكانت‌ واقعة‌ عاشوراء في‌ الحقيقة‌ تتمّة‌ لواقعة‌ صفّين‌، فأدار معاوية‌ تلك‌، وأدار يزيد هذه‌ علی‌ أساس‌ حكومة‌ أبيه‌.

 يقول‌ البعض‌: كانت‌ الظروف‌ بعد استشهاد أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ ومُضي‌ّ ستّة‌ أشهر علی‌ نحو أُرغم‌ معه‌ الإمام‌ الحسن‌ علیه‌ السلام‌ علی‌ الصلح‌. ولو كان‌ سيّد الشهداء علیه‌ السلام‌ إماماً لصالح‌ أيضاً.

 والآن‌ لو سألتم‌: أي‌ّ الموقفين‌ كان‌ صحيحاً في‌ الواقع‌؟ بيعة‌ الإمام‌ الحسن‌ أم‌ رفض‌ الإمام‌ الحسين‌ علیهما السلام‌ . والجواب‌ هو أنّ كليهما كان‌ صحيحاً. فتفكير سيّد الشهداء علیه‌ السلام‌ كان‌ صحيحاً، وتفكير الإمام‌ المجتبي‌ علیه‌ السلام‌ كان‌ كذلك‌. غاية‌ الامر أنّ ما تحقّق‌ خارجاً حسب‌ إمامة‌ وصي‌ّ أميرالمؤمنين‌ ووصي‌ّ رسول‌ ربّ العالمين‌ كان‌ صلحاً وكان‌ صحيحاً. وأمّا إمامة‌ سـيّد الشـهداء علیه‌ السـلام‌ أيضـاً، فبـدايتها صـلح‌ وسكوت‌، ونهايتها حرب‌ وثورة‌، وكلتاهما كانت‌ صحيحة‌.

 الرجوع الي الفهرس

فعل‌ ولي‌ّ الله‌ عين‌ الحقّ

 وملخّص‌ الكلام‌: أنّ جميع‌ أعمال‌ الإمام‌ وأفعاله‌ بلا استثناء هي‌ أعمال‌ الله‌ وأفعاله‌، وذلـك‌ بسـبب‌ عبور الإمام‌ من‌ المراحل‌ النفسـانيّة‌، واستناد الافعال‌ إلی‌ نفسه‌. ومن‌ هنا فإنّ فعله‌ فعل‌ حقّ وصحيح‌ وهو عين‌ الصواب‌، سواء أدركنا صوابه‌ أم‌ لم‌ ندركه‌. مثلاً، كيف‌ ينبغي‌ أن‌ نقول‌ في‌ الافعال‌ الخارجيّة‌ كنزول‌ المطر والرحمة‌، أو الزلزلة‌ والغضب‌؟ إننا نقول‌ حتماً: إنّهما فعل‌ حقّ من‌ مَظْهَرَي‌ الجمال‌ والجلال‌ وإن‌ قصر فكرنا عن‌ بلوغ‌ مصدره‌، ولم‌ يدرك‌ تفكيرنا القاصر حقيقة‌ حكمة‌ هذا وذاك‌. فكذلك‌ أفعال‌ أولياء الله‌ كفعل‌ الخِضْر مع‌ موسي‌ علی‌ نبيّنا وآله‌ وعلیهما السلام‌ الوارد بيانه‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌.

 إنّ فعل‌ ولي‌ّ الله‌ حقّ، والحقّ ليس‌ إلاّ هو لا غيره‌. لا أنّ الحقّ شي‌ء نطبّق‌ علیه‌ فعل‌ ولي‌ّ الله‌. وليست‌ المصلحة‌ والحكمة‌ شيئاً غير فعل‌ الله‌، وفعل‌ الإمام‌، ليجعل‌ الله‌ فعله‌ وفقاً للمصلحة‌، ويأمر الإمام‌ أن‌ ينطبق‌ فعله‌ علیها.

 إنّ فعل‌ الله‌ نفسه‌ مصلحة‌. وفعل‌ وليّه‌ مصلحة‌ أيضاً، بل‌ مجلبة‌ للمصلحة‌. وينبغي‌ أن‌ نتحرّي‌ المصلحة‌ والحقّ في‌ فعل‌ الإمام‌ وولي‌ّ الله‌، لا أن‌ نظنّ المصلحة‌ والحقّ في‌ فكرنا القاصر، وعندئذٍ ننظر هل‌ هذا هو فعل‌ الإمام‌ أم‌ ذاك‌؟! وهذا الموضوع‌ من‌ دقائق‌ عالم‌ التوحيد ورموزه‌.

 لقد دعا رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ ربّه‌ تعإلی‌ لاميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ فقال‌: اللَهُمَّ أَدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ! وقال‌: اللَهُمَّ أَدِرْ علیاً مَعَ الحَقِّ حَيْثُ دَارَ!

 وعلی‌ هذا ففعل‌ الإمام‌ عين‌ الحقّ، وفي‌ غاية‌ الصـحّة‌ والصـواب‌ والسداد سواء فهمنا أم‌ لم‌ نفهم‌.

 علینا أن‌ نواكب‌ حياة‌ الإمام‌ من‌ أجل‌ التعرّف‌ علیه‌، وعلی‌ خصائص‌ مراحل‌ سيره‌ وسلوكه‌، ونقيس‌ حقيقته‌ وعقيدته‌ وصفاته‌ النفسيّة‌ وأفعاله‌ الخارجيّة‌ بتحسّس‌ عميق‌، ونتّخذه‌ كَمَا كَانَ وَحَيْثُ مَا كَانَ أُسوةً لنا في‌ جميع‌ شؤوننا، لا أن‌ نصنع‌ لنا إماماً في‌ أذهاننا، ثمّ نفرضه‌ علی‌ الإمام‌ الموجود في‌ الخارج‌. فهذا الإمام‌ ليس‌ خارجيّاً ولا واقعيّاً، بل‌ هو إمام‌ وهمي‌ّ خيإلی‌ّ. وإذا ما اتّبعناه‌، فإنّنا لم‌ نتّبع‌ الإمام‌ الحقيقي‌ّ، بل‌ اتّبعنا الإمام‌ الوهمي‌ّ، أو اتّبعنا أنفسنا في‌ الحقيقة‌. ولعلّنا نكون‌ قد أمضينا عمراً باسم‌ الإمامة‌ والولاية‌، في‌ حين‌ أ نّنا لم‌ نتجاوز أنفسنا، ولم‌ نتّبع‌ غيرها. وحينئذٍ سنكون‌ قد قضينا العمر في‌ عبادة‌ النفس‌، لا في‌ عبادة‌ الله‌ دون‌ أن‌ نتّبع‌ الإمام‌ الذي‌ اصطفاه‌ الله‌ لإرشادنا وهدايتنا.

 الرجوع الي الفهرس

الخلقة‌ المجرّدة‌ والنورانيّة‌ للائمّة‌ مقارنة‌ للاختيار

 إنّ الذين‌ يرون‌ الإمام‌ ذاتاً وجِبِلَّةً بلا إرادة‌ ولا اختيار، وأ نّه‌ موجود ملكوتي‌ّ ونوراني‌ّ، ويفرّقون‌ بينه‌ وبين‌ غيره‌ من‌ الناس‌، ويخالون‌ أنّ سعادته‌ قد قُدِّرت‌ منذ الازل‌ طوعاً أم‌ كرهاً بلا تدخّل‌ للاختيار والإرادة‌ والاختبار في‌ دار الدنيا، هم‌ علی‌ خطأ كبير. وليس‌ هذا إلاّ الغُلوّ الذي‌ كان‌ يفرّ منه‌ السابقون‌. الإمام‌ إنسان‌ مكلّف‌ مختار، وله‌ سيره‌ وسلوكه‌، وهو يدرك‌ الحسن‌ والردي‌ء، ويفهم‌ الجمال‌ والقُبح‌، ويميّز طريق‌ الجنّة‌ من‌ طريق‌ النار؛ غاية‌ الامر، أ نّه‌ يبلغ‌ مقام‌ محبّة‌ الله‌ نتيجة‌ مجاهدته‌ للنفس‌ الامّارة‌، وإيثاره‌ لرضا الله‌ المحبوب‌، ويرتقي‌ في‌ القوس‌ الصعودي‌ّ أعلی‌ من‌ غيره‌، ولا يبقي‌ حجاب‌ بينه‌ وبين‌ الله‌. فهذا هو أزل‌ الإمام‌ وأبده‌، وهذا هو اصطفاؤه‌ واجتباؤه‌. وهذا هو الذي‌ جعل‌ محمّداً مصطفيً، وجعل‌ علیاً مرتضيً صلوات‌ الله‌ علیهما وعلی‌ آلهما الميامين‌.

 مَن‌ تصـوّر الإمام‌ كائـناً بلا إدراك‌ لمراحـل‌ العبـوديّة‌ والتضـرّع‌ والاستكانة‌ للّه‌ تعإلی‌، فلابدّ أن‌ يحمل‌ أدعيته‌ وأ نّاته‌ المؤلمة‌ الممضّة‌ علی‌ أ نّها كانت‌ من‌ أجل‌ تعلیم‌ الناس‌ وتمرينهم‌، ويفسّرها أخيراً بالاُمور الاستهزائيّة‌ التهكّميّة‌! ويترتّب‌ علی‌ هذا التفكير عدد من‌ الاضرار الموبقة‌:

 أوّلاً: سيكون‌ قد أعمي‌ بصيرته‌ التي‌ يري‌ بها الحقّ، فيكون‌ قد رأي‌ الباطل‌ حقّاً، والحقّ باطلاً. ولم‌ يَرَ الواقع‌ كما هو أهله‌، بل‌ رآه‌ شيئاً آخر.

 ثانياً: سيكون‌ قد قطع‌ علاقته‌ بالإمام‌، لا نّه‌ لا يتَّبع‌ الإمام‌ الحقيقي‌ّ.

 ثالثاً: وسـيكون‌ قد أسـقط‌ نفسـه‌ من‌ مرحـلة‌ العمـل‌ والمجـاهـدة‌ والتنقيب‌، لا نّه‌ إذا لم‌ يجرِ علی‌ لسانه‌ شي‌ء ينطق‌ به‌، فإنّه‌ يقول‌ في‌ باطنه‌ حتماً: إنّ ما نُقل‌ عن‌ الائمّة‌ من‌ العبادات‌ والإيثار والعلوم‌ والإدراكات‌، والصفاء وطُهر الفطرة‌، والدخول‌ في‌ جنّات‌ تجري‌ من‌ تحتها الانهار هو لهم‌ لا لنا، وما يعنينا؟! نحن‌ أهل‌ عالم‌ الطبيعة‌، وأَسري‌ الحواسّ الطبيعيّة‌ وصرعي‌ الغرائز النفسـانيّة‌، وعفريت‌ الجهل‌ وجموح‌ النفـس‌، فشـتّان‌ ما بيننا وبينهم‌! ولمّا خلق‌ الله‌ ـمنذ الازل‌ـ وجودهم‌ نورانيّاً مجرّداً لطيفاً، ووجودنا ظلمانيّاً مادّيّاً ملوّثاً، وجعلهم‌ سعداء وجعلنا أشقياء، فإنّنا مهما سعينا فلن‌ نبلغ‌ درجتهم‌! فلنقرّ عيناً ـإذاًـ ولنخلد إلی‌ الراحة‌، ولنعصِ الله‌، فهو الذي‌ خلقنا هكذا وخلقهم‌ كذلك‌!

 رابعاً: سيكون‌ الإمام‌ هو المقتدي‌ والقائد والرائد، والمأموم‌ هو التابع‌ والمقتصّ الاثر والمقود، فإذا قُدِّر لنا أ نّنا لا نستطيع‌ أن‌ نسير وراء الإمام‌، وإن‌ كان‌ ذلك‌ في‌ حالة‌ واحـدة‌ فحسـب‌، فحينئذٍ لا يبقـي‌ معـني‌ للإمام‌ والمأموم‌، وتنقطع‌ العلاقة‌، وتتبدّد سلسلة‌ الولاية‌، لماذا؟! لانّ الإمام‌ لم‌يستطع‌ هناك‌ أن‌ يأخذنا معه‌ متّبعين‌ إيّاه‌. وعجز أن‌ يكون‌ قائدنا. ولمّا كانت‌ الإمامة‌ ثابتة‌ له‌ في‌ جميع‌ الاُمور، فإنّه‌ يقتادنا معه‌ إلی‌ المكان‌ الذي‌ يمّمه‌، أي‌: مقام‌ التوحيد والعرفان‌ الذاتي‌ّ والاندكاك‌ في‌ الانوار الإلهيّة‌ الجمإلیة‌ والجلإلیة‌.

 وهناك‌ حيث‌ لا بون‌ بين‌ الإمام‌ والمأموم‌ من‌ حيث‌ درجات‌ العلوم‌ والمعرفة‌ والإدراك‌، ولا فرق‌ بينهما، ولا يمكن‌ أن‌ يكون‌ بينهما فرق‌. ولايبقي‌ للإمام‌ إلاّ عنوان‌ الإمامة‌ والاقتداء إذ إنّه‌ هو القائد الذي‌ اقتاد ضالّته‌ فأوصلها إلی‌ حيث‌ وصل‌ من‌ الامن‌ والامان‌.

 علی‌ هذا، فالمعصومون‌ الاربعة‌ عشر اعتباراً من‌ النبي‌ّ الاكرم‌ ومروراً بفاطمة‌ الزهراء وعليّ المرتضي‌، وانتهاءً بالائمّة‌ الاحد عشر من‌ أولادهما الذين‌ لهم‌ عنوان‌ الولاية‌ والسبق‌ والتقدّم‌ في‌ القيادة‌ لن‌ينفصلوا عن‌ هذا العنوان‌ والوسام‌ والمنصب‌ والامتياز. ولكنّهم‌ في‌ كلّ لحظة‌ يوصلون‌ الآلاف‌ من‌ النفوس‌ التي‌ لم‌ تسلك‌ الطريق‌ إلی‌ منزلها. ويبلغون‌ بهم‌ المكان‌ الذي‌ ذهبوا إلیه‌ وقرّوا فيه‌. ويقودون‌ الجميع‌ إلی‌ الله‌ وَأَنَّ إلَی‌' رَبِّكَ الْمُنتَهَي‌'. [4]

 في‌ ضوء ما تقدّم‌، لا تبقي‌ شبهة‌ ولا شكّ في‌ أنّ جميع‌ الانبياء المرسلين‌ والائمّة‌ الطاهرين‌ كانوا مختلفين‌ بلا أدني‌ تأمّل‌. وقد جاء ذكر كلّ نبي‌ّ في‌ القرآن‌ الكريم‌ بنحو خاصّ وصفة‌ مخصوصة‌. وصنّف‌ الشيخ‌ العارف‌ الجليل‌ محيي‌ الدين‌ بن‌ عربي‌ كتاب‌ « فصوص‌ الحكم‌ » علی‌ أساس‌ هذا الاختلاف‌. ودوّن‌ كلّ فصّ من‌ فصوصه‌ بذكر نبي‌ّ خاصّ يتّصف‌ بسجيّة‌ خاصّة‌.

 وقد خرجت‌ الحوزة‌ العلميّة‌ في‌ قمّ من‌ جمودها نوعاً ما فصارت‌ في‌ عصرنا هذا لا تكتفي‌ بالعقائد السطحيّة‌ في‌ المعارف‌ الدينيّة‌ ببركة‌ جهود أُستاذنا الاعظم‌ العلاّمة‌ آية‌ الله‌ السيّد محمّد حسين‌ الطباطبائي‌ّ التبريزي‌ّ أعلی‌ الله‌ مقامه‌ وبفضل‌ تدريس‌ الحكمة‌ والفلسفة‌ الإلهيّة‌. بَيدَ أنّ حوزة‌ خراسان‌ تعاني‌ من‌ تسرّب‌ العقائد الشيخيّة‌ والميرزائيّة‌ إلیها في‌ قالب‌ ولاية‌ أهل‌ البيت‌ إلی‌ درجة‌ أنّ باب‌ العرفان‌ الإلهي‌ّ قد أُغلق‌ تماماً سواء من‌ جهة‌ الشهود أم‌ من‌ جهة‌ البرهان‌ . واندفع‌ جملة‌ أهل‌ العلم‌ متعلّقين‌ بظواهر الاخبار التي‌ تُشبه‌ مذاهب‌ الحشويّة‌ والظاهريّة‌ كثيراً بدون‌ مراجعة‌ أسانيدها والتأمّل‌ والإمعان‌ في‌ محتواها، وساقوا معهم‌ جماعة‌ إلی‌ جحيم‌ الضلالة‌.

 ولو توفّرنا علی‌ إدراك‌ الحقيقة‌ نوعاً ما، وعرفنا الائمّة‌ الطاهرين‌ سلام‌الله‌ علیهم‌ أجمعين‌ كما كانوا، لما مُنيت‌ معارفنا الدينيّة‌ بهذا الجمود والركود.

 الرجوع الي الفهرس

انتقاد رأي‌ المحدِّث‌ القمّي‌ّ في‌ عدم‌ ذكر بعض‌ الحقائق‌ التأريخيّة‌

 نقل‌ لي‌ المرحـوم‌ صديقـي‌ البارّ الكريـم‌ سـماحة‌ آيـة‌ الله‌ السـيّد صدرالدين‌ الجزائري‌ّ أعلی‌ الله‌ مقامه‌ أ نّه‌ كان‌ ذات‌ يومٍ في‌ بيت‌ المرحوم‌ آية‌الله‌ السيّد محسن‌ الامين‌ العاملي‌ّ رحمه‌ الله‌ بالشام‌، واتّفق‌ حضور المرحوم‌ ثقة‌ المحدِّثين‌ الشيخ‌ عبّاس‌ القمّي‌ّ رحمه‌ الله‌ هناك‌. فجري‌ حوار بين‌ المرحومين‌ القمّي‌ّ والامين‌. فقال‌ المرحوم‌ القمّي‌ّ مخاطباً المرحوم‌ الامين‌: لِمَ ذكرتَ في‌ كتاب‌ « أعيان‌ الشيعة‌ » بيعة‌ الإمام‌ زين‌ العابدين‌ علیه‌ السلام‌ ليزيد بن‌ معاوية‌ علیه‌ وعلی‌ أبيه‌ اللعنة‌ والهاوية‌؟!

 فقال‌: إنّ « أعيان‌ الشيعة‌ » كتاب‌ تأريخ‌ وسيرة‌. ولمّا ثبت‌ بالادلّة‌ القاطعة‌ أنّ مسلم‌ بن‌ عقبة‌ حين‌ هاجم‌ المدينة‌ بجيشه‌ الجرّار، وقتل‌ ونهب‌ وأباح‌ الدماء والنفوس‌ والفروج‌ والاموال‌ ثلاثة‌ أيّام‌ بأمر يزيد، وارتكب‌ من‌ الجرائم‌ ما يعجز القلم‌ عن‌ وصفها، فقد بايع‌ الإمام‌ السجّاد علیه‌ السلام‌، من‌ وحي‌ المصالح‌ الضروريّة‌ اللازمة‌، والتقيّة‌ حفظاً لنفسه‌ ونفوس‌ أهل‌ بيته‌ من‌ بني‌ هاشـم‌، فكيف‌ لا أكتب‌ ذلـك‌ ولا أذكـره‌ في‌ التأريخ‌؟! ومثل‌ هذه‌ البيعة‌ كبيعة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ أبا بكر بعد ستّة‌ أشهر من‌ وفاة‌ الرسول‌ الاكرم‌ واسـتشـهاد الصدِّيقة‌ الكبري‌ فاطـمة‌ الزهـراء سـلام‌الله‌ علیهما.

 قال‌ المرحوم‌ القمّي‌ّ: لا يصلح‌ ذكر هذه‌ الاُمور وإن‌ كانت‌ ثابتة‌، لا نّها تؤدّي‌ إلی‌ ضعف‌ عقائد الناس‌ . وينبغي‌ دائماً أن‌ تُذكر الوقائع‌ التي‌ لا تتنافي‌ مع‌ عقيدة‌ الناس‌.

 قال‌ المرحوم‌ الامين‌: أنا لا أدري‌ أي‌ّ الوقائع‌ فيها مصلحة‌، وأيّها ليس‌ فيها مصلحة‌. علیك‌ أن‌ تذكّرني‌ بالاُمور التي‌ ليس‌ فيها مصلحة‌، فلا أكتبها!

 ومن‌ الطبيعي‌ّ أنّ رأي‌ المرحوم‌ القمّي‌ّ هذا غير سديد. ذلك‌ أ نّه‌ ظنّ الإمام‌ السجّاد أُسوةً للناس‌ بدون‌ بيعة‌ يزيد، وزعم‌ أنّ الناس‌ لو علموا بأ نّه‌ بايع‌، لرجعوا عن‌ الإيمان‌ والاعتقاد بالتشيّع‌، أو ضعف‌ إيمانهم‌ واعتقادهم‌. وبالنتيجة‌ فإنّ الإمام‌ هو الذي‌ لا ينبغي‌ له‌ أن‌ يبايع‌ يزيد.

 إنّ مفاسد هذا اللون‌ من‌ التفكير بيّنة‌. أوّلاً: لانّ الإمام‌ الحقيقي‌ّ هو الذي‌ يبايع‌، ويدرك‌ مصالح‌ البيعة‌، وعمله‌ صحيح‌، وخلافه‌، أي‌: عدم‌ البيعة‌، غير صحيح‌.

 ثانيا: لو ابتُلينا هذا إلیوم‌ بحاكم‌ جائر كيزيد، وقال‌ لنا: بايعوا وإلاّ... وإذا اعتبرنا البيعة‌ ـ حتّي‌ مع‌ هذا الفرض‌ ـ حراماً وخطأً، فقد أهدرنا دمنا ودماء أهلينا وناس‌ آخرين‌ سديً. وأمّا إذا علمنا أنّ أئمّتنا وقدوتنا قد بايعوا في‌ مثل‌ تلك‌ الظروف‌، فإنّنا سنبايع‌ فوراً بدون‌ أن‌ نفكّر بالنتيجة‌ السقيمة‌ وما تستتبعه‌ البيعة‌ من‌ محذورات‌. أفليست‌ التقيّة‌ من‌ أُصول‌ الشيعة‌ الثابتة‌؟! لِمَ نُظْهِرُ للناس‌ خلاف‌ ذلك‌ فنورّط‌ أُولئك‌ المساكين‌ في‌ عُسرٍ وحرجٍ للحفاظ‌ علی‌ شرفهم‌ وكرامتهم‌ ووجدانهم‌؟ حتّي‌ إذا بايع‌ أحد في‌ مثل‌ هذه‌ الحالة‌، فإنّه‌ يعدّ نفسه‌ آثماً خجولاً، ويري‌ تلك‌ البيعة‌ مخالفة‌ لسُنّة‌ إمامه‌ ونهجه‌. وإذا لم‌ يبايع‌ فإنّه‌ يعرّض‌ نفسه‌ وأتباعه‌ لسيف‌ زنجي‌ّ ثمل‌ جائر سفّاك‌، ويفقد حياته‌ جنوناً وحماقةً.

 بيان‌ الحقيقة‌ هو بيان‌ الحقيقة‌ نفسها، لا بيان‌ حقيقة‌ خيإلیة‌، وإلاّ فإنّ جميع‌ المفاسد تقع‌ علی‌ عاتق‌ من‌ كتم‌ الحقيقة‌.

 كانت‌ في‌ المرحوم‌ المحدِّث‌ القمّي‌ّ ـ مع‌ جميع‌ ما اتّصف‌ به‌ من‌ الجهاد العلمي‌ّ والعناء وحبّ أهل‌ البيت‌ علیهم‌ السلام‌ ـ مثلبة‌ تتمثّل‌ في‌ بتره‌ للاخبار، إذ يذكر مثلاً شيئاً من‌ الخبر كمثال‌، ويتغاضي‌ عن‌ الباقي‌ الذي‌ ربّما تكون‌ فيه‌ قرائن‌ مفيدة‌ لحدود هذا المعني‌ المستفاد.

 وهذا غير صائب‌، إذ لعلّ صدر الخبر قرينة‌ علی‌ ذيله‌، وذيله‌ قرينة‌ علی‌ صدره‌. فما علی‌ المؤلِّف‌ إلاّ أن‌ ينقل‌ الخبر بحذافيره‌، ثمّ يعلّق‌ علیه‌ في‌ الهامش‌ أو الشرح‌ إن‌ أشكل‌ علیه‌ في‌ بعض‌ المواضع‌!

 ونلحظ‌ في‌ كتاب‌ « منتهي‌ الآمال‌ » أنّ المحدِّث‌ القمّي‌ّ ذكر مقتل‌ محمّدبن‌ عبد الله‌ بن‌ الحسن‌ المسمّي‌ بالنفس‌ الزكيّة‌، ومقتل‌ إبراهيم‌بن‌ عبدالله‌بن‌ الحسن‌ المسمّي‌ بقتيل‌ باخمري‌، وتحدَّث‌ عن‌ سيرتهما التي‌ أوردناها في‌ صفحات‌ متقدّمة‌ من‌ هذا الكتاب‌، دون‌ أن‌ يشير إلی‌ مثالبهما، واكتفي‌ بالحميد من‌ ترجمتهما. [5]

 وهكذا فعل‌ العلاّمة‌ الاميني‌ّ في‌ « الغدير » عند ذكر عبد الله‌ المحض‌ وولديه‌: محمّد وإبراهيم‌، فقد تحيّز في‌ كلامه‌ عنهم‌ نوعاً ما، ورغب‌ عن‌ بيان‌ طبيعة‌ الواقعة‌. [6]

 أجل‌، التفاوت‌ واضح‌ بين‌ أدعية‌ الإمام‌ السجّاد علیه‌ السلام‌ بخاصّة‌ أدعية‌ « الصحيفة‌ الكاملة‌ »، وأدعية‌ الإمام‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ في‌ النبرة‌ والمضمون‌ . فأدعية‌ « الصحيفة‌ » نبعت‌ من‌ قلبٍ متحرّق‌ ذائب‌، وروح‌ عاشقة‌ مجذوبة‌ ومدهوشة‌. وأدعية‌ « الصحيفة‌ العلويّة‌ » التي‌ أعدّها الميرزا عبدالله‌بن‌ صالح‌ السماهيجي‌ّ، و « الصحيفة‌ الثانويّة‌ » التي‌ أعدّها المحدِّث‌ القريب‌ من‌ عصرنا الميرزا حسين‌ النوري‌ّ، تمتاز بمضامين‌ جليلة‌ عظيمة‌ تبعث‌ علی‌ الهيبة‌. وهذا لا يعني‌ أنّ الإمام‌ السجّاد علیه‌ السلام‌ كان‌ عاجزاً عن‌ الإتیان‌ بمثلها، بل‌ إنّ وضعه‌ كان‌ يتطلّب‌ مثل‌ تلك‌ الادعية‌، لامثل‌ هذه‌ الادعية‌ التي‌ تطلّبها وضع‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌.

 ولعلّه‌ صلوات‌ الله‌ علیه‌ قد أنشأ نظير تلك‌ الادعية‌ في‌ المدينة‌ أيّام‌ رسول‌الله‌ وفاطمة‌ الزهراء سلام‌ الله‌ علیهما عندما كان‌ في‌ حائط‌ بني‌ النجّار ( بستان‌ بني‌ النجّار )، ولكن‌ لم‌ ينقلها لنا أحد.

 ولا تنحصر أدعيته‌ العجيبة‌ بدعاء كُميل‌، ودعاء الصباح‌، بل‌ إنّ جميع‌ أدعيته‌ تكشف‌ عن‌ مقام‌ جلال‌ الحقّ تعإلی‌ وعظمته‌ وانتشار رحمته‌ الواسعة‌، وعن‌ إشراق‌ نور التوحيد علی‌ عوالم‌ الإمكان‌ بأسرها.

 الرجوع الي الفهرس

زواج‌ عمر بأُمّ كلثوم‌ ابنة‌ أمير المؤمنين‌ علیه‌ السلام‌

 إنّ زواج‌ عمر بن‌ الخطّاب‌ بأُمّ كلثوم‌ بنت‌ الصدِّيقة‌ الكبري‌ سلام‌الله‌ علیها من‌ الحوادث‌ التأريخيّة‌ المسلَّم‌ بها. فلماذا يريد بعض‌ الشيعة‌ أن‌ ينكر ذلك‌ في‌ بعض‌ الكتب‌؟! في‌ حين‌ نحن‌ إذا ذكرنا شفاعة‌ هذا الزواج‌ مع‌ مقدّماته‌ التأريخيّة‌ في‌ كتبنا، فإنّ ظلامة‌ أميرالمؤمنين‌ وأهل‌ البيت‌ تستبين‌ لنا أكثر فأكثر. ولو أوردنا هذه‌ القصّة‌ مع‌ مقدّماتها التأريخيّة‌، فإنّ ذلك‌ يمثّل‌ وثيقةً تدين‌ عمر بن‌ الخطّاب‌، إذ غصب‌ تلك‌ المخدَّرة‌ بمكر، وأولدها زيداً ورقيّة‌. [7]

  إنّ زواج‌ سُكينة‌ ابنة‌ الحسين‌ من‌ مصعب‌ بن‌ الزبير من‌ المسلّمات‌ التأريخيّة‌، فلماذا نرفضه‌ بسبب‌ انحراف‌ مصعب‌؟ في‌ حين‌ أنّ وضع‌ مصعب‌ ربّما لم‌ يكن‌ سيّئاً يومئذٍ حسب‌ قرائن‌ تأريخيّة‌، ولعلّ هناك‌ قضايا جانبيّة‌ لانستطيع‌ أن‌ نحلّلها الآن‌ بنحو صائب‌.

 قال‌ أبو الفرج‌ الإصفهاني‌ّ: تزوّجت‌ سكينة‌ ابنة‌ الحسين‌ علیهما السلام‌ غير زوج‌. أوّلهم‌ عبد الله‌ بن‌ الحسن‌ بن‌ عليّ، وهو ابن‌ عمّها وأبو عذرتها. ومصعب‌ بن‌ الزبير، وعبد الله‌ بن‌ عثمان‌ الحزامي‌ّ، وزيدبن‌ عمروبن‌ عثمان‌، والاصبغ‌ بن‌ عبد العزيز بن‌ مروان‌ ولم‌ يدخل‌ بها، وإبراهيم‌بن‌ عبد الرحمن‌ بن‌ عوف‌ ولم‌ يدخل‌ بها. [8]

 قالت‌ الدكتورة‌ بنت‌ الشاطي‌: نقل‌ السيّد توفيق‌ الفكيكي‌ّ عن‌ السيّد عبدالرزّاق‌ الموسوي‌ّ في‌ كتاب‌ له‌ عن‌ السيّدة‌ سُكينة‌ ما نصّه‌:

 وهناك‌ من‌ المؤرّخين‌ من‌ يحكي‌ تزويج‌ السيّدة‌ سكينة‌ من‌ ابن‌ عمّها عبدالله‌ الاكبر ابن‌ الإمام‌ الحسن‌ المقتول‌ في‌ الطفّ مبارزةً. وأمّا غيره‌ من‌ الازواج‌، فعلی‌ ذمّة‌ التأريخ‌.

 وأضاف‌ السيّد توفيق‌: وهناك‌ من‌ الادلّة‌ التأريخيّة‌ المجمع‌ علی‌ صحّتها ما يؤيّد أنّ سكينة‌ تزوّجت‌ بعد ابن‌ عمّها عبد الله‌ بن‌ الحسن‌بن‌ عليّبمصعب‌ بن‌ الزبير، زوّجه‌ إيّاها أخوها الإمام‌ عليُ بن الحسين‌ السجّاد. [9]

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ«الصحيفة‌ الثالثة‌ السجّاديّة‌» ص‌ 2 إلی‌ 5، منشورات‌ مكتبة‌ الثقلين‌: القرآن‌ والعترة‌، عيد الغدير 1400 .

[2] ـ«الصحيفة‌ الخامسة‌ السجّاديّة‌» ص‌ 13 و 14، تحت‌ عنوان‌ الخامس‌ من‌ المقدّمات‌ التي‌ أوردها في‌ البداية‌، ومجموعها تسع‌، مطبعة‌ الفيحاء في‌ دمشق‌.

[3] ـ جاء في‌ «منتهي‌ الآمال‌» ج‌ 2، ص‌ 217 و 218، طبعة‌ علميّة‌ إسلاميّة‌، من‌ القطع‌ الرحلي‌ّ، ما تعريبه‌: والدته‌ أُمّ ولد اسمها سبيكة‌، وسمّاها الإمام‌ الرضا علیه‌ السلام‌ خيزران‌، وكانت‌ من‌ أهل‌ النوبة‌ ومن‌ قبيلة‌ مارية‌ القبطيّة‌ أُمّ إبراهيم‌ بن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌. وكانت‌ أفضل‌ نساء زمانها. وأشار إلیها رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ بقوله‌: بِأَبِي‌ ابنُ خِيَرَةَ الإمَاءِ النَّوْبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ.

[4] ـ الآية‌ 42، من‌ السورة‌ 53: النجم‌.

[5] ـ «منتهي‌ الآمال‌» ج‌ 1، ص‌ 199 إلی‌ 203، طبعة‌ علميّة‌ إسلاميّة‌، القطع‌ الرحلي‌ّ.

[6] ـ «الغدير» ج‌ 3، ص‌ 271 إلی‌ 273 .

[7] ـ ذكر ابن‌ شهرآشـوب‌ في‌ الجـزء الثاني‌، ص‌ 76 من‌ مناقبه‌ المطـبوعة‌ طبعة‌ حجريّة‌، أنّ عمر تزوّج‌ أُمّ كلثوم‌. ونقل‌ عن‌ كتاب‌ «الإمامة‌» لابي‌ محمّد النوبختي‌ّ أ نّها كانت‌ صغيرة‌، وأنّ عمر مات‌ قبل‌ أن‌ يدخل‌ بها. فتزوّجها عون‌ بن‌ جعفر، ثمّ محمّدبن‌ جعفر، ثمّ عبدالله‌ ابن‌ جعفر. ونقل‌ المحدِّث‌ القمّي‌ّ في‌ «منتهي‌ الآمال‌» ج‌ 1، ص‌ 135، الطبعة‌ الحجريّة‌ الرحليّة‌، طبعة‌ علميّة‌ إسلاميّة‌، زواج‌ عمر بها دون‌ دخول‌، وموت‌ عمر، نقلاً عن‌ «مناقب‌ ابن‌ شهرآشوب‌»، عن‌ النوبختي‌ّ. وروي‌ الكليني‌ّ في‌ «فروع‌ الكافي‌» ج‌ 5، ص‌ 346، باب‌ تزويج‌ أُمّ كلثوم‌، بسنده‌ المتّصل‌ عن‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ أ نّه‌ قال‌: إِنَّ ذَلِكَ فَرْجٌ غُصِبْنَاهُ . وكذلك‌ روي‌ عنه‌ علیه‌ السلام‌ أ نّه‌ لمّا خطب‌ عمر إلی‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ ابنته‌، قال‌ له‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌: إنَّهَا صَبيَّةٌ . فلقي‌ عمر العبّاس‌ فقال‌ له‌: مَا لِي‌؟! أَبِي‌َ بَأْسٌ؟! فقال‌ له‌ العبّاس‌: وما ذاك‌؟! فقال‌ عمر: خَطَبْتُ إلی‌ ابْنِ أَخِيكَ فَرَدَّنِي‌. أَمَا لاَعَوِّرَنَّ زَمْزَمَ، وَلاَ أَدَعُ لَكُمْ مَكْرُمَةً إلاَّ هَدَمْتُهَا، وَلاَقِيمَنَّ علیهِ شَاهِدَينِ بِأَ نَّهُ سَرَقَ، وَلاَقَطِّعَنَّ يَمِينَهُ . فَأتاه‌ العبّاس‌ فأخبره‌، وسأله‌ أن‌ يجعل‌ الامر إلیه‌، فجعله‌ إلیه‌.

 قال‌ ابن‌ حجر العسقلاني‌ّ الشافعي‌ّ في‌ كتاب‌ «الإصابة‌ في‌ تمييز الصحابة‌» ج‌ 4، ص‌ 468: أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ عليُ بن‌ أبي‌ طالب‌، أُمّها فاطمة‌ ابنة‌ النبي‌ّ. إنّ عمر خطب‌ إلی‌ عليُابنته‌ أُمّ كلثوم‌، فذكر له‌ صغرها. فقيل‌ له‌: إنّه‌ ردّك‌ فعاوده‌. فقال‌ له‌ علی‌ّ: أبعث‌ بها إلیك‌، فإن‌ رضيت‌ فهي‌ امرأتك‌ . فأرسل‌ بها إلیه‌، فكشف‌ عن‌ ساقها، فقالت‌: مَهْ! لَوْلاَ أَ نَّكَ أَمِيرُالمُؤمِنِينَ لَلَطَمْتُ عَيْنَيْكَ!

 قال‌ الزبير: ولدت‌ لعمر ابنيه‌: زيداً ورقيّة‌. وماتت‌ أُمّ كلثوم‌ وولدها في‌ يومٍ واحد. أُصيب‌ زيد في‌ حربٍ كانت‌ بين‌ بني‌ عدي‌ّ، فخرج‌ ليُصلح‌ بينهم‌، فشجّه‌ رجل‌ وهو لايعرفه‌ في‌ الظلمة‌، فعاش‌ أيّاماً، وكانت‌ أُمّه‌ مريضة‌ فماتا في‌ يومٍ واحد. وقال‌ بعد شرح‌ له‌ في‌ ص‌ 469: إنّ عمر خطب‌ أُمّ كلثوم‌ إلی‌ عليُعلیه‌ السلام‌، فقال‌ له‌ علی‌ّ: إنّما حَبَسْتُ بناتي‌ علی‌ بني‌ جعفر! فقال‌ عمر: زَوِّجنيها! فوالله‌ ما علی‌ ظهر الارضِ رَجُلٌ يَرْصُد من‌ كرامتها ما أرْصُدُ! فقال‌ علی‌ّ: قد فَعَلْتُ . فجاء عمر إلی‌ المهاجرين‌، فقال‌: رَفِّؤوني‌، 1 فَرَفَّؤُوهُ . فقالوا: بمن‌ تزوّجت‌؟! قال‌: ابنة‌ علی‌ّ. إنّ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ قال‌: كُلّ نَسَبٍ وَسَبَبٍ سَيُقطعُ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ نَسَبِي‌ وَسَبَبي‌، وَكُنتُ قَدْ صَاهَرتُ فَأَحْبَبْتُ هَذَا أَيضَاً. 2 ومن‌ طريق‌ عطاء الخراساني‌ّ أنّ عمر أمهرها أربعين‌ ألفاً. وأخرج‌ بسندٍ صحيح‌ أنّ ابن‌ عمر صلّي‌ علی‌ أُمّ كلثوم‌، وابنها زيد. فجعله‌ ممّا يليه‌ وكبّر أربعاً.                  هذا هو ما ذكره‌ ابن‌ حجر في‌ «الإصابة‌»، وذكر ابن‌ عبد البرّ مثله‌ في‌ كتاب‌ «الاستيعاب‌»، في‌ ذيل‌ الصفحة‌ والجزء المذكورين‌ من‌ «الإصابة‌»، إلی‌ أن‌ قال‌: جاءت‌ أباها فأخبرته‌ الخبر وقالت‌: بعثتني‌ إلی‌ شيخ‌ سوءٍ! فقال‌: يَا بُنَيَّة‌ إنَّهُ زَوْجُكِ!

 فجاء عمر إلی‌ مجلس‌ المهاجرين‌ في‌ الروضة‌، وكان‌ يجلس‌ فيها المهاجرون‌ الاوّلون‌ فجلس‌ إلیهم‌، فقال‌ لهم‌: رَفِّؤُنِي‌! فقالوا: بماذا يا أميرالمؤمنين‌؟ قال‌: تزوّجتُ أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ علی‌ّبن‌ أبي‌ طالب‌. ثمّ قرأ علیهم‌ الرواية‌، وفيها كلمة‌ الصهر مضافة‌ إلی‌ النسب‌ والسبب‌. وقال‌ أيضاً: إنّ عمر بن‌ الخطّاب‌ تزوّج‌ أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ عليُ بن‌ أبي‌ طالب‌ علی‌ مهر أربعين‌ ألفاً.

 وقال‌ ابن‌ كثير الدمشقي‌ّ: أبو الفداء في‌ تأريخه‌ «البداية‌ والنهاية‌» ج‌ 7، ص‌ 81: قال‌ الواقدي‌ّ: وفيها (في‌ سنة‌ 17 ه) تزوّج‌ عمر بأُمّ كلثوم‌ ابنة‌ عليُ بن‌ أبي‌ طالب‌، من‌ فاطمة‌ ابنة‌ رسول‌الله‌. ودخل‌ بها في‌ ذي‌ القعدة‌. وقد ذكرنا في‌ سيرة‌ عمر ومسنده‌ صفة‌ تزويجه‌ بها، وأ نّه‌ أمهرها أربعين‌ ألفاً. وقال‌ في‌ ص‌ 139: قال‌ المدائني‌ّ: وكان‌ قد خطب‌ أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ أبي‌بكر وهي‌ صغيرة‌، وراسل‌ فيها عائشة‌. فقالت‌: لا حاجة‌ لي‌ فيه‌. فقالت‌ عائشة‌: أترغبين‌ عن‌ أميرالمؤمنين‌ (عمر)؟ فقالت‌: نَعَمْ! إنّه‌ خشن‌ العيش‌ . فأرسلت‌ عائشة‌ إلی‌ عمروبن‌ العاص‌، فصدّه‌ عنها، ودلّه‌ علی‌ أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ عليُ بن‌ أبي‌ طالب‌، ومن‌ فاطمة‌ ابنة‌ رسول‌الله‌، وقال‌: تعلّق‌ منها بسبب‌ من‌ رسول‌ الله‌! فخطبها من‌ علی، فزوّجه‌ إيّاها، فأصدقها عمر أربعين‌ ألفاً، فولدت‌ له‌ زيداً ورقيّة‌.

 إلی‌ أن‌ قال‌: وخطب‌ أُمّ أبان‌ ابنة‌ عُتبة‌ بن‌ شَيبة‌. فكرهته‌، وقالت‌: يُغْلِقُ بَابَهُ وَيَمْنَعُ خَيْرَهُ، وَيَدْخُلُ عَابِساً وَيَخْرُجُ عَابِساً . وقال‌ الطبري‌ّ في‌ «تاريخ‌ الاُمم‌ والملوك‌» ج‌ 3، ص‌ 270، طبعة‌ القاهرة‌ 1357 ه: تزوّج‌ عمر أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ عليُ بن‌ أبي‌ طالب‌ وأُمّها فاطمة‌ ابنة‌ رسول‌الله‌. وأصدقها فيما قيل‌ أربعين‌ ألفاً، 3 فولدت‌ له‌ زيداً ورقيّة‌.

 قال‌ المدائني‌ّ: وخطب‌ عمر أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ أبي‌ بكر وهي‌ صغيرة‌، وأرسل‌ فيها إلی‌ عائشة‌. فقالت‌: الامر إلیك‌. فقالت‌ أُمّ كلثوم‌: لا حاجة‌ لي‌ فيه‌! قالت‌ لها عائشة‌: ترغبين‌ عن‌ أميرالمؤمنين‌ (عمر)؟! قالت‌: نعم‌! إنَّهُ خَشِنُ العَيْشِ شَدِيدٌ علی‌ النِّسَاءِ . فأرسلت‌ إلی‌ عمروبن‌ العاص‌، فأخبرته‌، فقال‌: أكفيك‌! فأتي‌ عمر، فقال‌: يَا أَميرِ المؤمِنِينَ بَلَغَنِي‌ خَبرٌ أُعِيذُكَ بِاللَهِ مِنْهُ!

 قال‌ عمر: ما هو؟! قال‌ عمرو بن‌ العاص‌: خطبتَ أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ أبي‌ بكر؟! قال‌: نَعَمْ! أَفَرَغِبْتَ بِي‌ عَنْهَا أَمْ رَغِبْتَ بِهَا عَنِّي‌؟!

 قال‌ عمرو بن‌ العاص‌: لاَ وَاحِدَةٌ وَلَكِنَّهَا حَدَثَةٌ نَشَأْتُ تَحْتَ كَنَفِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ فِي‌ لِينٍ وَرِفْقٍ، وَفِيكَ غِلْظَةٌ وَنَحْنُ نَهَابُكَ وَمَا نَقْدِرُ أَنْ نَرُدَّكَ عَنْ خُلُقٍ مِنْ أَخْلاَقِكَ فَكَيْفَ بِهَا إنْ خَالَفَتْكَ فِي‌ شَي‌ءٍ فَسَطَوْتَ بِهَا كُنْتَ قَدْ خَلَفْتَ أَبَا بَكْرٍ فِي‌ وُلْدِهِ بِغَيْرِ مَا يَحِقُّ علیكَ!

 قال‌ عمر: فكيف‌ لي‌ بعائشـة‌ وقد كلّمتُها فيها؟! فقال‌ عمرو بن‌ العاص‌: أَنا لَـكَ بِهَا وَأَدُلُّكَ علی‌ خَيْرٍ مِنْهَا: أُمِّ كُلثُومِ ابْنَةِ عليُ بن أَبِي‌ طَالِبٍ تَعَلَّقُ مِنْهَا بِنَسَبٍ مِنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ!

 ونقل‌ ابن‌ أبي‌ الحديد عين‌ هذه‌ الرواية‌ عن‌ الطبري‌ّ، وذلك‌ في‌ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌» ج‌ 12، ص‌ 221 و 222، طبعة‌ مصر.

 وذكر العلاّمة‌ الاميني‌ّ في‌ كتاب‌ «الغدير» ج‌ 6، ص‌ 95 إلی‌ 99، في‌ باب‌ نوادر الاثر في‌ علم‌ عمر، إعلان‌ عمر علی‌ المنبر أنّ مهر النساء ينبغي‌ أن‌ لا يزيد علی‌ أربعمائة‌ درهم‌، وإذا زاد فإنّه‌ يُرجعه‌ إلی‌ بيت‌ المال‌. ونقل‌ ذلك‌ في‌ تسع‌ صور عن‌ المصادر الوثيقة‌ للعامّة‌. وقال‌ في‌ ختام‌ كلامه‌: ولعلّ الخليفة‌ أخذ برأي‌ امرأةٍ أصابت‌ وتزوّج‌ بأُمّ كلثوم‌، وجعل‌ مهرها أربعين‌ ألفاً كما في‌ «تاريخ‌ ابن‌ كثير» ج‌ 7، ص‌ 81 و 139؛و«الإصابة‌» ج‌ 4، ص‌ 492؛و«الفتوحات‌ الإسلاميّة‌» ج‌ 2، ص‌ 472 .

 وسرد عبد الجليل‌ القزويني‌ّ الرازي‌ّ في‌ كتاب‌ «النقض‌» المعروف‌ بـ«بعض‌ مثالب‌ النواصب‌ في‌ نقض‌ بعض‌ فضائح‌ الروافض‌» ص‌ 276 إلی‌ 279، هذه‌ القصّة‌ علی‌ لسان‌ المعاندين‌، ثمّ ذكر جوابها. ونحن‌ نذكر فيما يأتي‌ أصل‌ الإشکال الذي‌ طرحه‌ السُّنّي‌ّ الناصبي‌ّ، وجواب‌ ذلك‌ الرجل‌ العظيم‌ تتميماً للفائدة‌ حتّي‌ تستبين‌ جوانب‌ القضيّة‌ جيّداً. قال‌: قوله‌: ذكر الشريف‌ المرتضي‌ في‌ كتابه‌ أنّ علیاً علیه‌ السلام‌ أعطي‌ عمرَ ابنتَهُ، لا نّه‌ كان‌ قد أقسم‌ بهدم‌ حجرة‌ فاطمة‌ علی‌ رأسه‌ إن‌ لم‌ يعطها إيّاه‌. وقال‌ البهري‌ّ: لم‌ يظفر بها عمر، إذ علم‌ الله‌ تعإلی‌ أنّ هذا الزواج‌ لا يصلح‌. وقال‌ البعض‌: حرّضت‌ عائشة‌ عمر علی‌ ذلك‌ الزواج‌، لا نّها كانت‌ ترغب‌ في‌ أن‌ يؤذي‌ عمر علیاً، وقالت‌ لعمر: اخطب‌ أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ فاطمة‌ ابنة‌ رسول‌الله‌ علی‌ الرغم‌ من‌ عليُلا نّها في‌ غاية‌ الجمال‌، والزهراء غير موجودة‌ عنده‌ فيمتنع‌ من‌ ذلك‌. ولم‌يقبل‌ علی‌ّ، فشكي‌ عمر إلی‌ العبّاس‌ بن‌ عبد المطّلب‌ قائلاً: إذا لم‌ يعطني‌ عليُابنته‌ فسأستشهد علیه‌ أ نّه‌ زني‌. فقال‌ علی‌ّ: من‌ أين‌ تأتي‌ بالشاهد؟! قال‌ عمر: أنا حاكم‌ ووالٍ، وإذا حكمتُ فليس‌ لاحد أن‌ يفسخ‌ حكمي‌. ثمّ أرجمك‌! فأخبر علی عمّه‌ العبّاس‌ بذلك‌. فقال‌ العبّاس‌: يا بن‌ أخي‌، أعطه‌ ابنتك‌ فإنّه‌ إذا أراد أن‌ يفعل‌ ما عزم‌ علیه‌ فمن‌ ذا الذي‌ يمنعه‌؟! ليست‌ البنت‌ بأعظم‌ وأفضل‌ من‌ الخلافة‌ التي‌ غصبها.

 قال‌ علی‌ّ: أنا لا أرضي‌ أن‌ يتّصل‌ تَيْس‌ بني‌ عَدي‌ّ بكبش‌ بني‌ هاشم‌. فقال‌ العبّاس‌: إذا لم‌تعطها فأنا أُعطيها إذ لي‌ علیك‌ وعلی‌ ابنتك‌ ولاية‌. ولم‌ ترض‌ البنت‌، فجاء العبّاس‌ وأخذها وأعطاها عمر وعليُغير راضٍ.

 فلو صحّ ما قاله‌ الخواجة‌ الرافضي‌ّ إنّ عمر زانٍ وغاصب‌، وهو عند الرافضي‌ّ مهين‌، فقد أُخذت‌ أُمّ كلثوم‌ حراماً، ووُلد منها زيد حراماً، وكان‌ العبّاس‌ قوّاداً، وكان‌ عليُأقلّ من‌ العنكبوت‌ منزلةً، وأثبت‌ أن‌ لا حميّة‌ عنده‌، كما هو مذهب‌ أهل‌ الرفض‌، إذ ينسبونه‌ إلی‌ العجز والنقص‌ والعصيان‌ والمداهنة‌ والنفاق‌ وعدم‌ الكياسة‌ والدهاء. وهو ما يناسب‌ (حيو) الحائك‌، و(مدوس‌) الندّاف‌، و(زيرك‌) الحارس‌، و(فَرُّخ‌) الحاجب‌، وإسكندر المخنّث‌، إذ يأخذون‌ منه‌ ابنته‌ ويُمسكون‌ بها وهو غير راضٍ، ويرضخ‌ لهم‌ ويقول‌: أنتم‌ وما تعلمون‌، ثمّ يأخذ من‌ عمر المال‌ والصلات‌ والارزاق‌. وقال‌: سئل‌ جعفر الصادق‌ علیه‌ السلام‌ عن‌ هذا الزواج‌ فقال‌: ذَلِكَ فَرْجٌ غُصِبْناهُ. وليس‌ علی‌ وجه‌ الارض‌ أكذب‌ من‌ الرافضي‌ّ، ولارصيد للرافضة‌ إلاّ البهتان‌.

 أمّا جواب‌ هذا الفصل‌ الطويل‌ الذي‌ أورده‌ علی‌ هذا الوجه‌ فنقول‌ فيه‌: لا يري‌ المذهب‌ الشيعي‌ّ أنّ علیاً علیه‌ السلام‌ أفضل‌ من‌ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ أو أ نّه‌ يساويه‌ في‌ المنزلة‌ أيضاً! وابنة‌ عليُعلیه‌ السلام‌ ليست‌ أفضل‌ من‌ بنات‌ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌. ويتّفق‌ السُّنّة‌ علی‌ أنّ عمر أفضل‌ من‌ عثمان‌ بن‌ عفّان‌ ولا تنكر الشيعة‌ أنّ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ زوّج‌ عثمان‌ ابنتيه‌. فإذا جاز ذلك‌ وقد تحقّق‌، فقد جاز هذا أيضاً. وإذا وُجد نقصان‌ هنا، فقد كان‌ هناك‌ أيضاً. وإذا كانت‌ في‌ذلك‌ مصلحة‌، ففي‌ هذا مصلحة‌ أيضاً. وزوّج‌ المصطفي‌ صلّي‌الله‌ علیه‌ وآله‌ ابنتيه‌ بأمر الله‌ تعإلی‌. ولم‌ يكن‌ عليُعلیه‌ السلام‌ أعلم‌ من‌ المصطفي‌ صلّي‌الله‌ علیه‌ وآله‌، حتّي‌ يُقاس‌ هذا الفصل‌ بذلك‌ الفصل‌. وليعلم‌ هذا المصنّف‌ أ نّه‌ قد افتري‌ علی‌ هذه‌ الطائفة‌ وكذب‌ علیها. ويضاف‌ إلی‌ هذا الفصل‌ أ نّه‌ قد جاء في‌ التواريخ‌ والآثار أنّ المصطفي‌ صلّي‌الله‌ علیه‌ وآله‌ زوّج‌ ابن‌ أبي‌ لهب‌ ابنته‌، وزوّج‌ ربيع‌ بن‌ العاص‌ ابنته‌ الاُخري‌ لِيُعْلَمَ أنّ الانبـياء والائمّة‌ علیهـم‌ السـلام‌ جميعاً قد زوّجـوا بناتهـم‌ لمن‌ هم‌ أقـلّ منهـم‌ درجـةً، ولم‌تنقص‌ منزلتهم‌ لذلك‌. والالفاظ‌ التي‌ استخدمها هذا المصنّف‌ غير المنصف‌ وغير الموثوق‌ به‌ في‌ حقّ عليُوالعبّاس‌ كلّها فسق‌ وكفر وطغيان‌. وكان‌ عمر والعبّاس‌ وغيرهما يعلمون‌ أنّ الآخرين‌ إذا كانوا قد أسلموا بعد كفرهم‌ فقد كان‌ عليُعلیه‌ السلام‌ مؤمناً منذ البداية‌. وإذا نُسب‌ الآخرون‌ إلی‌ الكفر والمعصية‌، فقد كان‌ عليُعلیه‌ السلام‌ منزّهاً عن‌ المعاصي‌ كلّها بدليل‌ المأثور عن‌ الرسول‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ أ نّه‌ قال‌: إنِّي‌ لاَ أَخَافُ علیهِ أَنْ يَرْجِعَ كَافِراً بَعْدَ إيمَانٍ وَلاَ زَانِياً بَعْدَ إحْصَانٍ . فأميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ لم‌ يخش‌ إذا قال‌ عمر شيئاً أو لم‌يَقُل‌. وذلك‌ الكلام‌ لم‌ يقله‌ عمر. وإذا قال‌ تلك‌ الكلمة‌ رغبةً في‌ الاتّصال‌، فلايُسْتَبْعَدُ منه‌ لا نّه‌ غير معصوم‌. وإنّ ما تقوّله‌ المصنّف‌ المذكور علی‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌، والشريف‌ المرتضي‌ رضي‌الله‌ عنه‌ والشيعة‌ والإماميّة‌ كثّر الله‌ عددهم‌، كلّه‌ كذب‌ وبهتان‌. فقد كان‌ النكاح‌ بِرِضَا علی‌ّ، وكان‌ العبّاس‌ مصيباً في‌ وساطته‌، وكان‌ عمر محموداً علی‌ رغبته‌. ويعرف‌ العلماء أنّ زواج‌ عثمان‌ بابنة‌ المصطفي‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ كان‌ فخراً لعثمان‌ لا للمصطفي‌ صلّي‌الله‌ علیه‌ وآله‌. وكان‌ إلی‌ يوم‌ وفاتها يقول‌: نِعْمَ الخَتَنُ القَبْرُ. 4

 وإذا كانت‌ ابنة‌ المرتضي‌ علیه‌ السلام‌ زوجةً لعمر، فذلك‌ فخر لعمر نفسه‌، لا لعليُعلیه‌ السلام‌. وشتّان‌ ما بين‌ بني‌ هاشم‌ وبني‌ عَدي‌ّ. وبين‌ الخطّاب‌ وأبي‌ طالب‌، وبين‌ عمر وعليُالمرتضي‌ علیه‌ السلام‌. وإن‌ المصنّف‌ غير الموثوق‌ به‌ يتحمّل‌ وزر تلك‌ الكلمة‌ التي‌ قذف‌ بها الشريف‌ المرتضي‌ والشيعة‌ كذباً والحمد لله‌ رب‌ العالمين‌.

 أجل‌، استبان‌ ممّا ذكرناه‌ أنّ زواج‌ عمر بأُمّ كلثوم‌ أمر تأريخي‌ّ ثابت‌ مسلَّم‌ به‌ ولايمكن‌ إنكاره‌، 5 وبعد قتل‌ عمر، تزوّجت‌ عوناً ثمّ محمّداً ابني‌ جعفر الطيّار. فتحقّق‌ ما كان‌ يريده‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌. وأمّا زواجها الاوّل‌ فقد مرّ تفصيله‌ في‌ تضاعيف‌ الموضوع‌.

 ومن‌ الغرائب‌ مهرها المقدّر بأربعين‌ ألفاً. وهو أمر لا عهد للناس‌ به‌ يومئذٍ. وأمّا رغبة‌ عمر في‌ الفخر بحفيدة‌ رسول‌ الله‌، وفي‌ أن‌ يكون‌ له‌ ولد منها مع‌ ما كان‌ علیه‌ من‌ القدرة‌ والإمارة‌ والسلطة‌، فهذا أمر لا ريب‌ فيه‌. ولا ندري‌ ماذا كان‌ يقصده‌ بعمله‌ ذلك‌؟ هل‌ كان‌ يريد أن‌ يؤذي‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌، ويأتي‌ عند المهاجرين‌ ورأسه‌ يقطر ماءً، فيرفع‌ صوته‌ في‌ المسجد النبوي‌ّ بين‌ المحراب‌ والقبر الشريف‌ حيث‌ كان‌ يجلس‌ المهاجرون‌، ويقول‌ متباهياً متبختراً: رَفِّؤُنِي‌! رَفِّؤنِي‌!؟ أم‌ أ نّه‌ أراد أن‌ ينفّس‌ عن‌ حنقه‌ الدفين‌ الذي‌ اختزنه‌ علی‌ فاطـمة‌ الزهراء سلام‌ الله‌ علیها عندما عادها وهي‌ مريضـة‌ وسـلّم‌ علیها فلم‌ تـردّ سـلامه‌ ومالت‌ بوجهها إلی‌ الجدار، وأعلنت‌ عن‌ كفره‌ وشركه‌ عمليّاً، فأراد أن‌ يثأر منها بابنتها الصغيرة‌ نور عينها، ويبكِّت‌ بضعة‌ رسول‌ الله‌ من‌ وحي‌ شيطنته‌ وتعصّبه‌ الجاهلي‌ّ؟ نحن‌ لانحكم‌ هنا بشي‌ء، ونترك‌ الحكم‌ إلی‌ المطّلعين‌ علی‌ التأريخ‌. فهو الذي‌ ضغط‌ الباب‌ علی‌ ضلع‌ فاطمة‌ بالامس‌، وأجهض‌ جنينها محسناً، ورماه‌ علی‌ الارض6 ففارق‌ الحياة‌ بعد ثلاثة‌ أشهر. أجل‌، هذه‌ هي‌ قضايا التأريخ‌ الثابتة‌. ماذا نفعل‌ فقد ذكرها التأريخ‌ بإتقان‌ وإحكام‌؟ إنّ وضع‌ الحبل‌ في‌ عنق‌ علی‌ٍّ، وجرّه‌ إلی‌ المسجد من‌ أجل‌ البيعة‌ من‌ قضايا التأريخ‌ المقطوع‌ بها. 7 وهكذا قُدماً وصولاً إلی‌ كربلاء حيث‌ استشهاد إمام‌ الحقّ تحت‌ مخالب‌ فرعون‌ زمانه‌ المشؤوم‌ الذي‌ انتهل‌ من‌ فرعونيّة‌ ذلك‌ الرجل‌ الخبيث‌، وحيث‌ انطلق‌ السهم‌ من‌ السقيفة‌، فاستقرّ في‌ عنق‌ عليُالاصغر في‌ أرض‌ الطفّ! فهذه‌ كلّها من‌ مسلّمات‌ التأريخ‌.

 وأمّا قول‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌: ذَلِكَ فَرْجٌ غَصَبُوهَا، فهو صحيح‌، أي‌: أنّ الزواج‌ تمّ بدون‌ إمضاء الاب‌ والبنت‌ ورضاهما، مع‌ أنّ المراسم‌ الصوريّة‌ والصيغة‌ العرفيّة‌ قد تحقّقت‌. ولكن‌ لمّا كان‌ من‌ وحي‌ الإكراه‌، فلا تترتّب‌ علیه‌ آثار الزواج‌ الحقيقي‌ّ. لقد كان‌ عمل‌ عمر حراماً، بَيدَ أنّ عمل‌ أُمّ كلثوم‌ لم‌ يكن‌ حراماً. فعملها بالنسبة‌ إلیه‌ لم‌ يكن‌ زنا، ويعدّ أولادها منه‌ أولاد حلال‌، لانّ كلّ عمل‌ يتحقّق‌ بإكراه‌، فلا مؤاخذة‌ ولا عذاب‌ علیه‌ في‌ شريعة‌ الإسلام‌ المقدّسة‌. وتترتّب‌ آثار أولاد الحلال‌ علی‌ من‌ ولدوا من‌ امرأةٍ موطوئة‌ بإكراه‌، كأولاد الوط‌ء بالشبهة‌، المذكورة‌ تفاصيله‌ في‌ الفقه‌.

 وعلی‌ هذا فالروايات‌ التي‌ تدلّ علی‌ أنّ أميرالمؤمنين‌ زوّج‌ ابنته‌ بوساطة‌ العبّاس‌ مبتنية‌ علی‌ الظروف‌ والمصلحة‌ القائمة‌ آنئذٍ. وأنّ ذلك‌ الزواج‌ تمّ من‌ أجل‌ الحؤول‌ دون‌ المفاسد التي‌ قد تترتّب‌ علی‌ رفض‌ عمر وعدم‌ الزواج‌. والروايات‌ التي‌ تدلّ علی‌ أنّ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ لم‌ يزوّجها عن‌ رضاً قائمة‌ علی‌ أساس‌ عدم‌ الميل‌ الباطني‌ّ وطيب‌ النفس‌ المعبَّر عنهما في‌ الخبر بالغصب‌.

 ومن‌ الجدير ذكره‌ أنّ البنات‌ اللائي‌ّ نزوّجهنّ بإكراه‌، لا عن‌ طيب‌ خاطرهنّ وخاطر آبائهنّ أو نزوّجهنّ عن‌ حياء، يصحّ زواجهنّ هذا وتترتّب‌ علیه‌ الآثار المارّ تفصيلها.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1 ) في‌ «الإصابة‌» و«الاستيعاب‌» المطبوعين‌: زفّوني‌ بالزاي‌ المعجمة‌! وهذا خطأ لفقدانه‌ المعني‌ المناسـب‌ . والصحيح‌ بالراء المهملة‌، من‌ رفـأ وتفعـيله‌ رَفَّـأَ. (كما في‌ «الطبقات‌ الكبري‌» ج‌ 8، ص‌ 463 ). وفي‌ «النهاية‌» لابن‌ الاثير، ج‌ 2، ص‌ 240، مادّة‌ رفأ: نهي‌ أن‌ يقال‌ للمتزوّج‌ بالرِّفاء والبنين‌. الرِّفاء: الالتئام‌ والاتّفاق‌ والبركة‌ والنماء، من‌ قول‌ العرب‌: رَفَأْتُ الثَّوْبَ رَفْأً . وإنّما نهي‌ عنه‌ كراهية‌، لا نّه‌ كان‌ من‌ عادتهم‌. ولهذا سنّ فيه‌ غيره‌. وفي‌ «أقرب‌ الموارد»: (رَفَّأَهُ) تَرْفِيئَةً وَتَرْفِيئاً: قال‌ له‌ بالرِّفاء والبنين‌، أي‌: بالالتئام‌ وجمع‌ الشمل‌ واستيلاد البنين‌. وهو دعاءٌ للمتأهِّل‌. والباء من‌ قوله‌: بالرِّفاء متعلِّقة‌ بمحذوف‌ تقديره‌ لِيَكُن‌ الامر. وهَنَّا بعضهم‌ معرِّساً فقال‌: بالرِّفاء والثبات‌ والبنين‌ والبنات‌. أي‌: بالالتئام‌ وعدم‌ الطلاق‌ واتّساع‌ الولادة‌ فتشتمل‌ علی‌ البنين‌ والبنات‌.

 2 ) ينبغي‌ الالتفات‌ إلی‌ أنّ زواج‌ عمر من‌ أُمّ كلثوم‌ لا يفضي‌ إلی‌ علاقة‌ نسبيّة‌.

 3 ) جاء في‌ كتاب‌ «المقدّمات‌ لبيان‌ ما في‌ رسوم‌ المدوّنة‌ الكبري‌» تإلیف‌ أبي‌ الوليد محمّدبن‌ أحمد بن‌ رشد المتوفّي‌ سنة‌ 520، المشهور بمقدّمات‌ ابن‌ رشد، طبعة‌ مطبعة‌ السعادة‌، ج‌ 1، ص‌ 358 فما بعدها، في‌ ذكر الصداق‌ ومقدار المهر: وروي‌ الشعبي‌ّ عنه‌ (عن‌ عمر) أ نّه‌ خطب‌ الناس‌ فحمد الله‌ وأثني‌ علیه‌. ثمّ قال‌: لا تُغالوا في‌ صدقات‌ النساء. فإنّه‌ لايبلغني‌ عن‌ أحدٍ ساق‌ أكثر من‌ شي‌ء ساقه‌ نبي‌ّ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌، أو سيق‌ إلیه‌ إلاّ جعلتُ فضل‌ ذلك‌ في‌ بيت‌ المال‌. ثمّ نزل‌ فعرضـت‌ له‌ امرأة‌ من‌ قريـش‌. فقالت‌: يا أمير المؤمنين‌! كتاب‌ الله‌ أحقّ أن‌ يُتَّبع‌ أو قولك‌! قال‌: بلي‌، كتاب‌ الله‌، لم‌ ذلك‌؟ قالت‌: إنّك‌ نهيت‌ الناس‌ أن‌ يتغالوا في‌ صداق‌ النساء، والله‌ يقول‌ في‌ كتابه‌: وَءَاتَيْتُمُ إحْدَ ' هُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا . فقال‌ عمر: كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَر مرّتين‌ أو ثلاثاً. ثمّ رجع‌ إلی‌ المنبر، فقال‌ للناس‌: إنّي‌ كنتُ نهيتكم‌ عن‌ صداق‌ النساء فليفعل‌ رجل‌ في‌ ماله‌ ما شاء. فرجع‌ عمّا كان‌ رآه‌ فيها اجتهاداً نظراً للناس‌ إلی‌ ما قامت‌ به‌ علیه‌ الحجّة‌. فأباحه‌ للناس‌ واستعمله‌ في‌ نفسه‌. فأصدق‌ أمّ كلثوم‌ ابنة‌ عليُ بن‌ أبي‌ طالب‌ أربعين‌ ألفاً. وممّا يدلّ علی‌ إباحة‌ قليل‌ الصدقة‌ وكثيرها أنّ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ أصدق‌ عنه‌ النجاشي‌ّ أُمّ حبيبة‌ لمّا زوّجه‌ إيّاها أربعة‌ آلاف‌ وجهّزها من‌ عنده‌، وبعث‌ بها إلیه‌ مع‌ شرحبيل‌ بن‌ حبيبة‌، فلم‌ ينكر ذلك‌ من‌ فعله‌ ولا أعطاها هو شيئاً من‌ عنده‌ علی‌ ما روي‌ والله‌ أعلم‌. وزوّج‌ سعيد بن‌ المسيِّب‌ ابنته‌ بدرهمين‌. وقيل‌: بثلاثة‌ دراهم‌. وقيل‌: بأربعة‌ دراهم‌ من‌ عبد الله‌ بن‌ وداعة‌. وقصّته‌ في‌ إنكاحه‌ إيّاها مشهورة‌. ولو شاء أن‌ يزوّجها من‌ أهل‌ إلیسار والشرف‌ بأربعة‌ آلاف‌ وأضعافها مرّات‌، لفعل‌، لتنافس‌ الناس‌ فيها، وبالله‌ سبحانه‌ وتعإلی‌ التوفيق‌.     

4 ) في‌ «أقرب‌ الموارد»: وأمّا عند العامّة‌ فختن‌ الرجل‌ زوج‌ ابنته‌. من‌ هنا ندرك‌ مدي‌ العذاب‌ الذي‌ لاقته‌ ابنة‌ رسول‌ الله‌ من‌ عثمان‌ حتّي‌ عبّر صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ عن‌ القبر بأ نّه‌ أفضل‌ ختن‌ حافظ‌ وزوج‌ جيّد لا أذي‌ فيه‌ لبنته‌.

 5 ) من‌ الوثائق‌ الدالّة‌ علی‌ زواج‌ عمر بأُمّ كلثوم‌ رواية‌ واردة‌ في‌ كتاب‌ «الكامل‌ في‌ التاريخ‌» لابن‌ الاثير الجزري‌ّ، ج‌ 4، ص‌ 12 . وفيها قال‌ جويريّة‌ بن‌ أسماء: كان‌ بسربن‌ أبي‌ أرطاة‌ عند معاوية‌ فنال‌ من‌ علی وزيد بن‌ عمر بن‌ الخطّاب‌ حاضر وأُمّه‌ أُمّ كلثوم‌ ابنة‌ عليُفعلاه‌ بالعصاه‌ وشجّه‌، فقال‌ معاوية‌ لزيد: عمدت‌ إلی‌ شيخ‌ قريش‌ وسيّد أهل‌ الشام‌ فضربتَه‌، وأقبل‌ علی‌ بسرٍ فقال‌: تشتم‌ علیاً وهو جدّه‌ وابن‌ الفاروق‌ علی‌ رؤوس‌ الناس‌ أتري‌ أن‌ يصبر علی‌ ذلك‌؟! فأرضاهما جميعاً.

 6 ) أجمع‌ علماء الإماميّة‌ علی‌ أنّ فاطمة‌ الزهراء علیها السلام‌ عُصِرَتْ بِالبَابِ حَتَّي‌ كُسِرَ ضِلْعُهَا وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا وَمَاتَتْ وَفِي‌ عَضُدِهَا كَالدُّمْلُج‌.

 قال‌ الشيخ‌ محمّد الحسين‌ آل‌ كاشف‌ الغطاء في‌ كتاب‌ «جنّة‌ المأوي‌» ص‌ 156:

 (فاطمة‌ الزهراء علیها السلام‌)

 طفحت‌ واستفاضت‌ كتب‌ الشيعة‌ من‌ صدر الإسلام‌ والقرن‌ الاوّل‌ مثل‌ كتاب‌ سُليم‌بن‌ قيس‌، ومن‌ بعده‌ إلی‌ القرن‌ الحادي‌ عشر وما بعده‌ بل‌ إلی‌ يومنا، كلّ كتب‌ الشيعة‌ التي‌ عنيت‌ بأحوال‌ الائمّة‌، وأبيهم‌ الآية‌ الكبري‌ وأُمّهم‌ الصِّدِّيقة‌ الزهراء صلوات‌ الله‌ علیهم‌ أجمعين‌. وكلّ من‌ ترجم‌ لهم‌ وأ لّف‌ كتاباً فيهم‌، أطبقت‌ كلمتهم‌ تقريباً أو تحقيقاً في‌ ذكر مصائب‌ تلك‌ البضعة‌ الطاهرة‌: إنَّها بَعْدَ رِحلةِ أَبِيهَا المُصْطَفَي‌ ضَرَبَ الظَّالِمُونَ وَجْهَهَا، وَلَطَمُوا خَدَّهَا، حَتَّي‌ احْمَرَّتْ عَيْنُهَا وَتَنَاثَرَ قُرْطُهَا وَعُصِرَتْ بِالبَابِ حَتَّي‌ كُسِرَ ضِلْعُهَا، وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا، وَمَاتَتْ وَفِي‌ عَضُدِهَا كَالدُّمْلُجِ.

 ثمّ أخذ شعراء أهل‌ البيت‌ سلام‌ الله‌ علیهم‌ هذه‌ القضايا والرزايا، ونظموها في‌ أشعارهم‌ ومراثيهم‌ وأرسلوها إرسال‌ المسلّمات‌: من‌ الكُميت‌، والسيّد الحميري‌ّ، ودِعبل‌ الخُزاعي‌ّ، والنَّميري‌ّ، والسَّلامي‌ّ، وديك‌ الجنّ ومن‌ بعدهم‌ ومن‌ قبلهم‌ إلی‌ هذا العصر.

 وتوسّع‌ أعاظم‌ شعراء الشيعة‌ في‌ القرن‌ الثالث‌ عشر والرابع‌ عشر الذي‌ نحن‌ فيه‌، كالخطّي‌ّ، والكعبي‌ّ، والكوازين‌، وآل‌ السيّد مهدي‌ الحلّيّين‌، وغيرهم‌ ممّن‌ يعسر تعدادهم‌، ويفوت‌ الحصر جمعهم‌ وآحادهم‌.

 7 ) تحدّثتُ في‌ هذا الموضوع‌ بأسناد تأريخيّة‌ معتبرة‌ وذلك‌ في‌ ج‌ 2، الدرس‌ 21 من‌ كتابنا هذا «معرفة‌ الإمام‌»، من‌ دورة‌ العلوم‌ والمعارف‌ الإسلاميّة‌.

[8] ـ«الاغاني‌» ج‌ 16، ص‌ 149، طبعة‌ دار الكتب‌.

[9] ـ«موسوعة‌ آل‌ النبي‌ّ» للدكتورة‌ عائشة‌ بنت‌ الشاطي‌، ص‌ 827 .

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

التعريف و الدليل

كلية الحقوق، محفوظة و متعلقة بموسسة ترجمة و نشر دورة علوم و معارف الاسلام
info@maarefislam.org