سيرة الإمام علي (عليه السلام) / 1

 

تأليف : الشيخ نجاح الطائي

 
الإهداء
أهدي بحثي هذا إلى سيّدي ومولاي أمير المؤمنين أوّل السابقين وقائد المتّقين يوم القيامة ، إمام العدل والفصاحة ورائد الحرّية .

الذي عرفته سوح القتال ، وبيوت العبادة ودور الأيتام والمساكين .

المهاجر للدنيا وقصورها وأموالها والساعي للآخرة ويقينها .

ذلك البطل الهمام والعالم المقدام الذي عجزت الأقلام عن وصفه .

راجياً من الله تعالى القبول إنّه نعم المولى ونعم الوكيل .

نجاح الطائي

 

المقدّمة

قدَّم الله سبحانه وتعالى نموذجاً للبشريّة صالح الأعمال ووزيراً لخاتم الأنبياء وسيّداً للأوصياء ومناراً للناس ، ورأساً للحضارة ، وقدوةً للمدنيّة يكون بعد محمّد  (صلى الله عليه وآله) في العلم الأوّل ، وفي البطولة الأوحد ، وفي البلاغة المؤسّس ، وفي الأخلاق الأُستاذ ، وفي الإسلام الأوّل .

فكان علي (عليه السلام) الأوّل في مجالات الحياة كافّة فقال الله تعالى في حقّه : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ) .

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّه أحاديثاً كثيرة لم يقلها في غيره وانتخبه بأمر من الله تعالى وزيراً ووصيّاً ووارثاً وخليفةً وصهراً .

وعيّنه قسيماً للنار والجنّة .

وحدّد الإيمان في حبّه وبغضه .

فجعله الله تعالى امتحاناً للمسلمين يفرزهم فيه بين الحقّ والباطل .

وقال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « علي سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين »([1]).

وقال النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) فيه قولا رائعاً أحببت ذكره : « لو أنّ الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حساب ، والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب  »([2]).

إذ كان النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) يذكر مناقب الإمام علي (عليه السلام) في ليله ونهاره وفي حضره وسفره ، وفي مكّة والمدينة .

لذا انتشرت فضائل الإمام (عليه السلام) في كلّ مكان وبأسانيد صحيحة .

وكان ثلث القرآن في علي وأهل البيت (عليهم السلام) فسعينا لتتبّع هذه الآيات النازلة في علي (عليه السلام) في باب واحد ليطّلع عليها القارئ اللبيب ، ويكون على بيّنة في موضوع الاحترام الإلهي لعلي (عليه السلام) .

ويتدبّر في الودّ الكبير الذي يكنّه الله تعالى لعبده الزاهد والعابد والمطيع علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

ويتدبّر في آيات الله تعالى النازلة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التي تظهر المكانة العالية له عند الباري عزّوجلّ .

وكثرة هذه الآيات وبيانها الرائع تحثّ المطالع على إدامة البحث والتقصّي في شخصية الإمام العظيمة وسبر أغوارها للوصول إلى كنهها وجوهرها .

والكتاب هذا يأخذ بيد القارئ إلى هذه المواضيع الواحد بعد الآخر فيمكّن المطالع من الحصول على ثروة علميّة وأخلاقيّة جيّدة في ساحة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

وينتقل القارئ إلى مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله) في جولة تفقّدية فاحصة ، لتلك المدينة الحضارية التي بابها أمير المؤمنين ، فالنبي (صلى الله عليه وآله) هو القائل :

« أنا مدينة العلم وعلي بابها »([3]).

وسعة هذه المدينة العلمية الراقية مكّنت علياً (عليه السلام) من القول المدهش :

« اسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالله إنّي أعلم طرق السماوات والأرض »([4]).

فالكتاب أخذ على عاتقه سبر أغوار العلوم التي وهبها الله تعالى لأمير المؤمنين (عليه السلام) وحباها به فكان رأس العلم وأُسّه الأساس حتّى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «  لو قسِّم العلم إلى عشرة أقسام لحصل علي بن أبي طالب على تسعة أقسامه ولشارك الناس في القسم العاشر »([5]).

واهتمّ الكتاب بموضوع صفات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأظهرها على حقيقتها بعيداً عن حقد بني أُميّة والمنافقين .

فكان الله سبحانه وتعالى قد أرسل علياً (عليه السلام) بصفات عيسى (عليه السلام) في جماله وموسى  (عليه السلام) في قوّته . وقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « ياعلي مثلك في أُمّتي مثل المسيح عيسى بن مريم  »([6]).

فكان علي (عليه السلام) آية في الجمال والكمال الممنوحين من الباري عزّوجلّ ويُضرب به المثل في هذا المجال .

ولمّا وصل معاوية بن أبي سفيان إلى السلطة حاول الاساءة إلى شخص الإمام (عليه السلام) في كلّ شيء ومن هذه الأُمور شكل الإمام (عليه السلام) فوصف جسمه بكلّ قبيح إبرازاً لحقده عليه .

فكانت افتراءات الأمويين غريبة ومدهشة تنمّ عن كفرهم ونفاقهم وبعدهم عن الأخلاق والمدنيّة الإنسانية .

والعجيب أنّهم أخذوا كلّ قبيح في أجسام رجال السقيفة فوصموه بها ، امتثالا لأوامر معاوية بن هند ، الساعي للفرار من ماضيه وماضي أبيه وأُمّه والانتقام من الإمام (عليه السلام) قاتل أخيه وخاله وجدّه  الكفرة.

فبيّن هذا الكتاب ولأوّل مرّة تلك الأعمال الأموية المخزية بحقّ أمير المؤمنين  (عليه السلام) وفضحها .

وبيَّن أكاذيب هذه الطغمة الفاسدة البعيدة عن الدين والأخلاق .

وفضح الكتاب علماء السوء ورواة الجور وكتّاب السلاطين الذين اقترفوا الآثام الكبيرة طاعة لبني أُميّة ، عبودية منهم للدنيا الفانية .

فيسجّل الكتاب سبقاً تاريخياً في هذا المجال في كذب وزيف الألفاظ الأموية الموضوعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) مثل :

الأنزع البطين ،والأصلع .

أبو تراب

وبيّن الكذب الفاجر في نقل لقب الأنزع البطين من معاوية ولصقه بالإمام علي (عليه السلام) .

بينما كان معاوية معروفاً بالانزع البطين في التاريخ ، وهو لقب نبوي قائم على دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه قائلا :

« اللهمّ لا تشبع بطنه » .

وسوف ترى في هذا الباب العجب العجاب في غفلة البعض عن العلم وقبول الاسانيد الصحيحة الموضوعة المخالفة للقرآن والحديث والعقل ،وعدم تحقيقهم في سند الأحاديث . واعتماد الكثير من العلماء على الرواة الضعفاء .

وأشدّ ما أدهشني موافقة البعض على الأحاديث المزيّفة المخالفة للعقل ، والقبول بالأحاديث الكاذبة المخالفة لألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيرته مع خليفته والمؤمنين .

فبينما دعا النبي (صلى الله عليه وآله) على معاوية في بطنه واستجاب الله تعالى دعاءه فأصبح معاوية بطيناً ،ذكر بعض العلماء (غير المطّلعين على دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) على معاوية) لقب البطين لأمير المؤمنين (عليه السلام) .

وهذا جهل بالسيرة النبوية وعدم الإطّلاع الكافي على أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله)وأدعيته .

وهو عدم المعرفة بتراجم الصحابة بصورة ممتازة ، فضيّعوا دعاء خاتم الأنبياء على معاوية واستجابة الباري ذلك .

ولم يطّلعوا على سيرة معاوية وابتلائه ببطنه التي كان يجلسها على فخذيه كما جاء في الروايات .ودهشت أيضاً من الخلط التاريخي بين الروايات الصحيحة والروايات السقيمة المختلَقة .

فوضعوا عبارة الأنزع البطين أمام بعض الأحاديث الصحيحة في مدح أمير المؤمنين  .

وكلّ هذا نبع عن منع تدوين الحديث مدّة مائة عام بأمر رجال السقيفة رغبة منهم في طمس فضائل أمير المؤمنين وباقي أفراد أهل البيت (عليهم السلام) .

ثمّ أحرق الطغاة في التاريخ الكتب الصحيحة وقتلوا العلماء والرواة المخلصين .

ومن ضمن أبحاث الكتاب الجديدة أيضاً البحث الخاصّ بمقتل أمير المؤمنين  (عليه السلام) .

فأثبتنا بالدليل القاطع مصرع الإمام علي (عليه السلام) بمؤامرة أموية خطّط لها معاوية وابن العاص والأشعث ونفّذها ابن ملجم .

وبيّنا هذا الموضوع بشكل علمي بأدلّة كافية واستقصاءات شافية ترضي العلماء وتفنّد آراء الجهلاء .

وفي هذا الكتاب أبحاث جديدة كثيرة نرجوا من القارئ الحريص والعالم اللبيب مطالعتها والاستفادة منها .

وكان سيد الرسل (صلى الله عليه وآله) حريصاً على الحضارة الإسلامية والأخلاق الإنسانية والألفاظ الراقية .

وكان سيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) مهتمّاً ببيان حال المؤمنين المتّقين وصفات الفاسقين الهالكين .

فكان الإمام علي (عليه السلام) كاتباً للوحي وإمام المتّقين([7]) وسيّد الزاهدين وباب مدينة علم ربّ العالمين .

فأراد معاوية خلط الصحيح بالمنبوذ من الحديث وسرقة الأوصاف الراقية للإمام (عليه السلام) ووضعها لنفسه ولباقي رجال السقيفة ، والسعي لوصم الصالحين بأوصاف الفاسقين ولأجل هذا العمل الشيطاني أسّس معاوية جيشاً كبيراً من القصّاصين بعدد مساجد المسلمين في العالم آنذاك يقومون بتلك الأعمال الإبليسية ويلعنون أمير المؤمنين (عليه السلام) فنرجوا من الله تعالى التوفيق لنا ولقرّائنا واعطائنا البصر والبصيرة للوصول إلى الحقّ واتّباعه ، وأن يرزقنا شفاعة الإمام علي (عليه السلام) ويضوينا تحت قيادته يوم القيامة .

يوم لا يدخل الجنّة إلاّ علي وشيعته « وأنّ من شيعته لإبراهيم »([8]).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

نجاح الطائي

 

القسم الأوّل : الإمام علي في مكّة

 الباب الأوّل : أحداث مكّة قبل البعثة

الفصل الأوّل : قبائل مكّة وأحوالها ودينها

أهالي مكة
لمّا نزلت قبيلة جرهم في مكّة بقيت بجانب ذريّة إسماعيل (عليه السلام) إلى أن بغوا وظلموا زوّار بيت الله تعالى ، وسرقوا مال الكعبة([9]).

وكانت في مكّة بضع وعشرون قبيلة تعيش جنباً إلى جنب ، في منافسة حادّة على الرئاسة والجاه والشرف . وولّد ذلك التنافس حسداً عميقاً بينها حتى وُصِفت قريش بأنّها أحسد الناس .

وكادت الحرب أن تقع بين قبائلها عدَّة مرَّات بسبب ذلك التنافس على أسباب الرئاسة والشرف والجاه ، والمتمثّلة بلواء الحرب والرفادة والسقاية والقيادة  .

ثم تنافس القرشيّون في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود ، وكادت الحرب تقع بينهم ، فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)([10]).

ولمّا بعث النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في مكّة رفض طغاة مكة التسليم له بالنبوّة حسداً لرئاسته الدينية والدنيوية عليهم ، بالرغم من يقينهم بدينه ورسالته السماوية  .

وقد وصف هذه الحالة أبو جهل وصفاً كاملاً مبيّناً رأيه بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله)وإنكاره لها حسداً لأنّها تعني تفوّق وتقدّم بني هاشم على بني مخزوم !

وتبعاً لهذا الاعتقاد الخاطئ والجهل المركّب فقد أعلن زعماء قبائل قريش أمام أبي طالب زعيم بني هاشم وقريش استعدادهم لإرضاء محمّد (صلى الله عليه وآله) بالمال والشرف والرئاسة حتى يصبح أكثرهم مالاً ، مقابل تراجعه عن الديانة الجديدة !

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمّه أبي طالب : « والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أُقتل دونه » .

وكان رجال مكّة من دهاة الناس يتنافسون على أسباب الدنيا تنافساً حادّاً دفعهم إلى اغتيال الآخرين ، وإقامة جسور العلاقة مع الحكومتين الرومية والفارسية .

واستخدموا وسيلة تبنّي العبيد والحلفاء لزيادة القدرة البشرية لقبائلهم وعوائلهم ومنع اضمحلالها وانقطاع نسلها ، فتبنّى عبد شمس عبده أُميّة([11]).

وتبنّى بنو أسد العوّامَ القبطي([12]) والد الزبير وتبنّى الأسود الكندي حليفه المقداد ، وتبنّى العاص بن وائل عمراً([13]).

وتنافسوا على اللقطاء مثل عمرو بن العاص وطلحة بن عبدالله وزياد بن أبيه تنافساً حادّاً([14]).

وتسبّبت التجارة الصيفية إلى الشام والشتوية إلى اليمن والحبشة ورحلاتهم إلى بلاد كسرى في زيادة اطّلاع القرشيين على الأُمم والحضارات الأُخرى ، وسعة أُفقهم واطّلاعهم على المهارات اللازمة في السياسة والادارة والحرب والاقتصاد وغيرها .

وزيارة الناس لبيت الله الحرام من بلاد ومدن مختلفة أكسبتهم معارفَ كثيرة وأموالاً عظيمة . وتسبّبت هذه الأُمور واستقلال مكة في اكتساب القرشيين مهارة إدارة أنفسهم ومدينتهم والاعتداد بأنفسهم . فاهتمّ أهالي مكّة اهتماماً خاصّاً بالدهاء السياسي والاجتماعي ورعوا الدهاة عناية فائقة ، فبرز دهاة عديدون وماكرون كثيرون لا يتورّعون عن استخدام الوسائل الباطلة للوصول الى الهدف .

وبرزت هذه الحالة في سفراء قريش إلى ملك الحبشة عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وعبدالله بن أبي ربيعة فنافس عمارة بن الوليد عمرو بن العاص في زوجته فخانه بها ، وألقاه في مياه البحر الأحمر ، واستمرّ عمارة الداهية في مغامراته النسائية حتى بلغ مخدع ملك الحبشة الزوجي([15])!

فوشى به عمرو بن العاص عند ملك الحبشة الذي مكر به مكراً عجيباً بنفخ السواحر في إحليله فهام مع الوحوش الكاسرة في تلك البلاد([16])!

وقصص المكر السياسي والاجتماعي في صفوف القرشيين كثيرة ومنها برزت قصّة المكر القبلي لاغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة وحرب الأحزاب (الخندق) ، وقضيّة حجّة الوداع (بمنعهم الرسول (صلى الله عليه وآله) من تبليغ رسالة الثقلين القرآن وأهل البيت  (عليهم السلام) إلى المسلمين)([17])، وقضية السقيفة .

ثم توَّجوا أمرهم في قبول معاوية بقتل الجماهير عثمان بن عفان ليصبح ولي الدم ويحارب باسمه ، ثم حوَّل الدولة إلى ملكيّة وراثيّة .

فعادت الزعامة إلى بني أُميَّة في زمن عثمان كما كانت في زمن حرب أُحد والخندق برئاسة أبي سفيان ! فقال أبو سفيان : تلقّفوها يابني أُميَّة تلقّف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من جنّة ولا نار([18]).

وطغاة قريش المكرة هم الذين حرَّفوا الحديث النبوي : « الخلفاء من بعدي إثنا عشر كلّهم من أهل بيتي »([19]) إلى : الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش([20]).

ومنهج قريش في رفض اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم واضح نطقه عمر بن الخطّاب عالياً([21]) إذ أعلن عمر بن الخطّاب تلك النظرية أمام رسول الله  (صلى الله عليه وآله) في يوم الخميس برفضه ثقل أهل البيت (عليهم السلام) قائلا : حسبنا كتاب الله([22]).

ولمّا فعلت قبيلة جرهم الظلم صمَّمت قبيلتا بني بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وغبشان من خزاعة على إخراجهم من مكّة ، فتمكّنتا من إلحاق الهزيمة العسكرية بها وإخراجها إلى اليمن ، فدفن عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم قبل ذهابه إلى اليمن([23]).

ثم ساد على مكّة عمرو بن لحي الذي فرض عبادة الأصنام عليها([24])، وكان فهر اسمه قريشاً وإليه تنتهي وتجتمع قبائل قريش وما فوقه كناني .

وسمّي قريشاً لأنه كان يقرّش أي يفتّش عن حاجة المحتاج فيسدّها بماله ، وقيل كان بنوه يقرشون أهل الموسم عن حوائجهم فيرفدونهم([25]) والنضر بن كنانة أبو قريش([26]).

ولما استقرّ الأمر في خزاعة تزوّج قصيّ منهم ، وأزاح يد خزاعة وولي أمر مكّة وشرفها ، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة فحصل عبدالدار على اللواء والحجابة ودار الندوة([27]).

واختلفوا بعد موت عبدالمطّلب فكانوا جماعتين :

الجماعة الأُولى : حلف المطيّبين الذين غمسوا أيديهم في الطيب ، وهم خمس قبائل : بنو هاشم ، وبنو زهرة ، وبنو تيم بن مرّة ، وبنو الحرث بن فهر وبنو أسد([28]).

وجماعة لعقة الدم وهم : بنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو جمح ، وبنو عدي بن كعب وبنو أُمية الذين أخرجوا جفنة مملوءة دماً من دم جزور نحروها ووضعوا أيديهم فيها ولعقوا منها .

واصطلحوا على أن تكون الرفادة والقيادة والسقاية لبني عبد مناف ، والحجابة واللواء لبني عبدالدار ، ودار الندوة بينهم بالأشتراك .

ثم أُعطيت القيادة وهي أمارة الركب لبني أُمية بعد ظهور الإسلام لذلك كانت قيادة الجيش لبني أُميَّة في معركة بدر وبيد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان أبو سفيان قائد الجيش في الحروب اللاحقة .

وأُعطيت الرفادة والسقاية لهاشم ، ثم لعبدالمطّلب، ثم لأبي طالب ثم للعبّاس واختلف بنو عبد مناف إذ اغتصب نوفل بن عبد مناف أفنية ودوراً لابن أخيه عبدالمطّلب ، فأجبرته بنو النجار بالمدينة على إرجاعها إلى عبدالمطّلب فنشأ حلف بين نوفل وبنوه مع عبد شمس وبنيه .

وتأسّس مقابله حلف بني هاشم وبني المطّلب وخزاعة على بني نوفل وبني عبد شمس([29]) فشارك بنو المطّلب عبيدة والطفيل ومسطح بن أُثاثة بن عبّاد بن المطّلب وحصين بنو الحارث في حرب بدر إلى جانب النبي (صلى الله عليه وآله)([30]).

وكانت خزاعة تنقل أخبار قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله) .

ووقف بنو نوفل إلى جانب الكفّار ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل الحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل الذين قُتلا يوم بدر كافرين ، وأضحت فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل امرأة معاوية بن أبي سفيان .

وأوّل عداوة وقعت بين هاشم وأُميَّة بن عبد شمس سببها أنّ هاشماً ساد قومه بعد أبيه عبد مناف فحسده أُميَّة ، فتكلّف أن يصنع ما يصنعه هاشم فعجز فعيّرته قريش .

فدعا أُميَّة هاشماً للمنافرة ، فرفض هاشم ذلك أوّلاً ثم قَبِل المنافرة على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكّة والجلاء عن مكّة عشر سنين فرضي أُميَّة بذلك ، وحكَّما الكاهن الخزاعي بعسفان فقال الكاهن :

لقد سبق هاشم أُميَّة إلى المفاخر ، فنفر هاشم على أُميَّة ، فعاد هاشم إلى مكّة ونحر الإبل وأطعم الناس ، وخرج أُميَّة إلى الشام مدّة عشر سنين ، فبدأت العداوة بين الجانبين([31]).

فأطعم هاشم الناس في المجاعة ، وهشم الخبز والكعك ونحر جزراً ، وجعل ذلك ثريداً فأطعم الناس حتّى أشبعهم فسمّي هاشماً ، فقالوا له : أبو البطحاء وسيد البطحاء ، ولم تزل مائدته منصوبة في السرّاء والضرّاء .

وانتقل نور النبوّة من عبد مناف إلى هاشم فكان يتوقّد شعاعه ويتلألأ ضياؤه ، لا يراه حبر إلاّ قبَّل يده ، ولا يمرُّ بشيء إلاّ خضع له تفدوا إليه قبائل العرب ووفود الأحبار يحملون بناتهم يعرضون عليه أن يتزوّج بهنّ .

حتّى بعث إليه هرقل ملك الروم قائلاً : إنَّ لي ابنة لم تلد النساء أجمل منها ولا أبهى وجهاً فأقدم إليَّ حتى أزوّجكها فقد بلغني جودك وكرمك ، وإنّما أراد بذلك نور المصطفى (صلى الله عليه وآله) الموصوف عندهم في الانجيل .

فأبى هاشم ذلك ، وكان هاشم يحمل ابن السبيل ، ويؤدّي الحق ، ويؤمن الخائف([32])، ومات بغزة من أرض فلسطين([33]).

وكان عبدالمطّلب بن هاشم من حلماء قريش وحكمائها ، مجاب الدعوة ، محرِّماً الخمر على نفسه ، وهو أوّل من تحنَّث بحراء ، والتحنّث تعبّد الليالي ذوات العدد ، فإذا دخل رمضان صعده (للصوم) وأطعم المساكين ، وكان صعوده للتخلّي عن الناس والتفكّر في جلال الله وعظمته ، فيرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال ، فقالوا له مطعم الطير والفياض ، فكان مفزع قريش في النوائب ، وملجأهم في الأُمور ، وشريفهم وسيدهم كمالاً وفعالاً ، وعاش مائة وأربعين سنة([34]).

ورفض عبدالمطّلب عبادة الأصنام ووحَّد الله تعالى ، ويؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها منها الوفاء بالنذر ، والمنع من نكاح المحارم ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموءودة ، وتحريم الخمر والزنا ، وأن لا يطوف بالبيت عريان وكانت قريش تستسقي به ويسمّى سيد قريش([35]).

ولمّا هجم إبرهة الحبشي على مكّة قال عبدالمطّلب : لا يصل إلى هدم البيت لأنّ لهذا البيت ربَّاً يحميه ويحفظه([36]).

ولمّا أراد ذبح ابنه عبدالله لنذر نذره لله تعالى ضرب بالقداح وقال : ياربِّ أنت الملك المحمود ، وأنت ربّي الملك المعبود ، من عندك الطارف والتليد .

وغضب على حرب بن أُميَّة لقتله يهودياً جاراً له ، فاضطر حرب لارضائه بدفع مائة ناقة ديّة ذلك اليهودي([37]).

وبلغت شجاعة وكرم وشرف وهيبة وعفّة وعبادة وشهامة بني هاشم حدّاً لم يبلغه قبله أحد ، فأطعموا الفقير وأجاروا الخائف .

إذ أجار عبدالمطّلب رجلاً تميميّاً خائفاً من حرب بن أُمية ، ولمّا دخل التميمي الكعبة لطمه حرب فعدا عليه الزبير بن عبدالمطّلب بالسيف ، ففرّ حرب بن أُميّة إلى دار عبدالمطّلب ، فأجاره عبدالمطّلب وأكفأ عليه جفنة ، وسبعة من بني عبدالمطّلب على الباب يريدون قتله ، فأخرجه عبدالمطّلب واضعاً عليه رداءه دليل الإجارة .

ولمّا افتخر معاوية بن أبي سفيان بحرب بن أُميَّة ردّ عليه عبدالله بن عباس قائلاً : من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه ؟ فسكت معاوية([38]).

لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « يُبعث جدّي عبدالمطّلب في زيِّ الملوكِ وأُبّهة الأشراف »([39]).

وقد أخذ عبدالمطّلب مبادئ وأخلاق دين إبراهيم (عليه السلام) من هاشم الذي أخذها من عبد مناف وأعطاها أبا طالب .

بطون قريش
كانت قريش خمسة وعشرين بطناً وهم : بنو هاشم بن عبد مناف ، وبنو المطّلب بن عبد مناف ، وبنو الحارث بن عبدالمطّلب ، وبنو أُميَّة بن عبد شمس ، وبنو نوفل بن عبد مناف ، وبنو الحارث بن فهر ، وبنو أسد بن عبد العُزَّى ، وبنو عبدالدار بن قصي ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو تيم بن مرّة وبنو مخزوم ، وبنو يقظة  ، وبنو مرّة  ، وبنو عدي بن كعب ، وبنو سهم ، وبنو جُمَح وهم قريش البطاح .

وقريش الظواهر هم : بنو مالك بن حنبل ، وبنو معيط بن عامر بن لؤي ، وبنو نزار بن عامر بن لؤي ، وبنو الأدرم ، وهم تيم بن غالب ، وبنو محارب بن فهر ، وبنو الحارث بن عبدالله بن كنانة ، وبنو عائذة وهو خزيمة بن لؤي ، وبنو نباتة وهو سعد بن لؤي([40]).

موضوع النسب
كان النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل الناس نسباً فهو من أولاد الأنبياء ومن نسل الساجدين بنصّ القرآن الكريم ، ورأيه (صلى الله عليه وآله) في علم النسب : إنَّه دعا الى تعلّم الأنساب بشكل يتناسب مع حفظ الأخلاق الإسلامية في خدمة الأقرباء قائلاً : « تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم »([41]).

وكان عقيل بن أبي طالب أعلم الناس بالأنساب فأخذ منه ذلك محمد بن الكلبي من طريق أبي صالح ، وأخذ  هشام بن الكلبي ذلك من أبيه .

فأعلم الناس بعلم الأنساب عقيل بن أبي طالب ، ثم محمد بن الكلبي ، ثم هشام بن محمد بن الكلبي ومن هؤلاء أخذت الناس .

فكان عقيل يعلِّم الناس أنسابهم في المسجد النبوي ، ويقال لمجلسه طنفسة أبي يزيد([42]).

واهتمّ معاوية بتعليم إبنه يزيد علم الأنساب لتفريق الناس ، وتحكيم سياسته  ، فطلب من دغفل بن حنظلة تعليمه ذلك([43]).

ولمّا تعلَّم يزيد بن معاوية مثالب الناس دون مثالبه صدمه الناس في مرّات عديدة ! إذ لم يعلّمه المعلّمون أنَّ جدته لأبيه هي حمامة إحدى بغايا مكّة ، ولم يعلِّموه نسبه العائد الى أُمية غير العربي الذي تبنَّاه عبد شمس([44])!

نسب النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)
نقل ابن سعد عن هشام بن محمد بن الكلبي نسب النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً :

محمّد الطيّب المبارك ابن عبدالله بن عبدالمطّلب واسمه شيبة بن هاشم ، واسمه عمرو بن عبد مناف ، واسمه المغيرة بن قصي ، واسمه زيد بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ، وإلى فهر تسمّى قريش وفوق فهر لا يقال له قرشي بل كناني([45]).

وعن هشام بن محمد الكلبي صاحب النسب : أُمّ الرسول (صلى الله عليه وآله) آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مُرَّة ، وأُمّها بَرّة بنت عبدالعزّى بن عثمان بن عبدالدار بن قصى بن كلاب ، وأُمّها أُمّ حبيب بنت أسد بن عبدالعزّى بن قصي بن كلاب وأُمّها برّة بنت عوف بن عبيد بن عويج([46]). وينتسب النبي (صلى الله عليه وآله) إلى إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) .

وقال هشام بن محمد الكلبي : كتبت للنبي (صلى الله عليه وآله) خمسمائة أُمّ فما وجدت فيهنَّ سفاحاً ، ولا شيئاً ممّا كان من أمر الجاهلية([47]).

وأوجب الأمر أن يكون الأنبياء والأوصياء جميعاً أفضل الناس نسباً وشرفاً ولأجل ذلك ساد الناس محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) ثم الإمام علي (عليه السلام) ثم أبناء الإمام علي من أهل البيت (عليهم السلام) . وآخرهم المهدي (عليه السلام) الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً .

قال رسول (صلى الله عليه وآله) : « ما افترق الناس فرقتين إلاّ جعلني اللهُ في خيرهما فأُخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتّى انتهيت إلى أبي وأُمّي ، فأنا خيركم نسباً وخيركم أباً »([48]).

والدليل القرآني على طهارة نسب النبي (صلى الله عليه وآله) قوله تعالى : (الذي يَرَاك حِينَ تَقُومُ * وتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ)([49]).

فهي تدلّ باتّفاق المفسّرين على كون آبائه من الساجدين الطاهرين المطهّرين .

وقد سار عبدالمطّلب على خطى آبائه فحرَّم نساء الآباء على الأبناء([50]).

لكنّ البعض حاول الطعن في شرف آباء النبي (صلى الله عليه وآله) ومنزلتهم مثل أبي سفيان الذي قال : محمّد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط التبن .

فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : « إنَّ الله عزَّوجلَّ خلق السماوات سبعاً فاختار العلى منها فأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم ، واختار من بني آدم العرب ، واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشاً  ، واختار من قريش بني هاشم ، واختارني من بني هاشم »([51]).

وصرَّح  رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; قال لي جبريل : « قلّبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد أحداً أفضل من محمّد ، وقلّبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم »([52]).

وذكر ابن سعد في طبقاته نسب النبي وآبائه وأُمّهاته بشكل جيّد وموسَّع([53]).

لكنّ عمر بن الخطّاب وصحبه كَرَّرُوا في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) ما قاله أبو سفيان  ! فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأراد (صلى الله عليه وآله) أنْ يذكر أنسابهم الواقعيّة ، فقام عمر وقبَّل رجلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأعاد الشهادة ثانيةً بلا إله إلاّ الله محمّد رسول الله !

وبرك عمر على ركبتيه قائلاً : رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد رسولاً  ، أُعف عنَّا عفا الله عنك إغفر لنا غفر الله لك ، احلم عنَّا حلم الله عنك .

ولشدّة الإعتداء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغضبه وضع المسلمون رؤوسهم في ثيابهم يبكون خجلاً وحياءً من الله ورسوله([54]).

بئر زمزم
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « خير بئر للناس زمزم وشر بئر برهوت »([55]).

وقد نبعت زمزم تحت قدمي إسماعيل (عليه السلام) ثم دفنت خمسمائة سنة لا يعرف مكانها وسمّيت زمزم لأنها زمت بالتراب أو لزمزمة الماء فيها([56]) ودفنتها جرهم حين فرّوا من مكّة . وعمد رئيسهم عمرو بن الحارث الجرهمي قبل فراره الى نفائس فجعلها في زمزم وبالغ في طمّها وفرّ إلى اليمن بقومه .

فلم تزل زمزم من ذلك اليوم مجهولة إلى أن رفعت الحجب برؤيا رآها عبدالمطّلب دلَّته على مكانها حينما كان نائماً في حجر إسماعيل (عليه السلام) ، إذ أُمِرَ بحفر زمزم يوم كان عبدالمطّلب رئيساً لمكّة([57]).

ولمّا حفر عبدالمطّلب ووصل إلى بئر زمزم كبّر فعرفت قريش أنه أدرك حاجته فطالبوه بإشراكهم فيها فرفض ، فاتّفقوا على تحكيم كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت باشراف الشام ، ولمّا ذهبوا إليها فنى ماء عبدالمطّلب وأصحابه فظمئوا حتّى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا : إنّا بمفازة نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم ، ولمّا ركب عبدالمطّلب راحلته إنبعثت (انفجرت) من تحت خفّها عين ماء عذب ، فكبَّر عبدالمطّلب وكبَّر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل من قريش قائلاً : هلم إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا : والله قُضي لك علينا ياعبدالمطّلب ، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً إنّ الذي سقاك الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً([58]). وورث أبو طالب الرياسة والسقاية والرفادة من أبيه عبدالمطّلب .

وكان عبدالمطّلب قد عثر على أسياف وغزالين من الذهب في زمزم فجعل الأسياف باباً للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أوّل ذهب حلّيت به الكعبة([59]).

بنو أُميّة وأصلهم الردي
كانت العرب في الجاهلية تعتق عبيدها إن أرادت وتزوّجهم من كرام العرب ثم تُلحقهم بها .

فكان أُمية من الروم استلحقه عبد شمس اذ جاء : أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف وإنّما هو عبد من الروم ، وأُميّة تصغير أمة فنسب إليه([60]).

فبنو أُمية كلّهم ليسوا من صميم قريش وإنّما يلحقون بهم ويصدق ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا كتب له معاوية : إنّما نحن وأنتم بنو عبد مناف .

فكان جواب الإمام علي (عليه السلام) له : « ليس المهاجر كالطليق وليس الصريح كاللصيق »([61]).

فهذه شهادة من الإمام علي (عليه السلام) إنّ بني أُمية لصّاق وليسوا صحيحي النسب إلى عبد مناف وأيّد معاوية ذلك ولم ينكره .

وقال البهائي صاحب الكامل : إنّ أُمية كان غلاماً روميّاً لعبد شمس فلمّا ألفاه كيِّساً فطناً أعتقه وتبنَّاه فقيل أُمية بن عبد شمس . كانوا يعملون بذلك قبل نزول الآية المحرّمة .

لذا روي عن الصادقين (عليهما السلام) في تفسير قوله تعالى : (الم * غُلِبَتْ الرُّومُ) إنّهم
بنوأُميّة .

فظهر هنا نسب عثمان ومعاوية وحسبهما غير العربي([62]).

وقال ابن قتيبة الدينوري : كان أبو سفيان أعور العين من أصل غير عربي([63]).

فلم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضعه ويرفع من قدره ويزيد في ذكره ولهاشم عبدالمطّلب سيّد الوادي غير مدافع أجمل الناس جمالاً وأظهرهم جوداً وأكملهم كمالاً وهو صاحب الفيل والطير والأبابيل وصاحب زمزم وساقي الحجيج([64]).

وأجمعت الرواة على أنّ من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف ، فلمّا مات قام أخوه المطّلب مقامه([65]).

وكان هاشم رجلاً كثير السفر والتجارة يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام ، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام نحو العباهلة باليمن واليكسوم من بلاد الحبشة ونحو ملوك الروم بالشام فجعل لهم معه ربحاً فيما يربح وساق لهم إبلاً مع إبله فكفاهم مؤونة الأسفار على أن يكفوه مؤونة الأعداء في طريقه ومنصرفه ، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين([66]).

وقال سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أُمّ أُميّة الزرقاء وكانت في الجاهلية من صواحب الرايات([67]) وكان أُميّة ممّن اشتهر بالزنا وكذلك كان ابنه حرب([68]).

وقال معاوية إنّي أُحبّ أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سنّ وقد رأى الناس يخبرنا عمّا رأى .

فقال بعض جلسائه : ذلك رجل بحضرموت . فأرسل إليه ، فأُتي به ، فقال له  : ما اسمك ؟

قال : أمد .

قال : ابن مَن ؟

قال : ابن أبد .

قال : ما أتى عليك من السِنّ ؟

قال : ستّون وثلاث مئة .

قال : كذبت .

ثمّ إنّ معاوية تشاغل عنه ، ثم أقبل عليه ما اسمك ؟

قال : أمَد .

قال : ابن مَن ؟

قال : ابن أبد .

قال : كم أتى عليك من السنّ ؟

قال : ثلاث مئة وستّون سنة .

قال : فأخبرنا عمّا رأيتَ من الأزمان ، أين زماننا هذا من ذلك ؟

قال : وكيف تسأل من تُكَذِّب ؟

قال : إنّي ما كذّبتُك ، ولكنّي أحببت أن أعلم كيف عقلك .

قال : يوم شبيه بيوم ، وليلة شبيهة بليلة ، يموت ميّت ، ويولد مولود ، فلولا من يموت لم تَسعْهُم الأرض ، ولولا من يُولد لم يبق أحد على وجه الأرض .

قال معاوية : فأخبرني هل رأيت هاشِماً ؟

قال : نعم رأيته رجلاً طُوالاً ، حسنَ الوجه ، يقال ، إنّ بين عينيه بركة أو غُرَّة بركة .

قال معاوية : فهل رأيت أُميّة ؟

قال : نعم ، رأيته رجلا قصيراً أعمى ، يقال : إنّ في وجهه لشرّاً أو شُؤماً .

قال معاوية : فهل رأيت محمّداً ؟ قال : مَنْ محمّدٌ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال : نعم .

قال : ويحك ، ألا فَخَّمتَه كما فَخَّمهُ الله ؟ فقلتَ : رسول الله .

قال معاوية : فأخبرني ، ما كانت صناعتك ؟

قال : كنت رجلاً تاجراً .

قال معاوية : فما بلغت تجارتك ؟

قال : كنت لا أشتري عَيْباً ولا أردُّ ربحاً .

قال له معاوية : سَلْني .

قال : أسألك أن تدخلني الجنّة .

قال معاوية : ليس ذلك بيدي ، ولا أقدر عليه .

قال : أسألك أن ترُدَّ عليّ  شبابي .

قال معاوية : ليس ذاك بيدي ولا أقدر عليه .

قال : لا أرى بيديك شيئاً من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة .

قال : فرُدَّني من حيث جئت .

قال معاوية : أمّا هذا فنعم .

ثم أقبل معاوية على أصحابه فقال : لقد أصبح هذا زاهداً فيما أنتم فيه راغبون([69]).

عظَّم الأمويون الكفرة وحقَّروا المؤمنين
حاول الحزب القرشي زعزعة الثقة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وصحبه الأخيار بكل الوسائل المتاحة ، فوصموا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأشوه صورهم حسداً وحقداً منهم على الإسلام والمسلمين وشمّروا سواعدهم لتحجيم شخصية أبي طالب زعيم بني هاشم وقريش الذي ورث قيادة مكّة من أبيه وجدّه وبما وهبه الله تعالى من إمكانات فذّة .

ويذكر أنَّ قيادة مكّة كانت له دون منازع والفرق بينه وبين المنافسين له شاسع ولمّا أسلم أبو طالب ودافع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمين حاولوا القضاء عليهم أجمعين([70]).

ثم تعرّض رسول الله وأبو طالب لأبشع هجمة من قبل الأمويين حتّى بلغ بهم الأمر أن وصموا أبا طالب بالكفر ووصفوا أبا سفيان وصفوان بن أُميّة بالإسلام([71]).

وتجاهلوا تضحيات أبي طالب العظيمة للإسلام وموته في سبيل الله تعالى وسار على خطّهم الكتّاب والمحدِّثون المغرضون وأشاعوا كلّ الأكاذيب اللاّأخلاقية  .

وكان عمر بن الخطّاب قد هيّأ الأجواء للمجيء بمعاوية إلى سدّة الزعامة عندما عيّنه والياً عامّاً على الشام ، وعيّن أبا موسى الأشعري على البصرة ، والمغيرة بن شعبة على الكوفة (الذي يشبه الشيطان فهو دميم المنظر أعور العين)([72]) وظهر الشيطان بصورته في دار الندوة وعمرو بن العاص على أفريقيا ، وأبا هريرة والياً على البحرين([73]). وعبدالله بن أبي ربيعة على اليمن والوليد بن عقبة على الجزيرة([74])وأغلبهم حاربوا الإسلام وتراثه في مكّة والمدينة في زمن حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومماته وأوجدوا هذه الفتن العظيمة التي ما زلنا نعاني منها مِن لا عدالة اجتماعية وماليّة وأنقسامات طائفيّة وقوميّة وفوضى سياسيّة([75]).

وتلك المجموعة هي التي أرادت قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة وفي المدينة وفي أثناء حملة تبوك([76]).

والسؤال هو لماذا جاء عمر بهذه المجموعة الماكرة إلى سدّة الحكم في حياته وأوصى إليهم بعد مماته ، وفي هؤلاء سفراء قريش إلى الحبشة وقادة الكفّار في معركة بدر وفيهم أبو هريرة الذي وصمه عمر بالسرقة والكذب على رسول الله  (صلى الله عليه وآله)([77])! وترك أصحاب بيعة العقبة والثابتين في معركتي بدر وأُحد ؟!

إنّ هذه العصابة القرشية أصبحت حاكمة على سياسة وتراث الأُمّة بعد اغتيال أبي بكر ، وعظم دورها بوصول الأُمويين إلى السلطة في زمن عثمان ومعاوية وسائر الأُسرة الأموية .

فحاول الحزب القرشي ووليده الحزب الأموي تعظيم شخصية الكفرة الذين ماتوا على الكفر والآخرين الذين ماتوا على النفاق .

ولمّا أجبر بعض رجال العرب جواريهم  على الزنا انتشر الفساد ورفعت رايات الفحش لحمامة جدّة معاوية وأُمّ عمرو بن العاص وأُمّ طلحة بن عبدالله وأُمّ الضحّاك بن قيس .

واستمرّت بعض الزانيات في عملها في الإسلام ومنهنّ فريعة بنت همام أُمّ الحجّاج بن يوسف الثقفي وهي التي قالت شعراً خليعاً :

ياليت شعري عن نفسي ازاهقه *** منّي ولم أقضي ما فيها من الحاج

ألا سبيل إلى خمر فأشربها *** أم سبيل إلى نصر بن حجّاج

إلى فتى ماجد الأخلاق ذي كرم *** سهل المحيّا كريم غير فجفاج

وكان نصر بن حجّاج شابّاً جميلاً فضربها عمر بالدّرة ضربات([78]).

وحاول معاوية بن أبي سفيان تعظيم صورة أشخاص من قبائل العرب مقابل رجالات بني هاشم . ومن هؤلاء الرجال عبدالله بن جدعان .

وقد وصفه السهيلي قائلاً : كان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكاً تَرِب اليدين  ، وكان مع ذلك شرِّيراً فاتكاً لا يزال يجني الجنايات ، فَيعقِل عنه أبوه وقومه  ، حتى أبغضته عشيرته ، ونفاه أبوه وحلف ألاَّ يؤويه أبداً لما أثقله به من الغرم وحمله من الديات([79]).

فوضعوا له رواية مزيّفة مفادها مناداته من قبل ثعبان مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان ، فشاهد وسط بيت كوماً عظيماً من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزَّبرجد في وسط جبل([80])!

بينما ذكر هشام بن الكلبي حقيقة عمله كسمسار للبغايا ، والمتمثّل في ملكيّة مجموعة من الإماء فيعرضهنّ على الرجال ليبيع الأطفال من آبائهم أو الغرباء([81])! فكانت أمواله من أُجور الزنا !

وقد قال تعالى : (وَلاَ تُكرِهُوا فَتَياتِكُم على البِغاءِ)([82]).

وكان طغاة قريش يفعلون ذلك لكسب الأموال !!

وحاول القصّاصون تعظيم عبدالله بن جدعان ففشلوا ! وأين ابن جدعان من هاشم وعبدالمطّلب وأبي طالب هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام وخاتم الأنبياء وعموم الناس .

وابن جدعان كان يملك صهيباً فادّعا القصّاصون زيفاً ملكيّة أبي بكر له ! فكان صهيب ابن هذه المؤسّسة .

وكانت مهنة ابن جدعان أقذر مهنة في مكّة ألا وهي شراء الإماء وعرضهنّ على الرجال ومن ثمّ بيع الأطفال إلى الناس([83]) أي مشروع زنا جماعي .

وهو مشروع جاهلي أبطله الإسلام ، فداره أقبح منزل لا أخلاقي في بلاد العرب  .

ولكنّ الحزب القرشي حاول تعظيم ابن جدعان كشخصية راقية زيفاً ودجلاً فجعل بيته مقرّاً لإنعقاد حلف الفضول([84])! لتشويه حلف الفضول .

وبعدما صنعوا كلّ ذلك الزيف للتستّر على مهنة ابن جدعان في السمسرة بالنساء الممنوعة شرعيّاً والمرفوضة أخلاقيّاً تقدّموا أكثر لإهانة رسول الله (صلى الله عليه وآله)فقالوا بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستظل بجفنة (طعام) عبدالله بن جدعان([85]).

وكذبوا أيضاً : ابن جدعان من كثرة كرمه منعه قومه من العطاء ! فأخذ يضرب الناس كذباً حتى يعطوهم ديّاتهم من ماله([86])، وغيرها من أكاذيب بينما مات ابن جدعان كافراً فاجراً .

وكان أبو قحافة من عبيد عبدالله بن جدعان ينادي على طعامه وعاملاً من عمّاله في مشروعه الجاهلي السيّىء الصيت لذلك قال الشاعر :

كفينا بني تيم بن مرّة ما جنت *** وما التيمُ إلاّ أعبُدٌ وإماء([87])

وقالوا في حقّ ابن جدعان من الشعر :

له داع بمكّة مشمعل *** وآخر فوق دارته ينادي

فالمشمعل هو سفيان بن عبدالأسد والآخر هو أبو قحافة والإثنان من عبيد عبدالله بن جدعان .

وقال هشام بن الكلبي : كانت أُمّ سفيان بن عبدالأسد أمة لابن جدعان([88])، وله مئة مملوك آخر([89])، لذلك قال سعد بن عبادة لأبي بكر : ليس عندك حسب كريم([90]).

وقال عمر لأبي بكر نفس العبارة بشكل آخر : وا لهفاه على ضئيل بني تيم([91]).

وقال أبو سفيان عن تيم : إنّها أذلّ قبيلة في قريش([92]).

وحاول الحزب القرشي تعظيم شخصية صفوان بن أُميّة الذي حارب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة والمدينة وأرسل شخصاً لقتله في المدينة فنجّاه الله تعالى فاعترف المأمور عمير بن وهب الجمحي بذلك وأسلم([93]) إلى أن أُجبر صفوان على دخول الإسلام في فتح مكّة .

وسعى الحزب الأموي لإعلاء شأن الوليد بن المغيرة المخزومي فإليه نسبوا قضيّة هدم وبناء الكعبة لأنّه من أعمدة الحزب الكافر المحارب لله ورسوله الذي قال فيه الباري عزّوجلّ : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)([94]). وقتله الله تعالى شرّ قتلة([95]).

ومجّد الحزب القرشي أبا لهب الذي نزلت في حقّه سورة المسد مدّعين اشارته ببناء الكعبة من المال الحلال الذي ليس فيه مهر بغي ، ولا مال ربا ولا ظلم ولا سرقة([96])! في حين كان أبو لهب هو الذي سرق مال الكعبة([97])! وحارب الإسلام بكلّ إمكاناته وقدراته ، واشترك في محاولة قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله)([98]).

وانطلق كفرة قريش وبني أُميّة لتنزيه صورة حكيم بن حزام فادّعوا أنّ ولادته في الكعبة الشريفة([99]) في حين لم يوفّق الله تعالى شخصاً للولادة في بيته الحرام سوى الإمام علي بن أبي طالب([100]) والذي دفعهم لذلك موبقات هذا الرجل الكثيرة : مشاركته مع أبيه في حرب الفجّار ، وقبل إسلامه في محاربته للرسول (صلى الله عليه وآله) وهزيمته بالمسلمين في حنين بعد إسلامه الصوري في فتح مكّة ، ودفاعه المستميت عن بني أُميّة في ملوكيّتهم . واحتكاره المال بعد فتح مكّة ، وامتناعه من مبايعة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بعد بيعته وغيرها من المثالب([101]).

وحاول معاوية تمجيد حرب بن أُميّة فروى له جنوده بأنّه أوّل من أدخل الكتابة الى مكّة([102]). بينما كان النبي إسماعيل (عليه السلام) هو أوّل من أدخل الكتابة إلى مكّة([103]).