وكذبوا في ادّعائهم إطعام حرب للحجيج في حين كان يستحوذ على أموال
الغرباء وشارك في سرقة مال الكعبة([104]).
وحاولوا تنزيهه عن المشاركة في حرب الفجّار في حين كان حرب بن أُميّة
قائدها([105]).
المنافسة بين قبائل قريش
عُرِفَ عبدالمطّلب سيّد قريش والمسمّى بإبراهيم الثاني بحسد قومه لبني
هاشم وسعيهم للنيل منهم وكأنَّه أخذ ذلك عن إسماعيل وإبراهيم (عليه السلام) فقال
قبل موته :
لتنفسني قريش غداً الشرف العظيم والبناء الكريم والعزّ الباقي والسناء
العالي إلى آخر الدهر ويوم الحشر([106]).
فخاف عبدالمطّلب العالم بالدين والأُمور الاجتماعية والسياسية في
مكّة من حسد قريش للنبي ورفضهم للإسلام .
ويقصد عبدالمطّلب حسدهم للنبوّة العظيمة والرسالة الجليلة ، وقد قال
ملك اليمن ابن ذي يزن نفس الكلام لعبدالمطّلب .
وبعد موت عبدالمطّلب حصل أبو طالب على منصب رئاسة قريش ونافسه حرب بن
أُميّة دون جدارة فلم يتمكّن من تحقيق أغراضه .
وفي زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسالته استمرّت تلك المنزلة
الاجتماعية لأبي طالب لجدارته وأخلاقة ، فاستطاع بها الدفاع عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) .
وبعد استمراره في الدفاع عن ابن أخيه في تبليغه الدين الجديد وحطّه من
آلهة قريش استنكر زعماء قريش زعامته وحاصروه في شعبه مع قومه .
وفي أثناء تلك الفترة ظهرت القيادة الجديدة لقريش والمتمثّلة في أبي
سفيان وأبي جهل وعتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة المخزومي وعبدالله بن جدعان .
واستمرّ هذا المنحى في المنافسة على الزعامة فنافس أبو جهل المخزومي
وأبو سفيان وعتبة وشيبة الأمويون محمّداً (صلى الله عليه وآله) ونافس أبو بكر
التيمي وعمر العدوي وأبو عبيدة الفهري وعثمان الأموي الإمام علياً (عليه السلام) !
فسار أبو بكر التيمي على خطى ابن جدعان التيمي ، وسار خالد بن الوليد
المخزومي على خطى الوليد المخزومي ، وسار أبو سفيان وعثمان ومعاوية الأمويون على
خطى أُميَّة وحرب بن أُميّة .
ولكنّ ابن جدعان الصعلوك والوليد الحدّاد لم تكن عندهما المكانة
القبليّة والاعتبارية والشخصية والنسبية التي كانت عند أبي طالب فبقي هو السيّد
والزعيم الأوّل في مكّة مثل أبيه عبدالمطّلب .
وخلعت قريش زعامته قبل حصار بني هاشم في الشعب عندما تيقّنوا بإسلامه
فهو مثل مؤمن بني فرعون الذي ذكره الله تعالى في كتابه قائلاً :
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)([107]).
ولمّا عرفت قريش بحقيقة قصّة أبي طالب دسّت هي أيضاً مجموعة من دهاتها
في صفوف المسلمين مدّعين الإسلام فحاولوا مراراً قتل رسول الله (صلى الله عليه
وآله) فلم ينجحوا وأفلحوا أخيراً ، وهم الذين سيطروا على خلافة المسلمين بالتعاون
مع زعماء قريش أبي سفيان ومعاوية وعكرمة بن أبي جهل وحكيم بن حزام .
وكان الحزب القرشي الماكر قد أرسل شياطين متعدّدين إلى صفوف المسلمين
افتضح أمرهم لاحقاً مثل عمرو بن العاص .
الفصل الثاني : أجداد النبي ودين الأنبياء
هاشم بن عبد مناف
كان هاشم شخصيّة شهيرة في مكّة وجزيرة العرب معروفاً عند الدول
المجاورة المتمثّلة بدول الروم والفرس والحبشة واليمن . فقد أكرمه سيف بن ذي يزن
في اليمن إكراماً مشهوداً .
وقد تولّى في زمنه الرِّفادة والسِّقاية ، وكان رجلاً موسراً فإذا حضر
موسم الحجّ قام في قريش قائلاً :
« يامعشر قريش إنّكم جيران الله سبحانه ، وأهل بيته ، وإنّه يأتيكم في
هذا الموسم زُوّارُ الله وحُجَّاج بيته ، وهم ضيف الله سبحانه ، وأحقّ الضَّيف
بالكرامة ضَيْفُه فأجْمَعُوا لهم ما تصنعون لهم به طعاماً أيّامهم هذه التي لابدّ
لهم من الإقامة بها ، فإنّه ـ والله ـ لو كان مالي يسع لذلك ما كلَّفْتُكُمُوهُ »
. فيخرجون لذلك خرجاً من أموالهم كلّ امرئ بقدر ما عنده فيُصنع به للحجّاج طعامٌ
حتى يصدروا منها([108]).
وهو أوّل من أطعم الثريد للحجّاج بمكّة وإنّما كان اسمه عَمراً فما سمّي
هاشماً إلاّ بِهَشْمه الخبز بمكّة لقومه فقال شاعر من قريش :
عَمْرو الذي هَشَم الثريد لقومه *** قوم بمكّة مُسْنِتِينَ عِجَافِ
سُنَّت إليه الرحلتان كلاهما *** سَفَرُ الشتاءِ ورِحلةُ الايلاف([109])
وكان هاشم بعد أبيه على الزعامة والسقاية والرفادة ، فكان يعمل الطعام
للحجّاج يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد ، وتسمّى الرفادة .
ثم ولي الزعامة والسقاية والرفادة بعده أخوه المطّلب بن عبد مناف ثم
تولاّها بعده شيبة بن هاشم المسمّى بعبدالمطّلب([110]).
وكان هاشم أوّل من سنَّ الرحلتين لقريش : رحلتي الشتاء والصيف .
عبد المطّلب بن هاشم
واسمه شيبة بن هاشم وله عشرة أبناء ، وهو الذي سجد له الفيل الأعظم
وعليه قصّة أصحاب الفيل ، وبرز نور النبوّة في أسارير عبدالمطّلب ، وببركته (صلى
الله عليه وآله)دفع الله تعالى شرَّ إبرهة الحبشي ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ،
وببركته (صلى الله عليه وآله) أمر عبدالمطّلب أولاده بترك الظلم والبغي ، وحثّهم
على مكارم الأخلاق ، ونهاهم عن دنيّات الأُمور .
وكان شابّاً شجاعاً لم يفرّ من مكّة بفرار قريش بل بقي فيها قائلاً :
والله لا أخرُج من حرم الله أَبتغي العزَّ في غيره فجلس عند البيت قائلاً :
« اللهمّ إنَّ المرءَ يمنعُ رَحْله فامنَعْ حلالك »([111]).
فلم يزل ثابتاً في الحرم حتى أهلك الله تعالى الفيل وأصحابه فرجعت قريش
وقد عَظُمَ فيهم لصبره ، وتعظيمه محارِمَ الله تعالى ، فأُتي عبدالمطُلب في منامِه
في الحجر فقيل له : إحفر زمزم([112]).
وكانت عين زمزم قد نبعت عند قدوم إسماعيل وأُمّه هاجر إلى مكّة بدعاء
النبي إبراهيم (عليه السلام) الذي قال : (ربَّنا إنِّي أسكَنتُ من ذُرِّيتي بِوَاد
غَيرِ ذِي زَرع عِندَ بيتِكَ المحرَّم)([113]) فنبعت عين زمزم من فحص
إسماعيل (عليه السلام) برجله فيها ، فنبت الشجر واستقرّت جرهم هناك([114]).
وبعد موت عبدالله اهتمّ عبدالمطّلب بحفيده محمد (صلى الله عليه وآله)
اهتماماً خاصّاً ، لإيمانه بالله تعالى والآخرة والأنبياء ولمعرفته وإيمانه
بنبوّته (صلى الله عليه وآله) . أوّلاً وكونه حفيده ثانياً ، وثالثاً إنّه صبيٌ
يتيم الأبوين .
وقبل موته عهد عبدالمطّلب بمحمّد (صلى الله عليه وآله) إلى أفضل أبنائه
(أبي طالب) فكان عند حسن ظنّه وسار أبو طالب على خطى عبدالمطّلب في الاهتمام
بالدين الإلهي والرحم ، فاعتنى برسول الله (صلى الله عليه وآله) عناية خاصة وفائقة
.
وسمّت قريش عبدالمطّلب بإبراهيم الثاني([115]).
السير على دين إبراهيم (عليه السلام)
وكان عبدالمطّلب بن هاشم من حلماء قريش وحكمائها ، مجاب الدعوة ،
محرِّماً الخمر على نفسه ، وهو أوّل من تحنَّث بحراء ، والتحنّث تعبّد الليالي
ذوات العدد ، فإذا دخل رمضان صعده (للصوم) وأطعم المساكين ، وكان صعوده للتخلّي عن
الناس والتفكّر في جلال الله وعظمته ، فيرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس
الجبال ، فقالوا له مطعم الطير والفياض ، فكان مفزع قريش في النوائب ، وملجأهم في
الأُمور ، وشريفهم وسيدهم كمالاً وفعالاً ، وعاش مائة وأربعين سنة([116]).
ورفض عبدالمطّلب عبادة الأصنام ووحَّد الله تعالى ، ويؤثر عنه سنن جاء
القرآن بأكثرها منها الوفاء بالنذر ، والمنع من نكاح المحارم ، وقطع يد السارق ،
والنهي عن قتل الموءودة ، وتحريم الخمر والزنا ، وأن لا يطوف بالبيت عريان وكانت
قريش تستسقي به ويسمّى سيّد قريش([117]).
واستمرّ عبدالمطّلب وأبو طالب وبعض أبناء عبدالمطّلب في السير على
الدين الحنيف ، وكانت عرب الجاهلية قد إنحرفت عن دين إبراهيم الخليل (عليه السلام)
إنحرافاً بيّناً وممقوتاً ومن تلك الانحرافات ما فعلوه في قضية الكعبة والحجّ :
ترك العرب الوقوف على عرفة والافاضة منها([118]).
وكانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويسمّون بالحُمس ولا يقفون
بعرفات ، في حين كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقف بعرفات قبل البعثة([119]).
وحرّم الكفرة طعام الحل في الحرم([120]). وأبعدوا مقام إبراهيم
عن مكانه .
والإنحراف الخطير تمثّل في التعرّي . وقد أبطل الإسلام هذه العادات
الجاهلية السيّئة إذ جاء في الكتاب العزيز : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد وَكُلُوا وَاشْرَبُوا)([121]). والزينة هي الثياب .
وجاء أيضاً : (وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ
مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)([122]). فالمكاء : الصفير ، والتصدية :
التصفيق([123]).
إيمان آباء النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)
إدَّعت الشيعة الإماميّة إيمان آباء النبي (صلى الله عليه وآله) إلى
آدم رغم إنَّ بعضهم لم يعلن الإسلام لظروف خاصّة به([124]).
فقد أعلن أبو حيّان الأندلسي : « ذهبت الرافضة إلى أنّ آباء النبي (صلى
الله عليه وآله) كانوا مؤمنين »([125]).
وحاول غير الإمامية إعلان كفر آباء النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ
البعض منهم .
وتلك الأغلبية سعت بكل الوسائل إلى إثبات ذلك الأمر ، وهدفهم من ذلك
الحطّ من منزلتهم ، بل إنّهم حاولوا إثبات كفر أبي طالب الذي سعى بكل الوسائل لدعم
الإسلام والمسلمين وضحّى بكلّ ما عنده في هذا السبيل . وقد صرَّح المسعودي
واليعقوبي والسيوطي والرازي بإيمان أبي طالب([126]).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لم يزل ينقلني اللهُ من أصلاب
الطاهرين إلى أرحام المطهّرات ، حتى أخرجني في عالمكم ، ولم يدنّسني بدنس الجاهلية
»([127]).
ومن دلائل إيمان أجداد النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّ عبدالمطّلب كان
يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ويحثّهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات
الأُمور .
وكان يقول : لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى يُنتقم منه وتصيبه عقوبة إلى
أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة فقيل لعبدالمطّلب في ذلك فقال : والله
إنَّ وراء هذه الدار داراً أُخرى يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسئ بإساءته ،
أي أنَّ العقوبة معدّة له في الآخرة .
ورفض عبادة الأصنام ووحَّد اللهَ سبحانه وتعالى وتؤثر عنه سنن جاء القرآن
بأكثرها ، وجاءت السنّة بها ، منها الوفاء بالنذر ، والمنع من نكاح المحارم ، وقطع
يد السارق ، والنهي عن قتل الموءودة ، وتحريم الخمر والزنا ، وأن لا يطوف بالبيت
عريان([128]).
وهذا أفضل دليل على إيمان آباء النبي (صلى الله عليه وآله) وردّ شبهات
الكفّار والمنافقين .
جاء في كتاب البحار : إعتقادنا في آباء النبي (صلى الله عليه
وآله) أنّهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبدالله ، وأنّ أبا طالب كان مسلماً ، وآمنة
بنت وهب كانت مسلمة ; واتّفقت الإمامية على أنَّ والديّ الرسول (صلى الله عليه
وآله) وكلّ أجداده إلى آدم (عليه السلام) كانوا مسلمين ، بل كانوا من الصدّيقين([129]).
وقال فخر الدين الرازي إنَّ قوله تعالى : (إِنَّما المُشرِكُونَ
نَجَسٌ)([130]).
وجب أنْ لا يكون أحد من أجداده (صلى الله عليه وآله) مشركاً([131]).
وقال الحلبي : أحيا الله تعالى أبويه فآمنا به([132])
كما آمن به أجداده وباقي الأنبياء وبشّروا به .
وكانت قريش تستسقي بعبدالمطّلب فيسقيهم الله تعالى ببركة ذلك النور([133]).
واعترف الحزب القرشي برفض جماعة قرشية عبادة الأصنام وهم ورقة بن نوفل
الأسدي وعبيدالله بن جحش (زوج أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان) وعثمان بن الحويرث الأسدي
وزيد بن عمرو بن نفيل العدوي فتنصّر ثلاثة وبقي زيد بن عمرو بن نفيل على الحنيفية([134]).
لكنّ الحزب القرشي وأتباعه من العلماء أنكروا إيمان آباء وأجداد
النبي (صلى الله عليه وآله)حسداً لهم وحقداً عليهم وأدخلوهم جهنّم
زيفاً ، مثلما أدخلوهم في شعب أبي طالب في مكّة ظلماً !
قال أبو طالب : أنبأني أبي عبدالمطّلب إنَّ محمّداً هو النبي (صلى الله
عليه وآله) المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلاّ يغري به الأعادي([135]).
وقال بنو مدلج : إنّ قدم محمد (صلى الله عليه وآله) تشابه قدم إبراهيم
(عليه السلام) فقال عبدالمطّلب لأبي طالب : اسمع ما يقول هؤلاء فكان أبو طالب
يحتفظ به([136]).
وقال عبدالمطّلب عن محمّد (صلى الله عليه وآله) إنّ المَلِكَ قد أتاه([137]).
مَن كفَّر أجداد النبي (صلى الله عليه وآله) ووالديه وأبا طالب
سعى علماء العصبيّة وأتباع البلاط بكل السبل لتكفير آباء وأجداد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وتكفير عمّه أبي طالب وأُمّه آمنة وإدخالهم
النار بكل السبل المتاحة ، ورفض الروايات الصحيحة في إيمانهم وتوحيدهم قبل المبعث
وبعده ! ممّا يثير علامات استفهام وشكوكاً كثيرة !!
فمن الأكاذيب : جاء عنهم قوله (صلى الله عليه وآله) : إنّي أتيت قبر
أُمّي فسألت ربّي الشفاعة أو استأذنته في الإستغفار لها فأبى عليَّ ـ يعني لها ـ
فمنعنيها([138]).
وإنّه نزل حينها : (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)([139]).
ومن الأكاذيب : في رواية سأله أعرابي : يا رسول الله أين أبوك ؟
قال (صلى الله عليه وآله) : حيثما مررت بقبر كافر فبشّره بالنار([140]).
وقالوا كذباً قوله (صلى الله عليه وآله) : أُشهدكم أنّي بريء من آمنة
كما تبرّأ إبراهيم من أبيه([141]). وهذا القياس باطل لأنّ أبا إبراهيم
كان حيّاً في زمن تبليغ إبراهيم (عليه السلام) لدينه على عكس والديّ النبي (صلى
الله عليه وآله) فكيف يحكمون بكفرهم بدين لم يسمعوا به ! في حين آمن آباء وأجداد
النبي (صلى الله عليه وآله) بدين إبراهيم (عليه السلام) وبرسالة محمّد (صلى الله
عليه وآله) التي سيأتي بها .
وقال ابن كثير : إنَّ عبدالمطّلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية
خلافاً لفرقة الشيعة فيه وفي ابنه أبي طالب([142]).
وقال البيهقي في كتابه دلائل النبوّة : وكيف لا يكون أبواه وجدّه عليه
الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة ـ أي من أهل الجحيم ـ وقد كانوا يعبدون الوثن
حتّى ماتوا([143]).
وروى ابن كثير نزول آية : (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فيهم([144]).
ورووا كذباً أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله) : هو (أبو طالب) في ضحضاح
من نار([145]).
وقوله (صلى الله عليه وآله) : أهون أهل النار عذاباً أبو طالب([146]).
ولم تنجُ خديجة من ذلك التعصّب ، فرووا قوله (صلى الله عليه وآله) فيها
: بشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب([147]).
وقسّم ابن كثير الرأي في أجداد النبي وأبيه وأُمّه إلى قسمين :
القسم الأول : السُنَّة كفّروهم وحكموا بدخولهم النار .
والقسم الثاني : وهم الشيعة أعلنوا إيمانهم وتوحيدهم وحكموا بدخولهم
الجنّة .
ولو دقّقنا البحث في الموضوع لوجدنا أنَّ الكثير من علماء السنّة قد
حكموا بإيمان والدي النبي (صلى الله عليه وآله) وأجداده .
ذكر ابن الجوزي : قال قوم من بني مدلج لعبدالمطّلب : احتفظ به فإنّا لم
نر قدماً أشبه بالقدم التي في المقام منه . فقال عبدالمطّلب لأبي طالب : اسمع ما
يقول هؤلاء فكان أبو طالب يحتفط به([148]).
وقال اليعقوبي : رفض عبدالمطّلب عبادة الأصنام ووحَّد الله عزَّوجلَّ
فكانت قريش تقول : عبدالمطّلب إبراهيم الثاني([149]).
وقال عبدالمطّلب برواية أبي طالب : إنَّ محمّداً النبي المبعوث وأمرني
أن أستر ذلك لئلاّ يغري به الأعادي([150]).
والصحيح كان عبدالمطّلب يصعد غار حراء في شهر رمضان ويطعم المساكين
جميع الشهر([151]).
وفي رواية : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سأل ربّه أن يحيي
أبويه ، فأحياهما وآمنا به([152]).
ولقد جاء في الروايات الصحيحة إيمان والدي محمّد (صلى الله عليه وآله)
بدين إبراهيم ، ورفضهم عبادة الأصنام هذا قبل البعثة النبويّة .
وآمن به أبو طالب وخديجة ودافعا عنه وماتا في هذا الطريق . وقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله) : « ما نالت منِّي قريش شيئاً أكرهه حتّى
مات أبو طالب »([153]).
وجاء : لمّا تقارب من أبي طالب الموت نظر العبّاس إليه يحرّك شفتيه ،
فأصغى إليه بإذنه فقال : ياابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها([154]).
ودعا أبو طالب بني عبدالمطّلب فقال : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّد
وما اتّبعتم أمره فاتّبعوه وأعينوه تَرْشُدوا([155]).
ولقد شمَّر المؤرخون المتعصّبون سواعدهم ومنهم ابن كثير لتكفير والدي
الرسول (صلى الله عليه وآله) وأجداده وأبي طالب !
فكذَّبوا الروايات الصحيحة في إيمانهم وصحَّحوا الروايات الأموية
السقيمة في كفرهم !
ولقد صحّح محمد حسنين هيكل إيمان أبي طالب في طبعة كتابه الأولى (محمّد
رسول الله) وعاد تحت ضغط المال إلى صفوف ابن كثير الأموي في طبعته الثانية !!
فأصبحت قضيّة تكفير والدي النبي (صلى الله عليه وآله) وأجداده ، وأبي
طالب ، وإدخالهم النار ركناً من أركان الحزب القرشي والعامّة وركنهم الثاني إثبات
عدالة الصحابة كافّة وإدخالهم الجنّة !
ولمّا كان غار حراء مكاناً مخصّصاً لعبادة أجداد وآباء النبي (صلى الله
عليه وآله) حاول الأمويون سرقة تلك الفضيلة وإلصاقها بقريش ! إذ جاء : كانت قريش
إذا دخل رمضان خرج من يريد التحنّث منها إلى حراء فيقيم فيه شهراً ، ويطعم من
يأتيه من المساكين ، حتّى إذا رأوا هلال شوال ، لم يدخل الرجل على أهله حتى يطوف
بالبيت اسبوعاً ، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل ذلك([156]).
والمدهش أنّهم أدخلوا ورقة بن نوفل الجنّة لأنّه آمن برسول الله (صلى
الله عليه وآله) قبل البعثة ولم يسلم([157])، وأدخلوا آباءه (صلى
الله عليه وآله) وأُمّهاته وأجداده النار رغم إيمانهم به قبل المبعث !
وقد سعى عروة بن الزبير بن العوّام لإدخال ورقة بن نوفل الجنّة بكلّ ما
أُوتي من قوّة على الكذب لأنّه أسدي من قبيلته رغم موته على الشرك([158])!
هل آمن أبو طالب بن عبد المطّلب ؟
قال أبو طالب :
لعمري لو كلِّفتُ وجداً بأحمد *** وأجبته حبّ الحبيب المواصلِ
وجُدتُ بنفسي دونه وحميته *** ودارأت عنه بالذُّرى والكلاكلِ
فما زال في الدنيا جمالا لأهلها *** وشيناً لمن عادى وزَين المحافلِ
حليماً رشيداً حازماً غير طائش *** يوالي إله الخلق ليس بماحلِ
فأيّده ربّ العباد بنصره *** وأظهر ديناً حقّه غير باطلِ([159])
وهو عبد مناف بن عبدالمطّلب ترأّس قبيلة بني هاشم بعد أبيه عبدالمطّلب
، وسار على وصية أبيه في الاهتمام بمحمد (صلى الله عليه وآله) اهتماماً خاصّاً([160]).
فكان يحبّه أكثر من أبنائه إلى درجة السعي للتضحية بأبنائه في سبيل الدفاع عنه .
وظهر ذلك في شعب أبي طالب يوم كان يضع أحد أبنائه في فراش
النبي (صلى الله عليه وآله)ليلاً لإنقاذه من أي شرّ محدق به !!
وتمثّل اهتمام أبي طالب برسول الله (صلى الله عليه وآله) في عدم
مفارقته له ، بأخذه معه إلى الشام للتجارة وهناك إلتقى بحبر من أحبار اليهود في
تيماء ، فقال لأبي طالب : ما هذا الغلام منك ؟
قال : هو ابن أخي . قال : أشفيقٌ أنت عليه .
قال : نعم . قال : فوالله لئن قَدِمْتَ به الشام لا تصل به إلى أهلك
أبداً لَتَقْتُلَنَّه اليهودُ ، إنَّ هذا عدُّوهم فرجع به أبو طالب من تيماء إلى
مكة([161]).
والظاهر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلتقى بالرهبان في أطراف الشام .
واهتمّت فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب بمحمّد (صلى الله عليه وآله)
واهتمامها نابع من اعتقادها الديني الراسخ بدين إسماعيل وإبراهيم فقال (صلى
الله عليه وآله) في وصف رعايتها يوم ماتت :
اليوم ماتت أُمّي ، وكفّنها بقميصه ، ونزل في قبرها ، واضطجع فيه ،
وصنع ما لم يصنعه مع مسلم قبلها ، وقال لمن سأله عنها : « إنّها كانت أُمّي تجيع
أولادها وتطعمني وتشعثهم وتدهنني ، وما أحسست باليتم منذ أن التجأت إليها » .
وأسلم أبو طالب سرّاً وهذا أمرٌ مؤكّد ، وممّا يدلّ على إسلامه :
1 ـ قوله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : والله لا يخلص إليك أحد
بشيء تكرهه ما بقيت([162]).
2 ـ وذكروا أنّه قال لعلّي : أي بُني ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟
فقال : ياأبت آمنت برسول الله ، وصدّقت بما جاء به ، وصلّيت معه لله
واتّبعته .
فقال أبو طالب له : أما إنّه لم يدعك إلاَّ إلى خير فالزمه([163]).
3 ـ ولمّا أظهرت قريش عداوتها ، حدب عليه أبو طالب عمّه ونصره ومنعه([164])
وقال :
والله لَنْ يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أُغَيَّبَ في الترابِ دَفينا
ودَعَوتني وزَعمتَ أنَّكَ ناصحٌ *** وَلَقدْ صَدَقتَ وكنتَ ثمَّ أَمينا
وعرضتَ ديناً قَدْ عَلمتُ بأنَّهُ *** من خَيْرِ أديانِ البريّةِ دينَا([165])
4 ـ وقال ابن اسحاق : كان أحبّ الناس إلى أبي طالب رسول الله (صلى الله
عليه وآله)([166]).
5 ـ وقد أجمع أهل البيت (عليهم السلام) على إيمان أبي طالب([167])،
بل جاء أنّه من الأوصياء([168]).
وقال العلاّمة الأميني : إنَّ بعض العلماء من أهل السنّة صرّحوا بإيمان
أبي طالب مثل الإسكافي والبلخي والتلمساني والشعراني وسبط ابن الجوزي والقرطبي
والسبكي والسيوطي([169]).
6 ـ وقال ابن الأثير : ما أسلم من أعمام النبي (صلى الله عليه وآله)
غير حمزة والعبّاس وأبي طالب عند أهل البيت([170]).
7 ـ واستدلّ سبط بن الجوزي على إيمانه بأنّه لو كان أبو علي كافراً
لكان شنّع عليه معاوية وحزبه والزبيريون وأعوانهم وسائر أعدائه (عليه السلام) مع
أنَّه (عليه السلام) كان يذمّهم ويزري عليهم بكفر الآباء والأُمّهات ورذالة النسب([171]).
8 ـ جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقوده وهو شيخ أعمى يوم فتح مكّة ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ألا
تركت الشيخ في بيته حتى نأتيه ؟
قال : أردت أن يؤجره الله تعالى لأنّي كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحاً
منّي بإسلام أبي ، ألتمس بذلك قرّة عينك([172]).
9 ـ وقال عماد الدين أبو الفداء : أسلم أبو طالب قبل موته([173])،
وذكر شعره .
ودعوتني وعلمت أنّك صادق *** ولقد صدقت وكنت ثم أميناً
ولقد علمت بأنّ دين محمّد *** مِن خير أديان البرية ديناً
واللهِ لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتّى أُوسّد في الترابِ دفيناً([174])
10 ـ وقال المعتزلي : روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العبّاس بن
عبدالمطّلب ، وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة : أنَّ أبا طالب ما مات حتّى قال :
لا إله إلاَّ الله ، محمّد رسول الله([175]).
وجمع أبو طالب قريشاً قبل موته فقال لهم : لن تزالوا بخير ما سمعتم من
محمّد ، وما اتّبعتم أمره ، فأطيعوه ترشدوا ، فلم يقبلوا منه قوله ، ولمّا مات أبو
طالب اشتدّت قريش على النبي (صلى الله عليه وآله) ونالت منه من الأذى ما لم تكن
تطمع فيه في حياته([176]).
11 ـ وقد ترحّم واستغفر النبي (صلى الله عليه وآله) على أبي طالب بعد
موته على المنبر([177])،
في حين لم يترحّم على من مات كافراً([178]).
12 ـ وسُئِل الإمام السجاد (عليه السلام) عن إيمان أبي طالب فقال : «
وا عجبا إنَّ الله نهى رسولَه أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر » .
وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام ، ولم تزل تحت أبي
طالب حتى مات »([179]).
13 ـ وقال الصادق (عليه السلام) : « إنَّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف
أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله تعالى أجرهم مرّتين »([180]).
لقد حاول معظم أتباع الخطّ القرشي إثبات كفر أبي طالب بشتّى الوسائل
والطرق غير المشروعة بغضاً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّه : « ياعلي لا يحبّك إلاَّ مؤمن ولا يبغضك
إلاَّ منافق »([181]).
وأعتقد بأنّ إسلام أبي طالب أصبح علنيّاً في الشعب . فأبغضه الكفّار
وأحبّوا أبا سفيان وصفوان بن أُميّة والحكم بن أبي العاص وأدخلوهم الجنّة زيفاً ،
لأنّ منهجيّتهم عكس منهجيّة أبي طالب .
وهل من الإنصاف إدخال أبي سفيان وهند الجنّة وإحراق أبي طالب في
النار ؟
وقد ضحّى أبو طالب بكلّ شيء في سبيل الإسلام واستخدم زعامته لقريش في
سبيل الدفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإسلام لذلك لم تصل قريش بأذى
للنبي (صلى الله عليه وآله)في حياته فهو سيّد قريش الأوّل فقالت أُخت
عمرو بن عبد ود عن قاتل أخيها علي (عليه السلام) :
لكنّ قاتله من لا يُعاب به *** أبوه مَن كان يُدعى سيّد البلد([182])
أهل الكتاب يعرفون نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) وإمامة علي (عليه
السلام) قبل الإسلام
كان النصارى يسكنون أطراف جزيرة العرب مثل الحيرة وبلاد الشام ، والبعض
منهم في منطقة نجران ، وكانوا يبشِّرون وينذرون بظهور النبي (صلى الله عليه وآله)
. إذ قالت حليمة : بينما نحن سائرون إذ مررنا على أربعين راهباً من نصارى نجران ،
وإذا بواحد يصف لهم النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً : إنَّه (صلى الله عليه
وآله) يظهر في هذا الزمان ، وقد ظهر بمكّة مولود من صفاته كذا وكذا ، يكون على يده
خراب دياركم وقطع آثاركم .
وإذا إبليس قد تصوّر لهم في صورة إنسان ، وقال لهم : الذي تذكرونه مع
هذه المرأة التي مرّت بكم ، فقاموا إليه ونظروا وإذا النور يخرج من وجهه ، ثم زعق
الشيطان وقال لهم : اقتلوه ، فشهروا سيوفهم وقصدوني ، فرفع ولدي محمّد رأسه إلى
السماء فإذا هم بداهية عظيمة كالرعد العاصف نزلت إلى الأرض ، وفتحت أبواب السماء
ونزلت منها نيران .
قالت حليمة : فعاينت ناراً قد نزلت فخفت على ولدي منها ، فنزلت على
واديهم فأحرقته([183]).
وكان بمرّ الظهران راهب يدعى عيضاً من أهل الشام يدخل مكّة في كلّ سنة
فيقول : يوشك أن يولد فيكم مولود ياأهل مكّة يدين له العرب ، ويملك العجم هذا
زمانه ، ومن أدركه واتّبعه أصاب حاجته ، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته([184]).
(يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً
مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)([185]).
وقالت اليهود لأهالي المدينة : إنّا ننتظر نبيّاً يبعث الآن يقتلكم قتل
عاد وثمود ، فنتّبعه ونظهر عليكم معه([186]).
وقالوا : ليخرجنّ نبي فيكسرن أصنامكم ، فلمّا خرج رسول الله (صلى الله
عليه وآله) كفروا به([187])! وكذَّبوا آياته .
(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)([188]).
وبشَّر كعب جدّ رسول الله قريشاً به (صلى الله عليه وآله)([189])
وبشّر به (صلى الله عليه وآله) جدّه النضر بن كنانة قائلاً : قد آن خروج نبي من
مكّة يدعى أحمد يدعو إلى الله وإلى البرّ والإحسان ومكارم الأخلاق فاتّبعوه([190]).
وجاءت بشارات بولادة الإمام علي (عليه السلام) إذ قال عيسى (عليه
السلام) في الإنجيل : إنَّ الإليا متوقّع أنْ يأتي([191]).
وإليا هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصي محمد (صلى الله
عليه وآله) .
الفصل الثالث : ولادة علي (عليه السلام) وصباه وتربيته
ولادة الإمام علي (عليه السلام) في الكعبة كيف ومتى ؟
الأسئلة التي تفرض نفسها على كلّ شخص في الدنيا هو : لماذا جعل الله
تعالى ولادة الإمام علي (عليه السلام) في الكعبة ؟
ولماذا لم يولد فيها أحد سواه ؟
ولماذا أجاز الله تعالى ولادة علي (عليه السلام) في الكعبة المقدّسة
ولم يسمح لعيسى (عليه السلام)بالولادة في بيت المقدس ؟
وإليك متن حديث الولادة المباركة عن لسان الصحابي سعيد بن جبير عن يزيد
بن قعنب مرفوعاً :
كنتُ جالساً مع العبّاس بن عبدالمطّلب وفريق من بني عبدالعزّى بإزاء
بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد ـ أُمّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ
وكانت حاملةً به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق فقالت :
ربّ ، إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإنّي مصدّقة
بكلام جدّي إبراهيم الخليل ، وإنّه بنى البيت العتيق ، فبحقّ النبيّ الّذي بنى هذا
البيت ، وبحقّ المولود الّذي في بطني لما يسّرت عليَّ ولادتي .
قال يزيد بن قعنب : فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره ، ودخلت فاطمة فيه
، وغابت عن أبصارنا ، والتزق الحائط ، فرُمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ،
فعلمنا أنَّ ذلك أمرٌ من أمر الله عزَّوجلَّ .
ثمَّ خرجت في اليوم الرّابع وبيدها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ،
ثمَّ قالت :
إنّي فُضِّلتُ على مَن تقدَّمني من النساء ، لأنَّ آسية بنت مزاحم عبدت
الله عزَّوجلَّ سرّاً في موضع لا يحبُّ أن يُعبد الله فيه إلاّ اضطراراً .
وأنَّ مريم بنت عمران هزَّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطباً
جنيّاً ، فإنّي دخلتُ بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأوراقها ،
فلمّا أردتُ أن أخرج هتف بي هاتف :
سمّيه علياً فهو علي يقول تعالى : « شققت اسمه من اسمي وادّبته بأدبي
ووقّفته على غامض علمي »([192]).
قال العلاّمة الحّليُّ (رحمه الله) : وأمّا حال ولادته فإنَّه (عليه
السلام) ولد يوم الجمعة الثّالث عشر من شهر رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة في
الكعبة ; ولم يولد فيها أحد سواه لا قبله ولا بعده ; وكان عمر النَّبيِّ (صلى الله
عليه وآله) ثلاثين سنة ، فأحبَّه وربّاه ، وكان يطهِّره في وقت غسله ، ويجرِّعه
الّلبن عند شربه ، ويحرِّك مهده عند نومه ... ويقول :
« هذا أخي وولييِّ وذخري وناصري وصفيِّي وكهفي وصهري ووصيِّي وأميني
وخليفتي » وكان يحمله دائماً ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها([193]).
وقال برهان الدين الحلبيّ : فلم يزل عليٌّ (عليه السلام) مع رسول الله
(صلى الله عليه وآله)([194]).
وللسيد الحميري المتوفّى سنة173 قصيدة منها :
ولدته في حرم الإله وأمنه *** والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة *** طابت وطاب وليدها والمولدُ
فى ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدت مع القمر المنير الأسعد
ما لُفّ في خرق القوابل مثله *** إلاّ ابن آمنة النبي (محمّد) (صلى
الله عليه وآله)
وللعلاّمة الشيخ حسين نجف المتوفّى سنة1252 قصيدة نقطف منها محل الحاجة
:
جعل الله بيته لعلي *** مولداً ياله علاً لا يضاهى
لم يشاركه في الولادة فيه *** سيّد الرُّسل لا ولا أنبياها
علم الله شوقها لعلي *** علمه بالذي به مَن هواها
إذا تمنّت لقاءه وتمنّى *** فأراها حبيبه ورآها
ما ادّعى مدّع لذلك كلاّ *** من ترى في الورى يدوم ادّعاها
فاكتست مكّة بذلك افتخاراً *** وكذا المشعران بعد مناها
بل به الأرض قد علت إذ حوته *** فغدت أرضها مطاف سماها
أو ما تنظر الكواكب ليلاً *** ونهاراً تطوف حول حماها
وإلى الحشر في الطواف عليه *** وبذاك الطواف دام بقاها
وقال السيّد الحميري المتوفّى سنة 173هجرية :
ولدته في حرم الإله وأمنه *** والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة *** طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدت مع القمر المنير الأسعد
ما لفّ في خرق القوابل مثله *** إلاّ ابن آمنة النبي محمّد
لقد حصلت معجزات كثيرة في العصر النبوي الشريف على رأسها مقتل أصحاب
الفيل القادمين لهدم الكعبة ، والمعاجز التي رافقت ولادة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) في كلامه وبركته وولادة وصيّه الإمام علي (عليه السلام) في جوف الكعبة
والصفات الإنسانية الراقية التي وهبها له الله تعالى ، وأعقب ذلك انتصار الإسلام
ودخول الناس في الدين أفواجاً .
فكان الإمام علي (عليه السلام) والكعبة معجزتان من معاجز الله سبحانه
فقد انشقّ جدار الكعبة احتراماً لعلي (عليه السلام) وبعد ثلاثين سنة صعد الإمام
علي (عليه السلام) على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحطّم أصنام الكعبة([195]).
ولد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد ولادة النبي (صلى الله
عليه وآله) بثلاثين سنة أي قبل البعثة النبوية بعشر سنوات وهو المشهور([196]).
وقد ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) من شيخ الأبطح أبي طالب وفاطمة
بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف .
وقال العلماء لم يولد أحد في جوف الكعبة قبل الإسلام وبعده غير الإمام
علي (عليه السلام)([197]).
وعندما جاءها المخاض أرسل الله لها صوتاً بالذهاب الى الكعبة ولمّا
طافت بها انشقّ لها جدار الكعبة فدخلت في جوفها وولدت عليا (عليه السلام) .
ذكر الحاكم في المستدرك على الصحيحين : وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة
بنت أسد ولدت أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه في جوف الكعبة([198]).
وقال الشبلنجي وابن الصبّاغ المالكي والكنجي الشافعي : (ولد علي (عليه
السلام) بمكّة داخل البيت الحرام يوم الجمعة ثالث عشر من رجب (13 رجب) الحرام سنة
ثلاثين من عام الفيل ، قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة ، وقيل بخمس وعشرين سنة ، وقبل
المبعث باثنتى عشرة سنة ، وقيل بعشر سنين .
ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه)([199]).
وقال أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي الشهير بشاه ولي الله والد عبدالعزيز
الدهلوي مصنِّف التحفة الاثنى عشرية في كتابه إزالة الخفاء :
تواترت الأخبار أنَّ فاطمة بنت أسد وَلَدت أمير المؤمنين علياً (عليه
السلام) في جوف الكعبة فإنَّه ولد في يوم الجمعة ثالث عشر من شهر رجب بعد عام
الفيل بثلاثين سنة في الكعبة ، ولم يولد فيها أحدٌ سواه قبله ولا بعده([200]).
ومن الذين ذكروا ولادة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكعبة
: المسعودي([201])
وابن الجوزي في التذكرة([202])، والحلبي([203])،
وعلي الحنفي([204])،
وابن الأثير([205])،
وعبدالرحمن الصفوري الشافعي([206])، ومحمد مؤمن الشبلنجي([207])،
وحبيب الله الشنقيطي([208]).
ومن الشيعة : الحسن بن محمد بن الحسن القمّي في تاريخ قم ، والشريف
المرتضى في خصائص الأئمّة ، والشيخ المفيد في مسار الشيعة 51 ، ومئات المصادر
الأُخرى .
وقال عدد من العلماء : لم يولد في الكعبة أحد سواه([209]).
وقد حاول الزبير بن بكّار (حسداً لمنزلة الإمام علي (عليه السلام) في
ولادته في جوف الكعبة) إيجاد منقبة لأحد الصحابة توازي منزلة الإمام علي (عليه
السلام) تلك على خطى معاوية بن أبي سفيان ، للانتقام من وصي المصطفى فانتخب عدوّاً
لبني هاشم ألا وهو حكيم بن حزام الطليق ابن عمّه ، الذي تلكّأ عن بيعة الإمام علي
بن أبي طالب (عليه السلام)مع مجموعة زيد بن ثابت ومحمد بن مَسْلَمة) وكان
عثمانيّاً متصلّباً([210]). فاختلق له فضيلة الولادة في الكعبة([211])!
وآل الزبير من المحاربين لأهل البيت (عليهم السلام) وكان عبدالله بن
الزبير قد همَّ بإحراق بني هاشم جميعاً أثناء حكمه للحجاز([212])
فحصر بني هاشم في بيت وجعل الحطب حوله بمستوى جداره وخيّرهم بين الموت بالنار
والبيعة له ! ولم يتورّع عن إحراقهم في داخل الحرم المكّي([213]).
ويشارك حكيم بن حزام بني الزبير في حقدهم على أهل البيت (عليهم السلام)
.
وبلغت عداوة حكيم بن حزام لبني هاشم درجة عالية إذ جاء : لمّا كان يوم
بدر جمعت قريش بني هاشم وحلفاءهم في قبّة وخافوهم ، فوكّلوا بهم من يحفظهم ويشدّد
عليهم منهم حكيم بن حزام([214])!
وقد خرج حكيم بن حزام وأبو سفيان وصفوان بن أُميّة وعبدالله بن أبي
ربيعة إلى معركة حنين لا لنصر الإسلام بل كما قال الواقدي : ينظرون لمن تكون الدائرة
واضطربوا خلف الناس والناس يقتتلون([215]).
أي تسبّبوا في هزيمة المسلمين ، فكانوا من المنافقين إلى نهاية عمرهم .
وبنو الزبير وحكيم بن حزام من قبيلة بني عبد العزّى القرشية فأراد
الزبيريون رفع شأن قبيلتهم وفقاً لأعراف الجاهلية .
والذي يقرأ مصادر هذه الحادثة يجد أنّه لم يولد في الكعبة أحد سوى
علي (عليه السلام) ، ومن البعيد أن يجمع الله تعالى هذه
الفضيلة لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعدوّه الطليق حكيم
بن حزام المحارب لله ورسوله المستمر على النفاق .
والله هو القائل على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله) : « ياعلي لا
يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق »([216]).
و : « اللهمّ والي من والاه وعادي من عاداه ، وانصر من نصره وأخذل من
خذله »([217]).
وتجتمع في حكيم بن حزام صفات الطليق الكافر الذي أُكره على دخول
الإسلام ، وأبوه حزام بن خويلد ممّن قُتِل في حرب الفجّار الآخر([218]).
وكان عثمانيّاً متصلّباً ، ومن المنحرفين عن الإمام علي بن أبي طالب
(عليه السلام) ، ومن قبيلة الزبير بن العوّام وابن عمّه([219]).
وقد انفرد بتلك الرواية المزيّفة الزبير بن بكّار وعمّه مصعب بن
عبدالله وهما من أبناء عبدالله بن الزبير بن العوّام المعادين لأهل البيت (عليهم
السلام) .
وقال أحمد بن علي السليماني : إنّ الزبير بن بكّار كان من عداد من يضع
الحديث .
وقال مرّة عنه : منكر الحديث([220]).
ومات حكيم بالمدينة سنة أربع وخمسين ، وبلغ ثراؤه أنّه باع داراً له
(دار الندوة) من معاوية بستّين ألف دينار([221])!
وكان هذا المبلغ عظيماً بحيث أنّ معاوية عندما اشترى بيت حويطب بن
عبدالعزّى في المدينة بأربعين ألف دينار استشرف لذلك الناس([222]).
ولمّا استعظم الناسُ ذلك قال لهم معاوية : وما أربعون ألف دينار لرجل
له خمس من العيال([223]).
واستنقص عبدالله بن الزبير حكيم بن حزام لبيعه دار الندوة من معاوية([224]).
وحبّ حكيم بن حزام للمال دفعه إلى احتكار الطعام على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله)([225]).
وبينما جاهد الأنصار والمهاجرون طيلة سنوات عديدة بقي معظمهم يعيشون
حالة الفقر والعوز ، في حين كان رجال مكّة يجمعون الأموال ويدعمون الكفر !
وفي حنين أوّل معركة لطلقاء مكَّة بعد إكراههم على دخول الإسلام ورغم
انهزامهم من ساحة القتال ، بقيت أعينهم تصبوا للاستحواذ على الغنائم ! وعلى رأس
هؤلاء أبو سفيان وأبناؤه وحكيم بن حزام .
فقد قال حكيم بن حزام : سألت النبي (صلى الله عليه وآله) بحنين مئة من
الأبل فأعطانيها ، ثم سألته مئة فأعطانيها([226])!
الظاهر أنّ كثرة أمواله مثيرة للشكّ فنسبوا بعضها كذباً إلى عطايا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) كي يسكت الناس !
بينما عاد الأنصار إلى المدينة بأيد خالية ! وهم مسرورون بصحبتهم رسول
الله (صلى الله عليه وآله) .
وفي أيّام خلافة عثمان عندما أصبحت قضية الحصول على الأموال الطائلة
أسهل من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر تحوَّل حكيم بن حزام إلى
المدينة والتفّ حول عثمان فكنز أموالاً طائلة بلا ورع ولا تقوى .
وقد جاء : وهو أحد النفر الذين حملوا عثمان بن عفّان ودفنوه ليلاً([227]).
ثم ذهب حكيم بن حزام إلى معاوية بن أبي سفيان رفيقه القديم في مكّة
أيّام العمل سويّة ضد محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله) ! فاعتنى معاوية
والأمويون به عناية خاصّة وبمجموعة الأربعة أشخاص الذين دفنوا عثمان([228]).
وكان أمويّاً مخلصاً للخطّ الأموي مثلما كان مخلصاً لخطّ قريش في
الجاهلية ، وتلك الأعمال والصفات تكفي لإعطائه امتيازات الأمويين وأموالهم ! أليس
كذلك ؟
وكيف لا ، وهو الذي حارب الحق في الفجار وبدر وأُحد والخندق وحنين
وناصر حرب بن أُميّة في الفجار وحفيده معاوية في صفّين .
وبعد فترة زمنيّة عرفت سرّ حب قريش لأُمّ حكيم أكثر من غيرها والمتمثّل
في كونها المحاربة والأسيرة الوحيدة في معركة بدر([229]).