فصل
الله تعالى يفعل لغرض ومصلحة يعودان إلى خلقه لا إليه، لامتناع احتياجه للزوم العبث لو خلا عن غرضه وهو قبيح عقلا فلا يقع منه كما مضى في تقريره والأشاعرة نفت غرضه تعالى وهم عن الصراط لناكبون، حيث أعرضوا عن قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون)(1) وقد بين الله تعالى الغرض من بعث المرسلين بأنه لنفي حجة الناس عن رب العالمين ولو أضيف العبث إلى أحد من هؤلاء لتفصى عنه وتبرأ منه، ولما حكم عقله بقبحه نفاه عن فعله، فكيف عمي إذ نسب ربه إلى مثله شعرا:
أيحسن أن يبني قصورا مشيدة | بأحسن أوضاع وأكمل هيئة |
ويهدم عمدا لا لمعنى وإنه | ليقبح هذا في العقول السليمة |
تذنيب:
يريد الله تعالى الطاعات ويكره المعاصي لما علمت من حكمته ولأمره ونهيه المستلزمين لإرادته وكراهته ولو لم يكره الرب المعاصي لما حكم على الكافر بأنه عاص.
فصل
قضت الضرورة باستناد بعض الأفعال إلينا لوقوعه بدوا عينا، ولولا ذلك لقبح أمرنا ونهينا فانتفت عنا طاعاتنا ومعاصينا إذا انتفى عنا تأثيرها. وسيأتي ذلك في بابه مستوفى إن شاء الله، والقضاء والقدر اللذان يستند الخصم بهما إلى المحال وحمله التأويل الفاسد على الانصراف عن الهدى إلى الضلال فلهما محامل تطابق اللغة العربية موجبة لتنزيه بارئ البرية يتعين الحمل عليها لقضاء الفعل بها والتجاء الضرورة إليها.
____________
1 - المؤمنون: 116.
الباب الثاني
في إبطال الجبر المنافي لعدله ورحمته
هذا الباب قد طول علماؤنا البحث فيه وأتوا من الاحتجاج عقلا ونقلا بما لا مزيد عليه، ونحن نذكر شيئا مما وضعوه فيه لما علمت من الاحتجاج في تثبيت الإمامة إليه فنقول:
الله تعالى أمر ونهى ولولا قدرة العبد على متعلقهما كان ذلك سفها، ووعد على الفعل والترك بالثواب الجزيل ولولا قدرة العبد لما كان ذلك أولى به من العذاب الوبيل، ولخلت الفائدة عن صحائف الأعمال والإشهاد فيها إذا كانت الأفعال المنسوبة إلى العبد لا قدرة له عليها، ولولا قدرة العبد على الطاعة والعصيان لجاز من العدل الحكيم معاقبة أهل الإيمان وإثابة ذوي الكفران، ولو جاز ذلك خرج الحكيم العدل إلى الظلم عن حكمته وعدله وبطل ما تمدح به من إثبات رحمته، ولكان الطائع ناقص التدبير قليل التصوير حيث تعجل بمشقة التكليف، إذ جوز أن يعاقب وإن أطاع وهذا هو الاعتقاد السخيف. ولو لم يكن للعبد قدرة لكان وعده تعالى ووعيده راجعين إلى نفسه وكذا بعثه الأنبياء إنما هو إلى نفسه، والمحاربة الواقعة من الكفار لنبيه ودويه صادرة عنه لا عن مكذبيه، ولكان تكذيب الكافر لرسالته إنما هو من ربه فكأنه أرسله ثم كذبه فيعود الكذب على نفسه بأن يقول: أنت أرسلتني ثم كذبتني فأنت الكاذب علي. ويدل على إضافة الفعل إلى العبد آيات كثيرة. وقد صنف الشيخ يحيى بن سعيد رحمه الله كتابا سماه (الفحص والبيان عن أسرار القرآن وآخر سماه (قبة العجلان) وآخر سماه (الموازنة) قابل فيه آيات العدل بآيات الجبر فوجد آيات العدل تزيد عنها بسبعين آية.
قال: (ومن المعلوم أن الأدلة إذا تعارضت تساقطت وكان الحكم للفاضل)
(كتابك شاهد لي بعدم قدرتي فاللوم لازم لك ومنتف عني) ونحن نورد طرفا من الآيات التي تمسك الخصم بها ونشير إلى شئ من تأويلها.
منها (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك(1)) قالوا: المراد بالحسنة الخصب، وبالسيئة الجدب ولهذا قال (أصابك) ولو أراد الفعل قال (أصبت) لأنك تصيب الحسنة، أما الخصب والجدب فإنه يصيبك لا تصيبه.
قلنا: سلمنا أن المراد الخصب والجدب ولكن لا يضرنا وقد قال مقاتل : ما أصابك من المكروه فمن نفسك لأنك وليت وجنيت. وعلى قولنا: فما أصابك من سيئة فمنك لأنك السبب فيها. وقد قال الله(2) (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) ولو كان الكل منه تعالى لم يصح أن يقول (من نفسك) ولبطلت القسمة المذكورة. وقد ذكر أبو العالية وأبو القاسم وهما من أئمة المفسرين أن المراد بالحسنة الطاعة وقعت بتوفيق الله وترغيبه وبالسيئة المعصية وقعت بخذلانه للعبد على وجه العقوبة له.
قولهم: لو أراد الطاعة والمعصية لقال: (أصبت).
قلنا: ما أصابك قد أصبته، قال السخاوي في شرح الشاطبية في تفسير:
فتلقى آدم من ربه كلمات)(3) ما تلقيته فقد تلقاك، ومن الأفعال ما يستوى فيه الإضافة فتقول: نالني كذا ونلت كذا، قال شاعر:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخطا | أصبت جميلا أو أصابك جاهل |
____________
1 - النساء: 78.
2 - الشورى: 30.
3 - البقرة: 37.
قالوا: قال في الآية الأخرى: (قل كل من عند الله)(2) فقد فسر تلك بهذه.
قلنا: معارضة بقوله: (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله)(3) مع أن تأويل مخالف العقل أولى من العكس على أنه لا بد من العدول عن الظاهر لدفع التناقض عن الآيتين إذ في إحداهما (من الله ومن نفسك) وفي الأخرى (الكل من الله) فكأنه قال: الكل من الله والبعض ليس من الله!
قالوا: إذا حملنا الآيتين على أن الكل من عند الله لم يتناقضا.
قلنا: لا يجوز الحمل اقتراحا ولم يفسر البعض بالكل لا مجازا، ولا ضرورة تلجئ إليه عن الحقيقة ويزول التناقض بما ذكر من تغاير الموضوع. قال ابن المرتضى، من شيوخهم: لما نزل النبي صلى الله عليه وآله المدينة قال اليهود والمنافقون:
ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا مذيوم قدم هذا الرجل علينا، فنزل: إن تصبهم حسنة - يعني رخصا - يقولوا هذه من عند الله لنا وإن تصبهم سيئة - يعني غلاء - يقولوا هذه بشؤم محمد فينا، وإنما أتى الله بها عقيبها لئلا يظن ضعيف العقل اتحاد معناهما، وقد قال الله تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)(4) فقد سمى الرخاء والشدة حسنة وسيئة.
قالوا: الكلام من أوله إلى آخره خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وجواز السيئة عليه ينافي العصمة فيه.
قلنا: قال ابن المرتضى: الخطاب له والمراد غيره، وقال ابن العباس:
نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة.
____________
1 - البقرة: 124. آل عمران: 40.
2 - آل عمران: 77.
3 - آل عمران: 78.
4 - آل عمران: 120.
وسنورد لك بعض ما تمسكوا به لتقف منه على بطلانه منه قوله تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه)(3).
قلنا: أمر واجب لا أنه ألزم، وإلا لانتفت قدرته حيث لم يقع ما ألزمه.
ومنه (إلا امرأته قدرناها من الغابرين)(4).
قلنا: كتبناها لا ألزمناها.
ومنه (وقدر فيها أقواتها، وقدرنا فيها السير)(5).
قلنا: علمها وعلم ما عليها من ثواب وعقاب.
____________
1 - الزمر: 7. الأعراف: 27. البقرة: 268. الليل: 12.
الدهر: 3. آل عمران: 54. البقرة: 150.
2 - التوبة: 126.
3 - أسرى: 33.
4 - النمل: 57.
5 - حم السجدة: 10. سبأ: 18.
ومنه (ومن يضلل الله فما له من هاد) ونظائرها.(2) قلنا: الضلال يكون في الدنيا بمنع الألطاف جزاء على الكفران ويكون في الآخرة بالأخذ عن طريق الجنة والاهتداء يقابلهما، وقد يضاف الضلال إليه لوقوعه عند تكليفه كما أضيف الرجس إلى السورة والنفور إلى الرسول(3) وقد يقال (أضل الله الانسان) إذا وجده ضالا، يقال أجدبت المنزل وأقفرت الدار، إذا وجدتهما كذلك. قال عمرو بن معدي كرب: (قاتلنا بني سليم فما أجبناهم، وسألناهم فما أبخلناهم، وهاجيناهم فما أفحمناهم)(4) وقد نسب الله إضلال الدين إلى غيره:
(فأضلهم السامري، وأضل فرعون قومه، ويريد الشيطان أن يضلهم)(5) وأضاف إلى نفسه ضلال المستحق: (ويضل الله الظالمين، وما يضل به إلا الفاسقين)(6) ولو جاز منه الاضلال عن الدين لم يخص به الظالمين.
ومنه (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله)(7) فنهى عن الشئ وهو يعم الطاعة والمعصية إلا مع التعليق بمشيئته، ولو كان لا يريد المعصية لكان من قال (لأعصينك غدا إن شاء الله) كاذبا حانثا، إذا لم يفعل، لأن الله قد شاء ذلك فلم يؤثر الاستثناء في المشيئة، ولما لم يكن حانثا بالاجماع كان الله مريدا للعصيان.
قلنا: قال المرتضى رحمه الله: الاستثناء يكون للايقاف كالداخل في العقود وللتسهيل مثل (لأقضينك غدا إن شاء الله) أي إن لطف، وهذا ليس على حقيقة الاستثناء فلا حجة لهم فيه كما ذكروه.
____________
1 - المجادلة: 22.
2 - الرعد: 35.
3 - في قوله: (فزادتهم (السورة) رجسا إلى رجسهم) وقوله: (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) 4 - أي ما وجدناهم جبناء، بخلاء مفحمين.
5 - طه: 85. طه: 79. النساء: 59.
6 - إبراهيم: 27. البقرة: 26.
7 - الكهف: 24.
قلنا: أي بينه ومنه (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله)(2).
قلنا: لم نشأ شيئا إلا وقد شاءه لأنه الآمر به، إذ لولا مشيئة الله لتخلف بها مشيئتنا فلم نشأ شاء بعدم مشيئتنا إن قيل مشيئتنا من فعلنا عندكم؟.
قلت من خلقه تعالى.
فإن قلت: كيف يكون من خلقه؟.
قلنا: المراد خلقنا أحياء نقدر على المشيئة وذلك سبب مشيئتنا.
ومنه (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم(3).
قلنا: على سبيل الاجبار لأن بعضهم سأل الرسول أن يقهر المجاورين لهم على الإيمان ليتقوا ربهم، فنزلت الآية وفي آخرها (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
ومنه (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله)(4).
قلنا: المراد بعلمه.
ومنه (إن الذين كفروا زينا لهم أعمالهم)(5).
قلنا: زين لهم أعمالهم الحسنة بالترغيب فيه فأبوا عنها فخلا بينهم وبين قبيحها، أو منعهم ألطافه فيها.
ومنه (ولو شاء الله ما أشركوا)(6).
____________
1 - الشمس: 8.
2 - الدهر: 30.
3 - ألم السجدة: 13. يونس: 99.
4 - يونس: 100.
5 - النمل: 4.
6 - الأنعام: 107.
ومنه: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء(1).
قلنا: الفتنة هي الاختبار والامتحان ومنه سمى الصانع (فتان) وقد جاءت الفتنة على معان هذا أليقها لتنزيه الرب عن العدوان.
ومنه (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(2).
قلنا: المشيئة بالجبر كما سلف، والضمير في (لذلك) للرحمة لا للاختلاف.
قالوا: (ذلك) ضمير المذكر لا يصلح للرحمة المؤنثة.
قلنا: رد الله ضمير التذكير إلى التأنيث في قوله (هذا رحمة من ربي، إن رحمة الله قريب من المحسنين)(3) وقد اشتهر ذلك في أشعار البلغاء.
ومنه (ولا تجعل في قلوبنا غلا)(4).
قلنا: الجعل بمعنى التخلية مثل قول أحدنا لغيره: (وجعلتني ذليلا) إذ خلا بينه وبين ما يذله. وبمعنى التسمية (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا)(5).
ومنه (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا)(6).
قلنا: وجدناه غافلا أو أغفلناه فلم نكتب فيه علامة الإيمان.
ومنه (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا. وجعلنا على قلوبهم أكنة)(7).
____________
1 - الأعراف: 154.
2 - هود: 119.
3 - الأعراف: 55.
4 - الحشر: 10.
5 - الزخرف: 19.
6 - الكهف: 28.
7 - يس: 8 والأنعام: 25.
كيف الرشاد وقد صرنا إلى نفر | لهم عن الرشد أغلال وأقياد |
ومنه (إن الله يحول بين المرء وقلبه)(1) قلنا: بالجنون أو الموت: والفائدة الحث على الطاعات قبل الفوت وسأل هشام بن سالم عن علي عليه السلام عن الآية فقال عليه السلام: يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق.
ومنه (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)(2).
قلنا: المرض هنا الشك، أي زادهم الله شكا بمنع ألطافه ومثله (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم)(3) وقيل معناهما الدعاء عليهم. ومثله (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)(4).
ومنه (والله خلقكم وما تعملون)(5).
قلنا: خلق أصنامهم التي يعملون فيها مثل (تلقف ما يأفكون)(6) يعني العصي المأفوك فيها، على أنه يجوز كونه خالق أفعالنا على وجه التقدير.
ومنه (خلق كل شئ) أي بقدر(7) قالوا: لولا أن المراد العموم ذهبت المدحة، لأن العباد عندكم يخلقون بعض شئ.
____________
1 - الأنفال: 34.
2 - البقرة: 10.
3 - التوبة: 125.
4 - الصف: 5.
5 - الصافات: 96.
6 - الأعراف: 119.
7 - الأنعام: 101.
ومنه (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام)(2).
قلنا: فكان يلزم إيجاد أفعالهم في ستة أيام والمعلوم خلافه.
ومنه (ويبلوكم بالشر والخير فتنة. وبلوناهم بالحسنات والسيئات)(3) قلنا: المراد الرخاء ومقابله كما سلف.
ومنه (إن الانسان خلق هلوعا)(4).
قلنا: مطبوع على الضعف عن تحمل المشاق) ومنه (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)(5).
قلنا: أمرهم بالطاعات ففسقوا مثل (أمرته فعصا، ودعوته فأبى) أو يكون المعنى أنا إذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنا أمرنا مترفيها. ولا يكون: (أمرنا مترفيها من صلة القرية. إن قالوا فلم يبق لاذا جواب قلنا: هو من الاكتفاء قال الهذلي:
حتى إذا سللوهم في قنابله | سلا كما تطرد الجمالة الشردا |
فلم يأت بجواب (إذا) لأن البيت آخر الشعر، وقيل التقدير: إذا أمرناهم ففسقوا أردنا هلاكهم، والتقديم والتأخير في كلام العرب كثير هذا.
____________
1 - الزخرف: 45.
2 - الفرقان: 59.
3 - الأنبياء: 35.
4 - المعارج: 19.
5 - الإسراء: 16.
روى عبد الله بن شداد أنه صلى الله عليه وآله كان يقول: (اللهم رضا بقضائك وبرك لي في قدرك) والنبي صلى الله عليه وآله لا يرضى بالكفر والظلم.
وقال صلى الله عليه وآله: (سيكون في آخر هذه الأمة قوم يعملون بالمعاصي ثم يقولون هي من الله قضاءا وقدرا، فإذا لقيتموهم فأعلموهم أني برئ منهم) ونحوه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وزاد فيه: (الراد عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله).
وقال له رجل: متى يرحم الله العباد ومتى يعذبهم؟ فقال: (يرحمهم إذا عملوا المعاصي فقالوا هي منا ويعذبهم إذا قالوا هي من الله قضاءا وقدرا).
وقد نقل ابن حنبل وجميع الحشوية ومعظم العامة أن عمر بن الخطاب أتى بسارق فقال له: ما حملك عليه؟ فقال: قضاء الله وقدره. فضربه ثلاثين سوطا ثم قطعه، وقال له: (قطعتك بسرقتك وضربتك السياط بكذبك على الله).
ولو لم يكن إلا الخبر المتلقى من الأمة بالقبول لكفى وهو ما رواه شداد بن أوس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: من قال حين يصبح أو يمسي: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت يا رقيب أعوذ بك من شر ما صنعت وأقر لك بالنعمة وعلى نفسي بالذنب فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
قالوا: الله قادر على المنع من المعصية ولم يفعل فهو مريد لها.
قلنا: منه يؤدي إلى الالجاء المنافي للتكليف بالانزجار عنها.
قالوا: الظلم تصرف في مال الغير والله مالك الكل فلم يقبح منه تعذيب بغير موجب.
قلنا: نمنع انحصار الظلم في ذلك فإن من قتل عبده لا لحدث فعله ذمه كل عاقل وظلمه.
قالوا: لو أذن السلطان لرعيته بقتل واحد فقتله واحد منهم فله قتله ولا يكون ظالما. قلنا: هذا مكابرة، فإن المأمور بقتله إن كان لا لسبب يوجب ظلمه [ فظلم ] وإلا ظلم قاتله.
قالوا: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قلنا: كيف يسأل عما يفعل ولا يفعل إلا على وفق الحكمة، بخلاف عباده. ويؤيده (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل(1)) (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا(2)) وأيضا وهم يسألون عما يفعل أو عما يفعلون فليعتبرها الضالون.
قالوا: لو فعل السلطان فعلا لم يعارض فيه وإن أنكرته الرعية فكيف يعارض الرب فتنكر الخلق عليه. قلنا: لم يعارض السلطان لما يعلم من ظلم أما الرب فنعم لما وصفه لنفسه من عدله، وذكر أنه فولا الارسال إليهم لسألوه عن فعله.
قالوا: الأغلب في الكون وقوع المعاصي وهي من الشيطان، والطاعات نادرة فالأقل من الرحمن؟ بل الحق أن الكل من الملك الديان. قلنا: ذلك ليس على وجه غلبة الضعيف، بل لأن الله تعالى لو ألجأهم إلى تركها لنافى التكليف وقد نطق بوسوسة الشيطان الكتاب المبين في قوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
لاحتنكن ذريته إلا قليلا، ولقد أضل منكم جبلا كثيرا(3).
قالوا: (خلق الله إبليس وهو يعلم أنه يعصيه فقد أراد معاصيه قلنا: خلقه للعبادة العائد عليه نفعها فأباها، وفي إيجاده تمييز الخبيث من الطيب باتباعه و امتناعه ولولاه لما فضل بعض البشر على الملائكة بمخالفته فظهرت الحكمة في خلقته.
____________
1 - البقرة: 150.
2 - طه: 134.
(3) الحجر: 39 و 40، الإسراء: 62، يس: 69.
قلنا: الأمر والإرادة متلازمان والمخالف فيه مكابر، وقد قال تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر(3) ولو كان مريدا له كان راضيا به لاتحادهما ضرورة، فإذا تلازم الأمر والإرادة لم يبق فرق بين ذكرها في العصيان وذكره وسؤال التعيين ساقط عند المحصلين وقد قال الله تعالى: (ولا يريد بكم العسر(4) وأي عسر أكبر من القهر على المعصية ورفع التمكين منها ثم يعاقبه عليها؟ ولو أمر الله بما لا يريد لكان عابثا، تعالى عن ذلك.
قالوا: أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده لعلمه أولا بعدم وقوعه.
قلنا: قد ذهب أكثر المحققين إلى وقوعه وأن الله تعالى كان يوصل الأعضاء بعد قطعها وذهب جماعة إلى أنه أمر بمقدمات الذبح لا بالذبح فأضجعه وغلب على ظنه أنه سيؤمر بالذبح.
قالوا: قد وقع من الله أنواع الآلام بغير المستحق كالأطفال والأولياء وغير ذلك من الموت ومصائب الدنيا ولم ينسب إليه ظلم في شئ منه فكيف ينسب إليه الظلم فيما يريده وهو يكتسب لغيره؟.
قلنا: الآلام المذكورة علم فيها مصلحة واختبارا وضمن في مقابلتها عوضا يختارونه عليها فخرجت بهذين عن كونها ظلما وعبثا بخلاف الصادرة منا فبطل قياس المنافق لعدم الجامع وحصول الفارق.
____________
1 - طه: 93.
2 - التحريم: 6.
(3) الزمر: 7.
(4) البقرة: 185.
(الفصل الثاني)
من أقوى ما يقال لهم: بعث الأنبياء لتأتي بما أراده الله منها أولا؟ فإن قالوا بما أراد؟ قلنا: أرادوا إيمان الكافر فيكون الله تعالى مريدا لإيمان الكافر وهو خلاف قولكم، وإن قالوا: بعثوا ليأتوا بما لا يريد، قلنا: هذا كفر وإلا لكان مسيلمة الكذاب أتى بموافق إرادة الله تعالى وخالفها النبي الصادق. ويقال لهم إذا جوزتم أن يفعل الله ما هو قبيح في الشاهد ولا يقبح منه لزمكم جواز أن يخبر عن الشئ بخلاف ما هو عليه ولا يقبح منه وقد التزمه العطوي وقال إنه ليس بأعظم من القبائح غيره.
والأشاعرة قالوا إنما لم يقل الكذب لأنه صادق لذاته، ولو كان الكلام فعلا لما قبح منه ذلك قلنا: قد ألزمناكم أن لا يكون صادقا فبينوا الآن أنه صادق لذاته على أن الكلام المسموع فعل عندكم، فما يؤمنكم أن يكون كذبا(1) و أن الكلام النفساني أخبر بخلاف ما أخبر المسموع بأن يكون فيه: النار دار الأبرار والجنة دار الكفار. إلزام آخر يقال لهم إذا صح أن يفعل الظلم صح أن يأمر به وكلما تجيبون في المنع من الأمر به قائم في المنع من فعله.
قالوا: أمر بالصلاة وغيرها ولا يفعل. قلنا: هذا عكس إلزامنا لأنا قلنا إذا صح أن يفعل صح أن يأمر وأنتم قلتم إذا صح أن يأمر صح أن يفعل. إلزام آخر إذا صح أن يفعل القبائح ولا يقبح منه صح أن ينصب الأدلة على الباطل ولا يقبح منه إذ ليس بأعظم من الاضلال عن الدين وخلق تكذيب النبيين وتجويز ذلك يرفع الثقة بحقية مذهب المسلمين لجواز أن يخرج المعاجز على يد الكاذبين ويمنع منها النبيين الصادقين وناهيك بذلك فسادا في الدين.
إلزام آخر، إذا جاز أن يخلق التكذيب والكفر في الضلال، جاز بالأولى أن يبعث الأنبياء يدعون إلى الضلال فيمتنع القطع بدعوى الأنبياء إلى الحق وذلك من أعظم المحال حيث لم يبق لأحد مجال عن سبيل الوبال.
____________
1 - صادقا.
تذنيب:
هذه الالزامات ونحوها يلزمهم أن لا يمكنهم الانفصال عنها ولا يستنكفون منها لأنهم لا يتصورون قبحا فيها لو صدرت منه، سبحانه وتعالى عنها.
(الفصل الثالث)
* (في إلزامات أخر) *
يقال لهم: تحبون أن تحمدوا على الطاعات فلا بد من: بلى، فيقال: دخلتم في توبيخ قوله (يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا(1)) ويقال لهم: إذا خلق الله الكفر في الكافر وأمره بالإيمان فقد أمره بتغيير ما خلق فكيف يعاقبه على أنه لم يغير ما خلق فيه.
إلزام آخر: نفى الله تعالى الظلم عن نفسه في مواضع من كتابه وعندكم كل واقع من القبائح من فعله فلا معنى للنفي عن نفسه، وبأي شئ يجيب الرسول إذا قال له الكافر: أي فايدة في إرسالك.
إلزام آخر: الاجماع على جواز طلب المعونة من الله ولا معنى لها حينئذ وإلا لاحتاج الله تعالى في فعله إليها.
إلزام آخر: أصحاب مسيلمة صدقوه في النبوة وتصديقهم من فعله تعالى فهو صادق إذ لا فرق بين تصديقه إياه وإنطاق الأحجار ونحوها له وإذا جاز أن يخلق الكذب في خلقه جاز أن يكون قول محمد صلى الله عليه وآله (لا نبي بعدي) من جملته إذ لا ترجيح له على دعوى مسيلمة وقد صدقنا الله على حد واحد.
إلزام آخر: إذا شرب الصائم بيده أثم وإذا وجر في حلقه لم يأثم فما الفارق بينهما وما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله؟ (رفع [ القلم ] عن أمتي [ في ] الخطاء و النسيان وما استكرهوا عليه) ولا يتصور الاكراه إذا كان فاعل الكل الله تعالى.
____________
(1) آل عمران: 185.