الصفحة 37

إلزام آخر: أجمع على وجوب التوبة وكيف يتوب الانسان عما لم يفعل و الندم حينئذ كالندم على السواد والقصر وتشويه الخلقة.

إلزام آخر: أنكروا فعل السيئات في قوله تعالى (ما كنا نعمل من سوء(1)) فإذا كانوا صادقين كذب قوله تعالى (بلى).

إلزام آخر: شهادة الجوارح على فعل العباد إن كانت صادقة فالمطلوب وإلا فكيف يحتج تعالى بشهادة كاذبة.

(الفصل الرابع)


اتفق أهل القبلة على إثبات القضاء والقدر في فعل العبد بمعنى العلم والكتابة له وعلى نفي القدر بمعنى الأمر به أما القدر فيه بمعنى أن الله خلقه فأثبته الجبريون ونفاه العدليون وقد أجمع على أنه تعالى يقضي بالحق ونطق القرآن به وعلى أن الكفر باطل، فلو قضاه تناقضا [ أ ] وكان الباطل حقا وإذا كان الجبري يقول بأن الله لم يقض الكفر بمعنى الأمر به لزم أن لا يقضيه بمعنى خلقه إذ كان خلقه أبلغ في القبح من الأمر به، وقد اتفق على نفي رضا الله بالكفر وجاء القرآن به وعلى وجوب الرضا بالقضاء فيجب أن لا يرضى العبد بما لم يرض الله به، وأجزل الله ثواب أبي العباس الضبي حيث قال في ذلك شعرا:


لعنت المشبهة والمجبرةلعاين تترى حدثها مره(2)
فميمنة النار مثوى لهانعم ولها القلب والميسرة
ولله إخواننا القائلونمقالة حق بها المغفرة
فهم وحدوه وهم عدلوهبآيات فطرته النيرة

____________

1 - النحل: 28.

(2) كذا.


الصفحة 38

(الفصل الخامس)


اتفق الناس على أن القدر اسم ذم لتشبيههم بالمجوس فتدارءته العدلية و الجبرية كل فرقة تلقيه على الأخرى، فقلنا من يثبت القدر في فعل العبد بمعنى الخلق له أحق بالقدري لأن الاسم إنما يشتق من الشئ لمثبت ذلك الشئ كما أنه الثنوي من أثبت ثانيا والمجسم من أثبت جسما، ولو اشتق اسم الشئ لنافيه لكان الموحد ثنوي والمنزه مجسمي(1).

إن قالوا: بل أنتم القدرية لأنكم تثبتون قدرة للعبد. قلنا: فأنتم تثبتون قدرة الرب على فعل العبد وأكثركم يثبت قدرة العبد ويزعم أنها موجبة للفعل والخبر ورد بفتح القاف والمثبت للقدرة قدري - بالضم - فليس هو المراد، وأيضا فإن المجبر يكثر ذكر القدر في كل قضية ومن أكثر من شئ عرف به. و أيضا فإن النبي صلى الله عليه وآله ذمهم فالجبرية أحق بالذم لنسبتهم أنواع القبائح إليه تعالى ونهى عن مجالستهم فالمفسدة في مجالس الجبرية حيث يسهلون المعاصي بقولهم:

ما قدره الله كان وما لم يقدره فلا، ويؤيسون من رحمة الله إذ يجوزون التعذيب من غير ذنب، ويقولون: خلق الله للجنة قوما لا تضرهم المعصية وللنار قوما لا تنفعهم الحسنة والطاعة! وسماهم النبي صلى الله عليه وآله شهود الشياطين وخصماء الرحمن إذ جواب إبليس (ما منعك أن تسجد): (رب بما أغويتني) فإذا قال الله: (من شهودك بذلك؟) جاء بالجبرية.

وحكى الحاكم: أن جبريا سمع قارئا يقرأ: (ما منعك أن تسجد؟) قال:

هو والله منعه، ولو كنت حاضرا لقلت ذلك. وحكى أيضا: أنه كان بالبصرة نصراني كتب (إني كفرت بمحمد بقضاء الله عليه ومنعه الإيمان به) وأتى بالكتاب المجبرة فكتبوا خطوطهم بذلك ليشهدوا به في القيامة. وشبههم النبي صلى الله عليه وآله. بالمجوسي والمجبرة كذلك، لأن المجوس يقولون بإلهين: القادر منهما على الخير لا يقدر

____________

(1) كذا في الأصل والقياس لكان الموحد ثنويا والمنزه مجسميا.


الصفحة 39
على الشر وبالعكس، والمجبرة تقول: (الكافر لا يقدر على الإيمان، والمؤمن بالعكس) وعلقت المجوس المدح الذم بما لا يعقل، وهو الطبع، والمجبرة علقوهما بما لا يعقل وهو الكسب والمجوس ينكحون المحارم ويقولون (أرادها منا).

وكذا الجبرية.

وقد روي في الفائق أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا، قيل: ومن القدرية؟ قال: قوم يزعمون أن الله قدر المعاصي عليهم و عذبهم عليها.

وروى أبو الحسن عن محمد بن علي المكي أن فارسيا قدم على النبي صلى الله عليه وآله فقال له النبي صلى الله عليه وآله: (أخبرني بأعجب ما رأيت) قال: رأيت قوما ينكحون محارمهم ويقولون هي بقضاء الله وقدره، قال النبي صلى الله عليه وآله أما إنه سيكون في هذه الأمة قوم يقولون بمثل مقالتهم، فأولئك مجوس أمتي، وقيل لثمامة: تقدر أن تؤخر ما قدم الله أو تقدم ما أخر الله، فقال: هذا على ضربين إن أردت أن أصير رأس الحمار ذنبه فلا، وإن أردت أن أقدم معاوية على علي عليه السلام وقد أخره الله تعالى فنعم.

وذكر ابن مسكويه في كتابه تجاريب الأمم: أن الله تعالى بعث محمدا والعرب حينئذ قدرية مجبرة، يحملون ذنوبهم على الله مصداق ذلك قوله تعالى (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها(1)) وقوله عنهم: (ولو شاء الله ما أشركنا(2)).

والعجب أن المجبر يعمل في أمر دنياه بالأحزم في طلب رزقه والحرص على أمواله، فإذا نهي عن ذلك بأن ما قدر الله فلا بد من وصوله فلا تتعب، أنف من ذلك وأنكره، ولقد كان أمر دينه أولى بالاحتياط منه.

إن قالوا: بل أنتم المجوس، لأنكم تنسبون الشرور إلى الشيطان وتنفونها عن الرحمن وهذا هو مذهب المجوس. قلنا: الشرور التي نسبها المجوس إلى الشيطان هي

____________

(1) الأعراف: 27.

(2) الأنعام: 148.


الصفحة 40
الأمراض والمصايب والصور المستقبحة، وهذه نحن ننسبها إلى الرحمن لا إلى الشيطان وأما الشرور التي هي الاغواء والوسوسة فلم تختص المجوس بنسبتها إلى الشيطان، بل يقول بها ساير الكتابيين، [ بل ] وقد علم من الله ورسوله والسلف نسبة ذلك إلى الشيطان، قال أبو بكر في مسألة: (هذا ما رآه أبو بكر فإن يكن صوابا فمن الله و إن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان) ومثله عن عمرو بن مسعود وغيرهما مما لا ينكره إلا جائر، لأنه من المتشاهر، وسيأتي تكميل ذلك في باب المجادلة فمن أراه قصده. شعرا:


امنع المجبر الذيبقضاء السوء قد رضي
وإذا قال لم فعلتقل له هكذا قضي

(الباب الثالث)
* (في إثبات النبي وصفاته) *


وفيه فصول:

(الفصل الأول)


نفت الأشاعرة وجوب البعثة بناءا على إنكار الوجوب العقلي وأوجبها الأوايل من حيث العقل العملي، ومشايخ المعتزلة لم تعمم وجوبها واتفقت المعتزلة في الجملة والإمامية مطلقا على وجوبها، والحق امتناع الخلو منها لاشتمالها على اللطف للانسان، وهو واجب على الله في كل آن فإن المواظبة على السمعيات مقربة من العقليات: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر(1)) ومشتملة على اللطف في السمعيات أيضا فإن العلم بدوام الثواب والعقاب الداعي إلى ما يوجبها مستفاد من النبي كما هو مذهب المرجئة، وأما المعتزلة القائلون بأن العلم بدوامهما عقلي فنقول فيه إنه لا يسقط لطيفة النبي، لأن العلم بتفاصيلهما سمعي، وذلك من أكبر الدواعي والصوارف.

____________

(1) العنكبوت: 45.


الصفحة 41
إن قيل: لا تكون السمعيات إلطافا في العقليات إلا إذا علم المكلف كونها إلطافا وداعية وذلك منتف. قلنا: لا نسلم وجوب علمه بكونها إلطافا وداعية، إذ يجوز أن يعلم الله أن مجرد التكليف بها موجب للانقياد إلى تلك، على أن العقليات قد يتباعد زمانها كقضاء الدين، ورد الودايع، والقيام بجزاء الصنايع، فتقع الغفلة عن الله فلا بد من مذكر وهو السمعي.

إن قلت: لو كانت السمعيات لطفا لتقدمت على العقليات، لوجوب تقدم اللطف، ولو تقدمت لزمت الدور فإن السمعيات إنما تثبت بعد العلم بثبوت الخالق وما يتوقف عليه الارسال من صفاته. قلنا المتقدم هو العلم بالعقليات، و السمعيات لطف في العمل بها، على أنا نمنع تقدم العقليات في الخارج على السمعيات، وإنما تقدمت في الذهن عليها، فإن العقل لانغماره في الشهوات قد لا يتنبه لتلك المعارف ولا يهتدي لوجوهها، ومع الرسول بها وإيجابها يتنبه لها ويقرب من تحصيل طرقها فيكون النبي لطفا فيها، وأيضا فالقدرة على البعثة والداعي إليها حاصلان فتجب لاشتمالها على المصالح والصارف منتف لانتفاء وجوه المفاسد، و أيضا فاجتماع النوع ضروري وهو مجبول على التغالب، فيقع التجاذب، فيقع القتل فيقع العدم المناقض لمراد الخالق من الوجود فيجب رده إلى قانون مقبول هو الشرع والآتي به النبي المميز عنه بالمعجزة، فوجب النبي وله وجه يتلقى به الوحي الإلهي وآخر يخاطب به النوع الانساني، وليس لرعيته هذان الوجهان.

إن قلت: لم لا يكون لكل فرد ما للنبي، فيستغني عنه قلت: الارسال أعظم في تجليل المرسل مما ذكرت، إذ في عادة الملوك إرسال الرسل والحجاب والاحتجاب عن الرعية، ليعظم في أعينهم، ولذا أوصى المعلم الأول، أرسطاطاليس، الملك الإسكندر، بأن لا يظهر على الرعية إلا نادرا، فجرى الرب الحكيم على ذلك في إرساله لازدياد تعظيمه.

إن قلت: هذا يوجب خفض منزلته عند رسوله. قلت: للرسول نفس قدسية لا يتخيل سقوطه عنده.


الصفحة 42
إن قلت: فلو جعل نفوسهم كذلك، كانوا كذلك، قلت: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) وبهذا يسقط ما قيل إن اختصاصه بالرسالة، إما لأمر فيتسلسل، أولا لأمر، فترجيح بغير مرجح. قلنا: ذلك من العناية والمختار يرجح بلا مرجح.

(الفصل الثاني)


محمد رسول الله صلى الله عليه وآله لثبوت دعواه ومعجزاته بالتواتر المفيد للعلم لبلوغ مخبريه إلى حد تشهد العقول بصدقه وتحيل العادة الاجتماع لافترائه، وإلا علم بمكانه و زمانه خصوصا مع توفر دواعي الكفار على نقله، وخصوصا القرآن العزيز، فإنه تحداهم بمعارضته في قوله (فأتوا بسورة من مثله(1)) فلو قدروا عليه مع كونهم ذوي فصاحة وبلاغة، لم يعدلوا عنه إلى محاربته، وفيها بذل أنفسهم، والهبوط عن رياساتهم، إذ العاقل لا يعدل عن الأخف الأسهل وفيه الحجة، إلى الأشق الأثقل مع عدم الفائدة.

وقد نقل الإمام الطبرسي في احتجاجه أن ابن أبي العوجا، وأبو شاكر الديصاني، وابن المقفع، و عبد الملك البصري اجتمعوا عند البيت، يهزؤن بالحاج ويطعنون بالقرآن، وعينوا لكل واحد منهم ربعا من القرآن أن ينقضه، ويجتمعون في القابل وقد نقضوه كله، فلما اجتمعوا في القابل، قال ابن أبي العوجا:

أما أنا فمنذ افترقنا، فمفتكر في قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا(2)) فلم أقدر أضم إليها من فصاحتها مثلها فشغلتني عما سواه، وقال عبد الملك: و أما أنا فمفتكر في قوله تعالى: (إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له)(3). وقال أبو شاكر: وأما أنا فمفتكر في قوله تعالى: (لو كان

____________

(1) البقرة: 23.

(2) يوسف: 80.

(3) الحج: 73.


الصفحة 43
فيهما آلهة إلا الله لفسدتا(1)) وقال ابن المقفع وكان أفصح أهل عصره: إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وإني مفتكر في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) الآية(2) لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الاتيان بمثلها، قال هشام: فبينما هم كذلك إذ مر بهم الصادق عليه السلام فقرأ: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(3)).

وقد حكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع (فاصدع بما تؤمر(4)) فسجد، وسمع آخر (فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا) فقال: أشهد أن لا مخلوق يقدر على مثل هذا وسمع الأصمعي جارية تستغفر، فقال لها:، مم ولم يجر عليك قلم، فقالت شعرا:


أستغفر الله لذنبي كلهقتلت انسانا بغير حله(5)
مثل غزال ناعم في دلهفانتصف الليل ولم أمله(6)

فقال لها: ما أفصحك يا جارية؟ فقالت: أفصاحة بعد قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين(7)) فجمع تعالى في آية أمرين ونهيين و خبرين وبشارتين.

ولما أراد النابغة الاسلام، حين سمع صوت قارئ يقرء القرآن وعلم بفصاحته قال أبو جهل له: يحرم عليك الأطيبين.

وأخبر الله تعالى عن الوليد بن المغيرة بذلك، في قوله: (فكر وقدر) إلى آخر الآية(8)).

____________

(1) الأنبياء: 22.

(2) هود: 44.

(3) الإسراء: 88.

(4) الحجر: 94.

(5) كذا في النسختين والظاهر: قبلت.

(6) ولم أصله، خ.

(7) القصص: 7.

(8) المدثر: 18.


الصفحة 44
وقد نقل في وجه إعجازه وجوه أخر كالصرفة وغيرهما، فمن وفق لها وقف عليها، واعلم أن تواتر القرآن عيني، وغيره معنوي، مثل أخباره صلى الله عليه وآله بالمغيبات وانشقاق القمر، وتسبيح الحصا، ونبوع الماء من بين أصابعه، وغيرها من المعجزات المشهورة، فإن كل فرد منها وإن نقل بالآحاد إلا أنها اشتركت في معنى واحد هو خرق العادة، وسيأتي في ذلك فصل مفرد إنشاء الله تعالى.

وأيضا فالأنبياء السالفون أخبروا به، ففي التوراة فارقليطا وفي الإنجيل المحنا، وفي خرايج الراوندي: في الإنجيل فارقليطا وايمشحا وهو محمد صلى الله عليه وآله.

وقال الشهرستاني في الملل والنحل أجمع أهل الكتاب على أن التوراة بشرت بواحد واختلافهم في تعيينه، أو في الزيادة عليه، وقد ثبت إعجاز القرآن وفيه:

(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التورية و الإنجيل(1)) وقال عيسى عليه السلام: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد(2)).

(الفصل الثالث)
* (في رد الاعتراضات على نبوة محمد صلى الله عليه وآله) *


1 - لا نسلم حصول العدد المعتبر في التواتر، إد كل عدد يمكن تواطيه على الكذب. قلنا: العلم الحاصل بذلك ضروري فلا يقدح فيه ما شككتم به.

2 - لا يحصل العلم بتواتر الخبر، إلا بعد العلم بالخبر، وأنتم بنيتم العلم به على كونه متواترا فيدور، قلنا بالمعنى الذي عقلتم حصول المجموعية، فاعقلوا مثله في حصول العلم، على أنه طعن في الضروري.

3 - لا نسلم استواء الطرفين والواسطة المعتبرة في الكثرة فلا تواتر، قلنا:

كل طبقة مع كثرتها نقلت عمن تقدمها مع كثرتها كثرة من تقدمها فحصل القطع بصدقها، على أن تكثر الطبقات لو حدث بعد عدمه لعلم زمان حدوثه، كما في

____________

(1) الأعراف: 156.

(2) الصف: 6.


الصفحة 45
المذاهب المنتحلة، خصوصا مع توفر داعية الكفار إلى نقله.

4 - أصل التواتر الحس وهو قد يغلط كما غلط في صلب المسيح، قلنا:

تغليط الحس تشكيك في العلم الضروري فلا يسمع.

5 - يجوز ظهور القرآن على رجل غير محمد، فأخذه منه وادعاه لنفسه. قلنا:

فيه ما هو مختص به مثل (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه(1) ويوم حنين(2) إذ تصعدون ولا تلوون(3) عفى الله عنك لم أذنت لهم(4) إذ أخرجه الذين كفروا(5)) وإن الله صرف العرب عن معارضته، فلو كان باطلا أو كان مغصوبا، لزم أن يفعل الله ضد ذلك، لئلا يلزم المفسدة.

6 - يجوز أن يكون آيات التحدي من عنده فإنه لم يحفظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله إلا قليل، وكانوا يعدون من حفظ البقرة والأنعام فقيها. قلنا: علم بالضرورة تواتر القرآن بجملته وتفاصيله، وكان التشديد في حفظه أتم، حتى نازعوا في أسماء السور والتعشيرات، وإنما اشتغل الأكثر عن حفظه بالتفكر في معانيه وأحكامه، ولو زيد فيه أو نقص لعلمه كل عاقل وإن لم يحفظه، لمخالفة فصاحته وأسلوبه.

7 - أنكر ابن مسعود مع جلالته كون المعوذتين والفاتحة منه، قلنا: لا يقدح مقالته في تواتره لوحدته، ولأنه لم ينكر نزولها، بل أنكر كونهما متلوتين.

8 - حصول الاختلاف في القرآن والآيات المتعارضات، مثل التنزيه والتشبيه والجبر والاختيار وإضافة النسيان إلى الله وسلبه عنه وسؤاله عن الذنب وسلبه عنه وغير ذلك، وهذا كله يدل على عدم تواتره، لا في لفظه ولا في معناه. قلنا: القرآن

____________

(1) التحريم: 3.

(2) التوبة: 26.

(3) آل عمران: 153.

(4) التوبة: 44.

(5) التوبة: 41.


الصفحة 46
آيات منزلة لقوله عليه السلام: (نزل القرآن على سبعة أحرف) والآيات التي ظاهرها التعارض، متأولة بما لا يخرجها عن الألفة، على أنه لو سلم الاختلاف، لم يدل على كونه من عند غير الله، لأنه لا نتيجة لاستثناء عين التالي، كما بين في المنطق.

إلا أن يقال استثناء عين التالي المساوي للمقدم يستلزم عين المقدم، مثل:

إن كان هذا انسانا فهو ناطق، قلنا: لا مساواة هنا لأن الاختلاف أعم من كونه من عند الله، أو من عند غيره، ولا دلالة لعام.

قالوا: فيه اختلاف أيضا في قوله: (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري(1)) وليست الأعين في محل الذكر. قلنا: المراد أعين القلوب ولهذا يوصف بالعمى: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(2)) فإن عماها هو الذي يؤثر في الدين المانع من الاهتداء واليقين.

قالوا: كيف قال (أم عندهم الغيب فهم يكتبون(3)) وقد كانوا لا يكتبون بل هم أميون. قلنا: الكتب الحكم مثل: (وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس(4)).

قال الجعدي: وماذا بحكم الله إذ هو يكتب.

قالوا: فالتناقض في قوله في يونس: (فنبذناه بالعراء وهو مليم(5)) وفي قوله: (لولا أن تداركه رحمة من ربه لنبذ بالعراء(6) قلنا: المثبت النبذ مع السقم والمنفي النبذ مع الذم فلا تناقض.

9 - آيات التحدي لم تصل إلى الكل، لتباعد البلاد، ولا يلزم من عجز بعض عجز كل. قلنا: لا شك في وصولها إلى كل من يدعي الفصاحة، لأنه عربي وجزيرة العرب محصورة، ولا عبرة بغيرها لعدم عربيتها.

____________

(1) الكهف: 101.

(2) الحج: 46.

(3) الطور: 41.

(4) المائدة: 48.

(5) الصافات: 145.

(6) القلم: 49.


الصفحة 47
10 - يجوز [ كون ] عدول العرب إلى الحرب عن المعارضة، لكونهم رأوا أنه أحسم للمادة. قلنا: يعلم كل عاقل أن أحدا لا يختار قتل الرجال وركوب الأهوال، على السهل من الكلام، وفيه فضيلة على سائر الأنام، وبهذا يجاب عما قيل: إنما تركوا معارضته لقلة اهتمامهم به، ولهذا نسبوه إلى الجنون، ونسبوا الكلام إلى السحر، ونهوا عن استماعه لئلا يأخذ بقلوبهم.

11 - فاجأهم بالخوف فاشتغلوا بالحرب عنها، قلنا استمر ثلاثة عشر سنة ينذرهم بغير حرب ويأتيهم بالآيات ويطلب منهم المعارضات.

12 - يجوز كونهم اعتقدوا خطبهم وأشعارهم أفصح من بلاغته فقلت رغبتهم في معارضته. قلنا: كل من نظر فيه وفيها علم غلبته لها، ولما سمع ابن الزبعرى قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم(1)) قال: لأخصمن محمدا فجاء إليه، وقال: إن الملائكة والمسيح عبدوا! فقال صلى الله عليه وآله: أوما علمت أن (ما) لم يكن لمن يعقل(2) فالمراد الأصنام ونحوها فانقطع.

13 - القرآن ليس بحادث، فلا يكون خارقا للعادة، فلا يكون معجزا.

قلنا: هذا يرد على الأشاعرة، وأما القائلون بحدوثه فلا، على أن لهم أن يقولوا:

يكفي ظهوره عليه دون غيره وإن كان قديما.

14 - البلاغة في الناس متفاوتة، فلعل محمدا صلى الله عليه وآله أبلغ من غيره، فأتى به و لم يتهيأ مثله لغيره، قلنا: جرت العادة من الحكيم في خلقه بأن لا يمنحهم من البلاغة ما يتفاوتون فيه كثيرا، فلما زادت بلاغة القرآن عليهم جدا وعجزوا عنه وعن ما يقاربه، علم أنه ليس منه عليه السلام، فلهذا آمن فصحاؤهم مثل: قيس وكعب و مدحه الأعشى، بقصيدة أولها:


ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداوبت كما بات السليم مسهدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرهأغار لعمري في البلاد وأنجدا

____________

(1) الأنبياء: 98.

(2) لمن لا يعقل، خ.


الصفحة 48
فلم يزالوا به حتى عدلوه عنه، وآمن به لبيد وترك الشعر تعظيما للقرآن وقيل: له ما فعلت بقصيدتك: (عفت الديار محلها ومقامها؟) فقال لهم: أبدلني الله بها البقرة وآل عمران.

15 - يجوز كون ترك المعارضة للجهل بطريقتها لا للعجز عنها. قلنا: بل طريقها كان معروفا عندهم مسلوكا لهم، وهم دهاة العرب وذكاتها، وقد عارض امرء القيس عقله للعجز عنها إن قيل: أخطأوا طريقها كما أخطأوه في عبادة الأصنام، قلنا:

طريق عبادتها الدلالة التي لم يجز(1) الخطأ فيها، وطريق المعارضة الضرورة فيمتنع الخطاء فيها.

قيل: وفي القرآن أقاصيص ولم يكونوا من أهلها قلنا: وفيه غيرها فلم لم يأتوا بمثلها وقد كان عندهم الكتابيون وكانوا أهل قصص، فلم لا تعلموها وقد طلبوا أخبار رستم واسفنديار، وحاولوا أن يعارضوا بها.

إن قيل: منعهم الحياء والورع. قلنا: كيف ذلك وقد أظهروا عداوته وشتمه وقذفه وهجوه.

إن قيل: فلعلهم لم يتفكروا فيعلموا أن المعارضة أنجع وأنفع، قلنا، لا، فإن ذلك مركوز في بداهة العقول.

16 - يجوز ترك المعارضة مع الداعي إليها، لأنه غير ملجأ، قلنا: لا بد من وقوعها قطعا لتوفر الدواعي إلى فعلها، لما فيها من تخفيف التكليف، بل عدمه بالكلية، حتى قيل إنهم تيقنوه، فلما استثقلوا التكليف جحدوه.

17 - يجوز وقوع المعارضة ولم تنقل، قلنا فالنبي لم يمنع أحدا منها مع توفر الدواعي إليها.

18 - القارئ آت بالمثل فهو معارض. قلنا: لا، فإن من أنشد قصيدة لغيره لا يسمى معارضا له ومن ثم جعل أبو الهذيل الحكاية نفس المحكي، لئلا يكون معارضا ونبطله أن المحكي معدوم فلا يعاد.

____________

(1) يجوز الخطاء، خ.


الصفحة 49
19 - الإخبار بالغيب يقع من المنجم والمرتاض، قلنا: إنما يحكون ما يقع غالبا بالعادة، أو بالأمور الكلية، ولو كان مدعي النبوة منهم وجب على الله إبطال مقالته منعا للاستفساد.

20 - باقي المعجزات أمور عظيمة، لو وقعت لتواترت وإلا فلم لا تكون المعارضة وقعت وما تواترت، قلنا: اكتفي بالقرآن عن تواتر غيره.

21 - المعجز يلزم منه السفسطة لأن فيه انقلاب البحر دما معجزة لنبي.

قلنا: لا سفسطة لأن وقوعه نادر.

22 - يجوز صدور المعجز من غير الله، إما لمزاج خاص، أو لاطلاع صاحبه على بعض الخواص، أو يحصل من الأفلاك، فإنها عند بعضهم أحياء ناطقة، أو من الكواكب، أو من الجن، أو من الملائكة. قلنا: عند الأشاعرة لا فاعل إلا الله وعند المعتزلة يجب عليه منع أولئك من التمكين لإبطال الافساد، فالاخلال به قبيح. وبهذا يندفع جواز خلق المعجز، لا للتصديق، بل هو لطف لمكلف آخر أو إجابة لدعوة انسان آخر، أو معجزة لنبي آخر، أو ابتلاء لتحصيل الثواب، كما في إنزال المتشابهات، أو ابتداء عادة، أو تكرير عادة متطاولة، أو إرهاص. قلنا:

نعلم قطعا انتفاء جميع هذه التوهمات لما يتعلق بتخصيص محمد صلى الله عليه وآله به وما له فيه من الحالات.

23 - يجوز كون فاعل هذا المعجز شيطانا لقدرة الجن على ما يعجز الإنس.

قلنا: يجب على الله منعه لما فيه من الفساد، على أنه لو كان من الشيطان لفعل لكل كذاب، ولأن الشيطان لا يريد عبادة الرحمن، لما يترتب على النبوات من طاعة الملك الديان، وفي خلق المعجز إرادة ذلك فيتنافيان.

24 - يلزم من نبوة محمد البداء، وهو على الله محال، قلنا: للبداء معنيان:

بداء ندامة وهذا على الله تعالى محال، لأن فيه ظهور حال الشئ بعد خفائه، و بداء خلق، ويعتبر بحسب المصالح، وهذا من الله جايز واقع، وقد أورد ابن بابويه

الصفحة 50
في الدر النضيد، أخبارا جمة عن الصادقين عليهم السلام، بالحث على اعتقاد البداء بهذا المعنى.

قالوا: القبيح لا يؤمر به، والحسن لا ينسخ لقبح نسخه.

قلنا: قد نسخت الشرايع قبل موسى وفي شرع موسى أيضا كما ذكرتم وأرد فيه. قالوا: إن بين موسى دوام شرعه امتنع نسخه لامتناع كذبه، وإن بين عدمه وجب نقله ولم ينقل، وإن لم يبين أحدهما، عمل به مرة لا أزيد وهو محال.

قلنا: بين انقطاعه، ولم ينقل لعدم تواتركم بواقعة بخت نصر، حيث أفناكم على أن في تواتركم البشارة بعيسى ومحمد، فإن فيها: (إن قدرة الله قد أقبلت من طور سيناء، وهو جبل موسى، وأشرقت من طور ساعير، وهو مقام عيسى، و أطلعت من جبل فاران وهو جبل مكة) وقد جاء في التورية أن إبراهيم أسكن ولده إسماعيل ببرية فاران، وسيأتي بقية الكلام في ذلك مرتبا إنشاء الله تعالى.

(الفصل الرابع)
* (في عصمة الأنبياء) *


وهو لطف يفعله الله تعالى بهم، لا يختارون معه فعل المعصية وترك الطاعة مع قدرتهم، واتفق الإمامية على اتصافهم بها عن كل نقيصة من أول عمرهم والفضيلية من الخوارج جوزوا ذنوبهم، واعتقدوا أن كل ذنب كفر فجوزوا كفرهم وقال بعض الفضيلية بجواز أن يبعث نبي مع أنه سيكفر، ومنع بعضهم ذلك، ولكن قال: بجواز بعث من كان كافرا قبل البعث، وهو منقول عن ابن فورك، ولكن قال إنه لم يقع، وقال بعض الحشوية بوقوعه وذهب أكثر أهل السنة إلى جواز الكبيرة عليهم قبل البعثة، وجوز من عدى الإمامية الصغيرة مطلقا، ثم اختلفوا، فقال بعضهم سهوا وخطاء لا عمدا وقال بعضهم مطلقا.

وأما تحريف الأحكام، والخيانة فيها، وإفتاء الرعية، فالجمهور منهم

الصفحة 51
على عدم جواز ذلك مطلقا عليهم، وبعضهم أجازه سهوا منهم، وربما استندوا في ذلك إلى ظواهر آيات تدل على ذلك، وهي أوهام كاذبة قد علم جوابها من التنزيهات وغيرها. والدليل على العصمة مطلقا أن عدمها في وقت ما يناقض المقصود من بعثهم، وهو امتثال أمرهم الذي لا يتم إلا بالوثوق بقولهم المسبب عن العلم بعدم صدور الذنب عنهم، ولو جوزوا معصيتهم، جوزوا تزيدهم ونقصهم في مأموراتهم ولو صدر الذنب عنهم لهبطوا عن منازل العوام، لعلو قدرهم ولردت شهادتهم لآية:

(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا(1)) وذلك يناقض قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(2)) ولأن معصيتهم تقتضي وجوب أذاهم، ونبوتهم تقتضي تحريمه فلا يجتمعان، فمتى ثبتت المعصية انتفت النبوة وبالعكس، ولأنه لا يجب اتباعهم إلا بعد العلم بصدقهم، ومع تجويز عصيانهم لا نعلم بصدقهم، بل في ذلك التنفر عنهم.

إن قيل: إن أكثر الناس لم يتنفر عنهم مع اعتقادهم عدم عصمتهم، قلنا:

الذنب إذا حصل منهم لا يوجب ترك قولهم بالكلية، فإن العصمة لما كانت مقربة غير موجبة للاتباع، كان عدمها غير موجب للامتناع. فقبول المجوزين لعدم عصمتهم لا يقدح في أن عصيانهم مفسدة، وحينئذ، فالعصمة واجبة.

إن قيل: فالصغاير منهم لا توجب التنفر عنهم لوقوعها مكفرة، قلنا هذا بناء على التحابط، وهو باطل، ولأن الصغاير لا يميزها أكثر الناس من الكبائر فينفروا بسببها مطلقا، ولا يعرف الأكثر تكفير الصغاير فلا يزول التنفر، فلا يحصل النفع بالتنذير على كل تقدير، فقبح الله قوما أضافوا إلى نبيهم ما تنفر؟

منه عقولهم، ويبرؤون منه لو نسب إليهم، فنسبوه إلى عدم الغيرة والأنفة، حيث روى مسلم والبخاري، أن عائشة وضعت خدها على خده وتفرجت على السودان

____________

(1) الحجرات: 6.

(2) الحشر: 7.


الصفحة 52
وهم يلعبون في مسجده [ بأمره ] وسيأتي ذلك في باب الطعن في رواة أحاديثهم، قال النيلي:


مهلهل المسكين لا عقل لهروى بجهل خبرا لو ركله
وهو لعمري خبر ما أبطلهتبا لمن يرويه ما أجهله
قال أتى الأسود يلهو بهايوما وقد ثارت له قسطله
وأقبل الطهر على كتفهزوجته عايشة المفضله
وقال للناس: تنحوا لكيتنظر ما الله لنا خوله
إن كان هذا سنة فيكموافحققوا عن هذه المسأله
واحتملوا أزواجكم مثلهوفرجوها إن أتت منهله
لعله كان لها عاشقايغتنم الفرصة في العيطله

وفي مسند أحمد بن حنبل أنه خرج في سفر فسابق عائشة فسبقته تارة وسبقها أخرى، وفي الباب الثالث من كتاب النكاح من إحياء العلوم للغزالي، روي أنه كان يسابقها في العدو، فيحسن من مقام النبوة أن يعدو معها برجله كالأطفال و كان يسابقها في العدو، فيحسن من مقام النبوة أن يعدو معها برجله كالأطفال و الجهال، وكيف ينقل هذا على وجه التصديق به، وفيه تسخيف عقل نبيه، و سيأتي في الباب الخامس عشر ما أضافوه إلى نبيهم في صحاح أخبارهم.

(الفصل الخامس)
* (في طرف من معاجزه صلى الله عليه وآله) *


1 - تبعه سراقة بن مالك إلى المدينة ليظفر به، فلما قرب منه غاصت قوائم فرسه في أرض صلبة، فعلم أن ذلك أمر سماوي فناداه: ادع إلى ربك وذمة الله علي أن أدفع عنك فدعا له فخلص جواده.

2 - أخذ أبو جهل صخرة ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وآله فلصقت بكفه، فسأله الدعاء له، فدعا فطلقت فطرح الصخرة.