الصفحة 69
الأمر دليل على عدم البدل، لعطفه على طاعة الله ورسوله وليس لهما بدل، ولإجماع الصدر الأول على امتناع خلو الزمان من خليفة، فدل على عدم البدل.

قالوا: قد يكون في نصبه مفسدة يعلمها الله دوننا فلا ينصبه ويجب نصبه علينا لأن وجه الوجوب كاف في حقنا. قلنا: لو علم الله فيها مفسدة لما أوجبها علينا و لنهانا عن نصب الإمام وطاعته مع أن القرب من الطاعة والبعد من المعصية المعلوم حصول عند الإمام مما يطابق غرض الحكيم وعكسها ينقضه، فلو كان ما يطابق غرضه مفسدة خرج عن الحكمة، وأيضا فالمفسدة بالإمام لا ترجع إلى الحكيم، لوجوبه وغنائه، فترجع إلى عبيده ونحن قد بينا أن فيه المصلحة العامة لعبيده، فيلزم كون المصلحة عين المفسدة وهو محال.

قالوا: مع وجود الإمام، يخاف العبد فيفعل ويترك، للخوف لا للوجه، و ذلك مفسدة قلنا: أما المطيع فلطفه تقريبه إليها، وأما العاصي، فلطفه ترك المعصية وليس القبيح ترك المعصية لا لكونها معصية، وإنما القبيح اعتقاد تركها، لا لكونها معصية، ووجه اللطف حصول الاستعداد بالتكرير الموجب لفعل الطاعة وترك المعصية للوجه على أنه معارض بنصب النبي.

قالوا: الثواب على الطاعة عند فقد الإمام أشد من وجوده فهو مفسدة قلنا:

وجوده ليس ملجئا إليها، فإن كثيرا لا يعلم الإمام حالهم، وما ذكرتم سار أيضا في النبي وفي كل لطف.

قالوا: جاز أن يكون في بعض الأزمان من يستنكف عن الإمام فهو مفسدة لبعض الأنام. قلنا: ذلك نادر [ فيه ] غير عام بل الأكثر على قبول نصب الإمام مع أنه معارض بالنبي.

قالوا: لطفية الإمام، ليست في أفعال الجوارح، والشرعيات منها الشرع كاف فيها، على أنه لا يجب الشرع في كل زمان فلا يجب اللطف فيه، والعقليات إن فعلت لكونها مصلحة دنيوية كما في ترك الظلم، إذ فيه قيام النظام فحينئذ لطف الإمام في مصالح الدنيا وهو غير واجب اتفاقا وإن فعلت لوجوهها المرادة لله فلا

الصفحة 70
اطلاع للإمام على قلوب عباد الله، فعلم من ذلك أن لطفيته ليست في أفعال القلوب أيضا، فانتفت لطفيته مطلقا.

قلنا: بل لطفيته عامة والشرع غير كاف في الشرعيات إذ أكثرها غير كائن في صدر الاسلام وبعد موت النبي ولا نسلم جواز الخلو من الشرايع والأحكام و إلا، لاختل النظام، وفي ترك الظلم مصلحة دنيوية ودينية، فإنه من التكاليف السمعية والعقلية وأما لطفه في العقليات، فإن الملازمة بوجوده على فعل الشرعيات يؤثر استعدادا تاما في قصد وقوعها لوجوهها، لا لغيرها (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر(1)).

(الفصل الثالث)


نذكر فيه شبهة من أوجب نصب الإمام على الأمة عقلا لا على الله ولا سمعا و هي خمسة:

1 - العقل لا يحكم في التحسين والتقبيح بشئ، فلا يجب على الله شئ.

قلنا: قد بينا حكمه فيهما كيف وصدق الأنبياء عليهم السلام مبني عليهما، فلا تتم شريعة إلا بهما.

2 - لطفية الإمام مربوطة بتمكينه فإذا علم الله عدمه سقط وجوبه. قلنا: لا بل نصبه لطف، وحال كف يده لا يؤمن المكلف كل لحظة من تمكنه. إن قيل:

تصرفه إن كان شرطا في لطفيته وجب على الله تمكينه، وإن لم يكن شرطا سقطت لطفيته قلنا تمكينه إنما هو بخلقه وقبوله وقد فعلاه(2) ونصرة الرعية له ولم تفعله وليس تمكينه بخلق الأنصار له ليقهر الرعية على اتباعه، لمنافاة الالجاء التكليف ولو جاز أن يقهر الإمام الرعية على طاعته جاز الالجاء والقهر في جميع التكاليف وهو محال.

____________

(1) العنكبوت: 45.

(2) كذا.


الصفحة 71
3 - القول بالعصمة ممتنع وغير المعصوم ليس بلطف. قلنا: لا بد من عصمة الإمام لئلا يلزم احتياجه إلى إمام كسائر الأنام وسنبين وجودها في الآيات الكرام، على أنا نمنع نفي اللطف عمن ليس بمعصوم.

4 - لو وجبت عصمة الإمام، لوجبت عصمة نوابه، لاحتياج العباد إليهم لتباعد البلاد. قلنا: يكفي في كل زمان وجود معصوم.

قالوا: ويستحيل هنا وجود شيئين يقوم كل منهما مقام الآخر، دفعة.

قلنا: نوابه تراجعه [ فيها و ] فيما يشتبه على أنه معارض بنواب النبي صلى الله عليه وآله.

5 - يمكن تصور خلو كل زمان من التكاليف الشرعية، فيمكن خلوه من الإمام التابع لها في اللطفية. قلنا: إنا بينا وجوبه على تقدير التكليف على أنه لا يلزم من صحة تصور خلو الزمان وقوع ذلك الخلو، بل الواقع عدمه على أن دفع الخوف وقيام النظام إنما يكون بالإمام فهذه الشبهة، ليس لها شبهة نبوت إذ هي أو هي من بيت العنكبوت.

(الفصل الرابع)
* (في إبطال الاختيار) *


قالوا: إذا عقد خمس عدول علما، أو واحد منهم، ورضي باقيهم لرجل هو أهل الإمامة ولم يكن في الوقت إمام ولا عهد لإمام صار المعقود له إماما، لأن عمر عقد لأبي بكر في السقيفة، ورضي أبو عبيدة ابن الجراح وسالم مولى حذيفة و بشر بن سعيد وأسيد بن حضير وفي الشورى عقد عبد الرحمن لعثمان ورضي علي وسعد وطلحة والزبير وبهذا قال القاضي عبد الجبار وأكثر المجوزين للاختيار شرطوا الاجتماع وأجاز الجويني في إرشاده عقدها برجل واحد.

قلنا: لو جاز للأمة اختيار الإمام، جاز لها اختيار النبي، لاتحادهما في اللطف والمصلحة للأنام. ولو جاز ذلك، جاز لها اختيار الشرايع والأحكام لأنها فرع على الأنبياء. وإذا جاز اختيار الأصل جاز الفرع بالأولى، ولأن الاختيار

الصفحة 72
محدث، فهو بدعة لقوله عليه السلام: (إياكم ومحدثات الأمور فإنها بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار(1)) ولأن الله تعالى قال: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة(2)) وقد أسند الشيرازي في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر - إلى أنس قول النبي صلى الله عليه وآله عند هذه الآية: (إن الله تعالى اختارني وأهل بيتي على الخلق فجعلني الرسول وجعل عليا الوصي، ما كان لهم الخيرة) أي ما جعل [ ت ] للعباد أن يختاروا. ومثله أسند ابن جبر في نخبه إلى أنس أيضا، وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن يكون لهم الخيرة(3).

إن قالوا ما قضى الله في الإمامة أمرا. قلنا: مر نقلنا نحن وأنتم في ذلك نصوص القرآن وأحاديث النبي.

إن قالوا: في الآية إضمار (لا) بعد أن أي أن لا يكون لهم الخيرة، كما أضمرت في قوله: (يبين الله لكم أن تضلوا(4)). قلنا: الأصل عدم الاضمار على أن الاضلال لما كان قبيحا لا يصدر منه تعالى، وجب إضمار لا، أما منع العباد من الاختيار، فليس قبيحا فلا ضرورة إلى إضمار لا، وقد قيل: يبين الله لكم وجه الضلالة لتجتنبوها، وحينئذ لا إضمار، ولأنه إذا قضى الله سبحانه أمرا، لم يحتج إلى الاختيار، ولو احتيج إليه، لزم توقف أمر الله ورسوله عليه ولأن صحة الاختيار إن لم تتوقف على قضاء الله كانت بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإن توقفت لزم الدور، إذ لا يصح الاختيار إلا بقضاء الله، ولا يكفي قضاء الله إلا بانضمام الاختيار إليه.

وذكر ابن جرير الطبري أن بني كلاب، قالوا للنبي: نبايعك على أن

____________

(1) مشكاة المصابيح ص 27. من حديث جابر.

(2) القصص: 68.

(3) الأحزاب: 36.

(4) النساء: 175.


الصفحة 73
يكون الأمر لنا بعدك فقال صلى الله عليه وآله الأمر لله إن شاء كان فيكم، أو في غيركم. وروى الماوردي في أعلام النبوة أن عامر بن الطفيل قال للنبي صلى الله عليه وآله ما لي إن أسلمت؟

فقال صلى الله عليه وآله: ما للمسلمين، قال: ألا تجعلني الوالي بعدك؟ قال: ليس ذلك لك ولا لقومك.

فدل هذان الحديثان(1) وتانك الآيتان بتفسيرهم على المنع من الاختيار وقد قال سبحانه وتعالى: (تؤتي الملك من تشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء، والله يزكي من يشاء، أهم يقسمون رحمة ربك، نرفع درجات من نشاء(2)) وفي الاختيار تقديم بين يدي الله ورسوله، فهو دخول في نهي كتابه(2).

إن قالوا: الاختيار من قضاء الله سبحانه لنفي أفعال العباد، قلنا: نمنع ذلك و قد بيناه في باب إبطال الاجبار، على أن نفي الاختيار في الآية مشروط بقضاء الله و رسوله، ولو انتفى فعل العباد، لزم العبث في الاشتراط.

إن قالوا: في الآية الجمع بين قضاء الله ورسوله: وعندنا أن الرسول لم يقض لأنه لم يوص، فإلينا الاختيار، لأنه لم يوجد مجموع الشرط. قلنا: ليس هنا قضاءان لأن قضاء الله هو قضاء رسوله لعموم (وما ينطق عن الهوى(4).

إن قالوا: نمنع الاتحاد، لأن الله قضى بأشياء ولم يقض بها النبي والآية دلت على أن قضاء النبي قضاء الله دون العكس. قلنا: بل هما متحدان هنا لأن الإمامة إن قضى بها دون النبي لزمه أن يصل إلى الأمة لا على يد النبي، وهو محال ولأن سلم كونه غيره، جاز كون الواو في الآية بمعنى أو، مثل: (مثنى وثلاث و رباع(5)). وكيف يتم لكم أن للرسول قضاء وقد نفيتم أفعال العباد وقد قال

____________

(1) هذا على أن الحديثين، خ.

(2) آل عمران: 26. البقرة 269. النساء: 48. الزخرف: 32. الأنعام: 83.

(3) حيث يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله. الحجرات: 1.

(4) النجم: 5.

(5) النساء: 4.


الصفحة 74
تعالى لنبيه: (ليس لك من الأمر شئ(1)) فكيف يكون للرعية الجاهلة من الأمر شئ: (قل إن الأمر كله لله)(2) والإمامة من أعظم الأمور وأهمها. فإلى الله فعلها لعدم علم الخلق بمحلها، ولو جاز لهم نصب الإمام الذي هو سبب في الأحكام جاز لهم وضع الأحكام الصادرة من الإمام لأن علة السبب علة المسبب ولو كان لهم وضع الأحكام لم يكن الأمر كله لله، وقد اختار آدم أكل الشجرة فعصى وغوى، واختار موسى قومه فجاء على الأفسد اختياره، ونبينا شاور الصحابة في الأسرى فاختاروا الفداء وصوبه النبي فقال الله (ما كان لنبي أن يكون له أسرى(3)) فإذا كانت سادات الأنبياء مع علو قدرهم والمواد المتصلة من الله إليهم وقعت المفسدة في اختيارهم، فما ظنك برعيتهم.

وأيضا فإن إمام الأنام من نصبه الإمام، فلو نصبته الرعية كانت إماما للإمام ولو صح ذلك لزم خرق الاجماع المنعقد على اتحاد الإمام، ولزم الدور لأنه يكون مأمورا منهم وآمرا لهم.

إن قلت: لا دور، لأن أمرهم له بأن يقوم فيهم وأمره لهم بما فرض الله عليهم. قلت: قد ذهب جماعة من الأصوليين، إلى أن الأمر بالأمر أمر، فيعلم أن من أمر الإمام بالقيام، ومن جملة قيامه أمر الآمر بالمفروضات، لزم منه كون الآمر بنصبه آمرا لنفسه ضمنا.

قالوا: يدل على جواز الاختيار، قوله عليه السلام: (إن وليتم أبا بكر، وجدتموه قويا في دين الله ضعيفا في بدنه، وإن وليتم عمر، وجدتموه قويا في دين الله قويا في بدنه، وإن وليتم عليا، وجدتموه هاديا مهديا). قلنا: إذا سلمنا صحة الخبر، فلا يدل على صحة الاختيار، والقوة في الدين لا توجبه مع أن غيرهما أقوى

____________

(1) آل عمران: 128.

(2) آل عمران: 154.

(3) الأنفال: 67.


الصفحة 75
فيه منهما على أن ذكره لهداية علي توجب اختصاصه، لكماله في نفسه فهو مكمل لغيره، وإنما عرض بذلك لعلمه بنفورهم عن علي، لحقدهم وأهويتهم، ولما غزى بسيفه قتل أقاربهم، وإهباط منازلهم.

قال الشاعر:


إن الإمامة رب العرش ينصبهامثل النبوة لم تنقص ولم تزد
والله يختار من يرضى وليس لنانحن اختيار كما قد قال فاقتصد

وقال البشنوي:


أنكرتموا حق الوصي جهالةونصبتموا للأمر غير معلم
عوجتم بالجهل غير معوجوأقمتم بالغي غير مقوم
صيرتم بعد الثلاثة رابعامن كان خامس خمسة كالأنجم

وقال السوراوي:


إن رمت تشرب من رحيق الكوثرفاخلص يقينك في ولاية حيدر
وابرأ فما عند الولي(1) إلا البرامن شيخ تيم ذي عصابة حبتر
ودع الصهاكي الزنيم ونعثلاأعني ابن عفان الغوي المفتر
هم غيروا سبل الرشاد وبدلواسنن الهداية بالشنيع المنكر
جحدوا عليا حقه وتقدمواظلما عليه ولم يكن بمؤخر
يا من يقدم حبترا بضلالهلم لا تقدم يوم بدر وخيبر
في أي يوم قدموا لملمةفيقدمون لذاك فوق المنبر
تالله لا أرضى أقايس منهمألفا بشسع نعيلة من قنبر
من يعبد الأصنام ليس بجائز(2)منه يقايس من له بمكسر
يا آل طه حبكم لي جنةيوم المعاد من الجحيم المسعر

____________

(1)
وابرء فما عقد الولا إلا البرامن شيخ تيم ومن عصابة حبتر. خ.

(2) بواجب خ ل.


الصفحة 76
وقال المعري:


وهي الدنيا تراها أبدازمرا واردة إثر زمر
يا أبا السبطين لا تحفل بها(1)أعتيق سار فيها أم زفر

(الفصل الخامس)


المختار للإمامة إن وجبت عصمته فلا طريق للمختارين إليها، لأنها من البواطن، وحسن الظواهر لا يدل عليها، لما علمنا من النفاق في مواطن. وإن لم تجب، جاز اختلافهم في أفراد الناس، بحسب اختلاف الأمارات الداعية إلى التعيين وربما طال الزمان ليقع الاتفاق على الأصلح، بل ربما لا يقع الاتفاق أبدا، ولا يخفى ما في ذلك التعطيل من الفساد وإن عمل ببعض ووجب على الآخر اتباعه لزم الرجوع إلى التقليد، عن الاجتهاد.

إن قالوا: لا حاجة إلى اتفاق الكل، بل يكفي الخمسة كما سلف. قلنا:

جاز اختلاف الخمسة، ولهذا أمر عمر بقتل أهل الشورى بعد ثلاثة إذا لم يتفقوا:

على أنه لا حجة في الاقتصار على الخمسة دون ما فوقها وتحتها، بل ما فوقها أولى لكون الظن بإصابته أقوى.

إن قالوا: لم لا يجوز أن يجعل الله الاختيار إلى الأمة لعلمه أنها لا تختار إلا الأصلح. قلنا: من أين علمنا أن الله تعالى علم ذلك. لا بد له من دليل، فلا يجب علينا اتباعه حتى نعلم أن الله تعالى علم ذلك.

إن قالوا: جعل الاختيار كافي في دليل ذلك العلم. قلنا: وأين دليل أن الله جعل الاختيار، بل الكتاب والسنة على نفي الاختيار كما تلوناه من غير إنكار، و أيضا من يختار الإمام إما أن يكون أفضل منه فكيف يصح [ منه ] أن يجعل المفضول إماما على نفسه ويحكمه في أمره، والانسان ليس له أن يستخلف على نفسه كما أنه

____________

(1) لا تجهل بها، خ.


الصفحة 77
ليس له أن يحكم لنفسه. أو يكون مفضولا، فكيف يقبل حكمه بالإمامة على من هو أفضل منه وأيضا فإذا جاز أن يكون الإمام مفضولا عن غيره في العلم وغيره بدرجة جاز كونه مفضولا بدرجتين لعدم الأولوية، وبثلاث، وهكذا إلى أن ينتهي إلى جواز أن يستفتي عن رعيته في وقايع دينه وعبادته وقد لا يجد في ذلك الوقت مسددا فيستمر تعطيل الحكومات والعبادات دهرا مديدا.

وقد أضاف الله الاختيار إلى نفسه وجعله مقصورا على الأفضلين في قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين(1)) وليس اختيار الرسول والإمام خارجا من هذا المقام، لأنه بأمر الملك العلام بسرائر الأنام.

وأيضا فمختار الإمام(2) لا يملك أمر كل الأمة، فكيف يملكه لغيره. و أيضا جاز لكل فرقة من المسلمين أن يختاروا منهم إماما لكونه يشرفهم، وإن لم يجز اختلافهم، فمن يتفقون عليه يلزم منه بطلان اعتقاد من خالفه، وفي ذلك كله [ يلزم ] تكثير الأئمة الموجب للفساد، الموجب لإبطال الاختيار، وكيف جاز للحكيم مع شدة رحمته إسناد أمر الإمامة إلى خليقته مع علمه بعدم اتفاقهم وتنازعهم.

وقد أمر الله تعالى بالقتال، حتى لا تكون فتنة، وفي تفويض الأمر إليهم إثارة الفتنة.

إن قيل إنما العبرة بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله فمتى عقدوها لشخص وجب اتباعه على سائر الأنام. قلنا: أهل المدينة ليسوا كل الأمة، ولا كل المؤمنين، ولا كل العلماء. وقول النبي: (إن المدينة لتنفي خبثها كما ننفي الكير خبث الحديد(3)) لا ينفعها ذلك لإحداث عثمان ما أحدث فيها وقتله بإجماع أكثرها واشتهار الغلول وأنواع الفسوق منها، وإن أريد جميع أهلها بحيث يدخل المعصوم فيها، كان الاعتماد على قوله لا عليهم، وإذا لم ينحصر محل الاختيار في مصر من الأمصار مع تباعد أهل

____________

(1) الدخان: 32.

(2) يعني الذي يختار الإمام.

(3) مشكاة المصابيح ص 239 والحديث متفق عليه.


الصفحة 78
الاختيار في الأطراف والأقطار، أمكن بل وجب بحسب العادات، نصب كل قوم إماما غير الآخر لعدم العلم بفعل الآخر.

وما أصدق ما قيل:


تخالف الناس حتى لا وفاق لهمإلا شجب والخلق في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمةوقال بعضهم تشركه في العطب

إن قيل: فالنص حصل منه الاختلاف الموجب للفساد. قلنا: الاختلاف بعدمه أشيع فالنص عليه أنفع، لعموم الضلال بعدمه واهتدى قوم بقدمه، ولا يلزم من مخالفة بعض بطلان نص، فإن ترك العمل بالواجب لا يبطل الواجب.

قال أبو الحسين: لم لا يكون تفويض الاختيار إلى الأمة تغليظا للمحنة و تعريضا لزيادة المثوبة، وقد كان عدم إنزال المتشابهات أقرب إلى ترك الهرج والفساد في الاعتقادات، فلم يفعل لأجل تشديد التكليفات. قلنا: ذلك معارض بنص الله على أنبيائه، فإن مخالفة الكفار فيهم، لا يمنع من إرسالهم.

(الفصل السادس)


الأمة بعد النبي إما أن تحتاج إلى الإمام، فيجب في حكمة الله نصبه، وقد فعل كما وجب فيها نصب النبي، أولا تحتاج فالاختيار عبث وتصرف بغير أمر مالك الأمر وأيضا فالإمامة إن لم تكن من الدين، فليس لأحد أن يدخل في الدين ما ليس منه، وإن كانت منه، فإن كان الله سكت عنها، كان مخلا بالواجب، وهو قبيح ونقص، وإن فعلها بطل الاختيار، وقد فعلها يوم نصب النبي عليا علما فأنزل سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي(1)) فإن بقي بعد ذلك شئ من الدين، كان الله تعالى كاذبا، تعالى الله عن ذلك، وإن لم يبق لزم المطلوب.

____________

(1) المائدة: 6.


الصفحة 79
وأيضا، فالمختار المحبوب قد يكون شريرا والمعزول المكروه قد يكون خيرا لعدم اطلاع الأمة على البواطن. قال الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا(1)) على أن الأمة اجتمعت على قول أبي بكر على المنبر: (وليتكم ولست بخيركم فإن استقمت فاتبعوني وإن اعوججت فقوموني). وروى الطبرسي في احتجاجه قوله: (إن لي شيطانا يعتريني فإذا ملت فسددوني) ومن احتاج إلى الرعية فهو إلى الإمام أحوج، وانعقد الاجماع على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام آخر، وإلا لزم الدور أو التسلسل.

قالوا: إنما قال ذلك لأجل المشورة، وقد قال الله تعالى لنبيه: (وشاورهم في الأمر(2)) قلنا: مشورة النبي، لم تكن لأجل احتياجه إلى رعيته، لأنه كامل، وبالوحي مؤيد وإنما المراد بها استمالة قلوبهم، ولهذا قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله) ولم يقل فإذا أشاروا فافعل، ولأن في المشورة إظهار نفاق المنافقين الأجل التحرز منهم كما قال تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول(3).

وقد قال تعالى (يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم(4) ونحوها كثير.

وأيضا فقوله: لست بخيركم. إن كان صدقا، فالخير أولى منه، وإن كان كذبا لم تصلح الإمامة لكاذب لعدم الوثوق به.

إن قالوا: قال ذلك تخشعا وكراهة لمدح نفسه. قلنا: النبي أولى منه بذلك، ولم يقل: أرسلت إليكم ولست بخيركم، بل قال أنا سيد ولد آدم.

إن قيل: فعلي عليه السلام في نهج البلاغة تمنع بعد قتل عثمان من الإمامة لما أتوا إليه فيها، وذلك مثل قول أبي بكر: أقيلوني. قلنا: تمنعه لعلمه بعدم

____________

(1) البقرة: 216. والنجم: 28.

(2) آل عمران: 159.

(3) القتال: 30.

(4) براءة: 57.


الصفحة 80
استقامتهم للوعة(1) التي في صدور أكثرهم، وقد علمت ما حدث من الرعية و قتالهم، بخلاف أبي بكر، فإنه لعدم قتله فيهم، أقبلوا عليه بقلوبهم، وطمعوا منه في الرخص لميل طبائعهم، وعلمهم أن عليا عليه السلام يحملهم على الجادة الوعرة، و لأن المسؤول عن أمر إذا تمنع منه [ كان ] مجريا لسائله على تكرير سؤاله، وما أحق ما قيل من الأشعار في بطلان الاختيار:


إذا كان لا يعرف الفاضلينإلا شبيههم في الفضيلة
فمن أين للأمة الاختيارلولا عقولهم المستحيلة
فإن كان إجماعهم حجةفلم ناقض الشيخ فيها دليله
وعاد إلى النص يوصي بهومن قبل خالف فيه رسوله
وقام الخليفة من بعدهيسن الضلال ويهدي سبيله
ويزعم بيعته فلتةويصدق لا صدق الله قيله
ويجعلها بعد في ستةمعلقة بشروط طويله
وما كان أعرفه بالإمامولكن تضليله عنه حيله

تذنيب:

إن قالوا: قد يعلم الفاضل من ليس بفاضل، فإن المرجوح يعلم فضل أبي حنيفة في الفقه، وسيبويه في النحو، على نفسه. قلنا: أما على نفسه فنعم وأما أنه يعلم أفضليته على غيره، فلا.

(الفصل السابع)


نصب القاضي لا يصلح بالاختيار اتفاقا فأولى أن لا تصح الإمامة العظمى به التزاما، ولو جازت الإمامة بالبيعة، جازت القضاء بالأولى، ولأن الإمام، خليفة الله وخليفة رسوله، فكيف لم يثبت إلا ببيعة الخلق له ويترك النص له وأيضا لا يجوز الاختيار قبل النظر في الكتاب الذي هو (تبيانا لكل شئ(2)) فينزعونه منه.

____________

(1) للوغر خ، واللوعة حرقة الحزن والهوى وللوغر الحقد والضغن.

(2) النحل: 9.


الصفحة 81
ولما وجدنا الأمة، اختلفت على قولين مختلفين مشهورين: فقالت فرقة:

الإمام علي بنص النبي وقالت الأخرى: الإمام أبو بكر باختيار الأمة. واجتمعت الفرقتان على عدم جواز إهمال الخليفة من الخليقة. قلنا: فهل لله خيرة اصطفاها على خلقه، قالتا نعم، لقوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة(1)) قلنا: فمن خيرته فأجمعتا على المتقين، لآية: (إن أكرمكم عند الله أتقيكم(2)) قلنا: فهل له من المتقين خيرة فأجمعتا على المجاهدين لآية: (و فضل الله المجاهدين)(3) قلنا: فهل من المجاهدين خيرة؟ فأجمعتا على السابقين لآية:

(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح(4) قلنا: فهل له خيرة من السابقين فأجمعتا على أكثرهم نكاية في أعداء دين الله، لآية: (من يعمل مثقال ذرة خيرا يره(5)) قلنا: فمن كان أكثر جهادا، أبو بكر، أم علي، فأجمعتا على علي. قلنا: فقد علمنا من الكتاب والاجماع أن عليا أفضل، فهو أحق، فتفضيل أبي بكر بعد ذلك من المحال، لأنه من أحكام الخيال، لأن العقل والتخييل يتفقان على مقدمات الدليل، فلما تظهر النتيجة ينكص الخيال عنها ويستقر العقل عليها.

وهنا اتفق الفريقان على المقدمات فلما وصلا إلى تفضيل علي، رجع المبطلون إلى خيالهم الموجب؟ لضلالهم واستمر المحقون على قضاء عقولهم المخلص من وبالهم.

وأيضا قلنا للفريقين: من المتقون؟ فأجمعا على أنهم الخاشعون قلنا: فمن الخاشعون؟ فأجمعا على أنهم العالمون لآية (إنما يخشى الله من عباده العلماء(6)) قلنا فمن العالمون؟ فأجمعا على من كان أحكم بالعدل لآية " يحكم به ذوا عدل(7) " قلنا فمن أحكم بالعدل، فأجمعا على أنه الأهدى إلى الحق لآية (أفمن يهدي

____________

(1) القصص: 68.

(2) الحجرات: 13.

(3) النساء: 94.

(4) الحديد: 10.

(5) الزلزال: 7.

(6) فاطر: 28.

(7) المائدة: 98.


الصفحة 82
إلى الحق أحق أن يتبع(1)) قلنا: فعلي هو أحق أن يتبع لأنه أهدى إلى الحق لقول النبي: (أقضاكم علي) ولرجوع المشايخ عند الخطاء والإشكال إلى أحكام علي فهو أعلم فهو أخشى فهو أتقى، فإذا دل الكتاب الذي جعله الله تبيانا لكل شئ، عليه، حرم العدول عنه إلى غيره وتحتم المصير إليه.

وأيضا فالذين كانت الصحابة تأخذ عنهم أبواب شرايعهم خمسة: علي وابن عباس وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت. قلنا: فإذا اجتمعوا فمن يؤمهم، فأجمعا على أقرئهم لقول النبي صلى الله عليه وآله: (يؤمكم أقرأكم) قلنا: فمن هو؟ فأجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ للكتاب من عمر. قلنا: فهم أولى بالتقدم من عمر.

قلنا: فأي الأربعة أولى، فأجمعوا على القرشي، لقوله صلى الله عليه وآله (الأئمة من قريش). قلنا: فعلي من قريش وابن عباس وليس الآخران من قريش.

قلنا: فمن أولاهما، فأجمعا على الأكبر سنا والأقدم هجرة للحديث في ذلك.

قلنا: فمن هو؟ فأجمعا على علي. قلنا: فسقط الأربعة، وفي هذا كفاية لانفراد علي بالولاية إذ لا يعدل عن الكتاب والسنة وإجماع الأمة إلا من عاند الله ورسوله أو كان قاصر الهمة.

تنبيه:

الثلاثة ظالمون، لأنهم كانوا كافرين، فلا يصح اختيارهم لإمامة المسلمين بدليل (لا ينال عهدي الظالمين(2)) قالوا: الاسلام اللاحق محى أحكام الكفر السابق. قلنا: التنفير الواجب سلبه عن الإمام حاصل فيهم بعد الاسلام، ولهذا قال علي عليه السلام في نهج بلاغته مع طهارته وعصمته: لو كان الاختيار إلى الناس لاختار كل واحد منهم نفسه ولو كان الاختيار لإبراهيم عليه السلام لجعلها في الظالمين، حتى منعه الله ذلك فقال: (لا ينال عهدي الظالمين) وكل من عبد وثنا أو جبتا أو طاغوتا أو يغوث أو يعوق أو نسرا أو شمسا أو قمرا أو حجرا أو شجرا أو قد انهزم في جهاد من سبيل الله، أو كذب أو همز أو لمز أو ظلم فلا إمامة له، قال الله تعالى: (ولقد آتينا موسى

____________

(1) يونس: 35.

(2) البقرة: 124.


الصفحة 83
الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا(1)) فالله جعلهم أئمة؟ أم هم جعلوا أنفسهم؟

أم الناس جعلوهم؟.

تذنيب:

إن قيل: لا يلزم من منع اختيار نفسه منع اختياره لغيره، كما في ولي المرأة فإن له اختيار غيره لها دون اختيار نفسه لها. قلنا: المرأة لنقصها احتاجت إلى الولي في الكفؤ لها لضعفها، بخلاف أهل الحل والعقد لكمالهم، و لأن ولي المرأة الاختياري له أن يزوجها من نفسه، إذا لم يكن محرما لها.

تكميل:

أسند الشيخ أبو جعفر القمي، إلى الرضا عليه السلام، هل يعرفون قدر الإمامة؟ الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأوسع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله بها إبراهيم بعد النبوة والخلة، وجعلت له مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وشاد بها ذكره، فقال: (إني جاعلك الناس إماما(2)). فقال الخليل سرورا بها: ومن ذريتي؟ قال: (لا ينال عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.

ثم أكرمه الله بأن جعلها في ذريته وأهل الصفوة والطهارة فقال: (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين(3) فدل صريحا كلام هذين الإمامين على عدم صلاح الإمامة لأهل الكفر والمين.

____________

ألم السجدة: 23 و 24.

(2) البقرة: 124.

(3) الأنبياء: 73.