الصفحة 84

(الفصل الثامن)


لما قلنا: لو جاز للأمة اختيار الإمام جاز لها اختيار النبي صلى الله عليه وآله قالوا:

الفرق بينهما أن النبي تتلقى منه صالح الشرع، فلا بد في ثبوت نبوته من طريق يؤمن من الخطاء والتبديل فيه والإمام كالقضاة والأمراء في الأقطار، فجاز ثباته بالاختيار. قلنا: والإمام يراد مع ذلك لصيانة الشرع عن التبديل لعصمته ويجب الانقياد إلى طاعته، فلا بد من طريق يوثق به لتثبت إمامته.

إن قيل: لم لا يكون ظن الصلاح كافيا كما في قبول الشهادات وغيرها من الفروع الشرعيات؟ قلنا: قد نهى الله عن اتباع الظن في مواضع العلم، ومسألة الإمامة علمية ويعم بها بلوى الرعية والعام إذا خص بدليل لا يخرج عن دلالته في أصله وهنا أبحاث:

البحث الأول:

لو جاز نصب الإمام بالاختيار، جاز عزله بالاختيار، والتالي باطل فالمقدم مثله.

إن قيل: لم لا يجوز التولية دون العزل، كولي المرأة يملك تزويجها ولا يملك فسخ نكاحها؟. قلنا: خص الله تعالى إزالة النكاح بالزوج، وتخصيص الأمة بالاختيار يستلزم تخصيصها بالعزل.

إن قالوا: جاز أن يجعل العزل لنفسه دونها.

قلنا: إن الله تعالى لم ينصب من يجوز منه سبب وقوع العزل، فلا تقع من الله لمن ولاه.

البحث الثاني:

لما قلنا: ليس للانسان أن يستخلف على نفسه، كما ليس له أن يحكم لنفسه قالوا: إذا اجتهد الانسان في الحادثة وعمل بها لم يكن حاكما لنفسه، بل لله و لرسوله بشرط اجتهاده فكذلك الأمر في اختياره إماما لنفسه. قلنا: حكم الله في

الصفحة 85
الحادثة قد أمر الله المكلف بإجابته بواسطة نظره في أدلته، ولم يجعل حكم الحادثة منوطا باختياره وأنتم جعلتم النصب والعزل منوطا باختياره فافترقا.

البحث الثالث:

لو وجب على الرعية نصب الإمام، فإن جاز إخلالها به لزم الفساد، وإن لم يجز، فإما لأمر صدها عن الاخلال به فيلزم التسلسل في وجه حصول ذلك الأمر. أولا لأمر، فترجيح بغير مرجح. أما على رأينا، فإذا أخلت به لم يخل الواجب تعالى به، لأنه لطف واجب، والله تعالى لا يخل بالواجب فاندفع التسلسل.

البحث الرابع:

البلاد المتباعدة، إن لزم الرعية نصب الإمام لبعضها ترجيح بلا مرجح وطلب كل بلد كون الإمام منهم فيقع الهرج، وإن لزم أهل كل بلد نصب إمام وقعت المنازعة بسبب تكثر الأئمة حيث يطلب كل واحد الرياسة العامة.

البحث الخامس:

الخطاب في قوله تعالى (السارق والسارقة، فاقطعوا) (الزانية والزاني فاجلدوا(1)) أو غيرهما، لا يتعلق بالأمة بالاجماع على أن الحدود ليست لغير الإمام أو نايبه كما نقله الخوارزمي فيتعلق بالأئمة فنصبهم من الله لتوجه الخطاب إليهم فلو كان من الرعية لتوقف الخطاب عليهم.

إن قيل: الأمر بالحد مطلق وهو يقتضي وجوب مقدماته التي منها نصب الإمام، فيجب على الرعية لتوقف الواجب عليه قلنا: الآيات دلت بذاتها على الحد، فلا يحمل على نصب الإمام الموصل إلى قيام الحد، لأنه إضمار، والأصل نفيه وأيضا فإنه لا يصح أن يجب قيام الحد على الإمام وتجب مقدمته وهي نصب الإمام على الرعية إذ لا يكون الشئ واجبا على شخص ومقدمته على آخر واستدل البصري ب (اقطعوا) و (اجلدوا) على وجوب نصب الإمام، على الرعية لتناول الأمر للمباشرة والتسبيب والمباشرة لكل فرد من الرعية غير ممكنة، ولو أمكنت

____________

(1) المائدة: 41. النور: 2.


الصفحة 86
فليس لها الاستيفاء بالاجماع، فتعين التسبيب وهو نصب الإمام وتكون النسبة إلى الرعية صادقة كما يصدق في قولنا قطع الإمام السارق والحداد هو المباشر.

قلنا: يفهم عرفا أن الإمام قاطع إذا أمر ولا يفهم أن الرعية قطعت إذا نصبت إماما فأمر بالقطع وأيضا فإن تسمية السبب قاطعا مجاز وكلما بعد بعد الحمل عليه لأن السبب البعيد لا يكاد أن يكون إلا من الأسباب الاتفاقية ولا شك أن سببية الرعية أبعد من سببية الإمام، لتوسط الإمام بين الرعية والحداد عندهم.

البحث السادس:

بدأ الله بالخليفة قبل الخليقة بقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة(1)) والحكيم يبدأ بالأهم، فالخليفة أهم من الخليقة، فلا بد من كونه أكمل وأشرف في قوتيه العلمية والعملية، وليس كذلك إلا المعصوم، فيجب، وهذا يبطل الاختيار لأنه إنما سمي خليفة لأنه يحكم، فهو خليفة الله وهو قول ابن عباس وابن مسعود والسدي، وشاهده: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق(2).

(الفصل التاسع)


وفيه أبحاث:

1 - قالوا: لو كان المحال يدخل في الاختيار لما صحت إمامة الثلاثة بالاختيار فلما صحت في هذه الأحوال خرج الاختيار إلى حد الجايز من حد المحال.

قلنا: ومتى سلمنا أن الإمامة التي من الله هي التي حصلت للثلاثة ونحن لم نحل بالاختيار وجود الرياسة مطلقا، فإن رياسة الظلمة ربما وقعت به، إنما أحلنا به

____________

(1) البقرة: 30.

(2) ص: 26.


الصفحة 87
وجود الرياسة الدينية.

قالوا: فاختارت الأمة عليا والحسن وصح. قلنا: إمامتهما حاصلة من الله ورسوله وإنما احتاجا إلى الاختيار لتلزم الحجة به من يراه من الشاكين على أنا نقول دعوى مسيلمة وطليحة والحلاج ومعاوية ويزيد وبني مروان وغيرهم وقعت فخرجت عن حد المحال، فصحت ولم يذهب إليه رشيد.

إن قالوا: فمن سلم كونهم أنبياء في الحقيقة وأئمة على الطريقة. قلنا: و من سلم أن الثلاثة كانوا أئمة في الحقيقة.

2 - قال الأصم وهو أحد رؤساء الناصبية: لا شك أن في زمان الثلاثة قد كان من يعتقد إمامتهم على حال، وإن كان هناك من يعتقد إمامة علي وبعد الثلاثة وقع الاختلاف في إمامته فقيل: هو إمام في ذلك الوقت وقيل: لا إمام في ذلك الوقت فالاجماع الحاصل في أيام الثلاثة دليل إمامتهم، لأنه إن كان واقعا عليهم، فهو قولنا وإن كان على علي فهو محال. لأنه هو الذي اختلف فيه في الماضي وفي وقته، و محال كون المختلف فيه هو المتفق عليه.

قلنا له: ذلك مغالطة، لأن المؤمنين قائلون بإمامته في الأحوال كلها، فلا يتحقق الاجماع المدعى على عدمها وهل يصح من عاقل علم الاختلاف بالضرورة دعوى الاجماع، وما كنت أظن أن هذا يذهب على الأصم(1) مع رياسته في قومه حتى أبان الله تعالى عن جهله وضلاله.

على أنا نقول له: اجتمعت الأمة في حياة النبي على الصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، ثم اختلف فيها، فعلى ما أصل من كون المتفق عليه غير المختلف فيه يلزم أن تكون عبادات اليوم غير التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وآله. لأن المتفق عليه غير المختلف فيه على ما قال.

3 - إنا نقلب الاستدلال على الأصم، فنقول: أجمعت الأمة في هذا الزمان على أنه قد كان إماما موجودا لا محالة في أيام الثلاثة والجماعة المتفقة مختلفة الآن

____________

(1) ذهب عليه كذا: أي نسيه وخفى عليه.


الصفحة 88
فالشيعة تأبى إمامة الثلاثة وتقول بإمامة علي دونها، فلم لا يكون الإمام في عصر الثلاثة غيرهم وأنه لا إمامة دينية لهم، إذ لا يصح عنده أن يكون المتفق عليه هو المختلف فيه وفي ذلك أن الاجماع إنما حصل على إمامة غيرهم، وفيه بطلان إمامتهم لوجوب اتحاد الإمام المعلوم ذلك من دين النبي صلى الله عليه وآله.

فإن قيل: هذا يلزمكم في إمامة علي لاختلاف الأمة فيه كما اختلفت في الثلاثة. قلنا: لا، فإن إمامة علي تثبت بغير ذلك وإنما أردنا إسقاط كلامك على ما أصلت واعتمدت فلا يلزمنا ما ألزمناك على أنه يلزمك إبطال إمامة علي أيضا كما لزمك إبطال إمامة الثلاثة، بدلالة الاختلاف في أعيانهم بعد الاجتماع في الجملة على وجوب إمام، فيجب التزامك أن الاجماع إنما حصل في إمامة من لم يقع الاختلاف في إمامته، فيخرج من هذا الكلام، أن المتفق على إمامته غير معروف بعينه.

4 - نقول للأصم لو اجتمعت أنت ومجبر في بيت لا ثالث لكما، فإن الأمة تجتمع على أن في البيت ضال. فيقال لو خرجت أنت وترك المجبر وقع اختلاف الأمة فتقول المجبرة ليس في البيت أحد من أهل الضلال، وتقول المعدلة بل الضلال باق، فالاجماع كان موجودا قبل خروجك، معدوما بعده، فيلزمك أن تكون من أهل الضلال لأن الاجماع أولا كان إما على ضلالك أو ضلال المجبر، ولو كان إنما هو على ضلال المجبر، لكان المجمع عليه هو المختلف فيه، وذلك عندك محال، و إن كان الاجماع إنما هو على ضلالك فهو ما ألزمناك به، وإن كان ذلك لا يوجب عليك الضلال، فما ذكرته من إمامة القوم واضح الاضمحلال.

إن قال: إني أقدر على خروج المجبر قبلي، فيقع الاختلاف في ويحصل الضلال بالاجماع على خصمي. قلنا: أفلا تعلم في هذا أن دليلك السابق في الأمة فاسد لا يجوز الاعتماد عليه، لأنه يشهد بصحة شئ تارة وبفساده أخرى. فإنه لو لم يدل على ضلاله لو خرج قبل المجبر لم يدل على ضلال المجبر لو خرج قبله.

تذنيب:

روي أن الأول كتب إلى مسيلمة الكذاب يوبخه على فعله، فأجابه:


الصفحة 89
اجتمع الناس علي، كما اجتمعوا عليك، واختاروني كما اختاروك، فأجبت كما أجبت، فاخلع نفسك بالعراق أخلع نفسي بالحجاز.

تكميل: دخل رجل شامي على الصادق عليه السلام، محاجا، فقال عليه السلام لهشام بن الحكم: كلمه، فقال: يا شامي ربك أنظر لخلقه أم خلقه أنظر لأنفسهم؟ قال: بل هو أنظر لهم قال فما نظره لهم؟ قال: أقام لهم الحجة وأراح عنهم العلة قال: فما الحجة؟ قال: الرسول صلى الله عليه وآله. قال: فبعده؟ قال: كتابه وسنته قال: فأزالا عنا الاختلاف اليوم؟ قال: لا. قال الشامي: وإلا فمن؟ قال هذا الجالس - يعني الصادق عليه السلام - الذي يخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أبيه وجده. قال: فكيف أعلم ذلك؟ قال: سله، فابتدأه الإمام عليه السلام وأخبره بيوم خروجه من الشام وما حدث له في طريقه فصدقه فأقر بوصيته.

(الفصل العاشر)


قالوا: لو نص على علي، لما اختلف فيه، كما لم يختلف في النص على القبلة. قلنا: ولولا نصه لما اختلف فيه كما لا يختلف في عدم النص على سلمان.

قالوا: من لم ينص النبي عليه ضربان: ضرب اختلف فيه كعلي، وضرب أجمع فيه كسلمان. قلنا: بل من نص عليه ضربان: ضرب اجمع فيه كالقبلة، وضرب اختلف فيه كعلي.

قالا: لا يصح النص عليه إلا بالاجماع واتفاق أهل المذاهب. قلنا: فلا تصح النبوة إلا باتفاق أهل المذاهب.

قالوا: ثبتت بالمعجزات، فتأولها(1) الناس بالسحر. قلنا: والإمامة ثبتت بالنص، فتأولوها(2) بالقرابة.

____________

(1) فناولها، خ.

(2) فناولوها، خ.


الصفحة 90
قالوا: لو نص عليه بالأمر لقام به. قلنا: ولو نص موسى على هارون لقام به.

قالوا: لو نص عليه مع علمه بالعجز عنه سفه. قلنا: [ ولو ] نص الله على أنبيائه مع علمه بعجزهم سفه.

قالوا: لو نص الأمر فيه لقاتل عليه. قلنا: ولو نص الله على سجود إبليس لآدم لقاتله عليه.

قالوا: ترك النص لعلمه بعصيان الأمة لئلا ترتد. قلنا: فالله أشفق منه، و قد أرسل أنبياء مع علمه قطعا بعصيان الخلق لها.

قالوا: ارتدت الأمة بمخالفة الإمام، فلو كان منصوصا عليه، وجب أن يجاهدها وإلا ارتد معها. قلنا: سكت هارون عن جهاد المرتدين فيلزم ارتداده.

قالوا: أقر علي لأبي بكر بالخلافة. قلنا: أقر يوسف لإخوته بالعبودية.

قالوا: في النص محاباة وهي مستحيلة على الرسول لتضمنها الغش لغيره. قلنا:

حابا يعقوب ليوسف وحابا الله لأنبيائه.

قالوا: إطاعة علي لأبي بكر دليل على عدم النص، إذ لا يطيع الظالم إلا ظالم. قلنا: أطاع دانيال، بخت نصر. ويوسف، العزيز: وموسى، فرعون. ولا يطيع الكافر إلا كافر.

قال: زوج عمر ابنته ولا يزوج الظالم إلا ظالم. قلنا: عرض لوط بناته على المفسدين. وزوج النبي ابنته من العاص، ولا يزوج الكافر إلا كافر.

قالوا: أخذ عطاء أبي بكر ولا يأخذ عطاء الظالم إلا ظالم. قلنا: أخذ دانيال عطاء بخت نصر ولا يأخذ عطاء الكافر إلا كافر.

قالوا: لم يبايع علي ثم بايع فأحدهما خطأ. قلنا: لم يدعي النبوة نبينا صلى الله عليه وآله ثم ادعى ولم يقاتل ثم قاتل، فأحدهما خطأ.

قالوا: لو جاز كتمان النص على بعض الأمة جاز على كلها، ولما لم يجز على كلها، لم يجز على بعضها. قلنا: لو جازت بغضة علي على بعض الأمة، جازت على كلها ولما لم تجز على كلها، لم تجز على بعضها، فلم تبغضه الخوارج والنواصب؟


الصفحة 91
قالوا: إمامته لم تثبت إلا بالمقرين بها وهم خصم قلنا فالنبوة لم تثبت إلا بالمقرين بها وهم خصم.

قالوا: فالصحابة نصار الدين، فكيف يكتمون النص مع كمالهم وشهادة النبي فيهم قلنا: فقد فروا من الزحف وباؤا بغضب من الرحمن، كما نطق به القرآن، وانهزم عثمان بأحد ثلاثة أيام.

قالوا: امتنع جماعة مع علي عن البيعة فلا معنى لعجزهم عن أهل(1) البيعة.

قلنا: سجدت الملائكة وامتنع إبليس ولا معنى لعجزهم عن إلزامه بالسجود.

قالوا: ترك علي النكير والوعظ وانتهاز حقه دليل عدم حقه قلنا: ترك آدم الوعظ ونحوه دليل عدم حقه في سجود إبليس.

قالوا: عندكم أن النبي عرفه أنه يبقى بعد الثلاثة، فلا معنى للتقية مع الأمن في ترك القتال. قلنا: وقد أعلم الله نبيه أنه يبقى ويبلغ رسالته، فلا معنى له مع الأمن لترك القتال.

قالوا: أيجوز أن نجمع على إنكار فرض حتى يلزمنا الكفر؟ قلنا: أيجوز أن نجمع على اختراع فرض حتى يلزمنا الكفر.

قالوا: أيجوز أن نجمع على إنكار فرض مع تباعد أوطاننا؟ قلنا: أيجوز أن نجمع على اختراع فرض مع تباعد أوطاننا؟

قالوا: من أين ألزمتمونا صحة ما تفردتم به دوننا؟ قلنا: ومن أين ألزمتم اليهود بصحة ما تفردتم به دونهم؟

قالوا: أيلزمنا أن ندين بما لا نعرف ولا نقله إلينا أسلافنا لدعواكم أنكم عرفتموه. قلنا: أيلزمنا ترك التدين بما عرفناه، ونقله إلينا أسلافنا لأنكم لم تعرفوه.

قالوا: إن أثبتم إمامة علي بقولكم فلا حجة فيه علينا لكم، ولا سبيل إلى إثباتها بقولنا وقولكم. قلنا: إن أثبتم نبوة محمد بقولكم فلا حجة على اليهود لكم ولا سبيل إلى إثباتها بقولهم وقولكم.

____________

(1) أخذ البيعة. ظ.


الصفحة 92
قالوا: إن عرفتم إمامة علي بنقل بعضكم، فعرفونا كم العدد المفيد للعلم و إن عرفتم بنقل جميعكم فلا تثبت إمامته حتى نلقى جميعكم. قلنا: إن عرفتم نبوة محمد صلى الله عليه وآله ببعضكم فعرفونا كم العدد المفيد للعلم؟ وإن عرفتم بنقل جميعكم، لم تثبت نبوته حتى نلقى الجميع.

قالوا: رجعتم في معرفة نصه إلى مثبتيه ولو رجعتم إلى منكريه، لعرفتم عدمه. قلنا: رجعتم في معرفة النبي إلى مثبتيه، ولو رجعتم إلى منكريه لعرفتم عدمه.

قالوا: حكم علي أبا موسى في دين الله وقد خفي عليه حقيقة أمره. قلنا:

حكم النبي سعدا في بني قريظة، فقد خفي عليه حقيقة أمره.

قالوا: حكم النبي سعدا ورضي به وبحكمه وحكم علي أبا موسى الأشعري ولم يرض بحكمه. قلنا: وحكم النبي المشايخ في دعوى الأعرابي بثمن الناقة ولم يرض بحكمهم.

قالوا: إذا كان الإمام عندكم يعلم كل علم رسول الله، إن جاز له أن يدعو:

(اللهم زدني علما) فقد طلب الأفضلية والزيادة على الرسول، وإن لم يجز له حرمتم عليه الدعاء بزيادة العلم. قلنا: إذا جاز أن يعلم الأمة كل علم الرسول إن جاز للأمة الدعاء جوزتم طلبها الأفضلية على الرسول، وإن لم يجز حرمتم عليها الدعاء بزيادة العلم.

قالوا: إذا جاز أن يكلنا الله إلى أنفسنا في معرفة العدول جاز في معرفة الإمام.

قلنا: فيجوز على هذا، أن يكلنا إلى معرفة الحدود والرسول عليه السلام.

قالوا: ولم لا يكون الله جعل للخاصة أن تولي على العامة إماما؟ قلنا:

ولم لا يكون الله جعل للخاصة أن تولي على العامة نبيا؟

قالوا: ما أنكرتم أن يسمى المنصوب من الناس خليفة الرسول، فإن الله تعالى جعل؟ ل قوما من بعد قوم نوح خلفاء ولم يستخلفهم قوم نوح. قلنا: ذلك معناه الوجود بعدهم، ولو كان هذا هو المراد بخليفة النبي، كانت اليهود والنصارى و

الصفحة 93
غيرهم خلفاء النبي.

قالوا: لم لا يجوز أن يولى المفضول على الناس لكراهة الفاضل من بعض الناس، قلنا: ولم لا يجوز عزل المنصوب لكراهة من بعض الناس على أنه معارض بالنبي.

وهذا القدر بل بعضه كاف في هذا الباب، وعليك باستخراج ما يرد لك من الجواب. فإن النقض آت على جميعه من قريب وبعيد، يسلمه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.


الصفحة 94

(الباب الخامس)
* (فيما صدر عنه من الكرامات الموجبة لاستحقاقه الإمامة) *


وفيه فصول:

* (الفصل الأول) *


[ من ] ادعى الإمامة وظهر المعجز على يده، فهو نص من الله على إمامته وهي أمور كثيرة نذكر منها في هذا المختصر نبذة يسيرة، منها ما أسنده ابن جبر، في كتاب نخب المناقب، لآل أبي طالب، إلى جابر. إلى الخدري، إلى ابن عباس أن خالدا لما رجع في عسكره من قتال أهل الردة رأى عليا في أرض له وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد فقال له: ويك أو كنت فاعلا يعني لما أمره أبو بكر بقتله بعد الصلاة فقال: أجل فنكسه عن فرسه وفتل حديد رحى الحارث كالأديم بيده و ألقاها في عنقه وأصحابه كأنهم نظروا إلى ملك الموت وبقي أياما في عنقه والناس في المدينة يضحكون عليه مما في عنقه فلما حضر جاء به أبو بكر إلى علي يستشفع في فكه عنه فقال عليه السلام: لما رأى تكاثف الجنود أراد أن يضع مني فوضعت منه فنهض الجماعة وأقسموا عليه فجعل يفتل منه شبرا شبرا ويرمي به وفي رواية أن خالدا أحدث في ثيابه وصاح صيحة منكرة مما نزل به. قال بعضهم:


يا خالدا اذكر صنيعة حيدرلما بعثت إليه كي تدعوه
وأردت إظهار الشجاعة عند منأبدى الشجاعة جده وأبوه
فرجعت بالطوق الحديد مطوقاهذا وأنت على الرجال تتيه
فلأن جحدت فسل لأصحاب النبيقطب الرحى في خلق من فتلوه

وروى جماعة عن خالد بن الوليد قال: رأيت عليا يصلح حلقات درعه بيده فقلت: هذا كان لداود! فقال عليه السلام بنا ألان الله الحديد لداود فكيف لنا وستأتي

الصفحة 95
حكايته في المسجد إن شاء الله.

وروى أيضا في نخبه أن حصن ذات السلاسل علقوا على حيطانه غراير قطن أو تبن حتى لا يعمل فيه حجر المنجنيق فرمى علي نفسه بالمنجنيق والترس تحت قدميه ونزل على الحايط وضرب على السلاسل ضربة واحدة فقطعها وسقطت الغراير، ومن هذا ونحوه قالت الغلاة فيه: إنه الخالق المعبود وإنه هو أرسل محمدا صلى الله عليه وآله بالنبوة وادعوا أن له خطبة سماها خطبة الكشف قال فيها: (أنا شققت أنهارها، وأينعت أثمارها، وأظلمت ليلها، وأضأت نهارها، وأنا نبأت النبيين وأرسلت المرسلين).

وهذا مكذوب عليه لمنافاته ما اشتهر عنه من الخشوع لله تعالى وعظم الثناء لديه ولو سلم فهو قابل للتأويل بالانكار أي إن كان كما تقولون من إلهيتي فأنا فعلت كذا وكذا لكني ما فعلت فلست باله، ويمكن حمله على السببية لما اشتهر في الحديث: لولاهم لما خلق الله خلقه فكأنه عليه السلام فاعل ذلك بالسبب وقد جاء عنهم عليه السلام: قولوا في فضلنا ما شئتم بعد أن تثبتونا عبيدا مربوبين.

وأسند في نخبه أيضا إلى جابر: صلينا خلف على الصبح فالتفت وقال: أعظم الله أجوركم في أخيكم سلمان فتكلم الناس في ذلك فمضى إليه وقال: يا قنبر عد عشرا فإذا نحن على باب سلمان فكشف عنه فتبسم سليمان له فقال عليه السلام: إذا لقيت رسول الله فقل ما مر على أخيك من قومك ثم جهزه.

وأسند إلى الجارود أن أسدا أقبل من البر إلى الكناسة فقام بين يدي علي عليه السلام فوضع يده بين عينيه وقال: ارجع بإذن الله لا تدخل دار هجرتي وبلغ ذلك السباع عني.

وروى ابن وهبان والفتال في كتابيهما عن جويرية بن صخر أنه خرج مع علي نحو بابل فرأى الأسد باركا في الطريق فمكث ليرجع فقال عليه السلام إنما هو كلب الله ثم تلا: (وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) الآية فأقبل الأسد إليه مسلما عليه.


الصفحة 96
وروى محمد بن وهبان في معجزات النبوة عن البراء بن عازب أنه مر في السماء على رأس أمير المؤمنين خيط من الوز فصرصر وصاح فقال عليه السلام: قد سلم علينا فتغامز المنافقون بينهم فقال: يا قنبر قل لهم: أجبن أمير المؤمنين وأنزلن. قال:

فنزلن إلى صحن المسجد فخاطبها بلغة لا نعرفها فلوت أعناقها إليه وصرصرت فقال:

لهن انطقن فانطقن بالسلام عليه.

وفي كتاب ابن شهرآشوب قال الباقر قال علي عليه السلام لجويرية بن مسهر:

يعرض لك الأسد في طريقك فسلم عليه وقل له إني أعطيتك الأمان منه فلقيه فأبلغه ما قال علي عليه السلام فولى وهمهم خمسا فلما رجع جويرية قال له أمير المؤمنين إنه رد السلام وعقد بيده خمسا.

وروى الجدلي عن الرضا عليه السلام قال: قال الحسين عليه السلام: كنت مع أبي فهرول إليه ذئب وجعل يلطع قدميه بلسانه ويتمسح به فقال له: انطق بإذن الله فانطلق بالسلام إليه بإمرة المؤمنين.

قال ابن زريك:


إمام له غاض الفرات وقد طغىوخاطبه ذئب بأرض فلات

وأنشأ في ذلك حيص بيص والنانستي والبياضي وغيرهم فلم ينكر عليهم.

وروى حملة الآثار عن صعصعة بن صوحان في روضة الواعظين وعن محمد بن علي الصيرفي في الدلالات أن ثعبانا رقى إلى المنبر إلى علي في الكوفة فقصده الناس فنهاهم عنه فالتقم عليه السلام أذنه محركا شفتيه والثعبان كالمصغي إليه ثم ذهب فكأن الأرض ابتلعته فتحير الناس فيه فسألوه فقال: هو حاكم الجن التبس عليه مسألة فأفهمته إياها. وقد أنشأ في ذلك العوني ودعبل وابن حجاج وابن عضد الدولة وغيرهم فلم ينكر عليهم.

وفي فضائل الكوفة لعمر بن حمزة قال: قام رجل من حضرة علي للوضوء فعرض له أفعى ليلتقمه فهرب منه إلى علي عليه السلام فأخبره فأخذ سيفه وأدخله في ثقب الأفعى وقال: إن كنت معجزة مثل عصى موسى فأخرجه فخرج فساره ساعة ثم

الصفحة 97
قال للأعرابي: لما قمت من بين يدي أراك ظننت أني رابع أربعة قال نعم ثم بعد؟

ذلك لطم على رأسه وأسلم.

وفي الامتحان عن عمار وجابر قال: كنت مع علي في برية فضحك وقال:

أحسنت [ يا ] أيها الطير قال: قلت: أترى طيرا قال عليه السلام أتحب أن تراه وتسمع كلامه؟ قلت: نعم فدعا خفيا فهوى الطير على يده فمسح ظهره وقال: انطق فسلم عليه بإمرة المؤمنين فرد عليه السلام وقال من أين مطعمك ومشربك في هذه البرية التي لا نبات فيها ولا ماء؟ قال: إذا جعت ذكرت ولايتكم فأشبع وإذا عطشت تبرأت من أعدائكم فأروى.

وفي العلل عن القزويني عن الأعمش أن عليا عليه السلام وقف على الفرات ونادى يا هناش يا هناش فأطلع الجري رأسه فقال: من أنت؟ قال من بني إسرائيل عرضت علي ولايتك فلم أقبلها فمسخت جريا.

وفي حديث سعد الخفاف أنه ناداه يا جري فلباه فقال: من أنا قال: إمام المؤمنين قال: فمن أنت؟ قال ممن جحد ولايتك فمسخ جريا.

وفي المعجزات والروضة ودلائل ابن عقدة والحارث والسبيعي قال: رأينا شيخا باكيا قائلا أشرفت على المائة وما رأيت العدل إلا ساعة فسئل عن ذلك فقال:

توجهت إلى الكوفة فنفدت مالي عند القبة المسبحة فدخلت على علي فأخبرني بذلك وخرج معي ثم صلى ودعى وقرأ: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) ثم قال ما هذا العبث؟ والله ما على هذا بايعتموني وعاهدتموني؟

فرأيت مالي يخرج من القبة فأسلمت وأقررت له بالولاية ولما قدمت الآن وجدته مقتولا. قال الوراق:


علي دعا جنا بكوفان ليلةوقد سرقوا مال اليهودي عدهم
على نقض عهد أو تردوا متاعهفردوا عليه ماله لم يقسم

وفي حديث عمار أرسل النبي عليا إلى عمان يقاتل الجلندي فكان بينهما حرب عظيم فقال لغلامه المعروف بالكندي إن أتيت بصاحب العمامة السوداء والبغلة

الصفحة 98
الشهباء أسيرا أو عفيرا فابنتي التي لم أنعم لأولاد الملوك بها أزوجكها فركب الكندي فيلا أبيض وحمل بالعسكر وفيه ثلاثين فيلا على المسلمين فنزل علي عن البغلة فكشف رأسه فأشرقت الفلاة منه ودنا من الفيلة وكلمها بما لا نفهمه فانقلب منها تسعة وعشرون تقاتل المشركين حتى أدخلتهم باب عمان ثم رجعت قائلة يا علي كنا نعرف محمدا ونؤمن به وبربه كلنا إلا الفيل الأبيض فزعق الإمام عليه السلام فيه فوقف فضربه فرمى برأسه وأخذ الكندي من ظهره فأخبر جبرائيل النبي بذلك فصعد السور وقال: هبه لي فخلى سبيل الكندي فقال ما حملك على إطلاقي فقال:

أنظر، فكشف الله عن بصره فرأى النبي على سور المدينة في صحابته وبينهما أربعين يوما فأسلم وقتل [ علي ] الجلندي وجماعة من عسكره فأسلم الباقون وسلم الحصن للكندي وزوجه ابنت الجلندي وفي كلمة ابن حماد حديث الملك:


ولقد غدى يوما إلى الهادي إذابالباب معترضا شجاع أقرع
فسعى إلى مولاي يلحس ثوبهكالمستجير به يلوذ ويضرع
حتى إذا بصر النبي يصوتهورأى الشجاع له يذل ويخضع
والطهر يأوى(1) للشجاع بمكةويذوده بالرفق عنه ويدفع
ناداه رفقا يا علي فإنهملك له من ذي المعارج موضع
أخطأ فأهبط من علو مقامهفأتى بجاهك خاشعا يتشفع
فادع الإله ليغفر ذنبهفاشفع فإنك شافع ومشفع
فدعا علي والنبي وأخلصافغدا الشجاع يصيح وهو مجعجع
لله من عبدين ليس لربناعبدان أوجه منهما أو أطوع

وفي الأغاني قال المدائني: قال الحميري: من جاء بفضيلة لعلي لم أقل فيها شعرا فله فرس فجعلوا يحدثونه وينشدهم فيه فروى رجل أن عليا نزع خفه فانساب فيه حية أفعى فلما عاد ليلبسه انقض عقاب غرابي فحلق به ثم رماه فخرج الأفعى منه فأعطاه الحميري ما وعد وأنشأ عند ذلك شعرا:

____________

(1) يرمى. خ.


الصفحة 99

ألا يا قوم للعجب العجابلخف أبي الحسين وللحباب
عدو من عداة الجن عبدبعيد في المرادة من صواب
كريه اللون أسود ذو بصيصحديد الناب أزرق ذو لعاب
أتا خفا له فانساب فيهلينهش رجله منه بناب
فقض من السماء له عقابمن العقبان أو شبه العقاب
فطار به وحلق ثم أهوىبه للأرض من دون السحاب
فصك بخفه فانساب منهوولى هاربا خوف الحصاب
ودوفع عن أبي حسن علينقيع سمامه بعد انتياب

إن قيل: بذل السيد الحميري رحمه الله فرسه لمن يأتي بفضيلة لعلي ليس فيها شعر له يدل على حصرها وهو خلاف دعواكم من بعدها عن الاحصاء لكثرتها قلنا:

لا يلزم من اعتقاده حصرها مطابقته لها وناهيك بما خرج عن شعره من العقاب و الحية وما أنشأ فيها.

نكتة:

فإذا انحصرت في علي مزايا(1) النبوة وليس له نبوة فهي دالة على الإمامة إذ يمتنع من الله أن يضع العلامة ويخص بالكرامة من ليس له زعامة.

إن قيل: ما ذكرتم من الأحاديث ونحوها أخبار آحاد أو انفردتم بنقلها فلا حجة لكم فيها. قلنا: لا، بل كل طائفة من المسلمين روت شيئا منها فاشتركت آحادها في التواتر المعنوي اللازم عن مجموعها فأعجوبة رد الشمس أصحاب الشافعي روتها وروت غيرها وروى غيرهم غيرها ومن تتبع كتب القوم وجد ذلك فيها فكيف يمكن معانديهم إنكارها وفي كتب أئمتهم إظهارها وبهذا يندفع ما لعله يتوهم من كونها صدرت عن داع واحد، على أن للكفار اللئام أن يعارضوا بمثله في معاجز النبي عليه السلام.

____________

(1) مرايا، خ.