تنبيه(2): إن قالوا: معصوم اسم مفعول، فيكون مجبورا على ترك العصيان في كل آن، ولا فخر في ذلك على انسان، قلنا: العصمة الملجئة من الله إنما هي من الغلط والنسيان وأما العصمة التي لا يقع منها عصيان فهي لطف يفعله الله، لا يوجب الاجبار، بل يجامع الاختيار، والانسان يعلم أنه يترك ذنوبا بحسب اختياره فالمعصوم يترك الجميع كذلك، إما للطف من نفسه بزيادة عقله وعلمه ومداومته على الفكر في أمور معاده، وملازمته على الطاعات بخلاف غيره، وإما من الله تفضيلا لا يوجب مشاركة غيره فيه، لكونه زايدا على القدر الواجب عليه، فلهذا لا يقال:
لو رزق الله تعالى أحدا ذلك لساواه في العصمة، ويكون اختصاص المعصوم بهذا لعلمه تعالى بقبول المحل له دون غيره، وفي هذا نظر لأنه يوجب أن لا يجعل الله للكافر لطفا لعلمه بعدم قبوله إلا أن يقال: الكلام في اللطف المتفضل به، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، أو نقول لا يلزم من وضعه في المحل القابل عدم وضعه في غير القابل ليحتج به على محله، فلا يلزم العبث في فعله.
إن قيل: فالمعصوم إن لم تنازعه نفسه إلى المعصية فلا مشقة في تركها، فأحدنا أعظم أجرا منه، وإن نازعته لم يؤمن أن يكون طاهرا باطنا. قلنا: بل الشهوة الطبيعية موجودة فيه، والمراد من الطهارة الباطنة عدم إرادة المعصية لا عدم شهوتها وبينهما فرقان، على أنه لو دلت صيغة (معصوم) على المفعول، لم يكن الله تعالى موجودا لأنها صيغة مفعول، وهو على الله تعالى محال، وقد جاء مفعول بمعنى فاعل
____________
(1) الأنبياء: 73.
(2) تذنيب، خ.
قالوا: إذا كان احتياج الناس إلى المعصوم لأجل خطأهم يلزم أن يكون فيهم من ليس بإمام ولا مأموم كالإمام اللاحق مع أبيه السابق فإنه حينئذ ليس بإمام ولا مأموم، لأنه معصوم. قلنا: نحن لم نقل: إن الإمام لا يحتاج إلى إمام آخر يعلمه وينتهي إلى النبي الكفيل، إلى جبرائيل، إلى الرب الجليل، وإنما قلنا: لا يحتاج إلى إمام آخر يزجره عن قبيح أو يأمره بواجب، لولاهما لأقدم و أحجم، إذ ذلك محال على الإمام، وكذلك كان حال علي مع النبي صلى الله عليه وآله وكذا حال كل إمام.
إن قيل: فلم لا يجوز انقطاع التسلسل بالقرآن العظيم أو النبي صلى الله عليه وآله ولا حاجة إلى الإمام؟ قلنا: لو كان هذان مساعدين لبعض الأمة كانا مساعدين لكلاهما لجواز الخطاء عليهما(2) فلا إمام وقد علمت وجوب نصبه عقلا ونقلا كالنبي صلى الله عليه وآله.
إن قيل: لم لا يجوز أن يكون مجموع الأمة لطفا له وهو لطف لآحادها ولا دور لاختلاف جهته. قلنا: لو كان مجموعها لطفا له لكان لكل فرد لطفا، وحينئذ لا حاجة إلى الإمام وفيه نظر إذ المجموع يخالف الأفراد، ولهذا وقع الفرق بين متواتر الأخبار وآحادها، أو نقول: مجموع الأمة ليس بمعصوم، فلا يكون لطفا لنصب معصوم، والأصوب أن الأمة لا يمكن اجتماعها على نصبه، وبعضها غير كاف فيه ولو أمكن، فعن مشقة وطول زمان، فيخلو ذلك من المعصوم وقد بينا وجوب نصبه على العموم.
إن قيل يكفي خمسة منهم كما في بيعة الأول. قلنا: يجوز اختلاف الخمسة ولهذا أمر عمر بقتل أهل الشورى، على أنه يجوز اتفاق كل خمسة على شخص فيقع التعدد المستلزم للفساد، ولأنه خرق الاجماع بلا نزاع.
____________
(1) أسرى: 45 و 47.
(2) كذا لكلها لجواز الخطأ عليها. ظ.
(الفصل الثاني)
لو جاز منه معصية لانحط عن درجة أقل العامة، فلا يصلح للإمامة، بيانه أن الصغيرة من الكبير كبيرة (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون(1)).
إن قيل: فإذا جازت عصمة واحد فلم لا تجوز عصمة الكل فإنه إذا كان الغرض من خلقهم إثابتهم، كان الموجب لذلك خلق العصمة فيهم [ ماذا بعصمة واحد ].
قلنا: إنما خص الله واحدا بالعصمة لأجل استحقاقه لها بكسبه أسبابها، وباقي الرعية ليس ذلك فيهم، فلم تكن العصمة لهم. إن قيل: إن خلق الله الأنفس متساوية استحال اختصاص أحدها بما يوجب العصمة، لأنه ترجيح بلا مرجح وإن خلقها مختلفة كما في خبر الطين عاد اللوم عليه، حيث عرض البعض للعصيان بخلقه من الأصل الخبيث. قلنا: خلقها متساوية ولا يلزم تساوي أفعالها لجواز ترجيح المختار بلا مرجح، ولو لزم من تساويها تساوي أفعالها لزم اتحادها فكانت جميع النفوس تفعل فعلا واحدا في جميع الأوقات، إذا كانت الأفعال مستندة إلى طبيعتها لا إلى اختيارها بل النفس الواحدة تفعل الطاعة والمعصية مع الجزم بعدم الاختلاف فيها، وخبر الطين آحاد لا يعتمد عليه في المسائل العلمية، ولو كان الخلق من الخبيث يمنع الطاعة لم يؤمن كافر أبدا، ومن الطيب يمنع المعصية، لم يفسق مؤمن أبدا وهنا أبحاث:
1 - إذا وجب نصب الإمام على الله فكل من علم أنه لا يصلح ولا يراعي ما لأجله احتاجت الرعية إليه يقبح نصبه، فيجب المعصوم المعلوم لله دون غيره إن قيل: لم لا يكون خوفه من العزل يمنعه من المعصية؟ قلنا: علم بالعادات عجز الرعية عن عزل آحاد الولاة فضلا عمن عمت ولايته الخاص والأوقات، ولهذا لم يمنع عثمان خوف العزل عن الأحداث والبدع، ولم يمنع يزيد الملعون من أنواع الفجور
____________
(1) الزمر: 9.
2 - الإمام المعصوم معناه إما نفوذ حكمه على كل من عداه، أو عدم نفوذ حكم كل من عداه عليه، أو هما معا، والكل منقوض بنائبه البعيد، فإنه لا ينفذ حكم أحد عليه لبعد الإمام عنه، ولا يحكم هو على كل من عداه لخروج الإمام والقطر الآخر منه، مع أنه لا عصمة له. قلنا: يمنعه خوف عزل الإمام له في مستقبل الأوقات، على أنا نمنع الحصر إذ الإمامة لها الحكم العام فلها العصمة دون النايب وغيره من الأنام.
إن قيل: فخوف العزل من الإمام يتصور في النايب القريب دون البعيد، لعدم الاطلاع عليه. قلنا: إذا لم يمكن الإمام تدارك خطاه وظلمه، لا يلزم منه إبطال عصمته إذ لا يلزم عصمة الإمام عرفانه كلما يحدث في الأنام، ولا اقتداره على إزالة كلما يخالف من الأحكام، على أنه معارض بالنبي صلى الله عليه وآله.
3 - لو لم يكن الإمام معصوما، فإن كان عاميا لم يجب على المجتهد ولا على عامي آخر طاعته لقبح الأمر من الله بطاعة العامي حيث قال تعالى: (أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم(1)) وإن كان مجتهدا لم يجب على مجتهد آخر اتباعه ويتخير العامي في اتباع المنصوب وغيره، فلا فايدة في نصبه.
إن قيل: ذلك منقوض بالقاضي المنصوب فإنه لا يجوز للمجتهد ولا للعامي العدول عن حكمه، قلنا: كلامنا ليس في فصل الدعاوي. على أن القاضي إن نصب نفسه فلا ترجيح له على غيره، وإن نصبه غير المعصوم، فلا ترجيح لناصبه على غيره وإن نصبه المعصوم ثبت المطلوب.
____________
(1) النساء: 84.
(الفصل الثالث)
وفيه وجوه:
1 - لو جاز الخطأ على الإمام لزم إفحامه، لأن الرعية لا تتبعه إلا في ما علمت صوابه، وهو الحافظ للشرع، فلا يعلم صوابه إلا منه فيدور.
2 - كل من حكم بإمامته علم منه تقريب الطاعة ضرورة. ولا شئ من غير المعصوم يعلم منه ذلك ضرورة: فلا شئ ممن يعلم إمامته بغير معصوم ضرورة. فلزم:
(كل من علمت إمامته معصوم) إذ السالبة المعدولة تستلزم الموجبة المحصلة مع تحقق الموضوع.
3 - غير المعصوم لا يمكن العلم بإمامته، لجواز معصيته، وكل من لا يمكن العلم بإمامته لا يقع التكليف باتباعه لعدم إطاقته.
4 - غير المعصوم إن كفى [ في ] تقريب نفسه من طاعة ربه، لم يحتج إلى إمام مطلقا، فاستغنت عنه(1) الرعية مع ذلك الفرض إذا وإن لم يكف في تقريب نفسه كيف يصلح لتقريب غيره.
5 - الإمام يجب أن يخشى منه بالضرورة للأمر بطاعة أولي الأمر، ولقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)(2) ولا شئ من غير المعصوم يجب أن يخشى منه لأنه ظالم، وكل ظالم لا يخشى لقوله تعالى: (إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم(3) فالناتج: لا شئ من الإمام بغير معصوم بالضرورة.
إن قيل: قولكم (لا شئ من غير المعصوم يجب أن يخشى) ليست ضرورية واختلاطها مع غير الضرورية في الشكل الثاني لا ينتج ضرورية قلنا: بل هي الضرورية وبيانها ظاهر على أنه قد ظهر في المنطق إنتاج الضرورية فيه مع غير [ ها ] ضرورية.
إن قيل: قولكم غير المعصوم ظالم. إلى آخره ممكنة، إذ لا يجب الظلم بل يجوز
____________
(1) يعني عن الإمام.
(3) البقرة: 150.
(2) النور: 63.
6 - امتثال أمر الإمام واجب من باب التقوى، وليس امتثال غير المعصوم من باب التقوى، لجواز أمره بالخطأ عمدا أو خطأ ويصدق عليه اسم ظالم بمعصية واحدة ونقيض الظالم ليس بظالم، والليس بظالم هو المنفي(1) فهي سالبة كلية إذ لو كانت جزئية لم يكن قولنا ظالم جزئيه، وقد عرفت أنها جزئية، ومتى كانت سالبة كلية صدقت على من لم يعص أبدا، وهو المعصوم، فوجب وجوده لقوله: (إن الله يحب المتقين(2)) فعلم حصول المقتضي والصارف منفي، فيجب الفعل ولله المنة.
7 - انتفاء الإمام المعصوم يلزمه كون الحجة للرعية على الله، وهو محال لقوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل(3)) والإمام مساو للرسول في تنفيذ الأحكام، والتقريب من طاعة الملك العلام، فنفيه مساو لنفيه، و لازم أحد المتساويين لازم للآخر، فانتفاء الإمام المعصوم في عصرنا محال، فوجب وجوده في كل عصر لكذب السالبة الجزئية.
بل نقول: إذا امتنع الخلو من النبي الذي هو لطف خاص، امتنع بالأولى الخلو من الإمام الذي هو لطف عام، والذي يوضح هذا المراد قوله تعالى (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد(4)).
8 - غير المعصوم لا يستحق النصرة لظلمه: (ما للظالمين من أنصار(5)) أي من استحقاق أنصار، والإمام يستحق النصرة للأمر بطاعة أولي الأمر.
9 - جاء في القرآن: النفوس ثلاث: الأمارة: وهي الشريرة (إن النفس
____________
(1) هو المتقي. خ.
(2) براءة: 5 و 8.
(3) النساء: 164.
(4) الرعد: 8.
(5) البقرة: 270.
10 - الإمام يهديه الله لأن أمره بطاعته دليل هدايته، وغير المعصوم لا يهديه الله لظلمه (والله لا يهدي القوم الظالمين(5) فالإمام ليس غير معصوم.
إن قيل: عندكم أن الله يريد الهداية العامة للكل، فتكذب كبراكم قلنا:
إنما نفينا الهداية التي هي اللطف الزايد عن القدر الواجب، فلا نسلم أنها عامة.
إن قيل: شرط إنتاج الثاني دوام إحدى مقدمتيه أو كون الكبرى من القضايا الست المنعكسة سلبا، وهما هنا مطلقتان، فانتفى الشرط، قلنا: بل الصغرى ضرورية فحصل الشرط. وأيضا غير المعصوم ظالم، والظالم له بئس المثوى لقوله تعالى: (و بئس مثوى الظالمين(6) فغير المعصوم له بئس المثوى، ولا شئ من الإمام له بئس المثوى فلا شئ من غير المعصوم بإمام والاعتراض والجواب كما سلف 11 - القوة العقلية ليست غالبة للقوة الشهوية دائما، ولا في كل الناس وإلا لم يحتج إلى إمام دائما، لتحقق السبب الصارف، بل القوة الشهوية غالبة إما بالقوة أو بالفعل والثاني إما دائم أو في الجملة، فصدقت مانعة خلو في غير المعصوم، وهي تستلزم وجوب عصمة الإمام إذ نقيض الممكنة إنما هو الضرورية.
12 - الإمام لطف كما سلف في ترك المخالفات، وانتظام أمر المخلوقات
____________
(1) يوسف: 53.
(2) براءة: 103.
(3) القيامة: 2.
(4) الفجر: 27.
(5) الجمعة: 5.
(6) آل عمران 151.
اعترض قاضي القضاة بأن المكلفين إن علموا بالضرورة كون الإمام حجة وجب الاشتراك فيها، ولا شك أن بعضهم لا يعلمه، فإن يؤثر هذا البعض فيه، لزم تجويز أن يعلموا ساير أمور الدين بالضرورة، ولا يقدح البعض فيه، فيستغني من الإمام. وإن علموه بالاستدلال فلا شك أن بعضهم لا يقوم بما كلف من الاستدلال عليه، فيحتاج إلى إمام آخر يكون لطفا لهم في فعل الاستدلال، والكلام فيه كالأول ويتسلسل وحينئذ لا بد أن يقال: يمكنهم معرفة الحجة بغير حجة، فجاز مثل ذلك في ساير ما كلفوه.
أجاب المرتضى بأنا لم نثبت الحاجة إلى الإمام ليعلمنا ما نجهله فقط، بل الحاجة إليه مع ذلك في تعليم والواجب ومجانبة القبيح، فإن العلم به وإن كان ضروريا، إلا أن فعله متوقع منا عند فقد الإمام، والعلم بجهته لا يمنع من وقوعه فإن أكثر القبايح والمظالم تقع من العالم بها، وكون الإمام لطفا في ارتفاع الظلم لا يلزم منه أن يكون لطفا في كل تكليف حتى في معرفة نفسه.
وأجاب أيضا بأن معرفة الله وثوابه وعقابه لطف في التكليفيات، وليست لطفا في نفسها للزوم الدور، فإذا جاز الاستغناء عنها في نفسها وهي من جملة التكاليف جاز الاستغناء عنها في غيرها وهو محال.
إن قيل: المعرفة بالله وثوابه وإن لم تكن لطفا في نفسها، فالظن بوجوبها يقوم مقامها، فلم ينفك المكلف من لطف تكليفه بها. قلنا: وما يمنع من كون اللطف في معرفة الإمام ظن وجوبها، ولا يجب أن يكون هذا الظن طريقا إلى سائر التكاليف، فلا يستغنى عن الإمام.
13 - جواز خطأ الأمة علة الحاجة إلى الإمام، ولولا كونه علتها لم يكن عدمه علة لعدمها، فكان يجوز مع عدمه ثبوتها إذ لا علية فينفك أحدهما عن الآخر . ويلزم منه ثبوت حاجة الأنبياء مع عدم جواز الخطأ عليهم، فعلة حاجة الأمة و
إن قيل: حاصلكم أن من ثبتت عصمته لا يحتاج إلى إمام فلم لا يكون الله علم أنه متى نصب للمعصوم إماما امتنع من المخالفات أو يكون إلى الامتناع أقرب ومتى خلا فلا.
أجاب المرتضى بما حاصله أنه يلزم من ذلك رفع العصمة عن الإمام المفروض أولا وذلك لا يضرنا لأن اللطف الذي هو الإمام المفروض ثانيا ليوجب عصمة الإمام هو اللطف المفروض أولا لعصمة الأمة لأن إمام الإمام إمام الأمة.
على أن في الاعتراض تسليم حاجة الرعية إلى الإمام لأن المعصوم إذا احتاج إلى الإمام فغيره أولى بالحاجة إلى الإمام، وفي الأولوية نظر لأن المعترض فرض عدم عصمة الإمام وأنه يمتنع من المخالفات لإمام آخر فقوله: إذا احتاج المعصوم فغيره أولى نوع مصادرة والأسد أن يقال: إذا احتاج الإمام المختار للأمة. وإن لم يكن معصوما فالهابط عن منزلته أولى.
تذنيب:
لما قلنا: لو لم يكن جواز الخطأ علة الحاجة لانفكا. قال الرازي:
لا يلزم من عدم الانفكاك الاحتياج كإضافتي الأبوة والنبوة والمماسة والأخوة إذ لو احتاجت إحداهما إلى الأخرى لتقدمت عليها وهو محال، لأنهما يوجدان معا ولأنه إن احتاجت إحداهما إلى الأخرى دون الأخرى ترجح بلا مرجح وإن دار الاحتياج بينهما لزم الدور. قلنا: لا يلزم عن وجودهما معا عدم احتياج إحداهما [ معا ] كما في العلة الموجبة ومعلولها فإنها تقارنه زمانا وحينئذ فاحتياجه إليها دون العكس لا يكون ترجيحا بلا مرجح.
وفي هذا نظر فإن له أن يقول: لا يلزم من وجود متلازمين بينهما علية أن لا يوجدان إلا وبينهما علية وقد ذكرنا في الإضافات عدم العلية فليكن من هذا القسم الإمامة واحتياج الرعية وقد أجابه النصير بجواب ضعفه جمال الدين في ألفيه من أراده وقف عليه واختار أن الإضافات اعتباريات لا تحقق لها خارجا وإلا لزم التسلسل ولا ترد المعارضة بها.
تذنيب آخر:
لما قلنا: الإمام لا يحتاج إلى إمام. قالوا: فعلي احتاج إلى النبي صلى الله عليه وآله وكذا الحسنان إلى أبيهما عليهم السلام. أجاب المرتضى بأنا إنما منعنا حاجة المعصوم إلى الإمام الذي يكون لطفا له في ترك الحرام ولا يلزم منه غناؤه عن إمام يعلمه الأحكام، ويرشده لمصالح الأنام.
14 - الإمام متبوع فيما يفعل ويأمر، وغير المعصوم غير متبوع فيهما، لأنه لا يؤمن من الارتداد وغيره والأمر به، ولا يجوز تكليف الرعية اتباع من يجوز معه هلاكها. ويستقر ذلك بالميزان فنقول: كل إمام يجب اتباعه دايما ولا شئ من غير المعصوم يجب اتباعه في الجملة - فلا شئ من الإمام بغير معصوم دائما، وينعكس إلى: لا شئ من غير المعصوم بإمام.
اعترض القاضي بأن الواجب اتباعه فيما علم من الشرع حسنه لا مطلقا.
قلنا: لو لم يجب إلا فيما علم منه حسنه لزم الدور، ولزم كونه إماما في بعض الدين لا كله وهو محال، قال: لم لا يجوز اتباعه فيما لا يعلم قبحه كالعبد الذي يطيع مولاه فيما لا يعلم قبحه؟ قلنا: المفسدة لزمت من عدم أمن المكلف وهو حاصل فيما لا يعلم قبحه، والعبد المأمور إن لم يتمكن من العلم بالقبح فلا قبح عليه، وإن تمكن لزمه القبح قبل العلم بوجه الفعل، والفرض في الرعية تمكنها من العلم بوجه الفعل المأمور به من الإمام.
قال: يكفي حسن الظاهر كما في إمام الصلاة فإنه يتبع مع تجويز كون صلاته قبيحة في نفس الأمر. قلنا: الصلاة لم يوجد فيها معنى الاقتداء الحقيقي، ولو سلم فهي من التكاليف المنوطة بالظن بخلاف الإمامة.
قال: فالنواب متبوعون فيما لا يعلم القبح فيه مع عدم عصمتهم فكذا الإمام قلنا: النائب عليه معصوم لا يسامحه ويخاف عاقبته، وخطؤه ينجبر بنظر الإمام بخلاف من لا ولاية عليه، ولأن ولاية النايب خاصة لا يلزم عموم فسادها بخلاف الإمامة العامة.
(الفصل الرابع)
وفيه وجوه:
1 - الإمام لا يصح كونه مفضولا لقبح تقديمه على الفاضل، ولا مساويا لامتناع الترجيح بلا مرجح فهو أفضل، فهو معصوم، إذ لو عصى في حال فإن عصى فيه كل واحد من الأمة اجتمعت على الخطأ وإن بقي واحد منها فهو أفضل من الإمام في تلك الحالة فله الاستحقاق، ويخرج الأول، فلا تستقر الإمامة لواحد وهو باطل.
2 - وقوع الخطأ مع عدم الإمام ممكن، فلو أمكن مع وجوده لزم العبث في نصبه، فإن ترجح وقوعه مع الإمام أو وجب لزمت المفسدة في نصبه، وإن ترجح عدمه مع الإمام فإن انتهى الرجحان إلى الوجوب فالمطلوب وإن لم ينته فلنفرض وقوعه في وقت وعدمه في آخر فترجح أحدهما بأحدهما إما لا لمرجح وهو محال أوله فإن أمكن معه الطرف الآخر عاد الكلام وإلا لزم الوجوب.
إن قيل: فهذا لازم في باقي الأمة مع عدم اتصافها بالعصمة، فإن الخطأ من كل فرد إن وجب وقوعه لزمت المفسدة في خلقه، وإن ترجح عدمه ولم ينته إلى الوجوب لزم ما ذكرتم، وإن انتهى إلى الوجوب لزمت العصمة وهو المطلوب.
قلنا: الوجوب هنا بحسب المحمول وهو لا ينافي الامكان والإمام وإن كان الوجوب أيضا في حقه بحسب المحمول إلا أن له من الألطاف الزايدة على الوجوب ما يمنع الوقوع.
3 - الإمام تجب طاعته بالضرورة ما دام إماما وإلا لزم العبث في نصبه، حيث يجبر الله الخلق في اتباعه، وغير المعصوم لا تجب طاعته بالامكان حين هو إمام لجواز عصيانه، فلا تجتمع الإمامة وجواز المعصية، لتناقض الحينية الممكنة والمشروطة العامة.
5 - إجماع الأمة حق والإمام سيدها فلا ينعقد بدونه إجماع لوجوب اتباعه عليها، فقوله وفعله بمنزلة قولها، فإن كانت معصومة فهو أولى بالعصمة منها، و لأنه إما واجب الخطأ فحاله أسوء من حالها أو جائزه فلا رجحان له عليها، أو ممتنعه وهو العصمة المدعى حصولها.
6 - كلما لم تكن العصمة ثابتة في الإمام، أمكن انتفاء وجه وجوب الإمام وكل ما أمكن نفي وجه وجوبه أمكن نفي وجوبه لكن نفي وجوبه محال. فنفي وجه وجوبه محال فنفي العصمة عنه محال.
7 - الإمام يقرب من الطاعة ويبعد من المعصية، وغير المعصوم يمكن فيه عكس ذلك، فلا يصدر من الحكيم، ولا من إجماع الأمة لأنه ضلال.
8 - غير المعصوم في اتباعه ظن الضرر، لغلبة الشهوة عليه، فيجوز أن يدعو إلى مقتضاها، وفي ترك اتباعه ظن الضرر لأنه نصب للارشاد، فيلزم جمع النقيضين أو الخلو عنهما.
9 - كل ما كان نصب الإمام واجبا، كان عدمه أشد محذورا من وجوده بالضرورة، لأن فيه إخلال اللطف، وينعكس إلى: كل ما كان عدمه أشد محذورا كان وجوده واجبا، وكلما لم يكن معصوما كان وجوده أشد محذورا من عدمه بالامكان لجواز أمره بالعصيان، وكل ما كان وجوده أشد محذورا كان عدمه واجبا لأنه يكون لطفا.
11 - لا شئ من الإمام آمر بمعصية بالضرورة، وكل غير معصوم آمر بها بالامكان، فلا شئ من الإمام بغير معصوم بالضرورة.
12 - يمتنع جعل سبب أحد الضدين سببا للآخر، وناصب غير المعصوم جعله سببا للأمر بالطاعة والمعصية.
إن قيل: المعصية ممكنة ولا يلزم من إمكانها وقوعها. قلنا: إمكان اللازم لازم لإمكان الملزوم، وفي هذا نظر إذ لا يلزم من تلازم الامكانين الوقوع، لإمكان وقوع القبايح من الإله بالنظر إلى القدرة، ويلزمه إمكان خروجه عن الحكمة، ولم يقعا.
والأسد أن إمكان وقوع المعصية من الإمام يلزمه عدم الوثوق، فيلزمه عدم الانقياد، فيلزم عدم الفائدة فيه.
13 - الإمامة زيادة تكليف للإمام، ففي كونه غير معصوم زيادة حاجة على الرعية إلى الإمام.
14 - تحصيل الإصابة في أوامر الله ونواهيه مطلوب ضروري، فلو جعل غير المعصوم طريقا إليه، لاستنتجت الضروريات من الممكنات في البرهان وهو محال لما ثبت في الميزان، وبيان أن الإصابة في ما ذكرناه مطلوب ضروري أن الاستقراء والتمثيل ليسا دليلين فيه، ولا الخطابة لاختصاصها بالعوام، ولا الجدل لأنه لا طريق بعده، ولا المغالطة وهو ظاهر، فتعين أن يكون برهانا وهو الإمام فيكون معصوما.
(الفصل الخامس)
وفيه وجوه:
1 - الإمام إن لم يكن لطفا لم يجب نصبه، وهو محال. وإن كان لطفا لنا خاصة أوله خاصة وهو أيضا محال وإلا لكان تكليفنا بطاعته وتكليفه بالقيام بإمامتنا تكليفا للغير للطف الغير، فتعين كونه لنا وله، فنحن نتمكن من طاعته و هو يتمكن من حملنا على التكليف بحيث لا إخلال وهو يوجب عصمته.
2 - قد ظهر في علم الكلام أنه يقبح جعل لطف شخص من أفعال الآخر و هو يضره لأنه ظلم والإمام غير المعصوم تكليفه بالإمامة لطف لنا وهي تضره لأن قيامه بها يمنعه من إمام آخر يكون لطفا له، فإن كان له إمام آخر تسلسل، و إن لم يكن خلا بعض المكلفين عن اللطف، ولزم الترجيح بلا مرجح.
3 - إما كل واحد من الناس معصوم، أو لا شئ منهم بمعصوم، وهما باطلان بالضرورة لقوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين(1)) فتعينت عصمة البعض، فهو إما غير الإمام وهو محال لقوله تعالى:
(أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع(2)) الآية ولأن الاحتياج إلى عصمة الإمام أكثر لتأثيرها فيه وفي غيره بخلاف عصمة غيره، فبقي أن يكون المعصوم هو الإمام وحده، أو هو مع غيره وفيهما المطلوب من عصمته.
4 - عدالة المكلف وقيامه بالواجبات معلول لعدالة الإمام كذلك، فتجب عدالته في كل وقت وهي العصمة، إن قيل: لم لا يجوز أن يكون عدالة الإمام علة معدة فلا يجب حصولها، قلنا: العلة المعدة إما معدة لوجود معلولها كأجزاء الحركة وهذه لا بد من وجودها، أو معدة لعدمه، فعدالة الإمام يمتنع كونها معدة
____________
(1) الحجر: 42.
(2) يونس: 35.
5 - قول الإمام وفعله دليل، وكل دليل يمتنع معه نقيض المدلول، وإلا لم يكن دليلا، فقول الإمام وفعله يمتنع نقيضه وذلك هو العصمة.
6 - وجه الحاجة إلى الإمام جواز خطأ الرعية، فلو جاز خطاؤه جاز إلزامه للمكلف بالخطأ، فيكون قد أكد وجه الحاجة، فلا يمكن نصبه لدفع الحاجة، بل ونقول في نصبه مفسدة، لأن غير الإمام لا يمكنه الالزام بالخطأ والإمام غير المعصوم يمكنه الالزام بالخطأ فيقع ويكثر، فقد حارب معاوية عليا وأمر بسبه فسب دهرا وأمر بإخفاء فضائله بالأقطار، ونهى الناقلين عن إيراد ما فيها من الأخبار وتظاهر ابنه يزيد الملعون المثبور، بشرب الخمور، وأفعال الفجور، وخراب البيت المعمور، ونهب مدينة الرسول، وقتل الحسين ابن البتول، وأولاده وإشهار كريمه وكريماته في بلاده وأجناده.
تذنيب:
خطأ المكلف على غيره أشد في المفسدة من خطاءه على نفسه، و الإمام غير المعصوم خطاؤه على غيره ونفسه، فتركه بغير إمام أشد محذورا من ترك الرعية، ولا يليق من الحكيم تعالى النظر للمرجوح وإهمال الراجح.
7 - قد بينا وجوب نصب الإمام ووجوب اتباعه، والواجب لا بد من اختصاصه بصفة تزيد على حسنه، لامتناع الترجيح بلا مرجح، وتلك الصفة هي كون أفعاله وأقواله صوابا دائما، وذلك مسبب عن العصمة.
8 - علي أفضل من الملائكة، لدخوله في آية الاصطفاء، والملائكة معصومون لقوله تعالى:) لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون(1)).
إن قيل: هذه لا تفيد العموم. قلنا: يصح إخراج أي فرد كان وهو مسبار العموم، ولقوله تعالى (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).
(يسبحون الليل والنهار لا يفترون(2)) ولأنهم لو كانوا عصاة لما حسن منهم
____________
(1) التحريم: 6.
(2) الأنبياء: 27، 20.
9 - نصب الحدود واجب لدفع المعاصي إجماعا، ولا يقيمها إلا الإمام اتفاقا فهو معصوم التزاما، لأن غيره يجوز تركها منه، فيكون ذلك تناقضا، ولهذا رفع عمر الحد عن المغيرة بن شعبة بحكم الهواء، وكان كلما لقيه يقول: قد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء.
10 - الرئاسة العامة لغير المعصوم دفعها واجب، لوجود الخوف فيها لتجويز خطاءها، ولا شئ من الإمام دفع رئاسته واجب، فلا شئ من غير المعصوم بإمام.
11 - غير المعصوم مانع من ألطاف الإمام بالامكان، ولا شئ من الإمام بمانع من ألطاف الإمام بالضرورة، لأنه نصب لها فلا يكون مانعا منها، فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة، لما بينا في المنطق أن نتيجة هذا الضرب ضرورية ولئن سلمنا سلب ضروريتها فهي دائمة، وفي دوامها يتم المراد ويسقط الايراد.
12 - كل إمام مصلح بالضرورة، ولا شئ من غير المعصوم بمصلح بالامكان فلا شئ من الإمام بغير معصوم.
13 - غير المعصوم غاو بالامكان، ولا شئ من المعصوم بغاو بالضرورة، لأنه لدفع الغي فلا يتصف بالغي فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة.
14 - عدم المعصوم يلزمه المحال، وهو صدور الذنب المسبب عن إضلال الله عند الخصم، (ومن يضلل الله فما له من هاد(1)) وهذا سالبة كلية صادقة، * فلو
____________
الرعد: 135.