قالوا: جهر بشتمة رجال في القنوت. قلنا: تظافرت الروايات أن النبي كان يلعن في قنوت الصبح قوما من أعدائه بأسمائهم أربعين صباحا فكان يقول: (اللهم العن رعلا وذكوان، والعن الحدثين من أسد وغطفان، والعن أبا سفيان والعن سهيلا ذا الأسنان) قالوا: أجاز شهادة الصبيان. قلنا: قد أجازها جماعة من الصحابة والتابعين فقد روى مالك بن أنس أن ابن الزبير كان يقضي بشهادتهم فيما بينهم من الجراح وقال مالك أيضا: المجتمع عليه عند أهل المدينة جواز شهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح قبل تفرقهم ولا يجوز على غيرهم، وقال عروة: تقبل شهادة بعضهم على بعض، ويؤخذ بأول قولهم، ورواه ابن أبي الزياد عن أبيه أنه من السنة، ورواه عن عمر بن عبد العزيز وكان أيضا يجيزها مروان وابن شهاب وربيعة وشريح في ذلك.
قالوا: فيها مخالفة (وأشهدوا ذوي عدل(2)) قلنا: لا يدل التخصيص بالوصف على التخصيص بالحكم، وقد قبل النبي شهادة خزيمة وحده، وشهادة واحد مع اليمين، وأمر الله بشهادة الكفار على الوصية.
قالوا: سأل عبيدة السلماني عليا عليه السلام من بيع أمهات الأولاد، فقال: كان رأيي ورأي عمر ببيعهن وأما الآن أرى أن لا يبعن. قلنا: قال الشيخ المفيد: قد أطبق الفقهاء ونقاد الآثار على بطلانه، ولو سلم جاز كون كلام علي في زمان عمر للتقية وخوف الفتنة، وقد أمضى النبي أحكام الكفار عام الحديبية للمصلحة، و ليس لهم حمل اختلاف أبي بكر وعمر على ذلك، لأنهم أهل الشوكة.
قالوا: نقل الجاحظ عن إبراهيم أن عليا اختلف قوله في الجد كأبي بكر قلنا: هذا تخرص وبهت. إذ لم يختلف من أهل الآثار في ذلك اثنان.
____________
(1) ص: 44.
(2) الطلاق: 2.
قالوا: قال لقضاته بعد مصير الحكم إليه: اقضوا كما كنتم تقضون، فإن كان القضاء الماضي حقا فلا عتب على الماضين الآمرين به، وإن كان باطلا بطلت عصمة الآمرين به. إذ لا تقية حينئذ. قلنا: إنما قال ذلك - وإن كان الحكم له - لأن الأمة قد كانت اعتادت تلك، واطمأنت نفوسها إلى حقيتها، ولهذا أراد أهل الشورى بيعته على سيرة الشيخين، فلما أبى إلا على كتاب الله انصرفوا عنه وعن كتاب الله إلى سيرتهما، فقال ذلك للقضاة لاستصلاح الرعية وقد علل ذلك في قول (حتى يكون الناس جماعة) فلما قتل الطوائف الثلاث وخمدت الفتنة، غير بعض ما كان.
قالوا: فلم لم يغير الكل: قلنا: ربما لم يخف من إظهار الخلاف في البعض كما يخاف في الكل وربما كانت الشبهة على الاتباع في المتروك أشد منها في الآخر.
قالوا: أكره الزبير وطلحة على البيعة. قلنا: لا، بل إنما بايع الناس بعد أن ألحوا عليه، وقد قال في خطبة له: فتداك الناس علي كتداك الإبل على حياضها وحتى وطئ الحسنان وشقت أعطافي. وفي موضع آخر: ينثالون إلي كعرف الضبع، والعامة تروي أنه قال لهما: امددا أيديكما أبايعكما فإنني أكون لكما وزيرا خير من أن أكون لكما أميرا فأول من بايعه طلحة، وقال الأسدي: أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين يد شلاء يوشك أن لا يتم هذا الأمر، فكيف الاكراه مع هذه المسارعة.
قالوا: قتل عثمان: قلنا: قد علم من سمع الأخبار أنه لم يقتل عثمان، بل أنفذ ابنه الحسن ليسقيه الماء وهو ظمآن، وإنما تولى قتله طلحة والزبير في جماعة
قالوا: كان يحدث بالمعاريض ويدلس حين قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فهو كما حدثتكم وإذا سمعتموني أحدث فيما بيني وبينكم فإنما أنا رجل محارب والحرب خدعة، ولعل قوله أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين و قوله في ذي الثدية ما كذبت ولا كذبت كان برأيه للخدعة، ولعل الشئ الذي كان يراه حقا استجاز إسناده إلى الله ورسوله لأنهما أمرا بكل حق.
قلنا: لا تدليس فيه وقد أفصح عن المراد منه، وفرق بين الحديثين بأن ما حدث عن الرسول فهو كما حدث وإذا حدث عن نفسه فله وجه تأويل وقد يضطر الإمام إلى معاريض الكلام ويجري ذلك مجرى متشابه القرآن، وإخباره بقتال الطوايف كان وهو متوجه إلى قتال طلحة والزبير فإن قوما أشاروا بالكف عنهما فأضاف إلى النبي الإخبار بقتالهما، وقال: أما والله لقد علم أصحاب محمد وهذه عايشة فاسألوها أن أصحاب الجمل، والمخزج اليد، ملعونون على لسان النبي الأمي وقال: لا أجد إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل على محمد، فكيف يكون عن رأيه وقد استشهد عايشة بلعنه أصحابها مع كونها من أكبر أعدائه.
هب: أنه علم حال الناكثين فكيف أخبر عن حال القاسطين والمارقين؟ ولم يظهر منهم في حال الإخبار ما يخالف الدين.
إن قالوا: كان إخباره ترجيما وظنا فأصاب. قلنا: هذا يسقط أخبار الأنبياء بالغيوب، لجواز كونه عن ترجيم فأصابوا، وفي هذا خروج عن الاسلام.
تذنيب:
أكثر ما أوردته في هذا الفصل من الاعتراض والكلام ما حكاه المفيد في محاسنه عن الجاحظ عن النظام، والجواب له رحمة الله عليه ورضوانه لديه وقد قال الجاحظ في آخر فصل حكاه عن النظام في الفتيا: وكان إبراهيم من حفاظ الحديث مع ذهن حديد ولسان ذرب، يتخلص به إلى الغامض، ويحل به المنعقد وهو مع ذلك يخطئ خطأ الغمرية، ويخبط خبط السكران، ويجمع بين السقطة والغفلة والحزم والإضاعة، قال جاحظ عقيب هذا الفصل: وقول إبراهيم لم يعمل به مسلم.
(الباب السابع)
* (في شئ مما ورد في فضائله عليه السلام المنبهة على تعديله) *
واعلم أن ما نذكر منها قطرة من بحار متلاطمة أمواجها، وشذرة من قطار متلازمة أصولها وإنتاجها، نشت حيث ارتضعت عن حكمة رب الجلالة، وفشت حين تكلمت بهداية المخصوص بالرسالة، فحصر كل باغ الاحصاء عن حصرها، و قصر كل باع الاستقصاء من قصرها، فمن رام ذلك فقد رام مس الشمس، ورد ما فات بالأمس، وبالجملة فهذا باب واسع لا يتأدى لموافق حصره، ولا يتهيأ لمنافق ستره، وقد روى مسلم والبخاري حديث خروج النبي في مرضه إلى عزل أبي بكر عن صلاته أنه خرج بين رجلين أحدهما الفضل ورجل آخر وكان عليا فلم تذكره عايشة باسمه طلبا لإعفاء رسمه.
وقال معاوية لابن عباس: كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي فكف لسانك، قال أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: فعن تأويله، قال: نعم، قال:
أفنقرأه ولا نسأل؟ قال: سل عن غير أهل بيتك، قال: فإنه منزل علينا أفنسأل غيرنا أتنهانا أن نعبد الله فإذن تهلك الأمة قال: اقراؤا ولا تأولوا ما أنزل الله فيكم فقال:
(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم(1)) ثم نادى: برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي.
وقال ابن شداد الليثي: وددت أن أحدث بفضائل علي يوما وأن عنقي ضربت فكانوا يقولون: قال رجل من قريش ويقول ابن أبي ليلى: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ويقول الحسن: قال أبو زينب. وسئل ابن جبير عن حامل اللواء فقال: إنك لرخي البال.
قال ابن شهرآشوب: صاحب المصالت، قيل: الزم السنة تدخل الجنة قال:
____________
(1) الصف: 8.
وكتب معاوية إلى عماله لا تجيزوا شهادة شيعي. وقال بعض الشيعة لمالك:
كم جزية ذمي. قال: دينار، قال: فهنا ديناران على أن أذكر الحق فأبى.
قال المعتمر بن سليمان: سمعت أبي يقول: كان في أيام بني أمية ما أحد يذكر عليا بخير إلا قطع لسانه، وفي كتاب المبرد كانوا يرجمون أبا الأسود الدئلي بالليل فشكاهم إلى رؤسائهم، فقالت العامة: الله يرميه، فقال: لو رماني لما أخطأني.
واجتمعوا لقتل رجل قال علي خير من معاوية وقتل.
تذنيب:
ذكر الراوندي في خرائجه في خبر طويل عن الأعمش أنه صلى إلى جانب رجل فلما سجد سقطت عمامته فإذا رأسه رأس خنزير فسأله عنه فقال كنت مؤذنا وكلما أصبحت لعنت عليا ألف مرة فلعنته يوم جمعة أربعة آلاف ونمت فرأيت القيامة والنبي وعليا وولديه يسقون الناس فقال لي النبي صلى الله عليه وآله عليك لعنة الله أتلعن عليا؟ ثم بصق في وجهي وقال: قم غير الله ما بك من نعمة فانتبهت كما ترى.
وقد بذل معاوية لسمرة بن جندب أربع مائة ألف درهم على يجعل قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها(1)) في علي (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(2)). في ابن ملجم ففعل ذلك، ذكره السيد ابن طاووس في الرد على الجاحظ، وقال الشعبي: كنت أسمع خطباء بني أمية يسبون عليا فكأنما يشال بضبعيه إلى السماء، ويمدحون أسلافهم فكأنما يكشفون على جيفة.
وقال بعض البلغاء: أصبح المختلفون مجتمعين على مدحه فيقول العدو
____________
(1) البقرة: 205.
(2) البقرة: 207.
وأسند ابن مردويه في كتاب المتون إلى عائشة كان أبو بكر يديم النظر إلى علي فقيل له في ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: النظر إلى علي عبادة، و روى نحوه ابن مسعود ومحمد بن حصين وجابر وأنس وأبو هريرة عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وآله وروت نحوه معاذة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله.
فقد سخر الله خلقه لنقل فضائله وما فيه الحجة عليهم من دلائله، فصنف ابن جرير كتاب الغدير، وابن شاهين كتاب المناقب، وابن [ أبي ] شيبة كتاب أخباره وفضائله، والجاحظ كتاب العلوية في فضايل بني هاشم على بني أمية، و الأصفهاني كتاب منقبة المطهرين وما أنزل من القرآن في أمير المؤمنين، وأبو - المحاسن الرؤياني كتاب الجعفريات والموفق المكي كتاب الأربعين في فضائل أمير المؤمنين، وابن مردويه كتاب رد الشمس في فضائل أمير المؤمنين، والشيرازي نزول القرآن في شأن أمير المؤمنين، والمؤذن كتاب الأربعين في فضائل فاطمة، و ابن حنبل مسند أهل البيت والنطنزي [ في ] الخصائص العلوية على سائر البرية وابن المغازلي كتاب المناقب، والبستي كتاب المراتب، والبصري كتاب الدرجات، والخطيب كتاب الحدائق.
وفي حديث الدوانيقي كم تروي في علي حديثا فقال: عشرة آلاف، قال رجل لابن عباس ما أكثر مناقب علي إني لأحسبها ثلاثة آلاف، فقال أولا تقول:
هي إلى ثلاثين ألف أقرب.
قال المرتضى: سمعت عمر ابن شاهين وهو شيخ مقدم في الرواية يقول: جمعت من فضائل علي ألف جزء، وقال ابن حنبل ما جاء لأحد من الصحابة ما جاء لعلي وروى المطرزي عن الخوارزمي مسندا إلى ابن عباس قول النبي صلى الله عليه وآله: (لو أن الغياض أقلام، والبحار مداد، والجن حساب، والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي ابن أبي طالب).
[ أبا حسن لو أن ذا الخلق تاجروا | بحبك يا مولاي ما كان أخسروا |
ولو كانت السبع السماوات كاغدا؟ | وكانت بعون الله تطوى وتنشر |
وكانت جميع الإنس والجن كتب | وكان مداد القوم سبعة أبحر |
ولو كانت الأشجار جمعا بأسرها | تقصص أقلام وتبرى وتحضر |
لكلت أياديهم وأفنى مدادهم | وما حصلوا معشار من فضل حيدر ] |
وأسنده ابن شهرآشوب إلى الزمنى إلى الليث إلى مجاهد إلى ابن عباس وروى الخوارزمي عن الصادق عليه السلام قول النبي صلى الله عليه وآله (جعل الله لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى، فمن ذكر له فضيلة مقرا بها غفر الله له [ ما اكتسب ] ولو وافى القيامة بذنوب الثقلين، ومن كتبها لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام لكتابته رسم، ومن استمع إليها غفر له ما اكتسب بالسماع، ومن نظر إلى كتاب في فضائله غفر الله له ما اكتسب بالنظر) وقد عرفت نقل الفريقين، وشهادة الخصمين.
قال ابن عبد البر: فضائله لا يحيط بها كتاب، ونحوه قال النشوي والخطيب الخوارزمي، فهذه الشهادة خرق العادة حيث صدرت من المايل إلى الكتمان واستمرت على مرور الأزمان.
نشرت حيلة قريش فزادته | إلى صحة القيامة قيلا |
وروى فضله المعاند حتى | زاده ما روى علوا ونبلا |
وقال الآخر:
شهد الأنام بفضله حتى العدا | والفضل ما شهدت به الأعداء |
فتلألأت أنواره لذوي النهى | وتزحزحت عن غيها الظلماء |
يروي مناقبهم لنا أعداؤهم | لا فضل إلا ما رواه حسود |
وإذا رواها مبغضوهم لم يكن | للعالمين على الولاة محيد |
وسأذكر فصلا مفصلا فيه انتساب فرق العلماء إليه، وإحاطته ما يعتمد الحكماء وغيرهم من الفضلاء عليه.
نطقت بوحي الله فيك خصائص | خير الأنام نذيرها وسفيرها |
ما عصبة إلا وأنت وليها | وكذاك مولاها وأنت أميرها |
ما أقول في رجل أقر له بالفضل من خصمه، ولم يمكنهم جحد مناقبه، مع استيلاء بني أمية على الأرض، واجتهادهم في إطفاء نوره، ولعنه على منابرهم، ووضع معايبه، وقتلوا مادحيه وحبسوهم عن رواية حديث يعليه، فما زاده ذلك إلا سموا فكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره، تعزى إليه كل فضيلة، وتتجاذبه كل طائفة، كل من نزع من الفضايل بعده، فله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، ومن كلامه اقتبس العلم الإلهي، وإليه إنتهى.
فالمعتزلة الذين هم أهل هذا الفن تلامذته لانتسابهم إلى واصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وهو تلميذ أبيه، والأشعرية ينتمون إلى أبي الحسن وهو تلميذ أبي علي الجبائي المعتزلي، فرجع علمهم إلى علي عليه السلام، والإمامية والزيدية انتسابهم واضح إليه.
وعلم الفقه فكل فقيه عيلة عليه، وقد قرأ مالك على ربيعة، وربيعة على عكرمة، وعكرمة على ابن عباس، وهو تلميذ علي. وابن حنبل قرأ على الشافعي والشافعي على محمد بن الحسن من أتباع أبي حنيفة، وأبو حنيفة على الصادق، و انتهى الأمر إلى علي عليه السلام.
وعلماء الصحابة ابن عباس وقد علمت أنه تلميذه، وعمر بن الخطاب وقد عرف رجوعه إليه فيما أشكل عليه، حتى قال: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن وقد روى الخاص والعام قول النبي صلى الله عليه وآله له لما بعثه قاضيا إلى اليمن: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فقال: ما شككت بعدها في قضاء، وقال ارتجالا على المنبر: صار ثمنها تسعا وسيأتي قريبا.
والتفسير فهو مأخوذ عنه وعن ابن عباس وقد قيل له: أين علمك من علم علي قال: كقطرة في البحر المحيط.
وعلماء الطريقة ينسبونها إليه والخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم مقصورة
1 - لما حركت الهيكل ودبرته، علمنا أنه لا بد للعالم من محرك ومدبر.
2 - دلت وحدتها على وحدته.
3 - دل تحريكها للجسد على قدرته.
4 - دل اطلاعها على ما في الجسد على علمه.
5 - دل استواؤها إلى أعضائه على استوائه إلى خلقه.
6 - دل تقدمها عليه وبقاؤها بعده على أزله.
7 - دل عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به.
8 - دل عدم العلم بمحلها من الجسد على عدم أينيته.
9 - دل عدم مسها على امتناع مسه.
10 - دل عدم إبصارها على استحالة رؤيته.
وقال أيضا: صور الله آدم صورة مدنية أتقن فيها من المباني ما يدل على قدرة الباني، وحرك فيها مثالث ومثاني يشير بأن ليس له ثاني، ونصب وسطها قصر المملكة وهو القلب إذ هو بيت الرب وجعل مدارها عليه، ومرجعها إليه، و وضع فيه سرير العز والسلطان، وأجلس عليه ملكا يقال له الإيمان، وبث في خدمته الجوارح كالغلمان، فقال اللسان أنا الترجمان، والعينان نحن الحارسان والأذنان نحن الجاسوسان، واليدان نحن العاملان، والقدمان نحن الساعيان وقال الملكان نحن الشاهدان. وقال صاحب الديوان كما تدين تدان.
ثم قال أيها الملك: انظر إلى رعيتك بعين الرحمة، واقسم بكل ما تقيم به رسمه، فقال الملك: بل انظر أنت في الرعية، وأزل عنهم الشكية فقالت اليدان علي جمع الآلة، والأسنان أنا أطحن وأعزل النخالة، والريق أنا أعجن وأتولى إلى المعدة إنزاله، والمعدة أنا أطبخ وما أزيد على ذلك عمالة، والكبد أنا آخذ الصافي وأترك الحثالة، والقدرة أنا أفرقه بالعدالة إلى كل عضو ما يطيق احتماله.
ثم نادى منادي الفيض: يا معشر الرعية! قد أقسم الملك بالألية، أن من عدل عن الطريق السوية، وكفر نعمة العطية، وأنفقها في الخطية، فقد أفسد النية، ونقض البنية، وأولئك هم شر البرية.
واعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات، حتى تقطع ست عقبات:
1 - فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية، فتشرف على ينابيع الحكمة العقلية.
2 - فطم النفس عن المألوفات العادية، فتشرف على سرائر العلوم الربانية.
3 - فطم القلب عن الرعونات البشرية، فتشرف على أعلام المناجاة الملكوتية.
4 - فطم النفس عن الكدورات الطبيعية، فتشرف على أنوار المنازلات القرينية.
5 - فطم الروح عن البخارات الحسية، فتشرف على أقمار المشاهدات الحبيبية.
6 - فطم العقل عن الخيالات الوهمية، فتهبط على رياض الحضرة القدسية فهنالك تغيب مما تشاهد من اللطائف الأنسية، عن الكثائف الحسية.
وقال شقيق لإبراهيم بن أدهم: كيف تعملون؟ قال: أعطينا شكرنا، و إن منعنا صبرنا، قال: فأنتم؟ قال: إذا أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا، ولقي السقطي رجلا جليلا فسلم عليه سلاما ناقصا فقيل له في ذلك، فقال: روي عن النبي صلى الله عليه وآله: إذا التقى المسلمان قسم بينهما مائة رحمة تسعة وتسعون لأبشهما فأردت أن يكون معه النصيب الأكثر، فهذا ونحوه قطرة مما استنزع من علم علي عليه السلام وزهده وإيثاره، وليس التصوف المنسوب إليه ما يفعله المغنيون والرقاصون بليالي العبادات، في بيوت الصلوات فما أحسن ما وصف من رقصهم لإظهار نقصهم:
أيا جيل التصوف شر جيل | لقد جئتم بشئ مستحيل |
أفي القرآن قال لكم إلهي | كلوا مثل البهائم وارقصوا لي |
ولقد رأيت كتابا مصنفا في معايبهم، وكشف الستر عن حيلهم، التي يوهمون بها على أتباعهم، أنهم بالقرب من ربهم.
قالوا: ضرب بنات النجار بالدف بحضرته عليه السلام لما قدم المدينة وغنت:
طلع البدر علينا | من ثنيات الوداع |
وجب الشكر علينا | ما دعى لله داع |
أنت يا مرسل حقا | جئت بالأمر المطاع |
جئتنا تسعى رويدا | مرحبا يا خير ساع |
يا نبيا من ضياه | أشرقت كل البقاع |
فطرب النبي صلى الله عليه وآله ووهب لهن عمامته، ورقصت الحبشة في مسجده فظلل على عائشة لتتفرج على ذلك، وأنشد شخص بحضرته:
لسعت حية الهوى كبدي | فلا طبيب لها ولا راقي |
إلا الحبيب الذي كلفت به | فإنه منيتي وترياقي |
فتمايل صلى الله عليه وآله وسقط رداؤه من أعلاه فتقاطعوه تبركا.
قلنا: هذا كله من زخاريفكم الفاسدة، وسخرياتكم الواردة، وقد عاب الدف ابن حنبل وأبو حنيفة.
قالوا: روى بريدة أن جارية قالت له عليه السلام بعد رجوعه من غزاة كنت نذرت إن رجعت سالما أضرب بين يديك بالدف وأنغنى، فقال: إن كنتي نذرتي فاضربي وإلا فلا، فضربت فدخل أبو بكر ثم علي ثم عثمان وهي تضرب فدخل عمر فوضعت الدف تحت استها وقعدت، فقال النبي صلى الله عليه وآله: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، أخرج ذلك الترمذي في صحيحه.
قلنا: لا يخفى ما فيه من القول بالباطل، إذ لو نذرت الزنى أو غيره لأباحه لها وحاشاه أن يرضى بذلك وفي قوله (وإلا فلا) نهي صريح وهو للتحريم وكيف يصير النذر الحرام مباحا وفي قوله (إن الشيطان يخاف منك يا عمر) تصريح بأنه فعل الشيطان، وتفضيل لعمر على النبي ومن حضره، وقد روى العبدي في آداب الكتاب أنه عليه السلام قال: (من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة) وأخرج البخاري قول عمر: أمزمار الشيطان عند رسول الله؟
وفي تظليله على عائشة للتفرج نقص لا يرضى به الأدنى، فضلا عمن لا ينطق عن الهوى، وقد وافقوا على تحريم نظر المرأة إلى الرجال في قوله عليه السلام. أعمياوين أنتما، كيف ويعارض حديثهم قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية(1)) وقوله (ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة(2)) والطرب المذكور جاز كونه لإقرارهن بنبوته لا للدف بحضرته، على أن الطرب مشترك بين الحزن والسرور قال شاعر:
____________
(1) الأنفال: 35.
(2) الجمعة: 11.
وقالوا قد بكيت فقلت كلا | وهل يبكي من الطرب الجليد |
فيحمل طربه على كراهته.
إن قيل: فهبة العمامة تدل على رضاه. قلنا: لا، إذ جاز أن يكون ليسر عن الانصراف عنه، كما أن الله تعالى يحب قضاء حاجة الكافر كراهية منه لسماع صوته كما جاء في الحديث النبوي.
(الفصل الثاني)
ولنرجع إلى النمط الأول من ذكر فضائله عليه السلام.
فعلم النحو أملا على أبي الأسود جوامعه وهذا يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بحصر الكلام في الثلاثة، والإعراب في الأربعة، وأما أحواله في الحروب فبها تضرب الأمثال، بأفواه الأولياء والأعداء من الرجال، فإنه لما دعى بصفين معاوية ليبارزه ليستريح الناس، فيقتل أحدهما وتقصر الفتنة بينهما، قال ابن العاص: قد أنصفك، قال: غششتني أتأمرني بمبارزته وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق.
وانتبه يوما فرأى ابن الزبير تحت رجليه فقال: لو شئت أن أفتك بك لفعلت قال: شجعت بعدنا؟ قال: وما تنكر من شجاعتي، وقد وقفت بإزاء علي بن أبي طالب في الصف؟ قال: لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.
وافتخرت أخت عمرو بقتله أخاها فقالت:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله | بكيته أبدا ما دمت في الأبد |
لكن قاتله من لا نظير له | وكان يدعى أبوه بيضة البلد |
وطلب المشركون ببدر الأكفاء، فخرج وأرداهم وكان النصر بقتلهم، قال بعض الفضلاء فيهم:
أردى ببدر قروم المشركين وقد | عتوا بضرب يقد الهام كالشعل |
ما بارزوا فارتضوا قرنا سواه لكي | يروا به العذر عند اللوم والعذل |
كأنما رام قتلاه الفخار به | فما التقوا غيره والعمر في مهل |
ما كان يبرز في حرب إلى بطل | إلا ويبطل منه حيلة البطل |
وأي مشهد حرب لم يروه به | قطبا يدير رحا حرب بلا وجل |
وفي الحديث: كانت ضرباته وترا. قال ابن قتيبة في المعارف: ما صارع أحدا إلا وصرعه، أقول: إن أهل الذمة مع تكذيبهم بالنبوة يحبونه، والفلاسفة مع معاداتهم للملة يعظمونه، والفرنج والروم تصور صورته في بيعها وملوك الترك و الديلم على أسيافها تضعها، وكانت على سيف عضد الدولة وابنه، وعلى سيف أرسلان وابنه، كأنهم بها يتفألون، وللنصر بها يطلبون.
وبالجملة فكل شجاع ينتهي إليه ويعول في انتصاره عليه، وقال الجاحظ:
ليس في قتل الأقران فضيلة للرئاسة، إذ ليس المقاتل في منزلة الرئيس وإلا لكان النبي مرؤسا لعدم قتاله. قلنا: في هذا تصغير لأمر الجهاد، ورد على القرآن في قوله (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما(1)) ولم يكن لأبي بكر رئاسة والنبي حاضر مختص بها غني عنه وعن غيره فيها على أنا لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقاتل، وقد قاتل بأحد وغيرها وقد قال علي عليه السلام: كنا إذا أجم البأس(2) اتقينا برسول الله.
قال: الشجاع قد يترك النزال لمعان أشرف منه. قلنا: فهربه في خيبر [ عنه ] كان لمعان أشرف منه! هي انكسار قلوب المؤمنين! ونزول الغم بسيد المرسلين!
حين ألبس بهزيمته جلابيب المذلة لرايته، واقتفى عمر أثره في وصمته، على أن ما ذكر يسري في العبادات، فيقال: إن تاركها أفضل من فاعلها لمعان أخر أشرف منها، وقد كان الرئاسة لأمير المؤمنين بصفين وغيرها، وقد قاتل بنفسه فيها.
____________
(1) النساء: 94.
(2) وفي النهج: كنا إذا احمر البأس.
قال الشعبي: ما قال لسايل قط: لا، وناهيك بما أتى في هل أتى حين إيثاره بالطعام ثلاثا مع صيامه تلك الأيام، ونزل فيه (الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا وعلانية(1)) لما تصدق بأربعة دراهم والمخالف يزعم أن أبا بكر أنفق أمواله على النبي الذي هو أفضل من المسكين واليتيم والأسير، ولم ينزل فيه شئ يسير، وذلك إما لعدم الإنفاق في نفسه، أو لعدم الاخلاص فيه.
وأما الحلم فقد صفح يوم الجمل عن مروان وكان أعدى الناس عداوة له في كل أوان، وعن ابن الزبير مع شتمه لعلي جهارا، وكرم عائشة بتجهيزها إلى المدينة في عشرين امرأة عليهن لبس الرجال فقالت في الطريق: هتك ستري برجاله فلما وصلت إلى المدينة ألقين العمائم وقلن: نحن نسوة، وعفى عن أهل البصرة و الأحقاد لم تبدد، وموجبات المؤاخذة لم تشرد، وصفح عن معاوية وأصحابه حين ملك الماء بعد أن منعوه منه.
وأما الفصاحة فمنه تعلم الناس الكتابة والخطابة، ولا يخفى ما له من مفرد الكلام ومركبه، حتى اعتنى العلماء بشروحه، والنظر في كشف أسراره، كنهج البلاغة وغيره، وقد أطنب الجاحظ في كتاب البيان، في مدح علي في هذا الشأن.
وأما حسن الأخلاق، فهو المضروب به المثل على الاطلاق، قال ابن العاص:
(إن به دعابة) أخذه من قول عمر لما عزم على استخلافه: (لله أبوك لولا دعابة فيك) قال صعصعة: كان فينا كأحدنا في لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، و قال معاوية: رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة.
وأما زهده فهو أحد الأبدال العظام، فلم يشبع قط من طعام، يلبس الغليظ القصير، ويأكل جريش الشعير، وكان من كرامته أن الجوع لم ينقص من قوته
____________
(1) البقرة: 274.