الصفحة 163
ولم ينقض أيده، وناهيك بنهج البلاغة في ذلك وغيره.

فمنه: والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، وأجر في الأغلال مصفدا أحب إلي من ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، أو غاصبا لشئ من الحطام، وكيف أظلم وأجل النفس يسرع إلى البلا قفولها، ويطول في الثرى حلولها.

ومنه: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت، وإن دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جراذة تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى، ولذة لا تبقى؟

ومنه: والله إن دنياكم عندي أهون من عراق خنزير في يد مجذوم.

دل هذا وغيره على غاية زهده، مع أن الدنيا بأسرها في يده لما أتقن من أصول الكيميا لما يأتي مما نقلته عنه الفضلاء.

أما غيره فزهده في الدنيا تابع لزهدها فيه فهو منقاد قهرا إليه بخلاف من أعرض عنها بحسب اختياره، كما تمدح به في بعض أشعاره:


دنيا تخادعني كأني لست أعرف حالهامدت إلى يمينها فرددتها وشمالها

ورأيتها محتاجة فوهبت جملتها لها

قال الجاحظ: أبو بكر أزهد منه مات عن بعير وعبد مع كثرة الفتوح و الغنايم، ولم يتزوج من ذلك امرأة ولا اتخذ منه سرية وعلي مات عن مزارع و نخيل وأزواج وسراري. قلنا: أما زهد علي في مطعمه وملبسه فظاهر أنه لم يلحقه أحد إليه، ولا قارب ما اشتمل عليه، ولم يخلف سوى سبع مائة درهم يشتري بها خادما، وما كان له في حياته فلا خفاء أنه صرفه في صدقاته، وما ذكره من كثرة نسائه ففيه تعريض بالنبي صلى الله عليه وآله حيث مات عن تسع، وقد قال سفيان بن عيينة: كثير النساء ليس من الدنيا فإنه لم يكن أحد من الصحابة أزهد من علي وكان له سبعة عشر سرية، وأربع نسوة.


الصفحة 164
وأما العبادة فكان أكثر الناس صلاة وصياما، ومنه تعلموا الأوراد ليلا حتى بصفين ليلة الهرير وضع له بين الصفين نطع فصلى عليه، والسهام تقع بين يديه، وتمر على صماخيه، فلا يرتاع لها، ولا ينتقل عنها، ومن تأمل مناجاته لربه، وخشوعه لهيبته، فهم أنها خرجت عن قلب مخلص، ولسان محق.

وأما القرآن فاتفقوا على أنه كان على عهد النبي يحفظه وقالوا ما تأخر عن بيعة أبي بكر إلا لجمعه، والقراء يرجعون إليه، فإن أبا عمرو وعاصم وغيرهما أخذوا القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وهو تلميذه عليه السلام.

وأما قوة الرأي فكان أسد الناس رأيا ولقد أشار على عثمان بصلاحه لو قبل ذلك ما قتل، وإنما قال أعداؤه: لا رأي له. لأنه كان مقيدا بالشريعة دون غيره وقد قال: (لولا الدين لكنت أدهى العرب).

وأما السياسة فكان خشنا في ذات الله لم يراقب ابن عمه في عمل ولاه، وجبه بكلامه عقيلا أخاه، وحرق بالنار قوما وصلب آخرين، وقطع قوما ونقض دور آخرين، ومن أكثر سياسته حرب الناكثين والقاسطين والمارقين.

وأما سبقه إلى الاسلام، فمل يقل بخلافه إلا النادر من الأنام، ومن وقف على كتب الأحاديث والسير، علم سبقه إلى سيد البشر، وسنأتي بطرف منه في مكان آخر.

قال ابن أبي الحديد: ذهب إلى سبقه الواقدي والطبري ورجحه ونصره صاحب كتاب الاستيعاب، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون، وهذا راجع إلى خطيب دمشق وابن أبي الحديد من كلاميهما لمعناه لما عقلنا لمعناه.


الصفحة 165

(الفصل الثالث)


وقد عرفت به جواب أرذل النصاب من الناس، أن التفسير منسوب إلى مقاتل وابن عباس، وإلى مجاهد والزهري، والحديث منسوب إلى أبي هريرة، إلى ابن عمر، إلى نافع، والفقه منسوب إلى الأئمة الأربعة وأتباعهم كالغزالي الشافعي فإنه صنف في العلوم ألف كتاب وابن الجوزي الحنبلي نحوه والنحو منسوب إلى سيبويه، إلى الأخفش، إلى الكوفيين، إلى البصريين، والعروض منسوب إلى الخليل، والأصولان والطب وغيرها لها أهل تنسب إليهم، ومن قوله:

إن ذلك في أفواه الرفضة، لم يوجد في كتاب، لما رأوا ذكر أئمة السنة على المنابر، أرادوا مقابلتها بما لا يخفى بطلانه على ذوي البصائر.

قلنا: قد عرف ما ذكر في أمير المؤمنين، من أئمة المخالفين وكتب المؤلفين وقد ذكرت سلاطين السوء على المنابر، وسب علي عليها أشهر للبادي والحاضر فأي دليل في هذه الكلمة، على إمامة الظلمة، والمنسوب إليهم تلك العلوم، إنما يفتخرون بأنهم أتباع [ أتباع ] علي عليه السلام.

على أن الجوزي الذي مدحه الناصب قال في كتابه: (الرد على المتعصب العنيد): مقاتل كذاب بإجماع المحدثين لا يدري ما يقول، وقال: وكيع كذاب وقال السعدي: كان جسورا وقال البخاري: كان مقاتل لا شئ البتة وقال الساجي: كذاب متروك. وقال الرازي: متروك الحديث، وقال النسائي:

الكاذبون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله أربعة ابن أبي يحيى بالمدينة، و الواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، وابن سعيد بالشام، وسيأتي تكميل ذلك في الباب السادس عشر.

وقال الجاحظ أيضا نحو القول الأول ينسب: حفظ القرآن إلى زيد وابن زيد وغيرهما ولم يذكر علي فيهم وأصحاب الحروف أبي وابن مسعود وغيرهما

الصفحة 166
ولم يذكر علي فيهم، وأصحاب التأويل ابن عباس والحسن وغيرهما ولم يذكر علي فيهم.

قلنا: قال الأهوازي إن قراءة عصام تنتهي إلى السلمي وهو قرأ على علي عليه السلام، قال: وقراءة حمزة والكسائي ينتهيان إلى علي عليه السلام وأما التفسير والتأويل فأسند الشيخ المعظم ابن عبد البر إلى أبي الطفيل قوله عليه السلام على المنبر: (سلوني عن كتاب الله فما من آية إلا وأنا أعلم بها) ومن المحال أن يقول ذلك على رؤس الأشهاد بغير علم، وقد فسر لابن عباس حروف الجمل فقال: علمي بالقرآن في علم علي كالقرارة في المثعنجر، وفي تفسير الثعلبي عن ابن عطا قال: رأيت ابن سلام فقلت هذا الذي عنده علم الكتاب، قال: إنما ذلك علي بن أبي طالب ونحوه روى أبو نعيم عن ابن الحنفية بطريقين.

قال والرواية منسوبة إلى ابن عمر، إلى جابر، إلى أبي هريرة، إلى عائشة.

قلنا: أسند صاحب الاستيعاب إلى ابن عباس (كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به) وكيف يفضل أبو هريرة المطعون فيه عند عمر وغيره عليه، وترك ذكره معه لعلوه، فإن التام الكامل لا يذكر مع الناقص الحامل.


والشمس لا يهبطها عايبسيان دار أو غفول جهول
والنقص إذ ذاك على عايبقد قيدته بالصغار الكبول

قالوا: ادعيتم أن عليا يعلم ما في السماوات والأرض وأنه أعلم جبرائيل حين سأله عن نفسه وهو في الأرض وهذا يبطله قوله سبحانه: (لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله(1)) وقوله (لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين(2)) قلنا: جاز أن يكون علمه ببعض المغيبات بإعلام النبي له لقوله تعالى (فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول(3)) ولو صح الاستدلال بالآية على عدم

____________

(1) النمل: 65.

(2) أسرى: 95.

(3) الجن: 26.


الصفحة 167
نزول جبرئيل إلى الأرض، لزم أن لا يكون نزل على النبي وهو خلاف إجماع الولي والغوي.

قالوا: علي لم يبلغ غرضا بتحكيم عبد الرحمن في الشورى، وتحكيم معاوية للأشعري، وخروج علي في حرب الجمل والخوارج، فلو [ كان ] يعلم غيبا لم يفعل من ذلك شيئا. قلنا: فالنبي أخبر بالغيب إجماعا مع أنه لم يبلغ غرضا إذ غرضه كون الناس ملة واحدة، ولم يأخذ سوى جزيرة العرب، فإن دل ذلك على عدم الإمامة دل هذا على عدم النبوة، بل وعلى عدم الإلهية، فإن الله تعالى غرضه إذهاب الكفر، ولم يحصل بالكلية، والخلفاء الثلاثة لم يبلغوا كل غرض.

وقد أخرجوا لعمر حديث سارية وهو من علم الغيب، والاعتذار عن التحكيم قد عرف في موضعه من طرقهم.

تذنيب لذلك، أخذنا معانيه من شرح نهج البلاغة لميثم البحراني:

النفس الانسانية إذا فرغت من علائقها من الحواس الظاهرة، رجعت بطبعها إلى جناب ربها، فيحصل لها من الصور هناك من هو أليق بها من أحوالها، ثم ترتسم في المخيلة وتنحط إلى الحس المشترك، فتصير كالمشاهدة، هذا حالها في منامها و أما حال يقظتها فمتى كانت قوية لم يكن اشتغالها بتدبير بدنها عايقا لها عن ملاحظة مباديها، والاتصال بحضرة ربها، فيفيض من جنابه صورا عليها، ثم ترتسم في مخيلتها حتى تصير كأنه مشاهد لها.

إن قيل: إخبار علي بالمغيبات إنما هو بعلم علمه النبي ولو علمه غيره لكان مثله وحينئذ لا مزية له، ولهذا لما وصف الأتراك، قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت علم الغيب. فضحك وقال: إنما هو تعلم من ذي علم، وإنما الغيب علم الساعة وما عدده الله بعدها، ونحوه هو علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما سواه فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن أعيه.

قلنا أما القسم الأول فمسلم اختصاصه بالله وأما المدعى علمه، فإن النفس القدسية لها استعداد لانتقاش الأمور الغيبية فتتأهل لإفاضة جود الله، والاختصاص

الصفحة 168
بعناية الله إما بواسطة الرسول ونحوه، أو بغيرها كإعداد نفسه للقوانين الكلية، و لو كان النبي إنما أعطاه صورا جزئية لم يحتج إلى دعائه بفهمه، فإن فهمها سهل لمن له أدنى فهم، ويؤيده: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب انفتح لي من كل باب ألف باب، وقول النبي: أعطيت جوامع الكلم وأعطي علي جوامع العلم، وفي عطف (أعطي) على (أعطيت) دلالة على أن المعطي لهما هو الله وهو المطلوب.

تذنيب آخر:

قوله تعالى (قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون(1)) والمراد بالمؤمنين بعضهم والإمام أعلى من غيره، فالمراد هو، ومتى كان نظره مساويا لنظر النبي تعين كونه معصوما كالنبي وصح اطلاعه على أشياء بواسطة النبي.

إن قيل: لم لا يكون المراد بالمؤمنين مؤمني غير هذه الأمة؟ قلنا: يبطله (لتكونوا شهداء على الناس(2)).

إن قيل: لم لا يراد بالمؤمنين الملائكة؟ قلنا: لا يتناولهم اسم المؤمنين عرفا ولهذا لم يسارع الفهم عند الاطلاق إليهم.

إن قيل: المراد برؤية العمل العلم بجزائه وذلك في المستقبل، وهو لا يختص بالإمام ويعضد ذلك سين الاستقبال. قلنا: لو أريد الاستقبال لم يكن الرب عالما به في الحال وهو محال على أن السين جاءت لغير الاستقبال (فاستجبنا له) (فاستجاب له ربه).

(الفصل الرابع)


قالوا: قلتم: اعتقد الغلاة في علي أنه الإله، وما ذلك إلا لمعنى موجب لترجيحه يغتني الفهيم بتلويحه عن تصريحه، وأي حجة في الاعتقاد الباطل للكفرة وقد اتخذت غطفان الغوي إلها وهي شجرة، وثقيف مناة وهي صخرة، وغير ذلك

____________

(1) براءة: 106.

(2) البقرة: 143.


الصفحة 169
ولا معنى فيها يوجب ترجيحها، وادعيت النبوة لمسيلمة ولسجاح وهي امرأة فأي معنى رأى فيهما أتباعهما.

قلنا: إنا لم نقل بأفضلية علي لكونه معبودا بل: لما ظهر من أفعاله مما يبهر العقول: ضل فيه لعدم تحقيق النظر الجهول، كما ظهر لعيسى من إحياء الأموات، وإبراء ذوي العاهات، فرأوا العجز عن ذلك في القوة البشرية، فوصفوه لذلك بالإلهية. ولم يعلموا أن الكرامات الدالة على الخلوص من الذنوب، من أكبرها الإجابة من علام الغيوب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله إن لله عبادا أطاعوا الله فأطاعهم يقولون للشئ بأمره كن فيكون، وقد أورد المخالف قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي (لولا أن تقول طائفة فيك ما قالت في عيسى النصارى، لقلت فيك..) الحديث، ولما بهر عقول النساء حسن يوسف العظيم (قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم(1)).

قال ابن أبي الحديد، في مدحه للسيد المجيد:


تقبلت أفعال الربوبية التيعذرت بها من شك أنك مربوب
وقد قيل في عيسى نظيرك مثلهفخسر لمن عادى علاك وتتبيب

وقصده المبالغة في المقال، لا قبول عذر الضال، ولا نسلم عدم المعنى في تلك الأصنام، فإن أكثر المفسرين قالوا: وضعت على صور قوم كرام من الأنام تبركا بشرفهم فلما طالت الأوقات عبدها أولادهم جهلا منهم، وقيل: إنما وجهوا إلى الأصنام العبادات لأنها صور الكواكب المؤثرات فأرادوا تعظيمها لارتباط منافع العالم السفلي بها، واستنادها إليها، فلما تناسلت القرون نسي ذلك في التابعين وصاروا مقلدين، وأيضا لا يلزم من عدم وجود المعنى فيها عدم وجوده في غيرها و المجتمعون على مسيلمة وسجاح طلبوا الدنيا بهما لا لفضل رأوا فيهما، كما جرت عوائد أتباع الظلمة لإحراز الأموال وعلو الكلمة.

____________

(1) يوسف: 31.


الصفحة 170

(الفصل الخامس)


قالوا: قلتم: علي أفضل بالمصاهرة قلنا: زوج النبي عتبة بن أبي لهب و أبي العاص بن الربيع، وهما كافران وزوج عثمان ابنتين، وتزوج من الشيخين بالابنتين، فالأئمة الأربعة أصهاره. أجبنا بأن فاطمة أفضل من باقي بناته وزوجاته وأورد الثعلبي في تفسير قول ابن عمر: لعلي ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويج فاطمة، وإعطاء الراية، وآية النجوى. ولم يقل ذلك في بناته وقد أخرج صاحب جامع الأصول عن النسائي أن الشيخين خطباها فاعتذر بصغرها وخطبها علي فزوجه بها، وأخرجه أيضا عن رزين، وما قال من تزويج النبي بالكفار يرد عليهم في تزويجه عثمان الذي سموه ذا النورين، سبب تزويجه الابنتين.

وليس لهم أن يقولوا: عند خطبة علي كانت قد كبرت، فلهذا ردهما وأجابه لأنا نقول: فالتعقيب في قول كتبكم (فخطبها) تمنع ذلك وأما فضل فاطمة على غيرها من بناته وغيرها، فمشهور بأقوال النبي صلى الله عليه وآله فيها: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع وعدها منهن وأخرج البخاري قوله في حقها (سيدة نساء العالمين، يريبني ما رابها) وأخرج صاحب الوسيلة عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ما لك إذا أقبلت فاطمة جعلت لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلا؟ فقال صلى الله عليه وآله: لما أسري بي دخلت الجنة فناولني جبرائيل تفاحة فأكلتها فصارت نطفة، وفاطمة منها وكلما اشتقت إلى ريح الجنة قبلتها وإن خديجة هجرتها نساء قريش عند ولادتها لأجل تزويجي بها فتولى أمرها حواء وآسية وكلثم أخت موسى ومريم فلما وضعت فاطمة وقعت ساجدة نحو القبلة رافعة أصبعها، ناطقة بالشهادتين.

وقد روى مسلم في الجزء الرابع من صحيحه بعدة طرق: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها، وبعض المعصوم معصوم.


الصفحة 171
وقد قالت في خطبتها المشهورة: أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم لفظتم بعد أن عجمتم، وسبرتم بعد أن خبرتم، ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، وما نقموا من أبي الحسن تالله إلا نكال سيفه، ونكير وقعه، وشدة وطئه، وتشهيره في ذات الله، إلى أي لجاء أسندوا، وبأي عروة تمسكوا لبئس المولى ولبئس العشير استبدلوا الذنابى بالقوادم، والأعجاز بالكواهل رغما لمعاطس قوم، يحسبون أنهم مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون.

وناهيك من قولها بعد عرفان عصمتها من تقديم بعلها، وقد أورد الثعلبي تزويجها في قوله (وهو الذي خلق من الماء بشرا وجعله نسبا وصهرا(1).

ومن الوسيلة أيضا إنما سميت فاطمة لأنها فطمت محبوها عن النار، ومنها عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله ينادى يوم القيامة أيها الجمع نكسوا رؤسكم، و غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة على الصراط، ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله قال لها إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك، ومنها قول النبي لعلي إن جبرائيل يخبرني أن الله زوجك بفاطمة وأشهد أربعين ألف ألف ملك، وأوحى إلى شجرة طوبى أن تنثر الدر والياقوت، فنثرت فلقطه الحور فهو عندهن يتهادينه إلى يوم القيامة، فمعاني هذه الأقوال نقلت من الوسيلة.

وفي تفسير الزمخشري في قوله تعالى: (قالت هو من عند الله(2)) إن فاطمة في زمن قحط أعدت للنبي رغيفين وبضعة لحم فكشفت الطبق فوجدته مملوءا خبزا ولحما، قال لها: أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ثم جمع بعلها وولديها و أهل بيته وأكلوا حتى شبعوا والطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها، فهذه تشهد بأفضليتها، وأنتم تقيسونها بغيرها، وقد وردت مدائح الشعراء بذلك فيها، و

____________

(1) الفرقان: 54.

(2) آل عمران: 37.


الصفحة 172
لم يرد قليل منها في غيرها، قال السوسي:


وزوج بالطهر البتولة فاطمةورد سواه كاسف البال منحصر
وخاطبها جبريل لما أتى بهاومن شهد الأملاك يلقط ما نشر
تناثر ياقوت ودر وجوهرومسك وكافور من الخلد قد نثر
وقولا لهم يا خاطبيها بحسرةتزوجت الشمس المنيرة بالقمر
ويطلع من شمس الضحى ومن الدجىكواكب قد لاحت لنا أحد عشر

وقال العوني:


زوجك الله يا إماميفاطمة البرة الزكية
ورد من رامها جميعابأوجه كره خزية
أليس قد نافقوا وإلالم ردها القوم جاهلية

وقال سلامة:


أنا مولى من حباه ربهبالرضا فاطمة زين العرب
لست مولا الخاطب الوغد الذيرد بالخيبة لما أن خطب

وقال ابن عباس وابن مسعود وجابر والبراء وأنس وأم سلمة والسدي وابن سيرين والباقر عليه السلام في قوله تعالى: (هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) قال: هو محمد وعلي وفاطمة والحسنان (وكان ربك قديرا(1)) القائم في آخر الزمان.

الصادق عليه السلام: أوحى الله تعالى إلى رسوله: قل لفاطمة لا تعصين عليا فإنه إن غضب غضبت لغضبه.

المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام: لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض، ونحوه رواه الأندلسي عن النبي صلى الله عليه وآله وعلى هذا قال الصاحب بن عباد.


كفؤ البتول ولا كفؤ سواه لهاوالأمر يكشفه أمر يوازيه

____________

(1) الفرقان: 54.


الصفحة 173
وقال آخر:


يا كفؤ بنت محمد لولاك مازفت إلى بشر مدى الأحقاب
يا أصل عدة أحمد لولاك لميك أحمد المبعوث ذا أعقاب

وأسند المروزي في فضائل فاطمة والبلاذري في التاريخ: خطبها أبو بكر ثم عمر فقال النبي صلى الله عليه وآله لكل منهما: أنتظر بها القضاء.

(الفصل السادس)
* (في مبيت علي عليه السلام على فراش النبي حين خرج إلى الغار) *
* (وفي رواية إلى الشعب) *


قال المفيد: يجوز صدق الروايتين بالنوم مرتين وهذه الفضيلة لم يأت أحد بمثلها ولم يتهيأ لشخص إحراز فضلها، لأن النبي صلى الله عليه وآله خرج سرا عند اجتماع القبائل على قتله فأعلم عليا واستكتمه، وأمره بالنوم على فراشه، فنام وبذل نفسه دون نبيه، فأنزل الله تعالى فيه بين مكة والمدينة على رسوله: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(1).

قال المخالف: هي رواية مظنونة فلا يعول عليها، قلنا: قد نقلها من الخاص والعام جماعة يوجب تواترها، فمن العامة، الثقفي، والفلكي، والطوسي، و الشيباني والحسن البصري، وأبو زيد الأنصاري، والسدي، ومعبد، والعكبري والسمعاني، والغزالي في الإحياء وفي كيمياء السعادة، وابن عقبة في ملحمته وأبو السعادات في فضائل العشرة، وابن حنبل في مسنده، وابن المغازلي في مناقبه والخطيب الخوارزمي، والقاضي، والجوزي، والفراء، والزمخشري، و الثعلبي ومن الخاصة ابن شاذان، والطوسي، وابن بابويه، والكليني، و

____________

(1) البقرة: 207.


الصفحة 174
ابن أبي هالة، والصفواني، وابن عقدة، والعبد لي، وابن فياض، وأبو رافع والبرقي.

ورووا هم والثعلبي في تفسيره الحديث القدسي أن الله أوحى إلى جبرائيل وميكائيل: قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من صاحبه، فأيكما يؤثر أخاه؟ فكل منهما كره الموت، فقال: هلا كنتما مثل علي وليي آخيت بينه وبين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فهبطا فكان جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وبخ بخ له جبرائيل وقال: من مثلك؟ يباهي الله به ملائكته.

وفي كتاب الخوارزمي نزل جبرائيل صبيحة الغار فرحا فقال: أراك فرحا؟

قال: وكيف لا أفرح وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي ابن أبي طالب، باهى الله بعبادته البارحة ملائكته وحملة عرشه، فقال: انظروا إلى حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه وعفر في التراب خده تواضعا لعظمتي أشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي، وما امتحن الله خاصة ملائكته بذلك إلا وقد علم من حالهم عدم صبرهم على هذه المهالك، فكلفهم وقد علم كراهتهم لتلك المسالك، وأراد يعلم بني آدم أن الملائكة لم تقدم على فعله، فيقرون أنه ليس فيهم كمثله.

وهذا المبيت لو وزن بأعمال الخلائق لرجحها، لأنه سبب نجاة نبيها وأداء رسالته إليها، وإنفاذ الأمر الإلهي فيها وثبوته، وهو ابن عشرين سنة، مع كثرة الأعداء، مراغما لهم، ينادي على الكعبة ثلاثا بصوت عال، وقوة جنان، وقلب راسخ، وثبات لسان، مع قلة الأعوان، وكثرة الخذلان: هل من صاحب أمانة أو وصية أو عدة عند رسول الله؟ فأدى الحقوق، وجهز العيال جهازا، وفيهم عائشة فله المنة على أبيها وعليها بحفظها، وفي وصيته بذلك سالفا دليل استحقاقه، و وصيته خالفا قال ابن جبر في نخبه: الشجاع الثابت بين أربعمائة سيف مظهرا لعداوتهم حين سألوه عنه فقال: (هو في حفظ الله أو رقيبا كنت عليه) وهذا مما يعجز عنه

الصفحة 175
ذو القدر، لولا التأييد من خالق البشر.

قال الجاحظ: إنما لم يهرب خوفا من العار، قلنا: يرد هذا قوله تعالى:

(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(1)) وصبره عليه السلام أعظم من صبر إسماعيل لوجود الشفقة من أبيه، وتجويز العفو من باريه، وتجويز كون ذلك امتحانا، إذ لم يعهد ذلك من أحد، وتجويز نسخة قبل فعله، وتجويز كون باطن الكلام بخلاف ظاهره، وتجويز كون تفسير المنام بضد حقيقته، وتجويز الاتيان بفدائه، ولا شئ من هذه التجويزات حاصل لعلي حال البيان.

إن قيل: بل محنة إسماعيل أعظم لعلم علي أن قريشا إنما طلبت النبي دونه بخلاف إسماعيل، إذ كان يعلم أن ذلك بالوحي الإلهي. قلنا: فتفويته غرضهم مما يوجب شدة الحرج والغضب عليه، وذلك معروف بالعادات أن من فوت عليهم حيلتهم، حتى فات غريمهم، لا يلحقهم شفقة عليه، ولا ميل ما إليه، فظهر أن ما سلف من النوم، أقوى في الشجاعة من براز القوم، إذ مبارزة الأبطال الكبار، فيها رجاء السلامة بالمكر والفرار، ولهذا لما غلب ظن الملكين بالتلف، لم يؤثر أحدهما الآخر بالخلف.

قال الجاحظ: في الروايتين النبي بشره أنهم لا يصلون إليه، فلا فضيلة له فيه. قلنا: تلك الزيادة لم تنعرف، إلا من عدو منحرف، نعم في رواية ابن المغازلي:

لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله، وهذا لا جزم فيه لتعلقه بالمشيئة، وابن حنبل أعرف من ابن المغازلي، وقد نقل في مسنده أنهم رموه بالحجارة، ولئن سلمت الزيادة ففيها فضيلة الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وآله.

وقد رووا قوله عليه السلام أن الشيخين يليان الخلافة، ومنهم من يقول إنه نص عليه بالخلافة، فإن صدق بقول النبي فما قعوده عن لقاء الأبطال، وإن شك في النص فأين مقام علي من هذا الحال.

____________

(1) البقرة: 207.


الصفحة 176
وقد أورد المفيد في العيون والمحاسن قول علي لأبيه: إني مقتول، فقال:


اصبرن يا بني فالصبر أحجىكل حي مصيره لشعوب
قد بذلناك والبلاء شديدلفداء النجيب وابن النجيب

فأجابه عليه السلام:


أتأمرني بالصبر في نصر أحمدفوالله ما قلت الذي قلت جازعا
ولكنني أحببت أن تر نصرتيوتعلم أني لم أزل لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمدنبي الهدى المحمود طفلا ويافعا

وهذا يتأتى على رواية الخروج إلى الشعب لما ورد أن أبا طالب كان قد مات عند الخروج إلى المدينة كما ذكره صاحب جامع الأصول وسيأتي إن شاء الله.

قالوا: إنما أباته لعلمه أن الاسلام لا ينهدم بقتله، واستصحب أبا بكر لعلمه بخلافته. قلنا: قد رويتم أنه قال صلى الله عليه وآله: الخلافة بعدي ثلاثون سنة على أعمار الأربعة فكيف يحرص عليه خاصة دون غيره، بل قد روي أنه صحبه خوفا من أن ينم عليه قال ابن طوطي:


ولما سرى الهادي النبي مهاجراوقد مكر الأعداء والله أمكر
وصاحب في المسرى عتيقا مخافةلئلا بمسراه لهم كان يخبر

وروى أبو بصير عن الصادق عليه السلام أنه تبعه يريد أن يعلمه به قريشا فأوحى الله إليه ذلك، فقال له: ويلك ما زلت من ذي الليلة مؤذيا لي، فقال: إنما أردت أشيعك، وأعلم علمك، ولا حاجة لي في أن أكون معك، بل أحب أن أكون مخملا أكذب عنك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله إن الله أن آخذك ثم قبض عليه وكان من أشد الناس قبضة فأخذه كارها وسيأتي لذلك في باب رد الشبهات عند ذكر آية الغار مزيد كلام، فليراجعه من يريد هذا المرام.

وقد افتخر علي في المبيت وأنشأ في هذا المقام:


وقيت بنفسي خير من وطئ الثرىومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
أردت به نصر الإله تبتلاوأضمرته حتى أوسد في القبر


الصفحة 177
ومدحه الفضلاء والشعراء كالحميري والطوطي ودعبل الخزاعي والناشي ومن أحسن ما قيل فيه للسيد المرتضى:


وقى الرسول على الفراش بنفسهلما أراد حمامه أفوامه
ثانيه في كل الأمور وحصنهفي النائبات وركنه ودعامه
لله در بلائه ودفاعهواليوم يغشى الدارعين قتامه
فكما أجم إلى العوالي غيلةوكأنما هو بينها ضرغامه(1)
طلبوا مداه ففاتهم سبقا إلىأمد يشق على الرجال مرامه

وذكر الواقدي وغيره أنه لما أراد الخروج بعيال النبي صلى الله عليه وآله قال له العباس: ما أراك تمضي إلا في خفارة خزاعة، فقال:


إن المنية شربة مورودةلا تجزعن وشد للترحيل
إن ابن آمنة النبي محمدرجل صدوق قال عن جبريل
أرخ الذمام ولا تخف من عائقفالله يرديهم إلى التنكيل
إني بربي واثق وبأحمدوسبيله متلاحقا بسبيلي

وقال السيد الحميري في مبيته عليه السلام:


ومن قبل ما قد بات فوق فراشهوأدنى وساد المصطفى وتوسدا
وأخمر منه وجهه بلحافهليدفع عنه كيد من كان أكيدا
فلما بدا صبح يلوح تكشفتله قطع من حالك الليل أسودا
ودارت به أحراسهم يطلبونهوبالأمس ما سب النبي وأوعدا
أتوا طاهرا والطيب الطهر قد مضىإلى الغار يخشى فيه أن يتوردا
فهموا به أن يقتلوه وقد سطوابأيديهم ضربا مقاما ومقعدا

دعبل:


وهو المقيم على فراش محمدحتى وقاه مكائدا ومكيدا

____________

(1) فكأنما أجم العوالي عيلة. خ.