(الفصل السادس عشر)
جاء في الأخبار الحسان أن عليا عليه السلام مضى في ليلة إلى المدائن لتغسيل سلمان، فأنكر الناصبية ذلك، وقالوا: هذا خارج عن قدرة الانسان، قلنا: قد جاء من خبر آصف وعرش بلقيس ما حكاه القرآن حيث أتى به من مسيرة شهرين إلى سليمان في طرفة عين، وقد صح في أخبارهم أن الدنيا خطوة رجل مؤمن، وقد نسب إلى بعض شيوخ الصوفية ذلك: فلم ينكروه، فكيف بأمير المؤمنين ورووا حديث عمر بسارية وهو قريب من ذلك فلم ينكروه، وحكموا في كتبهم بأنه لو عقد رجل بالمشرق على امرأة بالمغرب فولدت لحق به استنادا إلى كون الدنيا خطوة مؤمن، وقد روي أن ابن هبيرة شكا إليه عليه السلام شوقه إلى أولاده فأغمض عينيه ثم فتحهما وإذا بداره في المدينة وعلي على السطح فجلس هنيئة ثم قال: هلم ننصرف فأغمض عينيه ثم فتحها فإذا هو بالكوفة فتعجب وسيأتي فيه مزيد كلام.
قالوا: ادعيتم إنكار سلمان على المشايخ إمامتهم وقد كان عاملا لعمر على المدائن يدعو إلى إمامته، قلنا: لا يرتاب أحد أن سلمان كان من شيعة علي وقد روى سبط الجوزي الحنبلي في كتاب الرجال أن جماعة من الصحابة سألوه لمن الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:
ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا | عن هاشم ثم منها عن أبي حسن |
أليس أول من صلى لقبلتهم | وأعرف الناس بالأحكام والسنن |
ما فيهم من صنوف الخير يجمعها | وليس في القوم ما فيه من الحسن |
فانصرفوا عنه إلى السقيفة، فلما أخبر بها، قال: (كردن ونيك نكردن)
قالوا: عرضتم بكفر المشايخ وغيرهم أن عليا لم يشرك قط والمراد أنه أسلم قبل البلوغ وليس ذلك من خصائصه إذ ساير أطفال المسلمين كذلك. قلنا:
لا قياس إذ المراد زمان الفترة التي هلك الناس فيها بعبادة الأصنام وعلي وآباؤه على ملة إبراهيم عليه السلام، وقد ذكرنا من طرقكم قول النبي صلى الله عليه وآله سباق الأمم ثلاثة لم يشركوا بالله طرفة عين، فلو لم يكن من خصائصه، انتفت الفائدة في التنويه بذكره وفيه أكبر دليل على عصمته، حيث قطع النبي بعدم الشرك وهو غيب لا يكون إلا بإعلام ربه.
إن قلت: فحديث السبق ينافي أنه لم يشرك قط قلت: لا ينافي إذ المراد السبق إلى الإيمان بالنبي وهو استدلالي وعلي ظهر له ذلك قبل آبائه وغيرهم لا أنه كان مشركا.
قالوا: كان طفلا في كفر آبائه فمحجور على إيمانه إلى بلوغه. قلنا: سيأتي إسلام أبويه في باب النص من الرسول عليه، وقد اشتهر في شعرهم (نحن آل الله في كعبته) لم يزل ذلك على عهد إبراهيم، وهل قولكم إلا ردا على النبي سباق الأمم ثلاثة، وقد أخرج صاحب الوسيلة في مناقب علي قول النبي صلى الله عليه وآله: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين من قبل أن يسلم بشر، والمحجور عليه كافر فكيف تصلي الملائكة عليه، وأيضا فقد ذكر شارح المصابيح أنه أسلم ابن خمس عشر سنة وشارح الطوالع ابن أربعة عشر سنة، وسيأتي.
قالوا: قلتم: علي لم يزل مسلما فلو كان صحيحا لكان أفضل من النبي لقوله تعالى لنبيه: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان(1)) قلنا: قد بينا أن معنى (لم يزل مؤمنا) أي لم يسبقه بشرك وأما إسلامه بمحمد فلم يشك في تجدده عاقل والإيمان المنفي عن النبي ليس هو المستلزم للشرك لعلمنا وعلمكم بسلامة الأنبياء
____________
(1) الشورى: 52.
قال الإمام الطبرسي: ما كنت تدري معالم الإيمان، وقيل ما كنت تدري أهل الإيمان، من يؤمن ومن لا يؤمن، وقد أخبر عليه السلام أن الإيمان بضع وسبعون شعبة ولم يدر كلها في أول البعثة وأيضا فمعرفة الإيمان كسبية، فحال النظر لا يسمى الانسان كافرا وإلا لم يسلم من الكفر أحد.
تذنيب:
جوز الفضيلية من الخوارج الكفر على الأنبياء، وذهب ابن فورك إلى جواز بعثه من كان كافرا، وقال بعض الحشوية أن نبينا عليه السلام كان كذلك لقوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى(1)) وقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) وصاحب هذا الاعتراض إن كان يعتقده فهو لاحق بها ولاء أعاذنا الله من ذلك.
(الفصل السابع عشر)
روى أبو المؤيد الخوارزمي في كتاب المناقب قول النبي: خاطبني ربي في المعراج بلغة علي فقلت: يا رب تخاطبني أم علي؟ فقال: خلقتك من نوري، و خلقت عليا من نورك، فأطلعت على سرك فلم أجد إلى قلبك أحب منه في قلبك فخاطبتك بلسانه كي يطمئن قلبك.
قالوا: في الرواية سمعتك تقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى فما رأيتك تحب أكثر منه فخاطبتك بلغته، ولا شك أن حديث هارون من موسى كان في غزوة تبوك والمعراج قبله بنحو ستة، فالرواية بالمخاطبة بلغته مزورة، قلنا:
بل قولكم سمعتك تقول الخ هو المزور إذ حديث هارون بالوحي لامتناع الاجتهاد من النبي عند المحققين، فكيف يقول الله: سمعتك تقول، وأيضا نمنع اختصاص حديث هارون بغزوة تبوك، فإن أوله حديث الأخوة وقد أورده صاحب الوسيلة في عدة مواضع منها قول النبي مكتوب على باب الجنة لا إله إلا الله، محمد رسول -
____________
(1) الضحى: 7.
قالوا: فيلزم من مخاطبة الله بلسان علي أن يكون فيه شبه ما لعلي وهو كفر قلنا: الله متكلم عندنا بخلق الكلام في جسم فالشبه لذلك الجسم دون الله، فلا كفر.
قالوا: فيلزم أن يكون علي أحب من الله إلى النبي. قلنا: زيادة الاستيناس بلغة علي لكثرة الممازجة لا تدل على أنه أحب من الله إلى النبي(1) ولهذا نزل جبرائيل إليه في صورة دحية الكلبي ولم يكن أحب من جبرئيل إلى النبي.
قالوا: بذكر الله تطمئن القلوب، لا كما رويتم في اطمينان قلب النبي بلغة علي. قلنا: إن عنيتم بالذكر القرآن فهو غير لازم، وإن عنيتم ما هو أعم منه فلغة علي منه على أن الله قد عبر بالذكر عنه في قوله: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني(2)) وعبر به عن النبي في قوله: (قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا(3)) وظاهر أن الاطمينان بالنبي والوصي كما هو بالكتاب الإلهي، مع أن القلوب عام مخصوص بغير الكفار، وقد يكون الذكر موجبا للخوف، كما قال: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم(4)) ونحوها.
ثم إن المخالفين الجاحدين اقتدوا بأسلافهم في بغضة أمير المؤمنين، وأنكروا ما خصه رب العالمين، ورسوله النبي الأمين، وكتبهم ناطقة بالأحاديث القدسية والأخبار النبوية، فقد أخرج صاحب الوسيلة قول النبي لعلي: أكرمك الله علي بأربع خصال: زوجة مثل فاطمة زوجها الله فوق عرشه، وصهر مثلي، وولدين مثل
____________
(1) في النسختين: أحب إلى الله من النبي. وهو سهو.
(2) المائدة: 29.
(3) الطلاق: 11.
(4) الأنفال: 8.
أيها المؤمن الذي طاب فرعا | وزكى منه أصله وتمسك |
طب بدين النبي نفسا وإن | خفت من النار في غداة تمسك |
فاستجر من لظا لظى بعلي | وبنيه وبالبتول تمسك(1) |
وقال: ذكر علي بن أبي طالب عليه السلام عبادة، وقال: أول من يأكل من شجرة طوبى علي بن أبي طالب، وقال: علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة وقال: علي بن أبي طالب وأهل بيته عمود الجنة، وقال: لعلي من الثواب ما لو قسم على أهل الأرض لوسعهم، وقال: علي يحمل لوائي يوم القيامة وقد أعطي كصبري وحسن يوسف وقوة جبرائيل، وجميع الخلائق تحت لوائي، وقال و هو في منزل علي: أخبرني جبرائيل أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى، قال الحسين: فمن يزورنا؟ قال: طائفة من أمتي يريدون بذلك بري وصلتي، إذا كان يوم القيامة زرتهم وأنجيتهم من أهواله، وفي حديث آخر: ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم، كما تعير الزانية، أولئك أشرار أمتي، وقد أوردناه تاما في شرح التكليفية من وفق له وقف عليه، وقال: أخبرني جبرائيل أن السعيد كل السعيد من أحب عليا في حياتي وبعد وفاتي، وقال صلى الله عليه وآله: أنا شجرة و فاطمة حملها، وعلي لقاحها، والحسنين ثمرها، والمحبون لأهل البيت ورقها إلى الجنة حقا حقا.
وأسند ابن ماجيلويه في كتاب الآل إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه لما خلق الله آدم وحوى تبخترا في الجنة وقال آدم: ما خلق الله تعالى أحسن منا فأمر الله جبرائيل فأخذهما إلى الفردوس فرأيا جارية على رأسها تاج من نور، وفي أذنيها قرطان من
____________
(1) قد مر في ص 100 فراجع.
فهذه روايات الفريقين، ناطقة بأفضليته، وشاهدة من الله ورسوله بعظم منزلته، والسوالف ينكرونها ببغيهم وحسدهم، والخوالف يجحدونها بغيهم و بغضهم. شعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله | فالناس أعداء له وخصوم |
كضراير الحسناء قلن لوجهها | حسدا وبغيا: إنه لدميم |
وقال آخر:
أزاحوك ظلما عن مقامك غصة | رأوا فيك فضلا لم يروا في جيادها |
ومن عادة الغربان تكره أن ترى | بياض البزاة الشهب بين سوادها(1) |
(الفصل الثامن عشر)
نقل مالك بن أنس أخبارا جمة في فضائل علي وكان يفضله على أولي العزم من الأنبياء فرمي بالغلو لذلك، وكان الجعارتي، وأبو الأزهر الهروي وغيرهم يرون الحق فرموهم بالرفض، وأكثر شيوخنا يفضلونه على أولي العزم لعموم رئاسته، وانتفاع جميع أهل الدنيا بخلافته، لكونه خليفة لنبوة عامة بخلاف نبوتهم ولقول النبي صلى الله عليه وآله في خبر الطائر المشوي: ائتني بأحب خلقك إليك، ولم يستثن الأنبياء، ولأنه مساو للنبي الذي هو أفضل في قوله: (وأنفسنا وأنفسكم(2)) والمراد المماثلة لامتناع الاتحاد ولأنه أفضل من الحسنين في قوله صلى الله عليه وآله: (أبوهما خير منهما) وقد جعلهما جدهما سيدين لأهل الجنة في الحديث المشهور فيهما.
____________
(1) البزاة جمع البازي وهو ضرب من الصقور.
(2) آل عمران: 61.
وأسند ابن أبي عمير إلى الصادق عليه السلام أن الله قال لموسى عليه السلام: (وكتبنا له في الألواح من كل شئ(1) ولم يقل كل شئ وفي عيسى: (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه(2)) وقال في علي بن أبي طالب: (ومن عنده علم الكتاب(3)) وقال: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين(4)) فعند علي علم كل رطب ويابس.
إن قلت: عند علي علم الكتاب، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب، هذا من الشكل الثاني وعقيم، وهو هنا لا يجاب مقدمتيه قلت: فلنرده إلى الأول، فنقول: كل رطب ويابس علمه في كتاب مبين وعلم ذلك الكتاب كله عند علي بطريق أبي نعيم وفي تفسير الثعلبي.
وفي هذا أيضا نظر من عدم اتحاد أوسطه فإن الكتاب الذي فيه الرطب و اليابس، وهو اللوح المحفوظ، والكتاب الذي علمه عند علي هو القرآن، إلا أن يقال: نذكر ذلك إلزاما للخصم، لأنه يقول: كل شئ أحصيناه في إمام مبين هو القرآن وعلم القرآن عند علي عليه السلام.
على أنه لا مانع من حمل الكتاب الذي عند علي على اللوح لإطلاق اللفظ.
إن قلت: المانع امتناع إحاطة علي بعلم الله، قلت: ليس في تلك دليل على حصر علم الله فيها، على أنه يجوز أن يريد بالعلم باللوح علم بعضه إطلاقا للعام وإرادة الخاص.
____________
(1) الأعراف: 144.
(2) الزخرف: 63.
(3) الرعد: 45.
(4) الأنعام: 59.
وقد أخرج البيهقي ما رواه صاحب الوسيلة من قول النبي صلى الله عليه وآله: (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب). فقد اجتمع فيه ما تفرق فيهم فهو أفضل من كل واحد منهم.
وقد استدل الرازي في المعالم بمثل هذا على تفضيل النبي على الأنبياء، عند قوله تعالى (فبهداهم اقتده(1)) قالوا: آتى الله نوحا السفينة وانتصر فأغرق قومه، ونجا إبراهيم من ناره ومن الملك الذي هم بزوجته، وانتصر له بهلاك نمروده، وأعطى موسى العصا و اليد البيضاء وسلط الآيات التسع على أعدائه، وانتصر له بهلاك فرعون، ونفخ في عيسى من روحه ورزقه يبرئ ذوي العاهات، وانتصر له من أعدائه برفعه إلى السماوات، ولم ينتصر لعلي من معاوية وابن ملجم، فليس له كرامة تقابل واحدة من معجزات الأنبياء، وهو وإن كان له المنزلة العالية لكن أين درجة الولاية من درجة النبوة السامية.
قلنا: ما ذكرتم من كرامات الأنبياء فهو حق لكن لا يلزم من فقدها عن علي أفضليتهم عليه، وإلا لزم أفضليتهم على النبي حيث لم يحصل له مثلها، و أنتم جعلتم عدم مثلها موجبا لعدم أفضلية فاقدها، ولا يبعد أفضلية الولاية على النبوة كما في الخضر وموسى وقد أخرج أبو نعيم في كتاب الفتن في حق المهدي أن عيسى وزيره، وقال بعض علماء الطريقة: بداية النبوة نهاية الولاية، وقال آخرون
____________
(1) الأنعام: 90.
علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.
وقد تجريتم على الأنبياء في قولكم كذب إبراهيم ثلاث كذبات، وولد ابن نوح على فراشه، وعشق داود امرأة أوريا، ووطئ الشيطان نساء سليمان وغير ذلك وقد قال الغزالي: أما علي فلم يقل فيه ذو تحصيل شيئا.
قلنا: فعلى تقريركم هو أفضل من الأنبياء، حيث قلتم فيهم تلك الأشياء وقد باهى الله به الملائكة ليلة الفراش وهم عند الرازي وغيره أفضل من الأنبياء وأشار إلى ذلك ابن الجوزي في تفسيره: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(1)) والانتصار له من معاوية لا يتعين في الدنيا، فإن الكفار إلى الآن يصورون النبي في بيوت عباداتهم بأقبح الصور، ولم ينتقم الله منهم في الدنيا (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما).
ونفيكم لكراماته لم يقل أحد به، منها قوله للخثعمي الذي أبى أن يبايعه إلا على سنة الشيخين: كأني بك وقد نفرت في هذه الفتنة، وقد شدخت حوافر خيلي وجهك ورأسك ومثل بك، وقال قبيصة لما رآه كذلك: لله أبو حسن ما حرك شفتيه بشئ قط إلا كان كما قال، وأجيب دعاؤه على بشر بن أرطاة أن يسلبه الله عقله فخولط فيه حتى كان يدعو بالسيف فاتخذ له سيف من خشب، ودعا على العيزار حين حلف لا يرفع أخباره إلى معاوية فقال: إن كنت كاذبا فأعمى الله بصرك فما دارت الجمعة حتى عمي، وأخرج خطيب دمشق الشافعي في قتال الخوارج لما قال له رجل: قد عبروا النهر هاربين، فقال: لا يعبرون ولا يبلغون قصر كسرى حتى يقتل الله مقاتلتهم على يدي، فلا يبقى منهم إلا أقل من عشرة، ولا يقتل من أصحابي إلا أقل من عشرة، فكان كما قال.
ومن ذلك ما وجدناه مرويا عن سعد بن عبادة والأصبغ بن نباته: أنه عليه السلام
____________
(1) البقرة: 207.
فقال عليه السلام: هل عندك علم أنه قد انتقل الملك في بارحتنا من بيت إلى بيت بالصين، وانقلب برج ماجين، وهاج نمل الشيخ، وتردى برج الأندلس وطفح جب سرنديب، وفقد ديان اليهود ابن عمه، وعمي راهب عمورية، وجذم بطريق الروم برومية، وتساقطت شرافات من سور قسطنطينية أفأنت عالم بمن أحكم هذه الأشياء من الفلك؟ قال: لا، فقال عليه السلام: هل عندكم علم أنه قد سعد في بارحتنا سبعون ألف عالم منهم في البر؟ ومنهم في البحر، أفأنت عالم بمن أسعدهم من الكواكب؟ قال: لا.
ثم أخبره عليه السلام بأن تحت حافر فرسه اليمنى كنز، وتحت اليسرى عين من الماء، فنبشوا فوجدوا كما ذكر عليه السلام فقال الدهقان: ما رأيت أعلم منك إلا أنك ما أدركت علم الفلسفة، فقال عليه السلام: من صفي مزاجه اعتدلت طبايعه، ومن اعتدلت طبايعه قوي أثر النفس فيه - ومن قوي أثر النفس فيه، سما إلى ما يرتقيه، ومن سما إلى ما يرتقيه تخلق بالأخلاق النفسانية، وأدرك العلوم اللاهوتية، ومن أدرك العلوم اللاهوتية صار موجودا بما هو انسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان، ودخل في باب الملكي الصوري، وما له عن هذه الغاية معبر، فسجد الدهقان وأسلم، وقد وجدت هذا الحديث في كتاب نهج الإيمان ذكره الحسين
ومنها ما نقله ابن طلحة عن صاحب فتوح الشام وعن كتاب ابن شهرآشوب أن عليا عليه السلام صلى الصبح يوما ثم قال لرجل: اذهب إلى محلة بني فلان تجد رجلا وزوجته يتشاجران فأحضرهما إلي فذهب فأحضرهما فقال عليه السلام: قد طال تشاجركما الليلة، قال الرجل: وجدت في نفسي منها نفرة، فقال لها علي عليه السلام: أليس كان يرغب فيك ابن عمك ومنعه أبوك منك، فخرجت ليلة لقضاء الحاجة فاغتالك ووطئك وحملت وأعلمت أمك، فلما وضعتيه ألقيتيه خارج الدار، فجاء كلب فشمه فخشيت أن يأكله فرميتيه بحجر فشجيت رأسه فعدت إليه أنت وأمك فشدت أمك رأسه بخرقة من مرطها ومضيتما؟ قالت: نعم، لم يعلم بها سوى أمي، قال:
فقد أطلعني الله عليه فأخذه بنو فلان وربوه وهو زوجك هذا، اكشف عن رأسك فكشف فوجدت الشجة فيه فقال: هو ابنك فخذيه، ولا نكاح بينكما.
ومنها ما قاله خطيب دمشق عن الحسين بن زكريا الفارسي أن أهل الكوفة طلبوا من علي أن ينقص لهم الفرات لما طفت، فلبس جبة النبي وعمامته وبردته وأخذ في يده قضيبه وأهوى به إليها فنقصت ثلاثة أذرع، فهذا بعض ما جاء من طريق الخصم وأما الطريق الآخر فكثير سلف منه جانب وسيأتي إن شاء الله جانب.
ولما ادعى الإمامة وأقسم عليها في قوله: وأيم الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، وقد أظهر الله كراماته على يده الدالة على صدقه، لأن الله تعالى لا يخرق العادات لعدوه والكاذب عليه، فعلم من ذلك صحة إمامته، كما علم من اقتران دعوى الرسول بمعجزته صحة نبوته.
وهذا كاف شاف لو لم يوجد نص على خلافته كما قال العلامة الفريد عز الدين ابن أبي الحديد:
وخلافة ما إن لها لو لم تكن | منصوصة عن جيد مجدك معدل |
عجبا لقوم أخروك وكعبك الـ | ـعالي وخد سواك أضرع أسفل |
(الفصل التاسع عشر)
نذكر فيه ما وعدنا به في أول الباب من إحاطته عليه السلام بفضائل أولي الألباب ولا عجب ممن رباه النبي المؤيد بالوحي الإلهي أن يبلغ الغاية القصوى من العلوم ويطلع على سر السر المكتوم فقد روى مسلم في أول كراس من صحيحه في تفسير سورة غافر عن ابن عباس كان علي تعرف به الفتن قال وأراه ذكر فيه كل جماعة كانت في الأرض أو تكون، وقال وروي عنه نحو ذلك كثير وروت الفرقة المحقة قوله عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرتكم بوقت نزولها وفي من نزلت وأنبأتكم بناسخها ومنسوخها، و خاصها وعامها، ومحكمها ومتشابهها، والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة، وزاد في نهج البلاغة: ومن يقتل من أهلها ومن يموت وفي غرر الحكم عن الآمدي: سلوني قبل أن تفقدوني فإني بطرق السماوات أخبر منكم بطرق الأرض. وقد اشتهر أن النبي صلى الله عليه وآله علمه ألف باب فتح له كل باب ألف باب، وفيه قال الشاعر:
علمه في مجلس واحد | ألف حديث حسبة الحاسب |
كل حديث من أحاديثه | يفتح ألفا عجب العاجب |
وكان من أحمد يوم الوغا | جلدة بين العين والحاجب |
قال الجاحظ: في تزكية علي لأبي بكر بالرواية عنه دون العكس، دليل الأفضلية، قلنا: ليس في الرواية عنه إن صح ذلك تزكية له، ولا استفادة منه، لجواز أن يكون عالما بها من الرسول فيرويها عنه إلزاما له، أو ليحتج بها على من يحسن ظنه به، وعلي لم يحتج إلى تزكية أبي بكر بعد تزكية الله تعالى في قوله:
(ويطهركم تطهيرا)(1) وتزكية رسول الله في قوله: (أنا حرب لمن حاربتم وولي
____________
(1) الأحزاب: 33.
قال: سكت علي ترجيحا للشيخوخة عليه، قلنا: في خطبته الشقشقية جواب هذا الكلام وقد روى أخطب خوارزم أن النبي صلى الله عليه وآله أعطى الراية ببدر لعلي وهو ابن عشرين سنة، فلم تمنعه الفتوة عن تأميره ولما بهرت عجايبه عقول الغلاة، ترفعوا به عن درجات المخلوقين، فحفر النار وألقى منهم كثيرا لينزلوا به إلى درجات المحدثين.
وأسند ابن جبر في نخبه إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه كان إذا نزل الوحي ليلا لم يصبح حتى يخبر به عليا وإذا نزل نهارا لم يمس حتى يخبر به عليا، وفيه أيضا من طرق عديدة أنه عليه السلام قال بحضرة المهاجرين والأنصار وأشار إلى صدره: كنيف ملئ علما لو وجدت له طالبا، سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله، هذا ما زقني رسول الله زقا، عندي علم الأولين والآخرين، لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان بكتبهم حتى ينادي كل كتاب بأنه حكم الله في وفي رواية: حتى يزهر كل كتاب ويقول: يا رب إن عليا قضى في.
وفيه أيضا: لو شئت أخبرت كل أحد منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه وفيه أيضا عن سلمان عندي علم المنايا والبلايا، والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الاسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، والفاروق الأكبر، سلوني عما يكون إلى يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلى عهدي.
وفيه عن المسيب: ما كان أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: سلوني، غير علي وعن ابن شبرمة ما قال أحد على المنبر سلوني غير علي، وفي تفسير الشيرازي من علمائهم في قوله: (فاسألوا أهل الذكر(1)) يعني محمدا وعليا وفاطمة والحسن و الحسين، هم أهل العلم والعقل والبيان، والله ما سمي المؤمن مؤمنا إلا كرامة لأمير المؤمنين علي عليه السلام.
____________
(1) النحل: 43.
تذنيب:
طعن أبو هاشم في الحكم بالكتب المتقدمة بأنه منسوخ لا يجوز الحكم بها. قلنا: لعل المراد منها علمه بأحكامها [ وعلمه بأحكامها ] الواردة في القرآن الناسخ لها أو أنه يعرف ما حرف منها فيقضي بينهم بغيره، ويرد قضاءهم به، أو يمكنه استخراج النصوص الواردة في حق النبي وأهل بيته منها.
تذنيب آخر:
مما سمعناه مذاكرة أن ابن الجوزي قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فسألته امرأة عما روي أن عليا سار في ليلة إلى سلمان فجهزه ورجع، فقال روي ذلك، قالت وعثمان تم ثلاثة أيام منبوذا في مزابل البقيع، و علي حاضر؟ قال: نعم، قالت: فقد لرم الخطأ لأحدهما. فقال: إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن بعلك فعليك لعنة الله وإلا فعليه فقالت خرجت عائشة إلى حرب علي بإذن النبي أولا؟ فانقطع.
وذكر ابن شهرآشوب عن الصفواني قالت: أم سلمة أعطاني النبي كتابا وقال من طلبه منك ممن يقوم مقامي فأعطيه فمضت الثلاثة ولم يطلبوه فلما بويع علي عليه السلام طلبه قالت: وكان فيه كل شئ دون قيام الساعة، وفي رواية عن ابن عباس لما فتحه قال: هذا علم الأبد.
تنبيه:
إذا كان الرب القديم جعل كل شئ في القرآن العظيم، فقال: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)(1) ومن المعلوم أن ذلك ليس في ظاهره فهو في باطنه فقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام قوله: سلوني ونحوها ولم يرد عليه أحد من الصحابة والتابعين، فهو الذي عنى الله بقوله (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين)(2) فهو أولى من الله بإمامته لقبح تقديم المفضول في حكمته والعلماء والحكماء وأهل الزواجر بفضله يعترفون، ومن لجج بحاره الزواخر يغترفون.
وأما المتكلمون فناهيك بنهج البلاغة وما فيه من التوحيد لباريه، وقد شهد له الرسول الذي هو مدينة العلم بأنه رباني هذه الأمة وقال الغزالي في كتاب
____________
(1) الأنعام: 59.
(2) يس: 12.
وقد روى ابن جبر في نخبه عن ابن عباس أن الله تعالى جمع القرآن في قلبه وجمعه بعد موت رسوله، وأما القراء فحمزة والكسائي يعولان على قراءته وقال ابن مسعود: ما رأيت أحدا أقرأ من علي، ونافع وابن كثير وأبو عمرو يرجعون في الأكثر إلى ابن عباس وهو قرأ على علي وأبي وقراءتهم تخالف قراءة أبي فهو عن علي، وعاصم قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي وهو قرأ على علي.
وأما المفسرون فابن عباس، وابن مسعود، وأبي، وزيد بن ثابت، معترفون له بالتقدم قال ابن شهرآشوب: سمعت مذاكرة أنه عليه السلام تكلم لابن عباس في الباء من بسم الله إلى قرب الفجر وقال لو زادنا الليل لزدنا، وفي قوت القلوب: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا في تفسير الفاتحة، وفي فضائل العكبري قال الشعبي: ما أحدكم أعلم بكتاب الله بعد نبي الله من علي ابن أبي طالب، وفي حلية الأولياء وتاريخ البلاذري أنه عليه السلام قال: ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، بليل أو نهار، في سهل أو جبل؟ إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا.
وأما الفقهاء فابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، وشريك من أهل الكوفة يرجعون إليه، ويترجمون الأبواب بقولهم هذا قياس قول علي، و الحسن وابن سيرين من أهل البصرة يأخذان عمن أخذ عن علي وقد أفصح ابن سيرين بأخذه عن عبيدة السلماني، وهو أخص الناس بعلي والمكيون أخذوا عن ابن عباس وعلي وأخذ ابن عباس معظم علمه عن علي، والمدنيون قد صنف الشافعي كتابا في اتباعهم لعلي وفي مسند أبي حنيفة قال له الصادق عليه السلام: من أين أخذت القياس، قال من علي وزيد حين شاجرهما عمر في الجد مع الإخوة فقال له علي:
لو أن شجرة انشعب منها غصن ثم انشعب منه غصنان أيهما أقرب إلى أحدهما الغصن
الأول أم الشجرة، وقال زيد: لو انبعث من الجدول ساقية وانبعث من الساقية