وفي مناقب ابن المغازلي حديث زيدة عن أمها أن النبي صلى الله عليه وآله وأبا طالب أخذا فاطمة بنت أسد حين اشتد عليها الطلق إلى الكعبة فولدت عليا. قال علي ابن الحسين عليهما السلام ما سمعت بشئ قط إلا وهذا أحسن منه.
وأسند الجاحظ بن ثابت إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: رأيت على باب الجنة في الإسراء [ مكتوب ] لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي حبيب الله، الحسن والحسين صفوة الله، وفاطمة أمة الله، على باغضيهم لعنة الله. شعر لمؤلفه:
يفنى المديح ولا يحيط بوصفه | أيحيط ما يفنى بما لا ينفد |
فجزاء من قاس الوصي بغيره | نار تؤجج حرها لا يبرد |
إذ حط مرتفعا وأعلى خافضا | بفضيلة ورذيلة لا تجحد |
روت الثقاة لهذه ولهذه | من وامق أو مارق يتفند |
(الباب الثامن)
* (فيما جاء في تعيينه من كلام ربه) *
ويندرج فيه شئ من كلام نبيه لأنه يؤكد ذلك ويزيده تعيينا وهو آيات كثيرة غزيرة نضع منها في هذا المختصر آيات يسيرة، كافية في الدلالة لذي بصيرة لا يجحده إلا كل ذي نفس شريرة، قبيحة السيرة خبيثة السريرة، لأنها آيات الكتاب المجيد، المفحم للمتعصب العنيد، السالك إلى الضلال البعيد، العادل بغيه الشديد، عن القرآن المجيد السديد، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد.
وقد أسند أبو علي الأشعري إلى أبي جعفر عليه السلام: نزل القرآن ربع فينا وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام.
وأسند الكلبي وجماعة إلى الأصبغ قول علي عليه السلام: نزل القرآن ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام، منها قوله تعالى في آية المباهلة (وأنفسنا وأنفسكم) سماه نفسه وقد اجتمعت الأمة على دلالتها على أفضلية أهل البيت.
قال الزمخشري: خرج النبي صلى الله عليه وآله بأعزته وأفلاذ كبده، ليهلك خصمه مع أحبته، وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء على غيرهم، وقد لاح ذلك للأسقف حيث قال: أرى وجوها لو سألوا [ الله ] أن يزيل جبلا لأزاله وذكر خطيب دمشق وصاحب جامع الأصول ما أخرجه مسلم في الكراس الثالث من الجزء الرابع، وأخرجه في آخره أيضا على حد كراسين، ورواه عن الحميدي في الجمع بين الصحيحين والترمذي في حديث سعد بن أبي وقاص حين لامه معاوية على تركه سب علي فقال: ثلاث قالهن له النبي صلى الله عليه وآله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. وقوله صلى الله عليه وآله: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله و
وفي تفسير الثعلبي مسندا إلى مقاتل والكلبي: لما نزلت الآية وخرج النبي صلى الله عليه وآله بهم قالت النصارى للعاقب: ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم أنه نبي والله ما لاعن قوم نبيا فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم. وقال الأسقف: إن باهلتموه لم يبق على وجه الأرض نصراني فطلبوا المصالحة على ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب كل عام فوادعهم وقال: والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى عليهم، ولو لاعنوا لمسخوا ولاضطرم الوادي عليهم نارا. ولا حال الحول على نجران وأهله ونحو ذلك ذكر ابن المغازلي في مناقبه والثعلبي والسدي وفي تفسير الحافظ أبو نعيم إلى غيره واكتفينا بقليله عن كثيره.
اعترض الواسطي الغوي بأن جميع قريش نفس النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى:
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم(1)) فلا خصوصية بالفضل في ذلك لعلي فلا يختص بالإمامة دون كل قريش. قلنا: قد سلم أن عليا نفس النبي صلى الله عليه وآله فيلتزم بهبوط الصحابة عن منزلة علي لتخصيص النبي له ولولديه وزوجته بالمباهلة دون كل قريش، والمعارض خص بها عليا بعد الثلاثة لأفضليته دون كل قريش ولم يأت لأحد من الفضائل ما أتى لعلي لحديث سعد وغيره.
قال صاحب الوسيلة في المجلد الخامس: قالت عايشة: قالت فاطمة: لما ذكر النبي صلى الله عليه وآله فضل [ بعض ] الصحابة لم يقل في علي شيئا فقيل له في ذلك فقال:
علي نفسي فمن رأيت يقول في نفسه شيئا.
وروى ابن جبر في نخبه أن النبي صلى الله عليه وآله سئل عن بعض الصحابة فقال فيه ما قال، فقيل له وعلي؟ فقال صلى الله عليه وآله: سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي، فلو كان الذين قال فيهم نفسه كعلي لما قال فيهم شيئا ومعنى النفس في الآية: أي من نسبكم؟؟ وقد قرئت (من أنفسكم) بفتح الفاء أي من أعلاكم وسيأتي البحث في
____________
(1) براءة: 129.
إن قالوا: يلزم على ما ذكرتم أن لا يقول النبي في نفسه ولا في علي شيئا البتة، وهو خلاف المشهور باعترافكم. قلنا: ذلك لا يلزمنا لكون المقام يقتضي هذا دون غيره فإن النبي صلى الله عليه وآله قال في مقام: أنا سيد ولد آدم [ آدم ] ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة، وقال في آخر: لا تفضلوني على يونس. على أن النفس لو صحت لكل قريش لم يبق لتخصيص الأبناء والنساء بالذكر فائدة لدخولهم في ذكر النفس.
إن قيل: أفردوا بالذكر لترجيح الخاص على العام. قلنا: ذلك هو مطلوبنا في أول الكلام.
فإن قيل: المراد بأنفسنا نفس النبي صلى الله عليه وآله. قلنا: ظاهر (ندع) يقتضي المغايرة إذ لا يكون الانسان داعيا لنفسه.
إن قيل: ذهب الجبائي إلى أن القائل لسليمان (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك(1)) هو سليمان فقد صح أن يخاطب الانسان نفسه. قلنا: هذا قول شاذ لم يذهب إليه سواه فدل على أن قانون اللغة يوجب المغايرة.
إن قيل: فقد يأمر الانسان نفسه (إن النفس لأمارة بالسوء(2)) فالآمر هنا هو المأمور والأمر كالدعاء. قلنا: لا، فإن الآمر هو القلب، والدعاء يقتضي مدعوا فافترقا. ولأن النصارى فهموا أن عليا نفسه ولهذا لم يقولوا: جئت بزيادة عمن شرطت.
وحكى الواحدي في الوسيط عن ابن حنبل أنه أراد بالأنفس بني العم والعرب تسمي ابن العم نفسا وقال تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم(3)) أي المؤمنين من إخوانكم. قلنا: مجاز لا يحمل عليه.
إن قيل: كون علي نفس النبي صلى الله عليه وآله مجازا أيضا. قلنا: مسلم ولكنه
____________
(1) النحل: 40.
(2) يوسف: 53.
(3) الحجرات: 11.
بيان القرب قول النبي صلى الله عليه وآله له في رواية ابن سيرين: يا علي أنت مني و أنا منك. وذكره البخاري وفي فضائل السمعاني وتاريخ الخطيب وفردوس الديلمي عن ابن عباس: علي مني مثل رأسي من بدني وقوله: أنت مني كروحي من جسدي، وقوله: أنت مني كالصنو من الصنو.
ويؤيد ما قلناه أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي: أنا وأنت من شجرة واحدة، رواه الخركوشي والثعلبي في الكشف والبيان وكذا رواه في أماليه ابن شاذان و النطنزي في الخصائص وشيرويه في الفردوس وفي تفسير عطاء الخراساني والفلكي الطوسي، ونحوه أبو صالح المؤذن والسمعاني وقد أخرج صاحب المراصد قول النبي صلى الله عليه وآله لزيد بن حارثة: علي كنفسي لا فرق بيني وبينه إلا النبوة فمن شك فقد كفر. ونحو ذلك كثير من جنسه وغير جنسه.
إن قيل: لم يقصد في المباهلة الأفضل بل النسب ولهذا أحضر الحسنين و كانا طفلين. قلنا: لولا إرادة الفضل لدعا عقيلا وعباسا وولده فإنهم انضموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وأسلموا قبل المباهلة بمدة والمباهلة كانت في سنة عشر من الهجرة وقد كان الحسنان في حد العقل والعرفان، وإن لم يبلغا حد التكليف على أنه يجوز اختصاصهما بما يخرق العادة فيهما لثبوت إمامتهما وقد شهرت في عيون الزمان مدائحهم في كل أوان قال الحماني:
وأنزله منه النبي كنفسه | رواية أبرار تأدت إلى البر |
فمن نفسه منكم كنفس محمد | ألا بأبي نفس المطهر والطهر |
وقال ابن حماد:
فسماه رب العرش في الذكر نفسه | فحسبك هذا القول إن كنت ذا خبر |
وقال لهم: هذا وصيي ووارثي | ومن شد رب العالمين به أزري |
وله أيضا:
وقال ما قد رويتم حين ألحقه | بنفسه عند تأليف يؤلفه |
ونفس سيدنا أولى النفوس بنا | حقا على باطل النصاب نقذفه |
العلوي:
وألحقه يوم البهال بنفسه | بأمر أتى من رافع السماوات |
فمن نفسه منكم كنفس محمد | بني الإفك والبهتان والفجرات |
وأسند أبو العلاء القطان أن النبي صلى الله عليه وآله أتاه قنوموز فجعل يقشره ويضعه في فم علي فقيل: إنك تحبه فقال صلى الله عليه وآله: أو ما علمت أنه مني وأنا منه.
الحميري:
أنت ابن عمي الذي قد كان بعد أبي | إذ غاب عني أبي لي حاضنا وأبا |
ما إن عرفت سوى عمي أبيك أبا | ولا سواك أخا طفلا ولا شيبا |
كم فرجت كفك اليمنى بذي شطب | في مارق حرج عن وجهي الكربا |
وهؤلاء أهل شرك لا خلاق لهم | من مات كان لنار وقدت حطبا |
الصاحب:
أما عرفتم سمو منزله | أما عرفتم علو مثواه |
أما رأيتم محمدا حدبا | عليه قد حاطه ورباه |
واختصه يافعا وآثره | واعتامه مخلصا وآخاه |
زوجه بضعة النبوة إذ | رآه خير امرء وأتقاه |
وقال آخر:
بمن باهل الله أعداءه | وكان الرسول به أبهلا |
وهذا الكتاب وإعجازه | على من وفي بيت من أنزلا؟ |
وقال آخر:
أنت يوم الغدير أمرك | الله وهم أمرتهم الغوغاء |
أين كانوا يوم نجران إذ قيـ | ـل تعالوا وكلكم شهداء |
أين كانت فلانة وفلان | بان ثم الدناة والشرفاء |
يا من يقيس به سواه جهالة | دع عنك هذا فالقياس مضيع |
لو لم يكن في النص إلا أنه | نفس النبي كفاه هذا الموضع |
فقد بان في هذا بلوغ علي أعلى غايات الكمال، وأقصى نهايات الجلال و الجمال، وجعله الله وولديه حجة على تصديق نبيه، فهم كالقرآن الذي تحدى العرب به، فلزم وجوب متابعته، وإذا كان رفع الصوت على النبي يحبط العمل بنص الكتاب، فالمقدم بين يدي الله ورسوله بتأخير وصيه ذاهب عن الصواب.
ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(1) فقد روي أن جابرا لما نزلت هذه الآية قال للنبي: قد عرفنا الله و رسوله، فمن (أولي الأمر)؟ قال: خلفائي وأئمة المسلمين بعدي: أولهم علي بن أبي طالب.
وقد أسند الشيخ العالم الإصفهاني الأموي إلى الصادق عليه السلام أن عليا عليه السلام من أولي الأمر فسأله أبو مريم: هل كانت طاعته مفروضة؟ فقال: والله ما كانت لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله ولآله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة أمير المؤمنين من طاعة الله(2) وروي من طريق آخر نزولها في علي بن أبي طالب وآل محمد عليهم السلام.
قالوا: لا عموم لطاعة أولي الأمر بعد تكرير لفظ (أطيعوا) فيها فإن أمروا بما يدخل في طاعة الله ورسوله أطيعوا وإلا فلا، ولهذا لم يأمر بالرد إليهم عند النزاع في قوله: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله وإلى الرسول) ولم يقل: و إلى أولي الأمر.
قلنا أولا: واو العطف للجمع المطلق كما قرر في الأصول فلا يدل على المتقدم من المتأخر.
____________
(1) النساء: 59.
(2) ومن أطاع أمير المؤمنين فقد أطاع الله. خ.
إن قيل: فهذه وإن لم تدل على عموم الطاعة، لكن الأولى دلت فبها عمت قلنا: الآية الخالية من التكرير سواء تقدمت على هذه أو تأخرت لزم منها تبعيض طاعة الرسول في بعض الأوقات وهو باطل بالاجماع وإنما لم يقل في آية النزاع و إلى أولي الأمر منكم إيماء إلى أن طاعتهم قسم من طاعة الرسول ويؤيده: (إن كنتم تؤمنون) على الشك والإمام ليس في إيمانه شك.
وثالثا: أن طاعة الله ورسوله واجبة دائما، والمعطوف عليهما بحكمهما، ولا يجب طاعة غير المعصوم دائما.
قالوا: أولوا الأمر أمراء السرايا. قلنا: لم يجتمع العلم فيهم الذي أمر الله بالرجوع فيه إليهم في قوله (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)(2) على أن أول أمراء السرايا علي بن أبي طالب كما رواه الشعبي عن ابن عباس في تفسير مجاهد أن الآية نزلت في علي حين استخلفه في المدينة النبي، وفي إبانة الفلكي أنها نزلت حين شكا أبو بردة من علي.
قالوا: هم علماء العامة. قلنا: لا يأمر الله باتباعهم لوجود الاختلاف بينهم بل التناقص فيهم.
ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين(3)) ثم بين الصادقين في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا(4) وحين البأس اشتداد الحرب، وتواتر الطعن والضرب، وقد هرب من لا خفاء فيه، ولزب من لا غطاء
____________
(1) الأنفال: 1 و 20 و 47.
(2) النساء: 86.
(3) براءة: 120.
(4) البقرة: 177.
وأيضا قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا(1)) روى المفسرون أنها نزلت في علي وحمزة ولا ريب أنه لما قتل حمزة اختصت بعلي فأمن منه التبديل بحكم التنزيل وروى اختصاصها بعلي: ابن عباس، والصادق، وأبو نعيم الحافظ، وصدق ذلك طائفة ما روي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين(2)) قال هو علي بن أبي طالب لأن الله تعالى عرض على إبراهيم ولايته فسأله أن يجعلها في ذريته ففعل. شعر:
فهذي المزايا بعض ما حلى به | وجيئ من الخيرات والبركات |
نطقت بها آي الكتاب وحسبها | أن جاء شاهدها من الآيات |
إن قيل: (صدقوا) و (ما بدلوا) ماضيان، فلا يدلان على عدم التبديل في مستقبل الأزمان قلنا: قد أريد بالماضي الاستقبال كما في قوله تعالى (ونادوا يا مالك(3)) (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة(4)) (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار(5)).
إن قيل: هو من المجاز. قلنا: يتعين الحمل عليه لقول النبي صلى الله عليه وآله فيه:
علي يدور مع الحق حيث دار، وغيره، وقد بلغ في الاشتهار إلى حد يمتنع فيه الانكار.
قال إمامهم الرازي: ليس المراد بالصادقين من كان صادقا في بعض الأمور
____________
(1) الأحزاب: 23.
(2) الشعراء: 74.
(3) الزخرف: 77.
(4) الأعراف: 49.
(6) ص: 62.
ولا يستوحش مما ذكرنا بما نقل عن الضحاك أنها نزلت في أبي بكر وعمر فقد ذكر محمد بن حبان صاحب كتاب المجروحين أن الضحاك ضعيف ونزولها في علي أسنده أبو نعيم الحافظ وهو من القوم برجاله إلى ابن عباس وكذا الثعلبي رواه عن ابن عباس فإذا أمر الله بالكون معهم على الاطلاق اقتضى عصمتهم عن ذميم الأخلاق.
إن قيل: يخص بمنفصل عقلي الكون معهم، وهو ما علم فيه صدقهم، فلا يدل على عصمتهم. قلنا: غير المعصوم لا يعلم الصدق فيه، وحسن الظاهر لا يوصلنا إليه، لظهور النفاق في كثير ممن يعتمد عليه.
إن قيل: لم لا يكون الصادق أبو ذر الذي قال النبي صلى الله عليه وآله فيه: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر، قلنا: هذا عام مخصوص أفتراه أصدق من النبي صلى الله عليه وآله فيختص بغير من ثبتت عصمته.
إن قيل: إن أفعل التفضيل يرجحه على غيره، قلنا: جاءت لغير التفضيل مثل قوله تعالى (وسيجنبها الأتقى(1)) وفي الشريعة الحدث الأصغر أو الأكبر وفي الشعر:
تمنت سليمى أن أموت وإن أمت | فتلك سبيل لست فيها بأوحد |
على أنه قد أورد ابن قرطة في مراصد العرفان زيادة هي أنه لما قيل ذلك لأبي ذر وعلي عليه السلام مقبل، إلا هذا المقبل، والمقر في الأصول قبول الزيادة و تقديمها على ما فيها مع أن الله قد بين الصادق في قوله تعالى (ولكن البر من
____________
(1) الليل: 17.
فأول النعوت الإيمان بالله، وقد سبق في الفصل الثاني والعشرين من الباب السابع.
وثانيها إيتاء الزكاة وهو مشهور في قصة الخاتم وسيأتي قريبا إن شاء الله، و الوفاء بالعهد وغيره وقد كفى ما أتى في هل أتى من مديحه وقد أورد الزمخشري في كشافه والثعلبي في تفسيره وزاد محمد بن علي الغزالي في كتاب البلغة نزول المائدة عليهم بعد تصدقهم بالطعام، وقيامهم بالصيام، فأكلوا منها سبعة أيام، و رواه أخطب خوارزم في كتابه.
وثالثها الرقاب فإن عليا عليه السلام عمر أرضا وباعها واشترى بها رقابا وأعتقها.
ورابعها حين البأس، وهو حال الفرار من الزحف ومعلوم ثبوت علي عليه السلام في جميع أوقاته حتى تعجبت الملائكة من حملاته، وقال فيه ملك يقال له رضوان:
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. فوضع في أوله حسان أبياته الحسان:
جبريل نادى في السما | والنقع ليس بمنجلي |
والخيل تعثر بالجماجـ | ـم والوشيح الذبل |
والمسلمون قد أحدقوا | حول النبي المرسل |
هذا النداء لمن له | الزاهراء ربة منزل |
لا سيف إلا ذو الفقار | ولا فتى إلا علي |
إن قلت: كيف ذكر جبرائيل حسان مع أن المنادي رضوان؟ قلت: جاز
____________
(1) البقرة: 177.
وضربته كبيعته بخم | معاقدها من الناس الرقاب |
هو النبأ العظيم وفلك نوح | وباب الله وانقطع الخطاب |
واعترف له المأمون الخليفة في قوله:
ألام على شكر الوصي أبي الحسن | وذلك عندي من عجائب ذي المنن |
خليفة خير الناس والأول الذي | أعان رسول الله في السر والعلن |
وقد روى ابن قتيبة في المعارف وهو منهم فرار الشيخين بوقعة حنين وفي بدر قتل علي عليه السلام خمسة وثلاثين بطلا عرف ذلك من اتحاد ضرباته وتكثر ضربات غيره، ومن المستحيل عد أبي بكر من الشجعان، وقد فر في أحد يوم التقى الجمعان، وثبت علي للطعان، ومكابدة الأقران، وكتب هذا الفن تجعل الخبر فيها كالعيان، وإذا اجتمعت النعوت في علي، وجب الكون معه بالأمر الإلهي.
ومنها قوله تعالى (بلغ ما أنزل إليك من ربك(1)) قالوا: قلتم: كانت في المصحف (في علي) فأسقطها أهل السنة كيف ذلك والله تعالى يقول: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(2)). قلنا: هذه الدعوى لم يذهب إليها إمامي كيف وقد أجمعوا على أن من قرأ بتلك الزيادة في صلاته بطلت، وإنما قلنا:
إنها نزلت في علي وقد قال ابن المرتضى في تفسيره: نقل الثعلبي عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام أن المراد بقوله تعالى (بلغ ما أنزل إليك) في فضل علي عليه السلام ونقله أيضا عن الفراء فأقامه بغدير خم وسيأتي إن شاء الله محررا ونقل نزولها فيه أيضا الثعلبي وأبو القاسم الحسكاني عن ابن عباس ونقلها ابن البطريق في الخصائص عن أبي القاسم، ومن تفسير الثعلبي كل منها بطرق عديدة.
ومنها قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
____________
(1) المائدة: 70.
(2) فصلت: 42.
وروى نزولها فيه رزين في الجزء الثالث من الجمع بين الصحاح، وذكره في صحيحه النسائي عن ابن سلام، ورواه الفقيه الشافعي ابن المغازلي من طرق خمسة، والماوردي، والقشيري، والنيسابوري، والقزويني، والفلكي في الإبانة، والطوسي والإصفهاني في تفاسيرهم، عن السدي، ومجاهد، والحسن والأعمش، وعتيبة، وغالب، وابن الربيع، وعباية، وابن عباس.
وابن البيع في معرفة أصول الحديث، والواحدي في أسباب النزول، و السمعاني في فضائل الصحابة، وأبو بكر الرازي في أحكام القرآن، وسليمان بن أحمد في المعجم الأوسط. والبيهقي في الشعب، ومحمد بن فتال في التنزيل والروضة وابن أبي رافع وذكر أن هذان إمامان وابن عباس، والثقفي، وأبو صالح ومجاهد، والشعبي، والنطنزي في الخصائص وناصح التميمي، والكلبي.
____________
(1) المائدة: 55.
(2) القصص: 35.
والحسين بن جبر في كتابه نخب المناقب، وابن البطريق في كتاب الخصائص من عدة طرق، ومحمد بن جرير الطبري وابن بابويه القمي في الأمالي مسندا إلى عمر بن الخطاب قال: تصدقت بأربعين خاتما وأنا راكع لينزل في ما نزل في علي فلم ينزل.
وأسنده صاحب الكافي إلى الصادق عن آبائه عليهم السلام: لما نزلت (إنما وليكم الله ورسوله) الآية اجتمع نفر في المسجد فقالوا: هذا ذل حين سلط علينا علي بن أبي طالب وقد علمنا صدق محمد ولكن نتولاه ولا نطيع عليا فنزلت: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها - يعني ولاية علي - وأكثرهم الكافرون(1)) لولاية علي.
فقد ظهر بنقل الفريقين وإطباق الخصمين نزولها في علي عليه السلام.
قالوا: كان بين علي وأسامة بن زيد بعد الغدير كلام فقال له علي: ألست مولاك بالأمس؟ قلنا: قد ولاه عليه النخاس وولاه الله عليه في جملة الناس، كما رويتم في الآيات المنتزعة عن ابن عباس على أن المقرر في الأصول أن السبب لا يخص.
قالوا: أسند الثعلبي عن ابن عباس نزولها في عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: كان بينه وبين اليهود حلف فلما أسلم قطعوه فنزلت تسلية له. قلنا:
أكثر روايتها في علي منكم ومن ولايتهم عليكم فلا يعدل عنها إلى رواية نادرة و كيف تكون في الأصحاب وقد حدثت المناكير من أكثرهم.
فنقول حينئذ: لفظة (إنما) تفيد الحصر، ومنه قوله تعالى (إنما إلهكم الله(2)) أراد تعالى إثبات الإلهية لنفسه ونفيها عن غيره وكذا (إنما أنت منذر(3)) وفهم ابن عباس اختصاص الربا بالنسبة في قوله صلى الله عليه وآله (إنما الربا في النسية) وقال الشاعر:
____________
(1) النحل: 83.
(2) طه: 98.
(3) الرعد: 8.