الصفحة 262

أنا الزائد الحامي الذمار وإنمايدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

وقال: (إنما العزة للكاثر(1)) وإنما مركبة من (إن) وهي للاثبات و (ما) وهي للنفي، فإن تواردا على محل اجتمع المتنافيان فلا بد من محلين فإن ورد الاثبات على غير المذكور والنفي عليه فباطل بالاجماع، فتعين العكس وهو إثبات المذكور ونفي المهجور.

قالوا: جاءت إنما لغير الحصر في قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم(2)) وقولهم: إنما الناس العلماء مع وجود الإيمان في غيرهم.

قلنا: ذلك للمبالغة في مدحهم، لا لنفي الإيمان والناس عن غيرهم، ولهذا إن الجهال وناقصي الإيمان تنفر طبايعهم عند هذا الكلام، ولولا إفادة الحصر لم يحصل ذلك.

إن قالوا: فما المانع من أن يكون ذكرها في آية الولاية للمبالغة لا لنفي الولاية عن غيره. قلنا: فلا بد للمبالغة من زيادة معنى لامتناع العبث فأصل الولاية ثابت لكل مؤمن في قوله تعالى: (والمؤمنون بعضهم أولياء بعض(3)) ولا زيادة في المعنى توجب المبالغة سوى الولاية العامة وهي المطلوبة هنا إذ هي الإمامة.

قالوا: (إنما أنت منذر) ليس فيها حصر لوجود الانذار لغيره. قلنا: بلى إذ التقدير إنما أنت منذر لا مجبر ولم يقل الله تعالى: (إنما أنت المنذر).

قالوا: إذا أفادت الحصر لزم منه سلب إمامة أولاده وأنتم لا تقولون به.

قلنا: إذا قام الدليل الخارج على إمامتهم كان كافيا فيهم وستأتي الكرامات منهم والنصوص من جدهم عليهم ولأن الصدقة إذا وقعت من أبيهم جازت نسبتها إليهم مثل قوله تعالى في متأخري اليهود: (فلم تقتلون أنبياء الله(4)) والقتل من أسلافهم

____________

(1) أوله: ولست بالأكثر منهم حصى.

(2) الأنفال: 2.

(3) براءة: 71. وفيه: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم الخ.

(4) البقرة: 91.


الصفحة 263
قال بعض الأدباء: هذه إنما وليكم الله أتت بالولاية من الله فيه
فإذا ما اقتضى من اللفظ معنىفيه كانت من بعده لبنيه

ولئن خصصنا الخطاب بالحاضرين كما هو ظاهر الآية، تم الحصر أيضا و نستفيد إمامتهم من غيرها.

إن قيل: (يقيمون) و (يؤتون) للاستقبال فيصح لكل من يفعل ذلك.

قلنا: قد نقلنا من طرقكم نزولها في علي ونقلنا أن عمر تصدق مرارا فلم ينزل فيه شئ وصيغة الاستقبال لا تستلزمه كقوله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله) (يريدون ليطفئوا نور الله(1)) ونحوها كثير وإنما تخلص اللفظ للاستقبال السين وسوف، وهنا تخلص للحال بقوله تعالى (وهم راكعون) كما يقال: رأيت الأمير وهو آكل، ولقيته وهو راكب، ولو كان (وهم راكعون) استينافا لزم التكرار لدخوله في ذكر الصلاة وإذا كانت الولاية هي التصرف وهي ثابتة لبعض الأمة تعينت لعلي بالاجماع على أن الآية لا تقتضي إمامة غيره فلو لم تثبت ألغيت الآية ولو فر من عمومها الناس دخل علي فيها بالاجماع ويلزم من ذلك ثبوت إمامته لوجوب اتحاد الإضافة.

وربما قيل: إن كل واحد منهم زكا راكعا لتعميم الآية وفيه نظر إذ قد بينا أن المراد بيؤتون الحال دون الاستقبال إلا أن يقال لم يرد بالحال الزمان الحال، بل حال الركوع فيذهب الإشكال.

قالوا: الذين لفظ جمع فلا يحمل على الواحد. قلنا: في العرف والاستعمال موضوع للواحد للتعظيم والتفخيم مثل (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (إنا نحن نزلنا الذكر) (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس(2) أراد إبراهيم أو النبي عليهما السلام

____________

(1) الفتح: 15. الصف: 8.

(2) القدر: 1، الحجر: 9. البقرة: 199.


الصفحة 264
وقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم(1)) أراد تعالى نعيم بن مسعود ولو حمل لفظ (الذين) على العموم لزم أن يكون كل واحد وليا لنفسه فكأنه قال إنما وليكم بعد الله ورسوله أنتم هذا وقد ذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه لا صيغة تختص بالعموم.

قالوا: ذكرتم أن عليا كانوا يخرجون النصول من جسده في سجوده لانجذاب نفسه إلى ملاحظة عظمة ربه فكيف شعر بالسائل في صلاته؟ قلنا: ذلك من خصائصه عليه السلام ليجمع بين العبادتين وليس في ذلك انصراف عن عظمته تعالى بل انصراف إليها من جهة أخرى فإن الساقي لا يضل مع سكره عن أن يشرب ويسقي ندماءه قال بعضهم:


يسقي ويشرب لا تلهيه سكرتهعن النديم ولا يلهو عن الكأس
أطاعه سكره حتى تمكن منفعل الصحاة فهذا أفضل الناس

قالوا: المشهور بين الفريقين(2) أن عليا عليه السلام قال: الفخر بالفقر ولا زكاة مع الفقر. قلنا: الفقر هنا هو سلب الاعتماد على غير الله ولو سلم أنه فقير المال لم يناف الزكاة المستحبة وهي مطلق التطوع وعلى تقدير وجوبها لا يلزم نفي الفقر عمن كلف به لجواز حصول نصابها مع دين يستغرقها فإنه لا يمنعها قال الخوارزمي:


مؤد في الركوع زكاة مالجرايب قد حواها بالجراب

قالوا: هو جواد وهل تجب الزكاة على الجواد؟ قلنا: كلام الجواد خطابي مع أن دفع الزكاة جود فكيف ينافي الجود، بل كيف يتحقق الجود مع نفي ما به يجود على أن الاعطاء يتعلق بالحكمة والمصلحة وإلا لنسب عدم الجود إلى الله في منع الفقراء.

قالوا: الركوع لغة الخضوع فمعنى (وهم راكعون) أي وهم متواضعون قلنا: لا بل الركوع هو التطأطؤ قال صاحب كتاب العين: كل من ينكب لوجهه

____________

(1) آل عمران: 172.

(2) المشهور عن علي الفخر بالفقر، خ.


الصفحة 265
سواء مست ركبتاه الأرض أو لا فهو راكع ومثله قال ابن دريد وإن حمل الركوع على التواضع فهو من المجاز.

قالوا: فالزكاة الواجبة تفتقر إلى نية وهي مبطلة للصلاة. قلنا: نمنع إبطالها إذ هي قلبية ولا منافاة بينها وبين الصلاة للاكتفاء بالاستمرار الحكمي ولجواز أن يكون أومأ إلى الفقير فأخذ الخاتم ولم ينو الزكاة حتى فرغ وكان الايماء فعلا قليلا، ولو فرضت كثرته جاز أن يكون جايزا نسخ كما كان الكلام في الصلاة جايزا ثم نسخ فإنه قد روي عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة فلما نزل قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين(1)) أمسكنا عن الكلام.

وبالجملة فعلي أفقه الأمة والحجة الكبرى في فعله فلا وصمة وقد أسلفنا إثبات عصمته، وقد ذكر ابن حنبل في مسنده عن سعيد: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله يقول: سلوني. غير علي عليه السلام وقد مدحه الله على ذلك، فلو كان مفسدا للصلاة لم يثن الله تعالى عليه على فعله، وقد أسند الحافظ أبو نعيم وصاحب النخب أنه كان يصلي النافلة.

وإذا تخلصت هذه الأمور لعلي عليه السلام ثبتت ولايته بالعطف على ولاية الرسول المعطوفة على ولاية الله تعالى وإذا ثبت ولايته حكم بحصول عصمته لإطلاق وجوب طاعة خليفته فلو وقع منه قبيح كان الله قد أوجب فعله على خليقته هذا وقد نظمت في ذلك الأعيان، على اختلاف البلدان والأزمان، فقال فيه حسان أبياته الحسان:


أبا حسن تفديك نفسي وأسرتيوكل بطئ في الهوي ومسارع
أيذهب مدحا من محبيك ضايعاوما المدح في جنب الإله بضايع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعازكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولايةوثبتها في محكمات الشرائع

ذكر ذلك صاحب المنهاج بإسناده وسيأتي في باب رد الشبهات أطراف أخر في هذا.

____________

(1) البقرة: 238.


الصفحة 266
وقال دعبل الخزاعي، الساعي بنشر فضائله أحسن المساعي:


نطق القرآن بفضل آل محمدوولاية لعليه لم تجحد
بولاية المختار من خير الورىبعد النبي الصادق المتودد
إذ جاءه المسكين حال صلاتهفامتد طوعا بالذراع وباليد
فتناول المسكين منه خاتماهبة الكريم الأجودي الأجود
فاختصه الرحمن في تنزيلهمن حاز مثل فخاره فليعدد
إن الإله وليكم ورسولهوالمؤمنون ومن يشأ فليجحد
يكن الإله خصيمه فيها غداوالله ليس بمخلف في الموعد

وقال السيد الرضي في جملة مدائحه لأمير المؤمنين عليه السلام:


ومن سمحت بخاتمه يمينتضن بكل عالية الكعاب
أهذا البدر يكسف بالدياجيوعين الشمس تعمش بالضباب

وقال العوني:


تصدق بالختام لله راكعافأثنى عليه الله في محكم الذكر
وأنزل فيه الله وحيا مفصلالدى هل أتى إذ قال يوفون بالنذر

وقال أيضا:


أبن لي من في القوم جاد بخاتمعلى السائل المعتر إذ جاء قانعا؟
وجاد به سرا فأفشاه ربهوبين من كان المصدق راكعا

وقال آخر:


أيمن بخاتمة تصدق راكعايرجو بذاك رضا القريب الداني
حتى تقرب منه بعد نبيهبولاية وشواهد ومعاني
بولاية في آية لأولي النهىجاءت حصاهم واحد واثنان
الأول الصمد المقدس ذكرهونبيه ووصيه التبعان
هل في تلاوتها بأن ذوي هدىمن قبل ثالث أهلها يليان

ومنها قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي

الصفحة 267
قال لا ينال عهدي الظالمين(1)) وقد قال الرب العليم (إن الشرك لظلم عظيم(2)) وأبو بكر وعمر وعثمان عبدوا الأوثان، برهة من الزمان.

إن قيل: توبتهم ترفع الظلم عنهم. قلنا: اللفظ مطلق فتخصيصه بوقت ترجيح بغير مرجح، ولأنه قد تقرر في الأصول عدم اشتراط بقاء المعنى في صدقه.

إن قيل: فعلى هذا يطلق على أكابر الصحابة الذين أسلموا أنهم ظلمة.

قلنا: سلمنا ذلك لغة ونمنع منه شرعا.

إن قيل: فعلي يدخل في ذلك لتجدد إسلامه قلنا: لا، بل أظهر الاسلام لانعقاد إجماع الأنام، أنه لم يسجد للأصنام، ولهذا اختص وحده بكرم الله وجهه.

إن قيل: (لا ينال عهدي الظالمين) مهملة وهي كالجزئية فيصير التقدير لا ينال عهدي بعض الظالمين ولا يدل هذا في الثلاثة على خروجهم من وصول العهد إليهم. قلنا: عهدي مضاف وهي للعموم والألف واللام للاستغراق وذلك يدل على أنها كلية وقد قيل بسقوط المهملة في كلام العرب لأن القضية إن وجد فيها الألف واللام فكلية وإن عدما فجزئية فلا مهملة، على أن (لا ينال) نكرة منفية فهي للعموم كما قرر في العربية وأيضا (ينال عهدي الظالمين) موجبة جزئية على رأي الخصم فنقيضها (لا ينال عهدي) سالبة كلية ولأنه يصح استثناء كل زمان منه وهو معيار العموم فما يهول به كلام موهوم.

إن قيل: تقديم حرف النفي دل على السلب الجزئي. قلنا: كلام المنفرد بالجلال، أصدق من هذا الخيال، إذ قال (ولا تقتلوا النفس. ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل. ولا تقربوا الزنى، ولا تأكلوا الربى(3)). وغيرها.

إن قالوا: هذه نواهي وما نحن بصدده خبر، فلا قياس. قلنا: فقوله: لا إله إلا الله خبر ولا تدركه الأبصار خبر مع جواز أن يراد بالخبر في قوله (لا ينال

____________

(1) البقرة: 124.

(2) لقمان: 13.

(3) الأنعام: 151، البقرة: 188، أسرى: 32، آل عمران: 130.


الصفحة 268
عهدي الظالمين) النهي كما في لا تجتمع أمتي على ضلال على رأي من ضم عينها و يكون ذلك نهيا لإبراهيم عليه السلام أن يجعل الإمامة في ظالم.

إن قيل: إمامة إبراهيم هي النبوة ونحن نسلم اشتراط النبوة بعدم الظلم ولا يلزم ذلك في الإمامة. قلنا: الإمامة فرع النبوة فالمانع منها مانع منها، مع أن صريح الآية في الإمامة ولما استلزمت النبوة الإمامة ذكر الله سبحانه اللازم ثم نفاه عن الظالم.

إن قيل: إنما نفي الملزوم وهو النبوة فلا يلزم من نفيه نفي اللازم وهو الإمامة، قلنا: هذا خلاف ظاهر الآية.

إن قيل: نمنع كون مانع الأصل مانع الفرع كما ذكرتم، فإن القاضي فرع النبي والإمام وليس مانعهما مانعه. قلنا: بينهما فرقان فإن وجود النبي والإمام عليه السلام يمنع النائب من ارتكاب الآثام، خوفا من عزله والضرب على يده بخلاف الإمام، إذ قيامه بمصالح الأنام بعد موت النبي صلى الله عليه وآله.

إن قيل: لا يتعين العهد لكونه للإمامة. قلنا: تالي الكلام مبني على مقدمته ومقدمته الإمام، ألا ترى لو قال الملك لشخص: إني جاعلك وزيرا. فقال:

ومن ذريتي فقال الملك: لا يصل عهدي إلى من كان شريرا، فهم السامعون من غير تأخير عدم وصول الوزارة إلى الشرير ولو سلمنا اشتراك لفظ العهد لم يضرنا لوجوب حمل اللفظ على عمومه، فتدخل الإمامة فيه، وهذا مثل قول القائل لا ينال عطائي الفاسق فإنه يقتضي نفي جنس عطائه عنهم بالاطلاق.

قال فخر الدين الرازي: هذه الآية كما دلت على أن عليا هو الإمام بعد الرسول دلت على أنه لم يكفر طرفة عين لأنه لو كان قد كفر للزم بحكم الآية أن لا يكون أهلا للإمامة وثبت أيضا أن أبا بكر والعباس ليسا أهلا لها بمقتضى الآية، فلو جاز الكفر عليه لزم خروج الثلاثة عن مقتضى الآية وهي أهليته للإمامة، وكان إجماع الأمة على أن الإمامة بعد الرسول لأحد الثلاثة باطلا، و بطلان الاجماع باطل، وأبو بكر والعباس كانا كافرين، فثبت أن عليا لم يكفر

الصفحة 269
طرفة عين لئلا يلزم الطعن في الاجماع انتهى ملخصا.

وقد أسند الفقيه الشافعي عن علي بن المغازلي في كتاب المناقب أن النبي صلى الله عليه وآله قال: انتهت دعوة إبراهيم عليه السلام وهي قوله (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) إلى وإلى علي فأنا وعلي لم يسجد أحدنا لصنم فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا وقد طلب النبي صلى الله عليه وآله غلاما لم يعبد صنما فأتوه بزيد بن ثابت فجعل إليه كتابة الوحي فالنبي لم يجوز كتابة الوحي لمن عبد وثنا ولو آية فكيف يجوز أن يحكم في دين الله من كان أكثر عمره في الشرك بالله.

وأسند ابن المغازلي في الكتاب من طرق عدة قول النبي صلى الله عليه وآله: يا علي إنك سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب المؤمنين وأسند في طرق آخر قوله صلى الله عليه وآله: أوحى الله إلي ليلة الإسراء في علي أنه سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. وأسند نحوه من طريق آخر وفي آخره: قائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم.

وأسند إليه صلى الله عليه وآله في طريق آخر: أن الله تعالى عهد إلي في علي عهدا فقلت يا رب بينه لي فقال: اسمع، قلت: سمعت قال: إن عليا راية الهدى، و إمام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها للمتقين، من أحبه أحبني، ومن أطاعه أطاعني، فبشره بذلك، فبشرته، فقلت: اللهم أجل قلبه واجعل ربيعه الإيمان، فقال عز وجل: فقد فعلت.

وأسند الخطيب في تاريخه إلى النبي صلى الله عليه وآله: ما في القيامة راكب غير أربعة أنا وصالح وحمزة وأخي علي بن أبي طالب على ناقة من الجنة، بيده لواء الحمد ينادي بالشهادتين، فتقول الخلائق هذا نبي مرسل، أو ملك مقرب؟ فينادون هذا علي بن أبي طالب وصي رسول رب العالمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.

وأسند ابن مردويه وهو من ثقاتهم إلى أبان بن تغلب عن مسلم! قال: سمعت أبا ذر والمقداد وسلمان يقولون: كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وآله إذ أقبل ثلاثة من المهاجرين، فقال صلى الله عليه وآله: تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق فرقة أهل حق لا يشوبونه

الصفحة 270
بباطل، مثلهم كالذهب كلما فتنته النار زاد جودة وطيبا وإمامهم هذا وأشار إلى أحد الثلاثة، وهو الذي أمر الله في كتابه إماما ورحمة وفرقة أهل باطل لا يشوبونه بحق مثلهم كخبث الحديد كلما فتنته النار زاد خبثا وإمامهم هذا، فسألتهم عن أهل الحق وإمامهم فقالوا: علي بن أبي طالب إمام المتقين، وأمسكوا عن الآخرين فجهدت في الآخرين أن يسموهما فلم يفعلوا.

هذه رواية أهل المذهب، وأما الفرقة المحقة فروى الحسين بن جبر في نخبه مرفوعا إلى الباقر عليه السلام قال: لما نزل قوله تعالى: (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين(1)) قيل: يا رسول الله هو التورية والإنجيل أو القرآن؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا فأقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وآله: هذا هو الإمام المبين الذي أحصى الله فيه كل شئ.

وروى الفقيه ابن بابويه في أماليه وذكره عدة مشايخ في كتبهم عن ابن عباس قال: صعد النبي صلى الله عليه وآله المنبر فخطب واجتمع الناس فقال: إن الله تعالى أوحى إلي أني مقبوض وأن ابن عمي مقتول وإني أخبركم ما إن عملتم به سلمتم وإن تركتموه هلكتم إن ابن عمي هذا علي أخي ووزيري، وهو خليفتي، وهو المبلغ عني، وهو إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، إن استرشدتموه أرشدكم، وإن اتبعتموه نجوتم، وإن خالفتموه ضللتم، وإن أطعتموه فالله أطعتم، وإن عصيتموه فالله عصيتم، وإن بايعتموه فالله بايعتم، وإن نكثتم بيعته فبيعة الله نكثتم، إن الله تعالى أنزل علي القرآن فمن خالفه ضل، ومن ابتغى علمه عند غير علي هلك.

وهذا الخبر رواه أبو الفرج المعافا بن زكريا وأخطب خوارزم وفي آخر رواية الخطيب: علي بن أبي طالب إمام أمة محمد، وحجة الله بعد النبي صلى الله عليه وآله فقد ظهر بنقل الفريقين المتعاديين، والخصمين المتباينين، لنقل لا يحتمل التأويل والابهام أن علي بن أبي طالب هو الإمام.

إن قيل: لا يلزم من قوله (خليفتي) ومن وقوله (هو الإمام) وغير ذلك نفي

____________

(1) يس: 12.


الصفحة 271
خلافة غيره لما تقرر في الأصول من عدم الدلالة للتقييد بالوصف على عدم الحكم.

قلنا: بل قد ذهب جماعة إلى نفي الحكم عند نفي الوصف لئلا يلزم العبث في القيد بالوصف، وهو قوي.

على أن النص على الإمام إما من قبل نفسه وتبطله (وما ينطق عن الهوى) أو من الله تعالى فإن أمره بالنص على الكل جار إذ لم ينص على البعض، وإن أمره بالنص على البعض لزم الترجيح بلا مرجح لمساواة الكل في العلة، وأيضا فالإمام ينصب لكشف حيرة الأمة لزيادة علومه، وليس في أبي بكر كشف حيرة الأمة لنقيصة علومه.

ولهذا لما قال هشام بن الحكم لعمرو بن عبيد: ألك عين؟ قال: نعم أبصر بها قال: ألك أنف؟ قال: نعم أشم به. قال: ألك أذن؟ قال نعم أسمع بها، قال:

ألك فم؟ قال: نعم أذوق به، قال: ألك قلب؟ قال: نعم أحقق كلما ورد على هذه الجوارح ويزول شكها قال: فلا غناء لها عنه مع سلامتها قال: نعم، قال: لم يترك الله جوارحك من إمام يزيل شكها ويترك الخلق في حيرتها بغير إمام يزيل اختلافها.

ومما سنح لجامع الكتاب:


نفسي الفداء لمن قال النبي لهأنت الإمام بلا شك ولا خلل
وأنت يعسوب أهل الدين قائدهمغرا إلى الجنة الغري ذوي حجل
وأنت كلمته التقوى التي لزمتإليك حمل اللوا في الموقف الوحل
إليك دعوة إبراهيم قد وصلتروى المعادي لها عن سيد الرسل
من ذكره جاء في الذكر الحكيم هلاسوى الإمام أمير المؤمنين علي
فالويل والخزي للغاوين عن رجلله المزايا التي لم تلق في رجل
مع أن أعداءه يخفونها حسداوالأولياء له يخفون من وجل

ومنها قوله تعالى (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)(1) صنف أحمد بن محمد بن

____________

(1) الرعد: 7.


الصفحة 272
سعيد كتابا في نزولها في علي وذكرها الحسكاني في شواهد التنزيل والمرزباني فيما أنزل في علي والثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنها لما نزلت وضع النبي صلى الله عليه وآله يده على صدره وقال: أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي وقال: وأنت الهادي يهتدي بك المهتدون، من بعدي.

وذكره ابن مردويه في المناقب ورواه الثعلبي عن علي عليه السلام أيضا وعن جابر مسندة وعن ابن المسيب مسندة وأسندها الحسين بن جبر في كتاب نخب المناقب إلى علي عليه السلام وإلى ابن عباس أيضا وإلى الضحاك والزجاج وأبي بردة أيضا أنه قال دعا النبي صلى الله عليه وآله بالطهور وعنده علي فأخذ بيده بعد ما تطهر وألصقها بصدره وقال:

(اسما أنت منذر)، ثم ردها إلى صدر علي وقال: (ولكل قوم هاد) فقد بان بنقل الموالي والمعادي أن عليا هو الهادي وإطلاق كونه هو الهادي بإجمال الله و تفصيل رسول الله، يقتضي كونه هاديا في سائر أوقاته وذلك مستلزم لعصمته.

إن قيل: فكون علي هاديا لا يستلزم سلب هداية غيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. قلنا: الألف واللام في الهادي دليل الاستغراق، ولولا اختصاصه من الهداية بما لا يوجد في غيره، لخلت الفايدة عن نزول الآية فيه، وإفراد النبي له بذكره دون غيره، وإنما ذلك ليتقرر في قلوب المسلمين زيادة مرتبته الموجبة للتقديم، كما جرت عادت فصحاء الأنام بترجيح الخاص على العام، وقد نطق القرآن (بفاكهة ونخل ورمان) وقال عز من قائل (الملائكة وجبريل وميكال).

إن قيل: يجوز أن يكون الهادي هو النبي أي أنت منذر وأنت لكل قوم هاد ويكون ذلك دليل عموم نبوته. قلت: ترد هذا الاحتمال، ويلحقه بالمحال، شهرة المفسرين وكتب الراسخين، وأشعار السالفين:

وقد أنشد الحميري في ذلك:


هما أخوان: ذا هاد إلى ذاوذا فينا لأمته نذير


الصفحة 273

فأحمد منذر وأخوه هاددليل لا يضل ولا يجور

وأيضا فعموم نبوته قد جاء في قوله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس)(1) وهي أعم من قوله (ولكل قوم هاد) على تقدير تخصيص القوم بالذكران كما ورد به القرآن في قوله تعالى (لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء)(2) فعلى الاحتمال إحدى الآيتين تؤكد الأخرى، وعلى المشهور تفيد آية الهادي تأسيسا وهو مقدم على التأكيد، لزيادة فائدته دون التأكيد.

ومنها قوله تعالى (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)(3) أسند ابن جبر في نخبه إلى أبي جعفر عليه السلام قال: الحق علي بن أبي طالب. وذكره محمد ابن مروان عن السدي، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

وعنه عليه السلام أيضا في قوله تعالى (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم ((4) يعني بولاية علي بن أبي طالب عليهما السلام.

وعن الباقر عليه السلام في قوله تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر(5)) يعني بولاية علي.

وعنه عليه السلام أيضا في قوله تعالى (ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي(6)) أي يسألونك علي وصيك؟ قل إي وربي.

وعن أبي بن كعب: نزلت سورة العصر في علي وأعدائه فإن (إلا الذين آمنوا) فيه عليه السلام لقوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا(7)) و (عملوا الصالحات) فيه لقوله (الذين يقيمون الصلاة)(8) الآية (وتواصوا بالحق) أيضا فيه لقوله صلى الله عليه وآله (الحق مع علي وعلي مع الحق) و (تواصوا بالصبر) لقوله

____________

(1) السبأ: 28.

(2) الحجرات: 11.

(3) الرعد: 21.

(4) النساء: 169.

(5) الكهف: 29.

(6) يونس: 53.

(7) المائدة: 55.

(8) المائدة: 55.


الصفحة 274
تعالى (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس(1)) وقد سلف ذلك.

وسئل أبو ذر عند اختلاف الناس عنه فقال عليك بكتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب فإني سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: علي مع الحق والحق مع علي وعلى لسانه، يدور حيث ما دار علي.

وذكر ابن جبر في نخبه أن محمد بن أبي بكر قال لعايشة: أليس قلت: الزم عليا فإني سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: إنه مع الحق والحق معه لا يفترقان حتى يردا على الحوض؟ قالت: بلى، وناشدها عبد الله ومحمد بن أبي بكر ذلك فاعترفت به وذكره السمعاني في فضائل الصحابة وفي تفسير (طسم تلك آيات الكتاب)(2) الآية للثمالي أن الآيات مناد ينادي من السماء آخر الزمان ألا إن الحق مع علي و شيعته.

وأما المخالف فرواه سعد بن أبي وقاص وروى عبيد الله بن عبد الله حليف بني أمية أنه كان بين سعد ومعاوية كلام فروى سعد هذا الخبر، فقال له معاوية:

لتأتيني لمسموعك بالمؤيد وإلا قتلتك فدخلوا على أم سلمة فقالت: في بيتي قاله وروى مالك العربي(3)، نحوه، هذا كله ذكر صاحب النخب وروى مثله الجرجاني القاضي والخوارزمي الخطيب في تاريخه وأسند الآجري في الجزء الثاني من كتاب الشريعة أن عمارا دخل على النبي صلى الله عليه وآله فرحب به فقال: سيكون في أمتي بعدي هناة واختلاف حتى يقتل بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بعلي إن سلك الناس كلهم واديا وعلي واديا فاسلك وادي علي يا عمار إنه لم يزل عن هدى، يا عمار طاعة علي من طاعتي وطاعتي من طاعة الله.

وفي تاريخ الخطيب أن علقمة والأسود عاتبا أبا أيوب الأنصاري لقتاله المسلمين مع علي في صفين فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا بقتال ثلاث فرق مع علي: الناكثين وهم أصحاب الجمل، وقد قاتلناهم، والقاسطين وهم أصحاب معاوية

____________

(1) البقرة: 176.

(2) الشعراء: 1.

(3) العوفي خ ل.


الصفحة 275
وهذا منصرفنا عنهم، والمارقين والله ما أدري أين هم ولكن لا بد من قتالهم، لأني سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحق و الحق معك إن سلك علي واديا والناس كلهم واديا فاسلك وادي علي فإنه لن يدخلك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمار من تقلد سيفا وأعان عليا على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در ومن تقلد سيفا أعان به عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار فقالا: حسبك رحمك الله.

وروى ابن مردويه في كتاب الأربعين بطريق عائشة قول النبي صلى الله عليه وآله: الحق مع علي وعلي مع الحق لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ورواه أيضا بطريق أم سلمة.

وروى هو أيضا عن الأصبغ بن نباتة لما أصيب زيد بن صوحان بالجمل وقف عليه علي وبه رمق وقال: يرحمك الله ما عرفتك إلا خفيف المؤنة كثير المعونة فقال:

وأنت يرحمك الله ما عرفتك إلا بالله وبآياته عارفا والله ما قاتلت معك عن جهل ولكني سمعت من حذيفة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: علي أمير البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره مخذول من خذله ألا وإن الحق معه يتبعه ألا فميلوا معه.

إذا عرفت هذا فقد علم بنقل الفريقين تأخيره عن بيعة أبي بكر فإن كان الحق في التأخر فالباطل في البيعة، وإن كان في البيعة فقد فارق علي الحق و بطل الخبر.

إن قالوا: تأخر علي كان لعذر هو جمع القرآن فلا يلزم خروجه عن الحق ولا خروج البيعة عن الحق وإلا لبطلت إمامة علي حين تأخر عن النهوض فيها لعذر قلنا: لا، بل الصواب إن كان في العجلة في البيعة فالخطأ في التأخير وإلا ففيها وجمع القرآن ليس عذرا مانعا عنها مع استدراكه بعدها، ولو كان تأخره لذلك لم يخرج من بيته مكرها إليها وجلوسه عن طلب حقه بالسيف ليس جلوسا عن إمامته، فإنه طلب الإمامة بلسانه وذكر تظلماته، ولو لم يرد في ذلك رواية لكان في نصوص النبي عليه كفاية.