الصفحة 1

تتمة الباب التاسع
* (فيما جاء في النص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله) *


بسم الله الرحمن الرحيم

ومنها: ما ذكره مسلم والبخاري وغيرهما من قول النبي صلى الله عليه وآله في خيبر لما فر الشيخان برايته: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه، فدعا بعلي فجيئ به أرمد، فبصق في عينيه، فبرأتا وأعطاه الراية فمضى، وكان الفتح.

وقد عرض النبي صلى الله عليه وآله بالهاربين بقوله (غير فرار) وصرح بمدحه في قوله (كرار) وفي محبة الله ورسوله التي هي عبارة عن كثرة الثواب، المستلزمة للأفضلية، المقتضية للإمامة، وثبوت الإمامة ومحبة الله وإن كانت لكل طائع إلا أنها تتفاوت فزاد الله عليا من فواضله بقطع شواغله، وتطهير باطنه، عن تعلقه بكدورات الدنيا ورفع الحجاب عن أحوال الأخرى.

قالوا: محبة الله دليل فيها على نفي غيره من محبته، لأنه دليل خطاب، قلنا:

لم يثبت تخصيصه بمجرد القول، بل بحال غضبه عليه السلام عليهما.

وقد روى فرهما وثباته الحافظ في حلية الأولياء عن سلمة بن الأكوع و ابن حنبل في مسنده عن عبد الله بن الزبير وفي موضع آخر عن بريدة وفي موضع ثالث عن رجال شتى والبخاري في الجزء الثالث من صحيحه، وفي الكراس الرا؟

من الجزء الخامس ورواه مسلم في الكراس الأخير من الجزء الرابع والترمذي في الجزء الثالث وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي والثعلبي في تفسيره وابن

الصفحة 2
المغازلي عن أبي هريره تارة وعن الخدري تارة.

فعلي الإمام الكرار، حصل به الغنيمة وسرور النبي صلى الله عليه وآله والأنصار والهارب الفرار حصل منه الهزيمة وغم النبي المختار، بظهور الكفار، وهذه صحاحهم تخبر أنما أحبه الله لجده في الإقدام، وإخلاصه في جهاد الطغام، يدل على ذلك قول الله سبحانه (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون(1)) الآية ثم أكد ذلك بقوله (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا(2)) فأبان بما تحصل به محبته، ثم أوضحها بقوله (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين(3)) ثم كشف في تمام الآية عن حال من يحب الله ويحبه بقوله (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء(4)) وهذه نزلت في علي خاصة كما ذكر في تفسيره.

كل ذلك جاء في فرهما وثباته، ولو دانى عليا في الشجاعة بطل، لما اختص بضرب المثل، كسخاء حاتم، وقد تبين من رب العباد أن محبته في مقابلة الجهاد، ولذلك مدح النبي صلى الله عليه وآله عليا على الكر والإقدام، وذم غيره على الفرار والإحجام، واستأذنه حسان أن يقول في وصف الحال، فأذن له فقال:


وكان علي أرمد العين يبتغيدواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلةفبورك مرقيا وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم صارماحميا مجيبا للرسول مواليا
يحب إلهي والإله يحبهبه يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفا بها دون البرية كلهاعليا وسماه الوزير المواخيا

قالوا: ذلك لا يقتضي تخصيص علي بمحبة الله، بل هذه صفة لجميع المؤمنين

____________

(1) براءة: 111.

(2) الصف: 4.

(3) المائدة: 54.

(4) المائدة: 54.


الصفحة 3
كما قال في عسكر عمر بالقادسية [ وكانوا كفارا ]: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه، قلنا: ذكرتم أن أهل القادسية كانوا كفارا، والآية فيها خطاب للمؤمنين بقوله (من يرتد منكم عن دينه) وقد روى كثير من الناس أنها نزلت في المرتدين يوم الجمل بحربهم لعلي عليه السلام.

إن قيل: انقطع الوحي قبل الجمل، قلنا قد ذكر العلماء أن كل من انطبق عليه آية جاز أن يقال إنها نزلت فيه، على أن وصف النبي له بالكرار، ونفي الفرار، يخرج عن هذه المحبة الموصوف بالفرار.

قالوا: لفظة (قوم) في الآية لا تصلح لواحد، قلنا: قد سلف جواز إطلاق الجمع على الواحد للتعظيم، ولغيره كما قال تعالى (لا يسخر قوم من قوم(1) نزلت في ثابت ابن قيس، سخر به رجل (ولا نساء من نساء) نزلت في عائشة سخرت بأم سلمة.

قالوا: تفتخرون لعلي بفتح قرية فيها يهود طغام، ونحن لا نفتخر للمشايخ الثلاثة بإزاحة الملوك العظام، مثل قيصر وهرقل والشام، وكسرى والروم وغيرهم من الأنام، وأين خيبر من القادسية التي قتل فيها الأبرار، مائة ألف من الكفار واليرموك الذي كان فيه من الروم أربعمائة ألف مقاتل، وكان في الصحابة ثلاثون ألف مقاتل.

قلنا: ليس في جر العساكر مثل شجاعة المباشر، ولم يكن لهم في الاسلام قتيل يذكر، ولا جريج يشهر، وناهيك ما جرى في بدر واحد وخيبر، وقد نفى جبرائيل عن الرب العلي، من يقارب عليا الولي، في قوله:


لا سيف إلا ذو الفقارولا فتى إلا عـلـــي

وأما تصغيرهم خيبر فكلمة لا يخفى قبحها وقد فرح النبي بعد الغم الشديد بفتحها، وقد عجز الشجعان(2) عنها قال ابن حمدون في التذكرة: شجاعة علي معجزة

____________

(1) الحجرات: 11.

(2) الشيخان، خ.


الصفحة 4
للنبي إذ لو قيل له ما دليل صدقك؟ فقال شجاعة علي لم يمكن أحدا إنكاره، وقد ذكر قتله لمرحب مسلم، والبخاري، والعاقولي وخطيب دمشق، وابن قتيبة.

وكان الواجب أن يقاس أصحاب مشايخهم بالقادسية بأصحاب علي إذ لا قياس بين الثلاثة وبين علي، إذ الثلاثة كانوا من القاعدين، وعلي من المجاهدين، ولا يخفى ما في الكتاب المبين، من تفضيل المجاهدين على القاعدين، وقتل علي ببدر شجعان المشركين، وفيهم نوفل وكان من شياطين قريش، وقتل بالخندق عمرا بعد إحجام المسلمين عنه، وقد قال عدوه معاوية لابن الزبير(1): لا جرم إن عليا قتلك وقتل أباك بيسرى يديه، وبقيت يمناه فارغة يطلب بها من يقتله غيركما.

وفي كتاب ابن مسكويه قال ابن العاص يوم الهرير: لله در ابن أبي طالب ما كان أكثره عند الحروب ما آنست أن أسمع صوته في أول الناس إلا وسمعته في آخرهم ولا في الميمنة إلا وسمعته في الميسرة، فهذا اعتراف أعدائه بشجاعته لما لم يتمكنوا من استتارها لاشتهارها.

قال سعد لمعاوية: لقد رأيته يوم بدر يحمحم ويقول:


بازل عامين حديث سنيسجسجة الليل كأني جني

لمثل هذا ولدتني أمي

فما رجع إلا وقد خضب من دماء القوم.

وادعوا لأبي بكر الشجاعة(2) بقتال أهل الردة، وأشار علي بالكف عنهم قلنا: ذلك لعلمه بعدم استحقاقهم القتال، ولم يشتهر لأبي بكر قتيل من الأرذال فضلا عن أحد من الأبطال، وقد قدمنا أن الشجاعة إنما تكون بمصادمة الرماح، و مصافحة الصفاح، ولهذا لما ذكرنا فرارهم عن النبي صلى الله عليه وآله اعتذروا بأن الله عفا عنهم.

قلنا: كان العفو عن العاجل خاصة لقوله تعالى (وكان عهد الله مسؤولا)(3)

____________

(1) قاله حين افتخر ابن الزبير بخروجه مع أبيه يوم الجمل على علي عليه السلام.

(2) الاشجعبة: خ.

(3) الأحزاب: 15.


الصفحة 5
والآية محكمة بالاجماع.

قالوا: وصف الله كل الصحابة بالشجاعة في قوله (والذين آمنوا معه أشداء على الكفار(1) قلنا صحيح لكنها متفاوتة فيهم باعترافكم، فلبس في ذلك حجة لكم، وقد روى أبو نعيم في قوله تعالى (فاستغلظ فاستوى على سوقه)(2) قال اشتهر الاسلام بسيف علي ابن أبي طالب، وهم يدعون الشجاعة للهارب الجالب للمثالب قال بعض الفضلاء:


وما بلغت كف امرء متناولبها المجد إلا حيثما نلت أطول
ولا بلغ المهدون في القول مدحةوإن صدقوا إلا الذي قيل أفضل

وقد ظهر مما أسلفناه اختصاصه بمزيد محبة الله دون من سواه.

تذنيب:

روى ابن حنبل عن مشيخته أنه اقتلع باب خيبر فحمله سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوه.

وأسند الحافظ أنه لما اقتلعه دحى به خلف ظهره، ولم يطق حمله أربعون رجلا وقال البستي في كتاب الدرجات: كان وزن حلقة الباب أربعين منا فهزه حتى ظنوا أنها زلزلة، ثم هزه أخرى فاقتلعه ودحى به أربعين ذراعا، وقال الطبري صاحب المسترشد: حمله بشماله وهو أربعة أذرع في خمسة أشبار في أربعة أصابع، و كان صخرا صلدا، فأثرت إبهامه فيه، وحمله بغير مقبض. وقال ميثم: كان من صخرة واحدة. قال ديك الجن:


سطا يوم بدر بأبطالهوفي أحد لم يزل يحمل
ومن بأسه فتحت خيبرولم ينجها بابها المقفل
دحى أربعين ذراعا بههزبر له دانت الأشبل

وقيل: كان طول الباب ثمانية عشر ذراعا، وعرض الخندق عشرون، فوضع

____________

(1) الفتح: 29.

(2) الفتح: 29.


الصفحة 6
على طرف الخندق جانبها وضبط الآخر بيده حتى عبر الجيش، وهو ثمانية آلاف وسبعمائة رجل.

وروي أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله ما عجبنا من قوته وحمله ورميه بل من وضع إحدى يديه تحت طرفه، فقال صلى الله عليه وآله: انظروا إلى رجليه، قال فنظرت الصحابة إليها فرأينها معلقين فقلن: هذا أعجب، رجلاه على الهواء؟ قال صلى الله عليه وآله:

لا بل على جناحي جبرائيل.

وهذا حسان قد أنشأ فيه أبياته الحسان:


إن امرءا حمل الرتاج بخيبريوم اليهود بقدرة لمؤيد
حمل الرتاج، رتاج باب قموصهاوالمسلمون وأهل خيبر تشهد
فرمى به ولقد تكلف ردهسبعون كلهم له متشدد

وهذا كله خرق العادات، لا يتفق إلا لنبي أو وصي نبي، ولما لم يكن نبيا اتفاقا، كان وصيا التزاما.

وقال ابن زريك:


والباب لما دحاه وهو في سغبمن الصيام وما يخفى تعبده
وقلقل الحصن فارتاع اليهود لهوكان أكبرهم عمدا يفنده
نادى بأعلى العلى جبريل ممتدحاهذا الوصي وهذا الطهر أحمده

وبالجملة فقد أنشأت الفضلاء فيه مدايحهم، ونورت الشعراء بذكره أشعارهم مثل الوراق، والناشي، وابن حماد، والعوني، وابن العلوية، والحميري وتاج الدواير وابن مكني.

ومنها: توليته على أداء سورة براءة بعد بعث النبي صلى الله عليه وآله أبي بكر بها، فلحقه بالجحفة، وأخذها منه ونادى في الموسم بها، وذكر ذلك ابن حنبل في مواضع من مسنده والثعلبي في تفسيره، والترمذي في صحيحه، وأبو داود في سننه، و مقاتل في تفسيره، والفراء في مصابيحه، والجوزي في تفسيره والزمخشري في كشافه، وذكره البخاري في الجزء الأول من صحيحه في باب ما يستر [ من ]

الصفحة 7
العورة(1) وفي الجزء الخامس في باب (وأذان من الله ورسوله)(2) وذكره الطبري والبلاذري والواقدي والشعبي والسدي والواحدي والقشيري والسمعاني والموصلي وابن بطة وابن إسحاق والأعمش، وابن السماك في كتبهم.

وبالجملة فإجماع المسلمين عليه لا يختلفون فيه، وفي القصة أنه لما رجع أبو بكر قال: يا رسول هل نزل في شئ؟ قال: لا ولكن جاءني جبرائيل، وقال:

لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، فظهر بهذا أن أبا بكر ليس من النبي صلى الله عليه وآله وأن عليا الوفي من النبي الأمي، فلينظر العاقل إلى الأمر السماوي، والسر الإلهي، كيف عزل أبا بكر بالجحفة جهرا، ونصب عليا بعده أميرا.

ولما عاد النبي إلى ذلك الموضع في حجة الوداع، نص على علي كما شاع ذلك في الخلائق وذاع، لنبيه اللطيف الخبير، بالعزل والتأمير على أن من لم يصلح إرساله إلى بلد، لم يصح أن يحكم على كل أحد، وقد جرى في الأمثال أن العزل طلاق الرجال.

وقد ذكر في كتاب الفاضح أن جماعة قالوا له: أنت المعزول والمنسوخ من الله ورسوله عن أمانة واحدة، وعن راية خيبر، وعن جيش العاديات، وعن سكنى المسجد، وعن الصلاة، فكيف تولي في الأمور العامات والخاصات، وليس للأمة تولية من عزله الله في السماء ورسول الله في الأرض، أدرجنا الله والمؤمنين في زمرة العاقلين، وأخرجنا وإياهم من حيرة الغافلين.

قالوا: يلزم نسخ تبليغ أبي بكر، قبل حضور وقته، قلنا: إنما كان حاملا لا مبلغا.

قالوا: ظاهر الحديث (لا يؤدي عنك إلا رجل منك) ينافي ذلك.

قلنا: لا يلزم من النهي سبق الأمر بالتأدية، فإن كثيرا من المنهيات لم يسبق من العبد ما ينافيها، ولو صرح النبي صلى الله عليه وآله بكونه مبلغا جاز أن يكون

____________

(1) راجع ج 1 ص 77.

(2) راجع ج 3 ص 134.


الصفحة 8
مشروطا بشرط لم يظهره، والفائدة تميز على بها، وأبي بكر بعدم صلاحه لما هو أعلى منها.

تذنيب:

خاف موسى من قتل نفس واحدة من القبط، كما حكاه القرآن عنه، ولم يخف علي من تلهف أهل الموسم على قتله لقتله أقاربهم وأعزاءهم وهذا فضل على موسى عليه السلام فكيف على من ليس له بلاء حسن في الاسلام.

وهذا النداء من علي أخيرا اقتفاء لنداء إبراهيم بالحج أولا فكان في العزل من الله والتأمير التنعية على منازل الرجال وفي النداء ممن هو كنفس العاقد اتساق الأحوال إذ لو لم يبعث بالأمر غير علي أولا ثم يعزله لم يجزم الناس بأنه ليس في الجماعة من يصلح له، قال الصاحب:


براءة استرسلي في القول وانبسطيفقد لبست جمالا من موليه

وقال ابن حماد:


بعث النبي براءة مع غيرهفأتاه جبريل يحث ويوضع
قال ارتجعها وأعطها مولى الورىبأدائها وهو البطين الأنزع
فانظر إلي ذي النص من رب العلىوالله يخفض من يشاء ويرفع

قالوا: كان أبو بكر الأمير العام على الحاج، فله الترجيح على علي حيث بعث لأمر خاص في ولاية أبي بكر، قلنا: قد جاء من طرقكم أنه رجع وقال من شدة خوفه: أأنزل في شئ؟ ذكره الثعلبي في تفسيره وهذا يبطل أيضا ما يقولونه من أنه إنما رده لاحتياجه إليه وأي حاجة في التام الكامل إلى الناقص الجاهل وهل ذلك إلا قدح في رأي النبي صلى الله عليه وآله إذ فيه تسديد الذكي بالغبي وآية المشورة للتأليف والتأديب، لا للحاجة إلى رقيب(1) ونمنع كونه أميرا على الحاج لظهور

____________

(1) دفع دخل مقدر كأن قائلا قال: قد يحتاج التام الكامل إلى الناقص، ولذلك أمر الحكيم تعالى رسوله صلى الله عليه وآله بأن يشاور المؤمنين في قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر).


الصفحة 9
عزله، ولم يرد ذلك إلا من الخصم ونقله، وكون علي في ولايته في حيز الامتناع لأن النبي صلى الله عليه وآله لم يول عليه أحدا بالاجماع، وقد أسند الإصفهاني الأموري أن النبي صلى الله عليه وآله بعث إليه مع علي يخيره في الرجوع أو يتوجه معه وعلي أمير عليه فرجع ولم يذكر أنه عاد.

قالوا: النداء أمر صغير لا يليق بالآمر، فلهذا صرف أبا بكر عنه، وهو لعلي فضيلة حيث إنه فسخ العقد، ولا يكون إلا من العاقد أو قريبه.

قلنا: لا نسلم أن النداء لا يليق بالآمر، لقول جبرئيل، لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، ونمنع كون الفسخ لا يصلح إلا من القريب، فإن يد المستناب يد المستنيب، فليس عزله إلا لعدم صلاحه، ومعاذ الله أن يجري النبي صلى الله عليه وآله أحكامه على سنن الجاهلية، ولو كان كذلك لم يبعث أبا بكر بها أولا.

تنبيه:

قول جبرئيل (إلا رجل منك) أي من أهل ملتك، ولهذا قال جبرئيل و (أنا منكما) لما قال: (إن هذه لهي المواساة قال النبي صلى الله عليه وآله إنه مني وأنا منه) وقال إبراهيم (فمن تبعني فإنه مني) وهذا شاهد عدل على أن أبا بكر ما هو من النبي بهذا المعنى.

قالوا: قال النبي صلى الله عليه وآله المؤمنون يسعى بذمتهم أدناهم. قلنا: إن صح هذا فهو للمبالغة لا للحصر، وإلا لا تنقض قوله: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وآله خص ناسا من صحابته بطرف من العلم، فقال:

أقرأكم أبي، أفرضكم زيد، أعلمكم بالحلال والحرام معاذ، أرقكم أبو بكر أشدكم عمر، وقال أقضاكم علي، والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم، فيكون أعلم فيكون أقدم.

ولما وازره يوم الدار تفل في فيه، وبين كتفيه ويديه، فقال له أبو لهب:

بئس ما حبوت به ابن عمك إذ أجابك، فقال: ملأت فاه حكمة وعلما.

قالوا: يلزم أن يكون كل واحد من المذكورين أعلم بالخصلة التي خصه

الصفحة 10
النبي بها، فيكون أبي أقرأ منه، وزيد أفرض منه، ومعاذ بالحلال والحرام أعلم منه.

قلنا: في كتبكم عموم علم علي عليه السلام فروى العاقولي في شرح المصابيح عن ابن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي، وفيه عن ابن المسيب: ما كان أحد يقول: سلوني، غير علي، وفي الوسيلة عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وآله علي أقضى أمتي بكتاب الله، ورواه الخوارزمي بقراءته وأسنده إلى الخدري و أسند نحوه عن سلمان الفارسي وهذان أعم من الأول لخصوصه بالمخاطبين، وذكر فيها أن ذلك من خصائصه، والقضاء الحكم فيكون في القراءة تبين الراجح و الشاذ، وكذا في الفرائض والأحكام، والحلال والحرام، فلو دخل القضاء تحت هذه الأقسام، لزم تناقض الكلام، وهو محال من النبي، فالحديث الذي فيه خصوص كل واحد بشئ إن صح فمخصوص بغير علي، إذ لا دليل فيه على حضور علي عند الخطاب لأولئك الأصحاب.

ولو حضر فقد خرج بما في كتبكم من عموم علمه عن عموم الخطاب، فقد أخرج صاحب الوسيلة عن ابن عباس قول النبي [ لما ] نزلت (إنما أنت منذر و لكل قوم هاد) أنا المنذر، وعلي الهادي، يا علي بك يهتدي المهتدون، وأخرج أيضا: من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في علمه، وإلى يوسف في احتماله، فلينظر إلى علي ابن أبي طالب. فأثبت له الهدى، ومثل علم نوح، ولم يقل في أحد مثل ما قال فيه في الحديث المجمع عليه.

وأخرج في الوسيلة حديث أم سلمة وفيه (علي عيبة علمي) فلو لم يكن أعلم من غيره، كان بعض الصحابة أعلم من النبي صلى الله عليه وآله.

وأخرج أيضا أن عليا أعظم المسلمين حلما، وأكثرهم علما، فلو كان فيهم أعلم من أمير المؤمنين، لزم أن يخرج علي من المسلمين.

وفي مسند ابن حنبل (أقضاكم علي) وفيه أنه عليه السلام قضى قضاء أعجب النبي صلى الله عليه وآله فقال النبي: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت.


الصفحة 11
وفيه أن ثلاثة وقعوا على جارية في طهر واحد: فولدت، فأقرع بينهم علي عليه السلام فعرضت على النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما أجد إلا ما قال علي.

وفي صحيح مسلم: أمر عثمان برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فقال عليه السلام (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا(1) وفصاله في عامين(2)) فردها.

قالوا: اجتمعت الأمة على تقديم المشايخ، فلزم كونهم أعلم. قلنا: نمنع الاجماع أولا بما في قول الزهري، وشارح الطوالع، وصاحب الصحائف، وغيرهم:

إن خيار الصحابة كان مع علي في التخلف عن البيعة، ولو سلم عدم تخلفهم جدلا لم يلزم حصول الاجماع، لقول الرازي في معالمه (لا يكون الاجماع إلا بكل الأمة) وقال في المعتمد: التمسك بقوله تعالى (وكونوا مع الصادقين) وليس المراد الصادق في بعض الأمور، وإلا لكان أمرا بموافقة الخصمين، لأن كلا منهما صادق في بعض، فالمراد الصادق في الكل، فهو إما بعض الأمة، ولا شك أنا لا نعرفه، فيكون كلها وهو المطلوب، ولو سلم إجماع الكل، لكن قد نقل الرازي عن النظام عدم حجية الاجماع ساكتا عليه، ولو سلم الاجماع وحجيته لم يلزم كونهم أعلم، وأنتم تجوزون المفضول، وتواتر في كتبكم كونه عليه السلام أعلم ففي صحيح مسلم في تفسير غافر عن ابن عباس: كان علي تعرف به الفتن وروى عنه أنه قال اسألوني قبل أن تفقدوني عن كتاب الله ما من آية إلا وأنا أعلم حيث نزلت، وما من فتنة إلا وقد علمت كبشها، ومن يقتل فيها، والعلم بما يكون لا يكون إلا للرسول لقوله تعالى (لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول(3)) والرسول يطلع الإمام، ليستدل به على استحقاقه لذلك المقام، وفي مناقب ابن المغازلي قال النبي صلى الله عليه وآله عهد الله إلي عهدا في علي أنه غاية الهدى، و إمام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه أحبني

____________

(1) الأحقاف: 15.

(2) لقمان: 14.

(3) الجن: 27.


الصفحة 12
ومن أطاعه أطاعني.

ومن قضاياه ما ذكره القطان أن جماعة من أهل الكتاب سألوا عمر عن قول الله تعالى (وجنة عرضها السماوات والأرض(1)) فأين بقية الجنان؟ فقال لا أعلم فقال علي عليه السلام فأين يكون النهار إذا أقبل الليل؟! قالوا: في علم الله، قال فكذا هنا فجاء علي فأخبر النبي فنزلت (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون(2)).

وروى الواقدي والطبراني أن عمر بن نائل ادعى على النبي صلى الله عليه وآله بعد خروجه من مكة مائتي مثقال ذهبا، وذلك بمواطأة أبي جهل وعكرمة وعقبة وأبي - سفيان وحنظلة، فقلب علي الودائع فلم يجدها فقال: إنها مكيدة تعود على من دبرها، من يشهد لك؟ فأحضر المذكورين، ففرقهم علي وسألهم عن أوقات الوديعة فاختلفوا فقال لعمر أراك قد اصفر لونك، فأسلم واعترف أنهم برطلوه مائة مثقال(3).

وروى ابن حنبل في مسنده وابن منيع في أماليه أنه قضى في الأربعة الذين وقع أحدهم في الزبية(4) فتمسك بثان، والثاني بثالث، والثالث برابع، أن على الأول ثلث دية الثاني، وعلى أهل الثاني ثلثا دية الثالث وعلى أهل الثالث كمال دية الرابع فصوبه النبي صلى الله عليه وآله.

ورى ابن مهدي في نزهة الأبصار: قضى علي في الجارية الواقعة عن ثانية بقرض ثالثة أن عليها ثلثا ديتها فصوبه النبي صلى الله عليه وآله ولا يجوز لأحد الحكم في زمن النبي صلى الله عليه وآله إلا بنيابة، فالنبي قد نوه باسم علي عليه السلام حين أخبر بإصابته، ونبه الأمة بغزارة علمه على استحقاق خلافته، إذ غاية ما يراد من السفراء إجراء الأحكام على وجهها، ورد الحقوق إلى أهلها، وإقامة الحدود على مستحقها، وتعليم الأمة

____________

(1) آل عمران: 133.

(2) النحل: 43، والأنبياء: 7.

(3) البرطيل: الرشوة، يقال: برطله فتبرطل: أي رشاه فارتشى، ومنه قولهم (إن البراطيل تنصر الأباطيل).

(4) الزبية: حفرة تحتفر لصيد الأسد والذئب.


الصفحة 13
شرايعها وذرايعها، وكفها عن تتايعها(1).

وقضى في طفلين اشتبه الحر منهما بالقرعة، فأمضاه النبي صلى الله عليه وآله وفي خصائص الرضي وواحدة ابن جمهور عن الباقر والصادق أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله في بقرة قتلت حمارا فقال صلى الله عليه وآله: سلا أبا بكر، فقال: لا شئ فيها فأشار بهما إلى عمر فقال كالأول، فقال: سلا عليا فقال: إن كانت دخلت عليه في مراحه فعلى ربها قيمته وإن كان دخل عليها في منامها فلا غرم، فقال صلى الله عليه وآله: لقد قضى بينكما بقضاء الله تعالى.

فانظر إلى غزارة علمه وجهلهما، وكيف نبه النبي صلى الله عليه وآله على ذلك حيث أمر الخصمين بسؤالها كما نبه على جهلهما حيث تقاضا مع الأعرابي في ثمن الناقة إليهما، فتحاكما إلى علي فضرب عنقه لما كذبه، وكما نبه على عدم صلاح أبي بكر للخلافة بإرساله عليه السلام ببراءة وعزله بعلي، والعلم من خصائص الأنبياء والأوصياء.

فقد روي عن الصادق عليه السلام أن بني إسرائيل سألوا سليمان أن يستخلف عليهم ابنه، فقال: لا يصلح فألحوا عليه، فقال: إني سائله عن مسائل إن أحسن جوابها أستخلفه، فسأله فما أجابه.

جابر عن ابن عباس عن أبي قال قرأ النبي صلى الله عليه وآله عند قوم فيهم أبو بكر وعمر وعثمان (وأسبغ عليكم نعمه(2)) فقال صلى الله عليه وآله: قولوا ما أول نعمه؟ فخاضوا في الرياش والمعاش، والذرية والأزواج، فقال يا أبا الحسن قل، فقال: إذ خلقني ولم أك شيئا مذكورا، وأحسن بي فجعلني حيا متفكرا، واعيا شاعرا ذاكرا، و هداني لدينه، ولن يضطرني عن سبيله وجعل لي مردا في حياة لا انقطاع لها، و النبي صلى الله عليه وآله يقول في كل كلمة: صدقت، ثم قال فما بعد ذلك؟ فقال: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها(3)) فتبسم النبي وقال: لتهنئك الحكمة، ليهنئك العلم، أنت وارث علمي والمبين لأمتي.

وفي الحلية قال: يا أبا الحسن لقد شربت العلم شربا، ونهلته نهلا:

____________

(1) تتابع في الأمر: ركب فيه على خلاف الناس، وفي الشر: تهافت وأسرع إليه.

(2) لقمان: 20.

(3) إبراهيم: 34.


الصفحة 14

العلم قالوا لعلي ولاملك له واستكبروا فيها
ما سلموا لله في نصهقل لمن الأرض ومن فيها

وروى العامة والخاصة أن أبا بكر أتي برجل شرب خمرا فأراد حده، فقال:

لم أعلم تحريمها فارتج عليه الأمر، فأرسل إلى علي يسأله، فقال: طوفوا به على المهاجرين والأنصار، إن كان أحد تلا عليه آية التحريم فأقم عليه الحد، وإلا خل عنه ففعل، وكان الرجل صادقا فخلى عنه.

وأتى إليه رجل بشخص وقال: هذا ذكر أنه احتلم بأمي فدهش، فقال عليه السلام:

أقمه في الشمس وحد ظله، فإن الحلم ظل.

أبو بصير عن الصادق عليه السلام أراد قوم بناء مسجد بساحل عدن، فكلما بنوه سقط، فسألوا أبا بكر فخطب وسأل الناس، فلم يجد عندهم شيئا، فقال عليه السلام احفروا تجدوا قبرين مكتوب عليهما (أنا رضوي وأختي حبى، متنا ولا نشرك بالله شيئا) فغسلوهما وكفنوهما وصلوا عليهما وادفنوهما ثم ابنوا، يقوم البناء، فوجدوا كما قال عليه السلام.

قال ابن حماد:


وقال للقوم امضوا الآن واحتفرواأساس قبلتكم تفضوا إلى حزن
عليه لوح من العقبان محتفرفيه بخط من الياقوت مندفن
نحن ابنتا تبع ذي الملك من يمنحبي ورضوي بغير الحق لم ندن
متنا على ملة التوحيد لم نك منصلى إلى صنم كلا ولا وثن

وفي أمالي ابن دريد وضياء الأولياء عن عبد الله الأندلسي دخل يهودي على أبي بكر وقال: أخبرني عما ليس لله، ولا عند الله، ولا يعلم الله، قال هذه مسائل الزنادقة، فقال ابن عباس: ما أنصفتموه اذهبوا به إلى من يجيبه فإني سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول لعلي: اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه، فقام أبو بكر إليه فيمن حضره وسألوه عن ذلك فقال عليه السلام: ليس لله ولد ولا عنده ظلم، ولا يعلم له شريك، فأسلم اليهودي.