وسأل رسول الروم أبا بكر عمن لا يرجو الجنة، ولا يخاف النار، ولا يخاف الله، ولا يركع ولا يسجد، ويأكل الميتة والدم، ويشهد بما لم ير، و يحب الفتنة ويبغض الحق، فقال عمر: ازددت كفرا على الكفر. فبلغ ذلك عليا عليه السلام فقال: هذا من أولياء الله: لا يرجو الجنة بل يرجو الله، ولا يخاف النار بل يخاف الله، ولا يخاف الله من ظلم، ولا يركع ولا يسجد في صلاة الجنازة، و يأكل الجراد، والسمك والكبد، ويحب الفتنة: المال والولد، ويشهد بالجنة والنار ولم يرهما، ويكره الحق وهو الموت.
وأسند الطوسي في أماليه وابن جبر في كتاب الاعتبار في إبطال الاختيار إلى سلمان أنه قدم على أبي بكر نصارى وفيهم جاثليق فقال وجدنا في الإنجيل رسولا بعد عيسى وفي كتبنا لا تخرج الأنبياء من الدنيا إلا ولهم أوصياء فقال عمر: هذا خليفة رسول الله.
فقال الجاثليق: بم فضلتم علينا؟ قال أبو بكر: نحن مؤمنون، وأنتم كافرون قال: فأنت مؤمن عند الله أم عند نفسك؟ فقال: عند نفسي ولا علم لي بما عند الله فقال: أنا كافر عندك أم عند الله؟ قال عندي ولا علم لي بما عند الله قال: أنت شاك في دينك، ولست على يقين من دينك، قال أفتصل بما أنت عليه من الدين إلى الجنة؟
قال لا أعلم، قال أفترجو لي ذلك؟ قال أجل، قال فما أراك إلا راجيا لي وخائفا على نفسك، فما فضلك علي، وكيف صرت خليفة النبي صلى الله عليه وآله ولم تحط علما بما تحتاج إليه الأمة؟
قال عمر: كف عن هذا العبث وإلا أبحنا دمك، قال: ما هذا عدل على من جاء مسترشدا، دلوني على من أسأله.
فجاء سلمان به إلى علي عليه السلام فسأله، فقال عليه السلام في جوابه: أنا مؤمن عند الله وعند نفسي، وأصل إلى الجنة بوعد نبيي، المعلوم صدقه بمعجزاته، قال: أين الله اليوم؟ قال عليه السلام: إن الله أين الأين، فلا أين له، قال فيحس؟ أم بم يعرف؟
قال عليه السلام تعالى الله عن الحواس، ويعرف بصنايعه، قال: فما عندكم في المسيح؟
فقال عمر: يجب أن تعلم أن الخليفة هو من خاطبت أولا برضى الأمة، فأبى ذلك، فقال عمر: لولا أن يقول الناس قتل مسلما لقتلته، وإني أظنه شيطانا يريد إفساد هذه الأمة، ثم توعد من يذكر هذه القصة.
تذنيب:
قال ابن ميثم للعلاف: إبليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالسوء كله؟ قال:
نعم، قال: أفيجوز منه ذلك كله في كليهما، وهو لا يعلم مجموعهما؟ قال لا قال:
فقد علم الخير كله والشر كله؟ قال: نعم، قال: فإمامك بعد الرسول يعلم الخير كله والشر كله؟ قال: لا، قال: فإذن إبليس أعلم من إمامك.
وفي عهد عمر ذكر الشريف النسابة أن غلاما طلب مال أبيه من عمر، وذكر أنه مات بالكوفة، فطرده، فخرج يتظلم فأتي به إلى علي عليه السلام فنبش قبر أبيه، و أخرج منه ضلعا له، وأمره بشمه، ففعل فخرج الدم من أنفه، فقال عمر: وبهذا يسلم إليه المال؟ قال: هو أحق به منك ومن سائر الخلق، ثم أمر الحاضرين بشمه فلم ينبعث الدم فأعاده إلى الغلام فانبعث دمه فسلم إليه مال أبيه، وقال: والله ما كذبت ولا كذبت.
عمر بن داود عن الصادق عليه السلام لما مات عقبة قال علي لرجل: حرمت عليك امرأتك، قال عمر: كل كلامك عجب، يموت رجل فتحرم امرأة آخر؟ قال: هذا عبد عقبة تزوج بحرة ترث اليوم بعض ميراثه فصار بعض زوجها رقا لها، وبضع المرأة لا يتبعض، قال عمر: لمثل هذا أمرنا أن نسألك عما اختلف فيه.
وأمر عمر برجم رجل فجر غائبا عن أهله فقال علي: إنما عليه الحد، فقال:
لا أبقاني الله لمعضلة لم يكن لها أبو الحسن.
وفي الحدائق والكافي وتهذيب الطوسي أن غلاما أنكرته أمه بحضرة عمر فنفاه عنها، فشكا إلى علي عليه السلام أمره، فطلب أن يزوجها منه، فأقرت به، فقال:
لولا علي لهلك عمر.
وأتي عمر بابن أسود انتفى منه أبو، فأراد تعزيره، فقال علي: جامعتها في حيضها؟ قال: نعم، قال: فلذلك سوده الله، غلب الدم النطفة، فقال: لولا علي لهلك عمر.
أبو القاسم الكوفي والنعمان القاضي؟ رفع إلى عمر أن عبدا قتل مولاه، فأمر بقتله، فأتي به إلى علي فقال علي عليه السلام ولم قتلته؟ قال: غلبني على نفسي، و أتاني في ذاتي، فحبس الغلام ثلاثا ثم مضى علي عليه السلام والأولياء فنبشوا قبره، فلم يجدوه فيه، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: (من عمل من أمتي عمل قوم لوط حشر معهم).
عن عطا وقتادة وأحمد وشعبة أن مجنونة قامت عليها البينة أن رجلا فجر بها، فأراد عمر أن يحدها، فبعث إليه علي عليه السلام يقول النبي صلى الله عليه وآله رفع القلم عن المجنون فقال عمر فرج الله عنك، لقد كدت أن أهلك.
وأشار إلى ذلك [ أبو نعيم ] في حلية الأولياء والبخاري في صحيحه.
وقضى في عهد عثمان روته العامة والخاصة أن شيخا نكح امرأة ولم يصل إليها فحملت فأنكر حملها. فأمر عثمان بالحد، فقال علي عليه السلام لعله كان ينال منها سم حيضها، فجئ به فاعترف أنه أنزل الماء في قبلها من غير وصول إليها وفي كشف الثعلبي وأربعين الخطيب وموطأ مالك: أتي عثمان بامرأة
وقضى في رجل ادعى نقص نفسه بجناية آخر، فأقعده من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وعد أنفاسه وعد أنفاس آخر في سنه، وأخذ منه الدية بحسب التفاوت.
وبعث ملك الروم إلى معاوية يسأله عن لا شئ فتحير، فقال عمرو ابن العاص:
أرسل فرسا تباع بلا شئ فجاء إلى علي بالفرس فأخرجه وقنبرا إلى الصحراء فأراه السراب أخذا من قوله تعالى (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا(2)).
وسئل عن المد والجزر، فقال: إن لله ملكا موكلا بالبحر يضع قدميه فيه ويرفعهما.
وسأله ابن الكواء عن بقعة ما طلعت عليها الشمس إلا لحظة، فقال عليه السلام:
ذاك البحر لما فلقه الله لموسى عليه السلام، وعن شئ شرب وهو حي وأكل وهو ميت قال: عصاة موسى شربت وهي؟ حرة، وأكلت حبال السحرة.
وعن مكذوب عليه لا من الجن ولا من الإنس، فقال: ذئب يوسف.
ابن عباس أتى أمير المؤمنين عليه السلام أخوان يهوديان وسألاه أن في الكتب الأربعة: واحد لا ثاني له وثاني لا ثالث له، إلى المائة فتبسم عليه السلام وقال: الواحد الله، والاثنان آدم وحوا، والثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، والأربعة:
الكتب الأربعة، والخمسة الخمس صلوات، والست أيتام الخلق، والسبع السماوات، والثمانية حملة العرش، والتسع آيات موسى، والعشرة (تلك عشرة كاملة)(3) ولم يزل عليه السلام يعد إلى آخر المائة فاعترفا وأسلما، ومن أراد تمامها فليطلبها من كتاب ابن شهرآشوب في الجزء الرابع منه.
____________
(1) الأحقاف: 15، لقمان: 14.
(2) النور: 39.
(3) البقرة: 196.
فهذه نبذة يسيره من عجائبه وغرائبه، والمخالف يدعي زيادة العلم لأعدائه وتاه في بيداء الضلالة، حيث لم يذكر جهل أبي بكر بميراث الجد والكلالة.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله | فالناس أعداء له وخصوم |
كضرائر الحسناء قلن لوجهها | حسدا وبغضا إنه لذميم |
آخر:
يا سائلي عن علي والذي فعلوا | به من السوء ما قالوا وما عملوا |
لم يعرفوه فعادوه لما جهلوا | والناس كلهم أعداء ما جهلوا |
آخر:
إذا تليت آيات ذكري قابل | المحبون ذكري بالسجود لحرمتي |
وأوجب كل منهم الوقف عندها | وسلم أن لا قصة مثل قصتي |
آخر:
ذنبي إلى البهم الكوادم أنني | الطرف المطهم والأغر الأقرح |
يؤلونني خزر العيون لأنني | غلست في طلب العلى وتصبحوا |
نظروا بعين عداوة لو أنها | عين الرضا ما استقبحوا استحسنوا |
لو لم يكن لي في القلوب مهابة | لم يقذف الأعداء في ويقدح |
فالليث من حذر تشق له الربا | أبدا وتتبعه الكلاب النبح |
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب) فجعل نفسه الشريفة تلك المدينة ومنع الوصول إليها إلا بواسطة الباب فمن دخل منه كان له عن المعصية جنة واقية، وإلى الهداية غنية وافية، حيث أوجب الرجوع إليه في كل وقت المستلزم للعصمة، المستلزمة لاستحقاقه.
ولقد أحسن الأعرابي حين دخل المسجد فسلم على علي قبل النبي صلى الله عليه وآله فضحك الحاضرون فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول (أنا مدينة العلم وعلي بابها
وسبب الحديث ما حكاه ابن طلحة عن بعض الشافعية أنه وجد بخطه أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وآله (طمش طاح فغادر شبلا لمن النشب)؟ فقال عليه السلام النشب للشبل مميطا فدخل علي عليه السلام فذكر له النبي لفظ الأعرابي فأجاب بما أجاب النبي صلى الله عليه وآله فقال عليه السلام (أنا مدينة العلم وعلي بابها.) فائدة: ليس في قوله صلى الله عليه وآله (من أراد المدينة فليأت الباب) تخيير بل هو إيجاب وتهديد، مثل قوله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(1) ودليل الايجاب أنه ليس بعد النبي صلى الله عليه وآله نبي آخر حتى يكون المكلف مخيرا في الأخذ عنه، وعن علي عليه السلام، فمن أخذ علما من غير الباب فهو سارق غاصب.
وقد أسند ابن بابويه إلى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله من دان بغير سماع ألزمه الله التيه إلى الفناء، ومن دان بسماع من غير الباب الذي فتحه الله لخلقه فهو مشرك، والمأمون على وحي الله محمد وآله، والآل علي وأولاده المعصومون، لحديث (مدينة العلم) ولما رواه الطوسي عن الصادق عليه السلام كان أمير المؤمنين باب الله الذي لا يؤتي إلا منه، وسبيله الذي من تمسك بغيره هلك كذلك جرى حكم الأئمة بعده واحد بعد واحد، ولنعم ما قال البشنوي:
فمدينة العلم الذي هو بابها | أضحى قسيم النار يوم مآبه |
فعدوه أشقى البرية في لظى | ووليه المحبور يوم حسابه |
قال المخالف: (وعلي بابها) أي بابها علي، قلنا تأويل بالهوى، لم ينقله ذي هدى ويبطله ما أخرجه ابن المغازلي في المناقب من قوله عليه السلام (أنا مدينة العلم وأنت الباب، كذب من زعم يصل إلى المدينة إلا من الباب) وقال ابن المغازلي في كتابه أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله فلما صرت بين يدي ربي، ناجاني فما علمني شيئا إلا وعلمته عليا فهو باب علم مدينتي، وعلى هذا الحديث إجماع الأمة.
روي عن جابر بطريق، وعن أم سلمة بطريق، وعن علي بطريقين، وعن
____________
(1) الكهف: 18.
قال: في الحديث زيادة هي أن أبا بكر وعمر وعثمان حيطانها وأركانها، و ظاهر فضل الحائط الملا، على الباب الخلا. قلت: الزيادة مكذوبة، ويكفي الثلاثة على تقدير صحتها كونهم حائلين بين العلم والناس، وعلى الموصوف بمشرعته و بابه، من دخله كان آمنا من الزيغ برفع حجابه.
قالوا: لا رجحان لعلي بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وآله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
قلنا: إثبات الاهتداء بهم لا يدل على نفي زيادة علي عليه السلام عليهم، كالأنبياء السابقين، ولما أخرجه أبو نعيم في حليته من قول سيد المرسلين في أمير المؤمنين عليه السلام قسمت الحكمة عشرة أجزاء أعطي علي عليه السلام تسعة وأعطي الناس كلهم واحدا، مع أن منهم الناكثون والقاسطون والمارقون، وقد عرف ما جاء في حقهم، فيلزم كون الاقتداء بمن يمرق من الدين اهتداء، وقد أجمع من الصحابة خلق على قتل عثمان فإن كان صوابا كفاه خزيا، وإن كان خطأ كان الاقتداء بهم اعتداء لا اهتداء، وقد عرفت إيضاحه لمشكلات أعجزت غيره، وتحير فيها من تقدمه.
ومنها: قصة الأرغفة والمسألة الدينارية، وعلم زنة قيد العبد قبل فكه وقد سلف ذلك ونحوه في الفصل التاسع عشر من باب فضائله(1) وغير ذلك من عجائبه.
فإن قلت إنهم كالنجوم | فنور علي هو الأزهر |
ولا ريب في فضلهم جملة | وبينهم رتب تبصر |
فإن مدح المصطفى صحبه | فمدح علي هو الأظهر |
____________
(1) راجع: ج 1 ص 323 و 324.
فكيف يفضل مفضوله | ويدفع عن حقه حيدر |
قالوا: لو سلمت الأعلمية لجاز أن يكون الإمامة العظمى للمفضول فيها كما كانت الرياسة العامة لموسى والخضر أعلم منه، والهدهد في رعية سليمان واستفاد منه وأصاب سليمان في حكم الحرث دون أبيه وولى عمر عليا على قضاء المدينة حين خرج إلى العراق وهو عندكم أعلم منه.
قلنا: لا عموم لرياسة موسى لقصور دعوته على بني إسرائيل، وقد قيل إن الخضر عليه السلام كان نبيا وقيل كان ملكا.
وقد أخرج البخاري عن البكالي أن موسى المذكور غير موسى بني إسرائيل وقد جاء في التفسير أنه لما لقي موسى، قال: علمني الله ما لا تعلم، وعلمك ما لا أعلم، فجاز أن يعلم الخضر ما لا يتعلق بالأداء، ويكون موسى أعلم منه بما يتعلق بالأداء، وأما الهدهد فلا شك أنه إلهام لا اكتساب، فلله أن يخص به من يشاء، ولم يدع أحد أن النبي صلى الله عليه وآله يعلم الغيب إلا بالإعلام فضلا عن الإمام ولم يستدل عاقل بـ (- هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون(1)) على أن سليمان لا يستوي بالهدهد، وحكم سليمان عليه السلام كان ناسخا لحكم داود كما قال الجبائي لا أن داود عليه السلام أخطأ، ولا نسلم أن سليمان في ذلك الوقت كان في رعية أبيه لقوله تعالى (كلا آتينا حكما وعلما(2)) وظاهره أن الحكم النبوة.
وقولهم ولى عمر عليا قلنا: إن صح فلعلي التوصل بما أمكن إلى حقه إذ يجب عليه إقامة شرع نبيه، وقد تولى يوسف الطاهر الفاضل من قبل العزيز الكافر الجاهل، وقد تولت القضاة من قبل الظلمة فلا فرح للمخالف في هذه الكلمة وقد رجع إليه عمر عن خطائه في مواضع كما في المجنونة التي أراد أن يحدها على الزنا، فقال له علي: أما علمت أن القلم رفع عن المجنون، على ما أخرجه البخاري.
فاعتذر له الرازي بعدم علمه بالجنون قلنا: هذا ساقط بأنه عرفه بما
____________
(1) الزمر: 9.
(2) الأنبياء: 79.
وقولهم: لا نسلم أن الأعلمية توجب الإمامة قلنا: هذا خلاف ما ذكرتم أن فقهاء المذاهب الأربعة نصوا على استحقاق الأعلم، ومع ذلك نقول لهم: إن عنيتم بالاستحقاق على سبيل الوجوب، فقد خالفتم مذهبكم، إذ لا وجوب للإمامة عندكم، وإن قلتم على الوجوب بطل احتجاجكم.
قالوا: رجع علي في مسألة المذي إلى غيره، فالغير أعلم منه، قلنا: ذلك الغير هو النبي صلى الله عليه وآله فإنه سأله بواسطة وهو حاضر يسمعه حياء منه لمكان فاطمة كما أخرجه البخاري وغيره.
قالوا: خولف علي في الفروع مثل بيع أمهات الأولاد، قلنا: ذلك جرأة من المخالف على من دعا النبي صلى الله عليه وآله له بإدارة الحق معه، والمخالف له لم يوجب خطأه، وإلا لكان النبي صلى الله عليه وآله مخطئا حيث خالفه عمر وجماعة في منع الكتاب.
وقد خالف أبو حنيفة النبي صلى الله عليه وآله في مواضع وقال لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله في زماني لأخذ بكثير من أقوالي ذكره ابن الجوزي في المنتظم، ولما نقل الغزالي ما قال الناس في مثالب الثلاثة، قال: أما علي فلم يقل فيه ذو تحصيل شيئا.
ومنها: ما أسنده الحافظ في الحلية من قول النبي صلى الله عليه وآله لأبي برزة: إن الله عهد إلي في علي عهدا: إنه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، و نور جميع من أطاعني، وصاحب رايتي في القيامة، وأميني على مفاتيح خزائن ربي وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أطاعه أطاعني، ومن أحبه أحبني، ومن أبغضه أبغضني، وقد سلف نحو هذه.
وقد نظم الضعيف مصنف هذا الكتاب اللطيف نحو هذه في معاني الحديث الظريف بما قيل لبعض الفضلاء: لم عدلت عن النثر إلى النظم فقال: لم يحفظ؟ س من
والنظم أولى بقبول الذهن | له وأحلى موقفا في الأذن |
فقلت:
قد أسند الحافظ في حليته | قول النبي في علي مستطر |
عهد من الله إلي قد أتى | بأنه منار ديني المفتخر |
وأنه إمام أوليائه | ونور من أطاعه من البشر |
وحامل الراية في العرض وقد | أمنته على المفاتيح الغرر |
وأنه كلمة الله التي | ألزمها للمتقين في الأثر |
وأن من أحبه أحبه | وعكسه كذا أتى به الخبر |
عن رجل ليس بذي حمية | لأنه يولي عتيقا وعمر |
ومنها: لما نزلت (إنما المؤمنون إخوة(1)) ونزلت (إخوانا على سرر متقابلين(2)) قال جبرائيل: هم أصحابك يا محمد، أمرك الله تعالى أن تواخي بينهم في الأرض كما وآخى الله بينهم في السماء، فقلت: إني لا أعرفهم قال: أنا قائم بإزائك كلما أقمت مؤمنا قلت لك أقم فلانا فإنه مؤمن وكلما أقمت كافرا قلت لك أقم فلانا فإنه كافر، فواخ بينهما فلما فعل ذلك ضج المنافقون فأنزل الله تعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب(3)) فحزن علي عليه السلام إذ أخره بأمر جبرائيل فأنزل الله تعالى إليه إنما خبأته لك، وآخيت بينكما في السماء و الأرض، فقام النبي صلى الله عليه وآله وذكر لنفسه مزايا وذكر لعلي نحوها ليدل بها على
____________
(1) الحجرات: 10.
(2) الحجر: 47.
(3) آل عمران: 179.
فانظر إلى مرتبته حيث أمر الله نبيه بالمواخاة بين صحابته، فلم يجد فيهم غير علي يصلح لأخوته، لأنه نظيره في النسب وصراحته، وفي آية التطهير المفوهة بعصمته، وفي آية (إنما وليكم الله(3)) المبينة لإمامته، وفي كونه منه في حديث سورة براءة وتأديته، وفي قوله تعالى: (قل تعالوا ندع(4)) يوم المباهلة، وفي استطراق مسجده جنبا وفتح باب سدته.
شعر:
آخا النبي عليا والأخوة لا | تدعوا سوى المثل عند الضرب للمثل |
وقد تمدح به علي عليه السلام في قوله:
ومن حين آخا بين من كان حاضرا | دعاني وآخاني وبين من فضلي |
وقد علم كل ذكي أن من تقدم على علي فقد تقدم على نظيره أي النبي صلى الله عليه وآله.
____________
(1) الزخرف: 48.
(2) مريم: 28.
(3) المائدة: 55.
(4) آل عمران: 61.
نكتة:
قيل لابن بابويه: أتفضل عليا على أبي بكر؟ قال: لا، قيل: أتفضل أبا بكر على علي؟ قال: لا، قيل: فلا تفاضل بينهما؟ قال: نعم، قيل: وكيف تقول؟
قال: الأشياء إما أضداد، وظاهر أنه لا تفاضل بينهما، أو أشباه وأمثال، وأبو بكر لا يشابه عليا، لما علم من مساواته للنبي صلى الله عليه وآله حين واخاه.
وحديث المواخاة له قد اتفق الفريقان على صحته وقد أورده شارح المصابيح في مناقبه، والترمذي في صحيحه، وابن حنبل في مواضع بطرق مختلفة في مسنده والبلاذري والسلامي وأبو عمرو القاضي، وابن بطة من طرق ستة، والقطان في تفسيره، وذكره الحسن ووكيع، وأبو داود في سننه، والثعلبي في تفسيره، و في الجزء الثالث من الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدي وهذه تبطل ما رووه من قوله: (ادعوا إلي أخي وصاحبي(1)).
وذكره أيضا ابن المغازلي الشافعي في مناقبه وفي بعضها أنه عليه السلام أرقاه المنبر وقال: اللهم إن هذا مني وأنا منه، ألا إنه بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه. فبخبخ الثاني واعترف بأنه مولاه، ثم أنكر المواخاة يوم طلبه للبيعة، فأبى، فقال: نقتلك، فقال: إذن تقتلوا عبد الله وأخو رسول الله، قال: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فلا.
وقد جرى الأعور الواسطي على سنة إمامه الغوي، ولو أمكن إنكار هذا الحديث القوي، أمكن هدم أحكام شريعة النبي، وما احتج به أن النبي صلى الله عليه وآله لم يواخ إلا بين المهاجرين والأنصار للتأليف بينهما، فلا فائدة في مواخاته لعلي فاسد بما أنه آخا بين أبي بكر وعمر، وكل منهما مهاجري.
قالوا: الاحتجاج بطرقنا لا ينفعكم لفسق رجالنا عندكم، والاحتجاج بطرقكم لا تضرنا لكونكم خصومنا قلنا: هذه الطريقة تسد باب الاحتجاج بالأحاديث من الجانبين، والحق أن ما نذكره من طرقكم إنما هو إلزام لكم، ويعز عليكم
____________
(1) يريدون أبا بكر بن أبي قحافة.
قالوا: روينا في أئمتنا ما يوافق مذهبنا، فنحن آمنا بالكل، وأنتم بالبعض فكنتم كما قال الله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض(1)) الآية قلنا: إذا رويتم ما يوافقكم ويخالفكم، وجب الأخذ بالمجمع عليه، وإلا اجتمع النقيضان، وليس ذلك من باب الإيمان ببعض، بل هو من قبيل (يستمعون القول فيتبعون أحسنه(2)) قال مؤلف الكتاب في هذا الباب:
واخاه من بين الصحابة كلهم | والأقربين وليس ذاك بخاف |
فمن اعتراه الشك فيه فخارق | الاجماع حيث أتى بغير خلاف |
قد صار يوسف خارجا عن ملة | الاسلام إذ قذفوه بالاعساف |
فعليه لعن الله ثم رسوله | والمؤمنون وذا من الإنصاف |
ومنها ما أورده الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل وقد ادعى إجماع المسلمين عليه في رواية ابن عباس لما نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة(3)) قال النبي صلى الله عليه وآله: من ظلم عليا مقعده هذا بعدي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء من قبلي، وأسنده ابن السراج في كتابه إلى ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وآله حتى قيل له: فكيف وليت الظالمين؟ وسمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: حلت عقوبته علي لأني لم أستأذن إمامي كما استأذنه جندب وعمار وسلمان، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه.
ولو لم يكن لنا في تعيين علي للخلافة وفي نفي غيره كافة سوى هذا الحديث لكفى وشفى، فإنه الكحلة الواحدة التي تزيل العمى، وتقمع العدا، والشربة الرائقة التي تذهب الظمأ، وتنقع الصدا، ولها بحمد الله نظائر من الآيات المحكمات
____________
(1) البقرة: 85.
(2) الزمر: 18.
(3) الأنفال: 25.
وقد روى ابن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب عن أبي ذر قول النبي صلى الله عليه وآله: من ناصب عليا للخلافة بعدي فهو كافر، ومن شك فيه فهو كافر وقد شهد النبي صلى الله عليه وآله لأبي ذر بالصدق، ولولا تواتر الوصية لعلي لم يستحقوا الكفر بقول النبي صلى الله عليه وآله ولفظة (بعدي) تقتضي عموم خلافته، فكل من نازعه في أمره حكم النبي صلى الله عليه وآله بكفره، وهذا يغني عن تدقيق الانتصار، وتحقيق الأفكار فلله الحمد على رفع الحجاب، وإصابته الصواب.
وقد ارتجز مؤلف الكتاب فقال في هذا الباب:
قد أورد الحاكم في كتابه | شواهد التنزيل في أصحابه |
قول النبي تفهموا يا أمتي | إياكم أن تجحدوا نبوتي |
بظلمكم بعدي عليا مقعدي | فمن أتاه فهو طاغ معتدي |
وقد روى لنا علي الشافعي | قول النبي الأبطحي النافع |
يا من يناصب لعلي بعدي | خلافتي فقد أتى بجحدي |
وإن من يشك في توزيره | قد كتب الكفر على ضميره |
فهذه شهادة الخصوم | توضيح ما قد جاء في الظلوم |
فصل
قد أوصى النبي صلى الله عليه وآله إلى علي ابتداء يوم الدار، وقد سلف، ويوم الغدير وعند الوفاة، فقد أسند الحسين بن جبر إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله دعا عمه ليقبل وصيته فاعتذر منها فدعا عليا فقبلها، فألبسه خاتمه، ودفع إليه بغلته، وسيفه ولامته، وأوصى إليه بين ذلك في عدة مواضع.
وقد أسند الطبري إلى سلمان قول النبي صلى الله عليه وآله: لم يكن نبي إلا وله وصي فمن وصيك؟ فقال صلى الله عليه وآله: هو خير من أترك بعدي علي بن أبي طالب.