الصفحة 60
فانتزعه ثمّ ضرب به ساقه، وكانت درعه مشمّرة فقطعها، ثمّ أجهز عليه فقتله.

فلمّا عاد إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سمعه يقول: من له علم بنوفل؟ فقال عليّ عليه السّلام: أنا قتلته يا رسول الله، فكبّر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه(1).

ولم يزل عليّ عليه السّلام يقتل واحداً بعد واحد من أبطال المشركين حتّى قتل بانفراده نصف المقتولين، وقتل المسلمون كافّة وثلاثة آلاف من الملائكة مسوّمين النصف الآخر، وشاركهم عليّ عليه السّلام فيه أيضاً.

ثمّ رمى رسول الله باقي القوم بكفّ من الحصى، وقال: شاهت الوجوه، فانهزموا جميعاً، فهذه الغزاة العظمى على ما شرحناه كانت عبارة عنه عليه السّلام، وما أجدره بقول القائل:


لك خلّتان مسالماً ومحارباًبالعدل منك وسيفك المخضوب
فرّقت ما بين الذوائب والطّلاوجمعت ما بين الطّلا والذيب(2)

الثانية: غزاة أُحد

وهي كانت في شوال، ولم يبلغ عمر أمير المؤمنين تسعاً وعشرين سنة.

وأُحد جبل عظيم قريب إلى المدينة، وكانت هذه الغزاة عنده، وسببها أنّ قريشاً لما كُسروا يوم بدر، وقُتل بعضهم وأُسر بعضهم، حزنوا لقتل رؤسائهم، فتجمّعوا وبذلوا الأموال، وجيّشوا الجيوش، وتولّى ذلك أبو سفيان، وقصدوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة.

فخرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمسلمين، ودخل النفاق والشك والريب بين جماعة منهم، فرجع قريبٌ من ثلثهم إلى المدينة، وبقي صلّى الله عليه وآله وسلّم في

____________

1- راجع كشف الغمة 1 : 186 ، وارشاد القلوب 2: 57، وكشف اليقين : 125 .

2- كشف الغمة 1: 184، وإرشاد القلوب 2: 58.


الصفحة 61
سبعمائة من المسلمين، كما حكاه الله سبحانه وتعالى في قوله:

(وَاِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(1) الآيات.

فصفّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صفّاً طويلا، وجعل على الشعب خمسين رجلا من الأنصار، وأمّر عليهم رجلا منهم، وقال لهم: لا تبرحوا من مكانكم وإن قتلنا عن آخرنا، فانّما نؤتى من موضعكم.

واشتدّ الحرب ودارت رحاها، ولواء المسلمين بيد أمير المؤمنين عليه السّلام، وهو قدّام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يضربهم بسيفه بين يديه، ولواء الكفار بيد طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار، وكان يُسمّى كبش الكتيبة، فتلاقا هو وعليّ عليه السّلام وتقاربا واختلفت بينهما ضربتان، فضربه عليّ عليه السّلام على مقدّم رأسه فبدرت عينه وصاح صيحة عظيمة، وسقط اللواء من يده.

فأخذه آخر من بني عبد الدار فقتله، ولم يزل عليه السّلام يقتل واحداً بعد واحد حتّى قتل منهم سبعة، ثمّ أخذ اللواء عبدٌ لهم اسمه صواب، وكان من أشدّ الناس، فضرب عليّ عليه السّلام يده فقطعها، فأخذه بيده اليسرى فضربه عليها فقطعها، فأخذ اللواء على صدره، وجمع ساعديه عليه ويداه مقطوعتان، فضربه عليّ عليه السّلام على رأسه، فسقط صريعاً وانهزم القوم.

وأكبّ(2) المسلمون على الغنائم، ورأى أصحاب الشعب الناس يغنمون فخافوا فوت الغنيمة، فاستأذنوا رئيسهم في أخذ الغنائم، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرني أن لا أبرح من موضعي.

فقالوا: إنّما قال ذلك وهو لا يدري أنّ الأمر يبلغ ما ترى، ومالوا إلى الغنائم وتركوه، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله وجاء من ظهر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنظر إليه وقد حفّ به أصحابه، فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون.

____________

1- آل عمران : 121 .

2- كذا الظاهر وفي المتن: "ركب".


الصفحة 62
فحملوا عليه حملة رجل واحد، ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبال، ورضخاً بالحجارة، وجعل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتلون عنه حتّى قُتل منهم سبعون رجلا، وانهزم الباقون وبقي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده.

وما زال عن موضعه شبراً واحداً، وباشر القتال بنفسه، ورمى صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى فنيت نباله، وكان تارة يرمي عن قوسه وتارة بالحجارة.

وأصاب عتبة بن أبي وقّاص شفتيه ورباعيّته، وضربه ابن قُميّة على كريمته الشريفة، فلم يصنع سيفه شيئاً إلاّ وهن الضربة بثقل السيف، ثمّ وقع صلّى الله عليه وآله وسلّم في حفرة مغشيّاً عليه، وحجب الله أبصار المشركين عنه، وصاح صائح في المدينة: قُتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فانخلعت القلوب، وخرجت فاطمة صلوات الله عليها صارخة.

قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: لمّا انهزم الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي المشركين، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليفرّ، وما رأيته في القتلى، وأظنّه رُفع من بيننا إلى السّماء.

فكسرت جفن سيفي، وقلت: لأقاتلنّ به حتّى أُقتل، وحملت على القوم، فأفرجوا وإذا أنا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد وقع مغشيّاً، فنظر إليّ وقال: ما فعل النّاس يا عليّ؟ فقلت: كفروا يا رسول الله، وولوا الدبر وأسلموك إلى عدوّك.

فنظر إلى كتيبة قد أقبلت، فقال: ردّهم عنّي، فحملت عليهم أضربهم يميناً وشمالا، حتّى قتلت منهم هشام بن أميّة المخزومي وانهزم الباقون، وأقبلت كتيبة أخرى، فقال لي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أحمل على هذه، فحملت وقتلت منهم عمرو بن عبد الله الجمحي، وانهزمت أيضاً.

وجاءت أخرى، فحملت عليها وقتلت منها بشر بن مالك العامري وانهَزَمَتْ، ولم يزل عليه السّلام يقاتل في ذلك اليوم، ويفرّق جموع القوم عن رسول الله صلّى الله عليه

الصفحة 63
وآله وسلّم حتّى أصابه في رأسه ووجهه وبدنه سبعون جراحة، وهو قائم وحده بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يغفل عنه طرفة عين.

فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما تسمع مديحك في السماء، إنّ ملكاً اسمه رضوان ينادي بين الملائكة: "لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتى الاّ عليّ"(1).

ورجع الناس إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان جبرئيل عليه السّلام يعرج إلى السماء في ذلك اليوم وهو يقول: لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتى إلاّ عليّ، وسمعه الناس كلّهم، وقال جبرئيل: يا رسول الله قد عجبت الملائكة من حسن مواساة أمير المؤمنين عليّ لك بنفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وما يمنعه من ذلك، وهو منّي وأنا منه، فقال جبرئيل عليه السّلام: وأنا منكما(2).

وذكر أهل السير قتلى أُحد من المشركين، فكان جمهورهم مقتولين بسيف أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، وكان الفتح له، وسلامة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المشركين بسببه، ورجوع الناس إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بمقامه وثباته، ويذبّ عنه دونهم، ويبذل نفسه العزيزة في نصره.

وتوجّه العتاب من الله تعالى إلى كافّتهم لموضع الهزيمة، والملائكة في السماء مشغولون بمدحه، متعجّبون من مقامه وثباته وسطوته ... فصلّى الله على مجهول القدر.

الثالثة: غزاة الأحزاب

وهي غزاة الخندق، وبيانها أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إلى أبي سفيان لعلمهم بعداوته للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألوه المعونة، فأجابهم وجمع لهم قريشاً وأتباعها من كنانة، وتهامة، وغطفان وأتباعها من أهل نجد.

____________

1- انظر ارشاد القلوب 2: 61، وكشف الغمة 1 : 194 .

2- راجع ارشاد القلوب 2: 61، ونحوه البحار 20 : 85 ح 17 باب 12 .


الصفحة 64
واتّفق المشركون مع اليهود، وأقبلوا بجمع عظيم، ونزلوا من فوق المسلمين ومن أسفلهم، كما قال تعالى:

(اِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)(1).

واشتدّ الأمر على المسلمين، وكان سلمان قد أشار بحفر الخندق، فَحُفِرَ، وخرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمسلمين وهم ثلاثة آلاف، والمشركون مع اليهود يزيدون على عشرين ألفاً، وجعلوا الخندق بينهم وبين المسلمين.

وركب عمرو بن ودّ ومعه فوارس من قريش، وأقبلوا حتّى وقفوا على أضيق مكان في الخندق، ثم ضربوا خيلهم فاقتحمته وصاروا بين الخندق والمسلمين، فخرج إليهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

فقال عمرو: من يبارز؟ فقال علي عليه السّلام: أنا، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّه عمرو، فسكت، فقال عمرو: هل من مبارز؟ فقال عليّ عليه السّلام: أنا له يا رسول الله، فقال: إنّه عمرو، فسكت.

فنادى عمرو ثالثة، فقال عليّ عليه السّلام: أنا له يا رسول الله، فقال: إنّه عمرو، وكلّ ذلك يقوم عليّ عليه السّلام، فيأمره النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالثبات انتظاراً لحركة غيره، وكأنّ على رؤوسهم الطير لخوفهم من عمرو.

وطال نداء عمرو بطلب المبارزة، وتتابع قيام أمير المؤمنين عليه السّلام، فلمّا لم يقدم أحد من الصحابة، قال النبيّ لعليّ صلّى الله عليهما: أُدن منّي يا عليّ، فدنا منه فنزع عمامته من رأسه وعمّمه بها، وأعطاه سيفه، وقال: امض لشأنك، ودعا له.

ثمّ قال: "برز الايمان كلّه إلى الشرك كلّه" فسعى عليّ عليه السّلام نحو عمرو حتّى انتهى إليه، فقال: يا عمرو انّك كنت تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلاّ قبلتها، أو واحدة منها، قال: أجل.

____________

1- الأحزاب : 10 .


الصفحة 65
قال عليه السّلام: إنّي أدعوك إلى شهادة أن لا اله الاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وأن تسلم لربّ العالمين، قال: يا ابن أخي أخّر هذه عنّي، فقال عليه السّلام: إنّها خير لك لو أخذتها، ثمّ قال عليه السّلام: هاهنا أُخرى، قال: وما هي.

قال عليه السّلام: ترجع من حيث أتيت، قال: لا تحدّث عنّي نساء قريش بذلك أبداً، قال عليه السّلام: فهاهنا أُخرى، قال: ما هي؟ قال عليه السّلام: أُبارزك وتبارزني.

فضحك عمرو وقال: إنّ هذه الخصلة ما كنت أظنّ أنّ أحداً من العرب يطلبها منّي، وإنّي أكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك نديماً لي.

فقال عليه السّلام: ولكنّي أُحبّ أن أقتلك ما دُمت أبيّاً للحق، فحمى عمرو ونزل عن فرسه، وضرب وجهه حتّى نفر وأقبل على أمير المؤمنين عليه السّلام مصلتاً سيفه، وبدره بضربة، فنشب السيف في ترس عليّ عليه السّلام فضربه أمير المؤمنين علي عليه السّلام.

قال جابر الأنصاري رحمه الله: وتجاولا وثارت بينهما قترة(1)، وبقيا ساعة طويلة لم أرهما ولا سمعت لهما صوتاً، ثمّ سمعنا التكبير، فعلمت أنّ عليّاً عليه السّلام قد قتله، وسرّ النبيّ سروراً عظيماً لما سمع صوت أمير المؤمنين عليه السّلام بالتكبير، وكبّر وسجد لله تعالى شكراً.

وانكشف الغبار وعبر أصحاب عمرو الخندق، وانهزم عكرمة بن أبي جهل وباقي المشركين، فكانوا كما قال الله سبحانه وتعالى:

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً)(2).

ولمّا قتل عليّ عليه السّلام عمرواً، احتزّ رأسه، وأقبل به نحو النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجهه يتهلّل، فألقى الرأس بين يدي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقبّل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رأس عليّ ووجهه، وقام أكابر الصحابة فقبّلوا أقدامه عليه السّلام.

____________

1- القترة ـ بالفتح ـ : الغبرة / القاموس المحيط.

2- الأحزاب : 25 .


الصفحة 66
وقال له عمر بن الخطاب: هلاّ سلبته درعه، فما لأحد درعٌ مثلها، فقال: إنّي استحييت أن أكشف عن سوءة ابن عمّي(1).

وكان ابن مسعود يقرأ من ذلك اليوم كذا: "وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ وكان الله قويّاً عزيزاً".

وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك اليوم في حقّه عليه السّلام: لمبارزة عليّ عمرو بن ودٍّ العامري أفضل من عبادة أُمّتي إلى يوم القيامة(2).

قال ربيعة السعدي: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبد الله إنّا لنتحدّث عن عليّ عليه السّلام ومناقبه، فيقول لنا أهل البصرة: إنّكم تفرطون في عليّ عليه السّلام، فهل أنت محدّثي بحديث فيه.

فقال حذيفة: يا ربيعة، وما تسألني عن عليّ عليه السّلام، والذي نفسي بيده لو وضع جميع أعمال أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كفّة الميزان منذ بعث الله محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يوم [يقوم] الناس، ووضع عمل عليّ عليه السّلام في الكفّة الأخرى لرجح عمل عليّ عليه السّلام على جميع أعمالهم.

فقال ربيعة: هذا الذي لا يُقام له ولا يُقعد، فقال حذيفة: يا لكع، وأين كان أبوبكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم عمرو بن ودٍّ، وقد دعا إلى المبارزة، فأحجم الناس كلّهم ما خلا عليّاً عليه السّلام، فانّه برز إليه وقتله، والذي نفس حذيفة بيده لعمله عليه السّلام ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يوم القيامة(3).

وقالت أُخت عمرو، وقد نعي إليها أخوها: من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا:

____________

1- راجع كشف الغمة 1 : 205 ، وارشاد القلوب 2: 62-64، وكشف اليقين : 133 .

2- راجع ارشاد القلوب 2: 64، ونحوه في البحار 36 : 165 ح 147 باب 39 عن كنز الفوائد، وفي الفردوس 3: 455 ح5406.

3- راجع كشف الغمة 1 : 204 ، وكشف اليقين : 134 ، وارشاد القلوب 2: 64، ونحوه في شرح نهج البلاغة 19 : 61 باب 230 ، وفي البحار 39 : 3 ح 1 باب 70 .


الصفحة 67
عليّ بن أبي طالب، قالت: لم يعد يومه(1) إلاّ على يد كفو، وأنشدت:


لو كان قاتل عمرو غير قاتلهلكنت أبكي عليه دائم الأبد
لكنّ قاتله من لا نظير لهوكان يدعى قديماً بيضة البلد

الرابعة: غزاة خيبر

وكان الفتح فيها بأمير المؤمنين عليه السّلام أيضاً; لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حاصر اليهود بخيبر بضعاً وعشرين ليلة، ففي بعض الأيّام فتحوا الباب، وكانوا قد خندقوا على أنفسهم خندقاً، وخرج مرحب بأصحابه يتعرّض للحرب.

فدعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أبابكر، وأعطاه الراية في جمع من المهاجرين فانهزم، فلمّا كان من الغد أعطاها عمر، فسار بها غير بعيد ثمّ انهزم.

فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إيتوني بعليّ، فقيل: إنّه أرمد العين، فقال: أرونيه، تروني رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّار.

فجاء علي عليه السّلام، فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما تشتكي يا عليّ؟ قال: رمداً ما أبصر معه، وصداعاً برأسي، فقال: اجلس وَضَعْ رأسك على فخذي، ثمّ تفل صلّى الله عليه وآله وسلّم في يده ومسحها على عينه ورأسه ودعا له.

فانفتحت عيناه، وسكن الصداع، وأعطاه الراية وقال: إمض بها، جبرئيل معك، والنصر أمامك.

فمضى عليه السّلام حتّى أتى الحصن، فخرج مرحب وعليه درعٌ ومغفر وحجر قد نقبه مثل البيضة على رأسه، فاختلفا ضربتين، فضربه عليّ عليه السّلام فقدّ الحجر والمغفر ورأسه حتّى وقع السيف على أضراسه، فخرّ صريعاً وانهزم من كان مع مرحب.

____________

1- هكذا ، وفي بعض المصادر : لم يعد موته، وفي كشف الغمة: لو لم يعد يومه إلاّ على يد كفو كريم لا رقأت دمعتي عليه ... .


الصفحة 68
وأغلقوا باب الحصن، وعالجه جماعة كثيرة من المسلمين فلم يتمكّنوا من فتحه، فجاء أمير المؤمنين عليه السّلام فقلعه وأخذه وجعله جسراً على الخندق حتّى عبر المسلمون عليه، وظفروا بالحصن، وأخذوا الغنائم.

ولمّا انصرفوا دحى به بيمناه سبعين ذراعاً، وكان يغلقه عشرون رجلا، ورام المسلمون حمل ذلك فلم يقلّه(1) إلاّ سبعون رجلا.

وقال عليه السّلام: والله ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة، ولكن بقوّة ربانية(2).

الخامسة: غزاة السلسلة

وخبر هذه الغزاة أنّه جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسول الله إنّ جماعة من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل على أن يبيّتوك بالمدينة، فأمر بالصلاة جامعة، فاجتمعوا وعرّفهم وقال: من لهم؟

فابتدرت جماعة من أهل الصفة وغيرهم وعدّتهم ثمانون، وقالوا: نحن، وَلِّ علينا من شئت، فاستدعى أبابكر وقال له: امض، فمضى وتبعه القوم، فهزموه وقتلوا جمعاً كثيراً من المسلمين، وانهزم أبوبكر وجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فبعث عمر فهزموه أيضاً، فساء ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال عمرو بن العاص: إبعثني يا رسول الله فانّ الحرب خدعة، ولعلّي أخدعهم، فأنفذه مع جماعة، فلمّا صاروا إلى الوادي خرجوا إليه فهزموه، وقتلوا من أصحابه جماعة.

ثمّ دعا أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام، وبعثه إليهم ودعا له، وخرج معه مشيّعاً إلى مسجد الأحزاب، وأنفذ معه جماعة منهم أبوبكر وعمرو بن العاص، فسار بهم نحو العراق مُنَكَّباً(3) عن الطريق حتّى ظنّوا أنّه يريد بهم غير ذلك الوجه.

ثمّ أخذ بهم على طريق غامضة، واستقبل الوادي من فمه، وكان عليه السّلام يسير

____________

1- استقلّه: حمله ورفعه، كقلّه وأقلّه / القاموس.

2- راجع ارشاد القلوب 2: 66، وكشف الغمة 1 : 213 ، وكشف اليقين : 139 .

3- نَكَّبَ وتَنَكَّبَ: عدل / لسان العرب.


الصفحة 69
الليل ويكمن بالنهار، فلمّا قرب من الوادي أمر أصحابه أن يخفوا حسّهم و [أ] وقفهم مكاناً، وأقام أمامهم ناحية.

فلمّا رأى عمرو بن العاص فعله لم يشك في كون الفتح له(1)، فخوّف أبابكر وقال: إنّ هذه أرض ذات ضباع وذئاب، كثيرة الحجارة، وهي أشدّ علينا من بني سليم والمصلحة أن نعلو الوادي، وأراد فساد الحال على أمير المؤمنين عليه السّلام حسداً له وبغضاً، وأمره أن يقول ذلك لأمير المؤمنين عليه السّلام.

فقال له أبوبكر، فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السّلام بحرف واحد، فرجع أبوبكر وقال: والله ما أجابني بحرف واحد، فقال عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب: إمض أنت إليه فخاطبه، ففعل فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السّلام بشيء، فقال عمرو: أنضيّع أنفسنا، انطلقوا بنا نعلو الوادي.

فقال المسلمون: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرنا بأن لا نخالف عليّاً، فكيف نخالفه ونسمع قولك؟ فما زالوا حتّى طلع الصبح، فكبس القوم وهم غافلون فأمكنه الله منهم، ونزل جبرئيل عليه السّلام بسورة:

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً)(2) السورة.

قسماً منه تعالى بخيل أمير المؤمنين عليه السّلام، وعرّفه الحال ففرح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبشّر أصحابه بالفتح وأمرهم باستقبال أمير المؤمنين عليه السّلام.

فخرجوا والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقدمهم، فلمّا رأى أمير المؤمنين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ترجّل عن فرسه ووقف بين يديه، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لولا أنّني أشفق أن تقول فيك طوائف أُمّتي ما قالت النصارى في المسيح، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملأ منهم إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك، إركب فانّ الله ورسوله عنك راضيان.

____________

1- في "ب" : أن يُفتح له .

2- العاديات : 1-3 .


الصفحة 70
وسمّيت هذه الغزاة ذات السلاسل، لأنّه أسر منهم وقتل منهم، وأتى بالأسارى منهم مكتّفين(1) بالحبال كأنّهم في السلاسل(2).

وأمّا الثاني: وهو مواطن جهاده بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فانّه ابتُلي وامتُحن بحرب الناكثين والقاسطين والمارقين، كما أخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبيان هذه الحروب على سبيل الاختصار، أنّه بعد أن آل الأمر إليه عليه السّلام، وبايعه المسلمون كافة نهض طلحة والزبير ونكثا بيعته، وانحازا إلى عائشة، وأجمعوا على قتاله وتوجهوا إلى البصرة، وانضمّ إليهم منها خلق كثير، وخرجوا ليحاربوه.

فخرج عليه السّلام فردعهم فلم يرتدعوا، ووعظهم فلم ينزجروا بل أصرّوا على القتال، فقاتلهم حينئذ حتّى قتل منهم ستة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين، وكانوا ثلاثين ألفاً، وقُتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام ألف وسبعون رجلا، وكانوا عشرين ألفاً.

وهذه الوقعة تسمّى وقعة الجمل، وهي حربه عليه السّلام للناكثين، وبعد ذلك اشتغل عليه السّلام بوقعة صفين وحربه مع معاوية، وهي جهاده للقاسطين.

وهذه الحرب من الوقائع العظام التي يضطرب لها فؤاد الجليد، ويشيب منها فود(3) الوليد، وبقي عليه السّلام يكابد هذه الوقعة ثمانية عشر شهراً، وقُتل فيها من الفريقين على أقلّ الروايات مائة ألف وخمسة وسبعون ألفاً من أهل الشام، وخمس وعشرون ألفاً من أهل العراق.

وفي ليلة الهرير من هذه الوقعة، وهي أشدّ أوقاتها، قُتل من الفريقين ستة وثلاثون ألفاً، وقتل عليه السّلام بانفراده في هذه الليلة خمسمائة وثلاثة وعشرين

____________

1- في "الف": "مُنكتفين".

2- راجع ارشاد القلوب 2: 67، وكشف الغمة 1 : 230 ، وكشف اليقين : 151 ، وارشاد المفيد : 86 ، والبحار 21: 77 ح5.

3- الفَوْدُ: مُعظم شعر الرأس ممّا يلي الاُذن / القاموس.


الصفحة 71
فارساً; لأنّه كان عليه السّلام كلّما قتل فارساً أعلن بالتكبير، فأُحصيت تكبيراته في تلك الليلة، فكانت خمسمائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة بخمسمائة وثلاثة وعشرين قتيلا، وعرفوا قتلاه عليه السّلام نهاراً بضرباته، فانّها كانت على وتيرة واحدة، إن ضرب طولا قَدَّ، أو عرضاً قطّ، وكانت كأنّها مكواة.

وروي أنّه في تلك الليلة فَتَقَ نيفق(1) درعه لثقل ما كان يسيل من الدم على ذراعيه(2).

وفي صبيحة هذه الليلة انتظم أصحاب أمير المؤمنين، ولاحت لهم أمارات الظفر وعلامات النصر، وزحم(3) مالك الأشتر حتّى ألجأهم إلى معسكرهم، ولم يبق إلاّ أخذهم وقبض معاوية، فلمّا [رأى] عمرو بن العاص الحال على هذا، قال لمعاوية: نرفع المصاحف وندعوهم إلى كتاب الله.

فقال: أصبت، فرفعوها فرجع القرّاء من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام عن القتال، وأقبلوا إليه وهم أربعة آلاف فارس، كأنّهم السّد من الحديد، وقالوا له: ابعث ورُدّ الأشتر عن قتال هؤلاء.

فقال لهم: إنّها خديعة ابن العاص وشيطنته، وهؤلاء ليسوا من رجال القرآن، فلم يقبلوا وقالوا: لابدّ أن تردّ الأشتر وإلاّ قتلناك أو سلّمناك إليهم.

فأنفذ عليّ عليه السّلام بطلب الأشتر، فقال: قد أشرفت على الفتح وليس هذا وقت طلبي، فعرّفه اختلال أصحابه، فرجع وعنّف القرّاء، وسبّهم وسبّوه، وضرب وجه دوابهم فلم يرجعوا، ووضعت الحرب أوزارها.

فبعث إليهم أمير المؤمنين عليه السّلام وقال: على ماذا رفعتم المصاحف؟ قالوا: للدعاء إلى العمل بمضمونها، وأن نقيم حكماً وتقيموا حكماً، ينظران في هذا

____________

1- نيفق السراويل : الموضع المتسع منها / لسان العرب.

2- لاحظ كشف الغمة 1 : 255 .

3- زَحَمَهُ ـ كمنعه ـ زَحْماً وزِحاماً ـ بالكسر ـ : ضايقه / القاموس.


الصفحة 72
الأمر، ويقرّان الحقّ مقرّه.

فتبسّم أمير المؤمنين عليه السّلام تعجّباً وقال: يا ابن [أبي] سفيان أنت تدعوني إلى العمل بكتاب الله، وأنا كتاب الله الناطق، إنّ هذا لهو العجب العجيب، والأمر الغريب، ثمّ قال لأولئك القرّاء: إنّها حيلة وخديعة فعلها ابن العاص لمعاوية، فلم يسمعوا وألزموا بالتحكيم.

فعيّن معاوية عمرو بن العاص، وعيّن أمير المؤمنين عليه السّلام عبد الله بن العباس، فلم يوافقوا، قال: فالأشتر، فأبوا واختاروا أبا موسى الأشعري، فقال عليه السّلام: أبو موسى ضعيف العقل وهواه مع غيرنا، فقالوا: لابدّ منه.

فحكّموه، فخدع عمرو أبا موسى، وحمله على خلع أمير المؤمنين عليه السّلام وانّه يخلع معاوية، وأمره بالتقدّم حيث هو أكبر سنّاً، فصعد أبو موسى المنبر وخطب ونزع أمير المؤمنين عليه السّلام من الخلافة، ثمّ قال: قم يا عمرو فافعل كذلك.

فقام عمرو وصعد المنبر وخطب وأقرّ الخلافة في معاوية، فشتمه أبو موسى وتلاعنا، فقال علي عليه السّلام لأصحابه القرّاء والعبّاد، الذين غلبوا على رأيه بالتحكيم: ألم أقل لكم إنّها حيلة فلا تنخدعوا بها فلم تقبلوا.

فقالوا لعنهم الله: ما كان ينبغي لك أن تقبل منّا، فأنت قد عصيت الله بقبولك منّا ولا طاعة لمن عصى الله، وخرجوا من الكوفة مصرّين على قتاله عليه السّلام، وأمّروا عليهم عبد الله بن وهب وذا الثدية، وعسكروا بالنهروان.

فسار إليهم أمير المؤمنين عليه السّلام، ووعظهم فلم يرتدعوا بل أصرّوا على القتال، وتقدّم عبد الله بن وهب وذو الثدية وقالوا: ما نريد بقتالك إلاّ وجه الله والدار الآخرة، فقرأ عليه السّلام:

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ

الصفحة 73
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(1).

ثمّ التحم القتال، فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه السّلام حملة واحدة، فلم يبق إلاّ ساعة حتّى قُتلوا بأجمعهم سوى تسعة أنفس فانّهم هربوا، وقُتل من أصحاب عليّ عليه السّلام تسعة، عدد من سلم من الخوارج.

وكان عليه السّلام قد أخبر من قبل القتال بأنّا نقتلهم ولا يُقتل منّا عشرة ولا يسلم منهم عشرة.

فهذه هي وقعة النهروان، وهو قتاله عليه السّلام للخوارج المارقين الذين قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حقّهم: شرّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأعظمهم عند الله تعالى يوم القيامة وسيلة(2).

[الجمع بين الفضائل المتضادات]

ومن فضائله التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أنّه جمع بين الفضائل المتضادات، وألّف بين الكمالات المتباينات(3).

فانّه كان يصوم النهار ويقوم الليل مع هذه المجاهدات التي ذكرناها، ويفطر على اليسير من جريش الشعير من غير أدام، كما قلناه في صفة زهده عليه السّلام، ومن يكون بهذا الحال يكون ضعيف القوّة، وأمير المؤمنين عليه السّلام مع ذلك كان أشدّ الناس قوّة، وانّه قلع باب خيبر وقد عجز عن حملها سبعون نفراً من المسلمين،

____________

1- الكهف : 103-104 .

2- البحار 33: 331 ح577، عن كشف الغمة 1: 158، وفي إرشاد القلوب 2: 72.

3- قال صفيّ الدين الحلّي رحمه الله:


جُمعت في صفاتك الأضدادولهذا عزّت لك الأنداد
زاهد حاكم حليم شجاعفاتك ناسك فقير جواد
شيمٌ ما جُمعن في بشر قطولا حاز مثلهنّ العباد
خُلُق يخجل النسيم من اللطفوبأس يذوب منه الجماد
جلّ معناك أن يحيط بهالشعر ويحصي صفاتك النقّاد


الصفحة 74
ودحا بها أذرعاً كثيرة ثمّ أعادها إلى مكانها بعد أن وضعها جسراً على الخندق، وكان أكثر وقته في الحروب يُباشر قتل النفوس.

ومن هذا حاله يكون شديد اللقاء، عبوس الوجه، وأمير المؤمنين عليه السّلام كان مع ذلك رحيماً، رقيق القلب، حسن الأخلاق، طلق الوجه حتى نسبه بعض المنافقين إلى الدعابة، لشرف أخلاقه عليه السّلام.

[استجابة الدعاء]

ومن فضائله عليه السّلام استجابة دعائه في الحال، وذلك في مواضع كثيرة.

منها: إنّه دعا فردّت عليه الشمس مرّتين، إحداهما في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم:

روت أم سلمة وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وجماعة من الصحابة: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ذات يوم في منزله وعليّ عليه السّلام بين يديه إذ جاء جبرئيل عليه السّلام يناجيه عن الله تعالى.

فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين عليه السّلام، فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشمس، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السّلام صلّى صلاة العصر، فاضطرّ عليه السّلام لأجل ذلك أن صلّى العصر جالساً يومئ لركوعه وسجوده إيماء.

فلمّا أفاق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من تغشّيه قال لأمير المؤمنين عليه السّلام: أفاتتك صلاة العصر؟ فقال: لم أستطع أن أُصلّيها قائماً لمكانك يا رسول الله، والحالة التي كنت عليها في استماع الوحي.

فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: اُدعُ الله تعالى ليردّ عليك الشمس حتّى تصلّيها قائماً في وقتها فانّ الله تعالى يجيبك لطاعتك لله ولرسوله، فسأل أمير المؤمنين عليه السّلام الله عزوجل في ردّ الشمس، فردّت عليه حتّى صارت في موضعها من السماء

الصفحة 75
وقت العصر، فصلّى أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ غربت(1).

والمرّة الثانية بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا رجع من صفين، وأراد عبور الفرات ببابل، واشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم ورحالهم، وصلّى عليه السّلام بنفسه في طائفة معه العصر، فلم يفرغ الناس من عبورهم الماء حتّى غربت الشمس.

ففاتت الصلاة كثيراً منهم، وفات الجمهور فضل الجماعة معه، فتكلّموا في ذلك، فلمّا سمع كلامهم فيه سأل الله تعالى ردّ الشمس عليه ليجمع كافة أصحابه على صلاة العصر في وقتها، فأجابه الله تعالى إلى ردّها عليه، فهال الناس ذلك، وأكثروا من التسبيح والتهليل والاستغفار(2).

ومنها: إنّه [زاد] (3) الماء في الكوفة، وخاف أهلها الغرق، ففزعوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فركب بغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخرج والناس معه حتّى أتى شاطئ الفرات.

فنزل عليه السّلام وأسبغ الوضوء وصلّى منفرداً بنفسه والناس يرونه، ثمّ دعا الله

____________

1- كشف الغمة 1 : 285 ، وكشف اليقين : 111 ، وارشاد القلوب 2: 37 ، وارشاد المفيد : 182 ، ونحوه مناقب الخوارزمي : 306 ح 301 ، وكفاية الطالب : 385 ، ومناقب ابن شهر آشوب 2 : 316 ، عنه البحار 41 : 174 ضمن حديث 10 باب 109 .

2- كشف الغمة 1 : 286 ، وكشف اليقين : 112 ، وارشاد القلوب 2: 38، وارشاد المفيد : 182 ، ومناقب ابن شهر آشوب 2 : 318 ، عنه البحار 41 : 174 ، ضمن حديث 10 باب 109، قال العلامة زحمه الله في كتاب "كشف اليقين": كان بعض الزهّاد يعظ الناس، فوعظ في بعض الأيام وأخذ يمدح عليّاً عليه السلام، فقاربت الشمس الغروب وأظلم الأفق، فقال مخاطباً للشمس:


لا تغربي يا شمس حتى ينقضيمدحي لصنو المصطفى ولنجله
واثني عنانك إذ غرمت ثناءهأنسيت يومك إذ رددت لأجله
إن كان للمولى وقوفك فليكنهذا الوقوف لخيله ولرجله

فوقفت الشمس وأضاء الأفق حتى انقضى المدح، وكان ذلك بمحضر جماعة كثيرة تبلغ حدّ التواتر، واشتهرت هذه القصّة عند الخواص والعوام. انظر كشف اليقين: 483، وتذكرة الخواص: 55، والصواعق المحرقة: 198، ونور الأبصار: 233، والبحار 41: 191.

3- كذا الظاهر، وفي النسخ: "ردّ".