الصفحة 91

الفصل الثالث
في ذكر مشهده الشريف وفي فضل زيارته


في ذكر مشهده الشريف، وقبره المنيف، وما خصّ الله تعالى به حرمه المقدّس من الفضل والمزية التي ليست لمكان آخر من الأمكنة الشريفة، وما جاء في فضل زيارته عليه السّلام من الأخبار والآثار، فما يشتمل عليه هذا الفصل الثالث حينئذ ثلاثة مطالب:

المطلب الأول:

في ذكر قبره الشريف ودفنه عليه السّلام وما يتعلّق بذلك


إعلم أنّ عمره المبارك كان ثلاثاً وستّين سنة، وقُبض عليه السّلام بالكوفة ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، قتيلا بالسيف، قتله ابن ملجم المرادي لعنه الله في مسجد الكوفة وهو في الصلاة، وحُمل إلى الغريّ ودُفن حيث الآن قبره عليه السّلام.


الصفحة 92
والغريّ يقال بالافراد للتخفيف، والمسموع الغريّان، قال الجوهري(1): الغريّان بناءان طويلان، يقال إنّهما قبرا مالك وعقيل، وكانا نديمين للنعمان، فسكرا ليلة وردّا على النعمان في كلام حال سكره، فأمر فحفر لهما حفيرتان بظهر الكوفة ودُفنا حيّين.

فلمّا أصبح وصحا سأل عنهما، فأُخبر بما جرى، فركب حتّى انتهى إليهما، وجزع لأجلهما، ثمّ أمر فبُني عليهما بناءان، وجعل لهما في السنة يومين يوم بؤس وهو يوم موتهما، فيقتل من لاقاه كائناً من كان من غير أهل الحيرة، حتّى لو عرضت الوحوش لأدركتها الخيل، أو الطيور لأرسلت عليها الجوارح حتّى تدركها، يُغرّي بدمه القبرين ولهذا سُمّيا بالغريين.

ويوم نعيم يهب فيه لأوّل من يلقاه خلعةً وفرساً وجارية ومائة من الابل، ويجيء ويبسط بين الغريين في ذلك اليوم ويقضيه بالأكل والشرب والفرح والسرور، وكلّما شرب قدحاً صبّ على كلّ واحد من القبرين قدحاً.

وهذا الغريّ الذي ذكرناه وبه يعرف المشهد الشريف سلام الله على مشرّفه، وهو الآن تربة النوبين(2) الأعظم، سلطان الأمراء في العالم، الملك العادل الشيخ حسن، والخاتون السعيدة المعظّمة سلطانة الخواتين دلشاد أسكنها الله أعلى غرف الجنان بمحمد المبعوث من بني عدنان.

وأمّا كيفية دفنه عليه السّلام، فهو لما قبض عليه السّلام وغُسّل وكُفّن أُخرج إلى مسجد الكوفة أربعة توابيت، وصُلّي عليها، ثمّ أُدخل تابوت إلى البيت، والثلاثة الباقية منها ما بُعث إلى جهة بيت الحرام، ومنها ما حُمل إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنها ما نقل إلى بيت المقدس.

وفُعل ذلك لاخفائه عليه السّلام على ما سنذكر سبب ذلك، وكان عليه السّلام قال

____________

1- الصحاح 4: 2445 / غرا.

2- النَّوْبُ: اسم لجمع نائب مثل زائر وزَوْر / لسان العرب.


الصفحة 93
لولديه الحسن والحسين عليهما السّلام عند الوفاة: إذا أنا متّ فاحملاني على سريري وانتظرا حتّى إذا ارتفع لكما مقدّم السرير فاحملا مؤخّره، فلمّا مضى هزيعٌ من الليل(1) قام الحسن والحسين عليهما السّلام وخواصهما، وارتفع السرير فحملا مؤخّره.

قال من حضر من خواصهم: كنّا حال حمل الجنازة نسمع دويّ الملائكة بالتسبيح والتكبير والتهليل، وناطقاً لنا بالتعزية يقول: أحسن الله لكم العزاء في سيّدكم وحجة الله على خلقه، حتّى أتينا الغريين فاذا صخرة بيضاء تلمع نوراً، فوضع المقدّم عندها فوضعنا المؤخّر، وحفرنا الصخرة فاذا ساجة مكتوبة: "هذا قبر ادّخره نوح النبي لوصي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل الطوفان بسبعمائة عام"، فدفنّاه عليه السّلام هناك، وأُخفي قبره الشريف، وبقي مخفيّاً إلى زمان الرشيد وظهر في زمانه.

وكيفية ظهوره ما روي عن عبد الله بن حازم قال: خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة وهو يتصيّد، فصرنا إلى ناحية الغريين، فرأينا ظباءً فأرسلنا عليها الصقور والكلاب، فجاولتها ساعة ثمّ لجأت الظباء إلى أكمة، فسقطت فتراجعت الصقور والكلاب عنها، فتعجّب الرشيد من ذلك.

ثمّ إنّ الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الصقور والكلاب عليها، فرجعت الظباء إلى الأكمة، فتراجعت عنها الكلاب مرّة ثانية، ثمّ فعلت ذلك مرّة أُخرى، فقال الرشيد: اركضوا إلى الكوفة فآتوني بأكبرها سنّاً، فأتى بشيخ من بني أسد، فقال له الرشيد: أخبرني ما هذه الأكمة.

فقال: حدّثني أبي عن آبائه إنّهم كانوا يقولون: إنّ هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب عليه السّلام، جعله الله سبحانه حرماً لا يأوي إليه شيء إلاّ أمن، فنزل هارون الرشيد ودعا بماء فتوضّأ وصلّى [عند] (2) الأكمة، وجعل يدعو ويبكي ويمرّغ

____________

1- هزيع من الليل: طائفة / القاموس.

2- أثبتناه من "ب" .


الصفحة 94
عليها وجهه.

وأمر أن تُبنى قبة بأربعة أبواب، فبني وبقي ذلك إلى أيّام السلطان عضد الدولة رحمه الله، وجاء وأقام في ذلك الطرف بنفسه قريباً من سنة هو وعساكره، وبعث فأُتي بالصّنّاع والأساتذة من الأطراف، وخرّب تلك العمارة وصرف أموالا كثيرة جزيلة، وعمّره عمارة جليلة حسنة، وهي العمارة التي كانت قبل عمارة اليوم(1).

وأمّا الدليل الواضح، والبرهان اللائح على أنّ قبره الشريف عليه السّلام بالغريّ فمن وجوه:

الأوّل: تواتر الاماميّة الاثني عشرية المنتهين إلى ولاء أهل البيت بذلك، يروونه خلفاً عن سلف، وهم ممّن يستحيل حصرهم أو تتطرّق عليهم المواطأة في الكذب لانتفاء غرضهم في ذلك.

والتواتر مفيد لليقين وينتهون في هذا النقل إلى الائمة الطاهرين، لا يقال: لو كان الأمر كما تقولون لحصل لنا العلم كما حُصل لكم، لأنّا نقول: لا خلاف بيننا وبينكم في أنّه دُفن سرّاً، وحينئذ أهل بيته هم أعلم بسرّه من غيرهم، والتواتر الذي حصل لنا [عُلم] (2) منهم.

الثاني: إجماع الشيعة في جميع أقطار العالم على هذا، والاجماع حجّة.

الثالث: ما حصل عنده من الأسرار والآيات، وظهر من المعجزات والكرامات من كيفيّة ظهوره زمان الرشيد على ما ذكرناه، وقيام الزّمن، وردّ بصر الأعمى، وهو إلى يومنا هذا شاهدناه مراراً كثيرة لا شكّ فيه، ولا شبهة تعتريه إلاّ لمن لم يهده الله، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور)(3) ومن أسرار أخرى نذكرها.

الرابع: ما نقل عن مشائخ الجمهور من علمائهم ومحدّثيهم ومؤرّخيهم.

____________

1- راجع فرحة الغري : 119 باب 13 ، عنه البحار 42 : 329 ح 16 باب 129، وارشاد القلوب 2: 341.

2- أثبتناه من نسخة "ب" .

3- النور : 40.


الصفحة 95
قال ابن أبي الحديد: قبره عليه السّلام بالغريّ وما يدّعيه بعضهم بجهله من الاختلاف في قبره باطل لا حقيقة له، وأولاده أعرف بقبره، وأولاد كلّ الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب.

وهذا القبر هو الذي زاره بنوه لمّا قدموا العراق منهم الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام وغيره من أكابرهم وأعيانهم(1).

وقال الصغّاني في شرحه لنهج البلاغة: قبره عليه السّلام بالغريّ.

وقال ياقوت الحموي في تاريخ معجم البلدان في ترجمة الغريّين: هما بناءآن كالصومعتين [كانا] (2) بظهر الكوفة قرب قبر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه(3).

وذكر أيضاً في الكتاب المذكور في ترجمة النجف: بالقرب منه قبر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه(4).

وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيّين باسناد ذكره هناك أنّ الحسين(5) عليه السّلام لما سُئل: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: خرجنا ليلا من منزله بالكوفة حتّى أتينا به الظهر بجنب الغريّ، ودفنّاه هناك(6).

فقد دلّ المعقول والمنقول حينئذ على أنّ قبره عليه السّلام حيث هو الآن.

[سبب خفاء قبره عليه السّلام]

وأمّا السبب الموجب لاخفاء قبره عليه السّلام فهو أنّه قد تحقق وعُلم ما جرى لأمير المؤمنين عليه السّلام من الوقائع العظيمة، والحروب الكثيرة زمان النبي صلّى الله عليه

____________

1- شرح نهج البلاغة 1 : 16 باختلاف ، عنه فرحة الغرى : 131 .

2- لم يكن ما بين المعقوفتين من المصدر .

3- معجم البلدان 4 : 196 ، مادة الغريان ، عنه فرحة الغري : 131 .

4- معجم البلدان 5 : 271 ، مادة النجف ، وفيه قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب .

5- في المصدر : الامام الحسن عليه السّلام .

6- مقاتل الطالبيين : 54 باختلاف .


الصفحة 96
وآله وسلّم وبعده، وأوجب ذلك حقد المنافقين والمارقين عليه، حتّى أنّ ابن ملجم لعنه الله لمّا أُخذ ليقتل وجيء به إلى الحسن عليه السّلام قال للحسن عليه السّلام: إنّي أُريد أن أُسارّك بكلمة يا ابن رسول الله.

فأبى الحسن عليه السّلام وقال: إنّه يريد أن يعضّ أُذني، فقال ابن ملجم لعنه الله: والله لو أمكنني منها لأخذتها من صماخه(1).

فاذا كان فعال هذا الكافر وحقده إلى هذه الغاية، وهو على تلك الحالة، وقد أُتي به للقتل، فكيف يكون حال معاوية وأصحابه وبني أمية والدولة لهم، والملك بيدهم فانّهم كانوا يبالغون في إطفاء نور أهل البيت، وإخفاء آثارهم، ويرون ذلك من أعظم القُربات.

ويرغّبون الخلق إلى ذلك بالعطايا والصلات والمبرات، ويرهبونهم بالأخذ والقتل والمثلات، حتّى أنّ أهل الشام حرّموا أن يُقرأ بشيء من قراءات قرّاء أهل العراق، مع أنّهم من الشيعة الذين اتفق الجميع على صحة قراءتهم، حِذار أن يؤدّي ذلك إلى ذكر أمير المؤمنين عليه السّلام لانتهائهم في الرواية إليه عليه السّلام.

وذكر ابن أبي الحديد وهو من مشائخ الجمهور: أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتّى يروي أنّ هذه الآية، وهي قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَاِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)(2).

نزلت في عليّ عليه السّلام، وأنّ الآية الثانية أعني قوله تعالى:

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)(3).

نزلت في حق ابن ملجم لعنه الله، فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل،

____________

1- فرحة الغري : 19، وارشاد القلوب 2: 346.

2- البقرة : 204 .

3- البقرة : 207 .


الصفحة 97
فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل، فبذل أربعمائة ألف درهم، فقبل وروى(1).

وروى هشام الكلبي عن أبيه قال: أدركت أود وهم يعلّمون أولادهم وحرمهم سبّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وكان فيهم رجل من رهط عبد الله بن ادريس بن هاني، فدخل على الحجّاج بن يوسف يوماً وكلّمه بكلام، فأغلظ له الحجاج في الجواب.

فقال له: لا تقل هذا أيّها الأمير فما لقريش ولا لثقيف منقبة يعتدّون [بها] (2) الاّ ونحن نعتدّ بمثلها، قال له: وما مناقبكم؟ قال: ما يُذكر عثمان في نادينا بسوء قط، قال: هذه منقبة.

قال: وما شهد منّا أحدٌ مع أبي تراب شيئاً من مواقفه وجهاده إلاّ رجل واحدٌ أسقطه ذلك عندنا وأخمله، فما له فينا قدر ولا قيمة، وما أراد رجل أن يتزوّج امرأة إلاّ سأل عنها أوّلا هل تُحبّ أبا تراب، أو تذكره بخير، فإن قيل نعم، تركها ولم يتزوّج بها.

ولا وُلد فينا ولد ذكر سُمّي علياً ولا حسناً ولا حسيناً، ولا وُلد فينا أُنثى سُمّيت فاطمة.

ونذرت امرأة منّا حين قدم الحسين العراق إن قتله الله تنحر عشر جُزر، فلمّا قُتل وفت بنذرها، قال: ودُعي رجل منّا إلى البراءة من عليّ ولعنته، فقال: نعم وأزيدكم حسناً وحسيناً(3).

وقال الكراجكي في كتاب التعجب: لهم بمصر مسجد معروف يقال له: مسجد الذكر، في مسجد يُعرف بسوق وردان، وإنّما سمّي مسجد الذكر; لأنّ الخطيب سها يوم الجمعة عن سبّ عليّ بن أبي طالب على المنبر، فلمّا وصل إلى

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4:73 باب56 ، وفي البحار 33:215 ح492 باب 17 ، وفرحة الغري : 19 .

2- أثبتناه من المصدر.

3- فرحة الغري : 22 .


الصفحة 98
موضع المسجد المذكور ذكر أنّه لم يسبّه، فوقف عليه وسبّه هناك قضاءً لما نسيه، فبنى ذلك الموضع وسمّي بذلك.

قال بعض العلماء: مررت بهذا المسجد في بعض السنين، فرأيت فيه سرجاً عظيماً كثيرة وآثار بخور، قال: وذكر لي بعض الأصحاب أنّه يؤخذ من ترابه، ويعدّونه شفاءً لهم، ويسمّون إلى الآن يوم الجمعة يوم السّبّة بالشام(1).

فاقتضى هذه الأشياء وأمثالها أن أوصى عليه السّلام بدفنه سرّاً، خوفاً من بني أمية وأعوانهم والخوارج وأمثالهم، أن يتهجّموا على قبره الشريف لو كان ظاهراً.

وأيضاً ربّما لو نبشوه مع العلم بمكانه لَحَمَل ذلك بني هاشم على المحاربة والمشاققة التي أغضى عنها عليه السّلام في حال حياته، فكيف لا يرضى بترك ما فيه مادّة النزاع بعد وفاته.

ويؤيّد هذا قضيّة ولده الحسن عليه السّلام في دفنه بالبقيع، حيث أوصى بذلك إن جرى نزاع في دفنه عند جدّه صلّى الله عليه وآله وسلّم طلباً لقطع مادّة الشر، فلمّا عرف أهل بيته عليهم السّلام أنّه متى ظهر وعُرف لم يتوجّه إلاّ التعظيم والتبجيل لا جرم أنّهم أظهروه ودلّوا عليه.

[حكاية الأسد عند القبر الشريف]

ومن كراماته وأسراره التي ظهرت عند قبره الشريف عليه السّلام ما حُكي أنّ جماعة خرجوا بالليل متخفّين إلى الغريّ لزيارة أمير المؤمنين عليه السّلام، قالوا: فلمّا وصلنا إلى القبر الشريف وكان يومئذ قبراً حوله حجارة، ولا بناء عنده، وذلك بعد أن أظهره الرشيد(2) وقبل أن يعمره.

فبينما نحن عنده بعضنا يقرأ، وبعضنا يصلّي، وبعضنا يزور، وإذا نحن بأسد

____________

1- راجع كنز الفوائد للكراجكي: 350 باختلاف، وفرحة الغري : 25.

2- في "الف": الشريف.


الصفحة 99
مقبل نحونا، فلمّا قرب منّا قيد رمح قال بعضنا لبعض: ابعدوا عن القبر لننظر ما يصنع.

فتباعدنا عن القبر الشريف، فجاء الأسد إلى القبر وجعل يُمرّغ ذراعه على القبر، فمضى رجل منّا فشاهده وعاد، فأعلمنا وزال الرعب عنّا، وجئنا بأجمعنا حتّى شاهدناه يمرّغ ذراعه على القبر وفيه جراح، فلم يزل يمرّغه ساعة، ثم انزاح عن القبر ومضى وعُدنا إلى ما كنّا عليه الزيارة والصلاة وقراءة القرآن(1).

[حكاية كمال الدين القمي]

ومنها ما روي عن كمال الدين بن عنان القمي، قال: دخلت على حضرة أمير المؤمنين عليه السّلام فزرت وتحوّلت إلى المسألة، ودعوت وتوسّلت بمولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ قمت فعلق مسمار من الضريح المقدّس سلام الله على مشرفه في قباي فمزقه، فقلت مخاطباً لأمير المؤمنين عليه السّلام: ما أعرف عوض هذا إلاّ منك.

وكان إلى جانبي رجل رأيه غير رأيي فقال لي مستهزءاً: ما يعطيك عوضه إلاّ قباء ورديّاً، فانفصلنا من الزيارة وجئنا الحلّة، وكان جمال الدين قشتمر الناصري قد هيّأ لشخص يريد أن يُنفذه إلى بغداد قباءً ورديّاً، فخرج الخادم على لسان ابن قشتمر وقال: اطلبوا كمال الدين القمي.

فجئت فأخذ بيدي ودخل الخزانة، وألبسني قباءً ورديّاً، فخرجت ودخلت حتّى أُسلّم على ابن قشتمر وأُقبّل كفّه، فنظر إليّ نظراً عرفت الكراهة في وجهه، والتفت إلى الخادم كالمغضب وقال له: طلبت فلاناً فأين هو؟

قال الخادم: إنّما قلت: كمال الدين القمي، وشهد الجماعة الذين كانوا جلساء الأمير أنّه إنّما أمر بحضور كمال الدين القمي، فقلت: أيّها الأمير ما خلعتَ أنت

____________

1- راجع فرحة الغري : 141 ، عنه البحار 42 : 315 ح 2 باب 129، وارشاد القلوب 2: 343.


الصفحة 100
عليّ هذه الخلعة بل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام خلعها عليّ، فالتمس منّي الحكاية، فحكيت له، فخرّ ساجداً وقال: الحمد لله إذ كانت الخلعة في يدي(1).

[حكاية النصراني]

ومنها ما روي عن عليّ بن الحسين بن طحّال المقدادي قال: أخبرني عن أبيه عن جدّه، وكان من الملازمين للعتبة الشريفة صلوات الله على مشرفها، أنّه أتاه رجل مليح الصورة، نقيّ الأثواب، ودفع إليه مثقالين وقال: أغلق عليّ باب القبة وذرني وحديأعبد الله.

فأخذهما منه وأغلق الباب عليه ونام، فرأى أمير المؤمنين عليه السّلام في منامه وهو يقول: أُقعد أخرجه عنّي فانّه نصراني، فنهض عليّ بن طحال فأخذ حبلا فوضعه في عنق الرجل وقال له: أخرج تخدعني، خذ بالمثقالين وأنت نصرانيّ.

فقال: لست نصراني، قال: بلى إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أتاني في المنام، وأخبرني أنّك نصراني وقال: أخرجه عنّي، فقال الرجل: أُمدد يدك فأنا أشهد أن لا إله الاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين خليفة الله، والله ما علم أحد بخروجي من الشام، ولا عرفني أحدٌ من أهل العراق، ثمّ حسن إسلامه(2).

[حكاية عمران بن شاهين]

ومنها ما حكي أنّ عمران بن شاهين من أهل العراق عصى على السلطان عضد الدولة، فطلبه طلباً شديداً، فهرب منه إلى المشهد الشريف مختفياً، وقصد أمير المؤمنين عليه السّلام، ودعا عنده، وسأله السلامة منه.

فرأى أمير المؤمنين عليه السّلام في منامه وهو يقول: يا عمران إنّ في غد يأتي

____________

1- راجع فرحة الغري : 142 ، عنه البحار 42 : 316 ح 3 باب 129، وارشاد القلوب 2: 343.

2- راجع فرحة الغري : 146 ، عنه البحار 42 : 319 ح 6 باب 129، وارشاد القلوب 2: 344.


الصفحة 101
فنّاخسرو إلى مشهدي للزيارة، فتقف أنت هاهنا ـ وأشار إلى زاوية من زوايا القبة ـ فانّهم لا يرونك، ويدخل هو إلى الضريح ويزور ويصلّي ويبتهل في الدعاء والقسم بمحمّد وآله أن يظفر بك، فادن منه وقل له: أيّها الملك من هذا الذي قد ألجأت(1) بالقسم بمحمد وآله أن يظفرك به.

فيقول: رجل عصاني ونازعني في سلطاني، فقل له: ما لمن يظفرك به؟ فيقول: إن طلب منّي العفو عنه قبلت، فأعلمه بنفسك فانّك تجد ما تريد، قال: فكان ما قاله أمير المؤمنين عليه السّلام.

فقال: أنا عمران بن شاهين، قال له: من أوقفك هاهنا؟ قال: هذا مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أوقفني هاهنا، وقال لي في منامي: غداً يحضر فنّاخسرو إلى هاهنا، وأعاد عليه القول، فقال له السلطان: بحقّه قال لك فنّاخسرو؟ قلت: إي وحقّه عليه السّلام.

فقال عضد الدولة: إنّه حقّ والله ما عرف أحد أنّ اسمي فنّاخسرو إلاّ أُمّي والقابلة وأنا، ثمّ خلع عليه الوزارة وطلع بين يديه إلى الكوفة، وكان عمران هذا قد نذر عليه أنّه متى عفى عنه عضد الدولة أن يأتي إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السّلام حافياً حاسراً.

فلمّا جنّه الليل خرج من الكوفة وحده، فرأى بعض من كان في الحضرة الشريفة من القوام وهو عليّ بن طحال المقدادي مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين عليه السّلام في منامه وهو يقول: اقعد وافتح لوليّي عمران بن شاهين، فقعد وفتح الباب، فاذا بالرجل قد أقبل، فلمّا وصل قال له: بسم الله يا مولانا؟

فقال: ومن أنا؟ فقال: عمران بن شاهين، قال: لست بعمران بن شاهين، فقال: بلى إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أتاني في منامي وقال: اقعد وافتح لوليّي عمران بن شاهين، قال: بحقّه عليه السّلام هو قال لك؟ فقال: إي وحقّه هو قال لي.

____________

1- في "الف": ألحيت.


الصفحة 102
فوقع على العتبة الشريفة يقبّلها ويبكي، وأحال ذلك الرجل بستّين [مثقالا] (1)، وبنى الرواق المعروف برواق عمران في المشهدين الشريفين الغريّ والحائري على مشرفهما أفضل الصلاة والسلام، والأخبار الواردة في هذا المعنى كثيرة(2).

المطلب الثاني:

في فضل المشهد الشريف الغروي على مشرفه أفضل الصلاة
والسلام، وما لتربته والدفن فيه من المزية والشرف


روي عن أبي عبد الله عليه السّلام أنّه قال: الغري قطعة من الجبل الذي كلّم اللهتعالى عليه موسى تكليماً، وقدّس عليه تقديساً، واتّخذ عليه إبراهيم خليلا، ومحمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم حبيباً، وجعله للنبيّين مسكناً(3).

وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نظر إلى ظهر الكوفة فقال: ما أحسن منظرك، وأطيب قعرك، اللّهمّ اجعل قبري بها(4).

ومن خواص تربته إسقاط عذاب القبر، وترك محاسبة منكر ونكير للمدفون هناك، كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت عليهم السّلام.

روي عن القاضي ابن بدر الهمداني الكوفي، وكان رجلا صالحاً متعبّداً، قال: كنت في جامع الكوفة ذات ليلة وكانت ليلة مطيرة، فدقّ باب مسلم جماعة، ففتح لهم وذكر بعضهم أنّ معهم جنازة، فأدخلوها وجعلوها على الصّفة التي تجاه باب مسلم بن عقيل رضي الله عنه، ثمّ إنّ أحدهم نعس فنام، فرأى في منامه قائلا يقول لآخر:

____________

1- أثبتناه من "ب" .

2- راجع فرحة الغري : 147 ، عنه البحار 42 : 319 ح 7 باب 129، وارشاد القلوب 2: 344.

3- راجع ارشاد القلوب 2: 347، والبحار 100 : 232 ح 25 باب 1 وفيه : "قدس عليه عيسى تقديساً".

4- ارشاد القلوب 2: 347، عنه البحار 100: 232.


الصفحة 103
ما تبصره حتّى نبصر هل لنا معه حساب أم لا، فكشف عن وجه الميت وقال لصاحبه: بلى، وقال: لنا معه حساب، وينبغي أن نأخذه منه معجّلا قبل أن يتعدّى الرصافة، فما يبقى لنا معه طريق.

فانتبه وحكى لهم المنام وقال: خذوه عجلا، فأخذوه ومضوا به في الحال إلى المشهد الشريف(1).


إذا متّ فادفنّي إلى جنب حيدرأبي شبّر أكرم به وشبير
فلست أخاف النار عند جوارهولا أتّقي من منكر ونكير
فعار على حامي الحمى وهو في الحمىإذا ضلّ في المرعى عقال بعير

روى جماعة من صلحاء المشهد الشريف الغروي أنّ كل واحد من القبور التي في المشهد المشرف وظاهره، قد خرج منه حبل ممتدّ متصل بالقبة الشريفة صلوات الله على مشرفها(2).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه إذا أراد الخلوة بنفسه أتى إلى طرف الغري، فبينا هو ذات يوم هناك مُشرف على النجف وإذا رجل قد أقبل من البرية راكباً على ناقة و قدّامه جنازة.

فحين رأى علياً عليه السّلام قَصَدَه حتّى وصل إليه، ثم نزل عن ناقته وسلّم عليه، فردّ عليه السلام وقال له: من أين؟ قال: من اليمن، قال: وما هذه الجنازة؟ قال: جنازة أبي أتيت لأدفنه في هذه الأرض.

فقال له: لم لا دفنته في أرضكم؟ فقال: أوصى إليّ بذلك وقال: إنّه يدفن هناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر، فقال له: أتعرف ذلك الرجل؟ قال: لا، فقال عليه السّلام: أنا والله ذلك الرجل، أنا والله ذلك الرجل، أنا والله ذلك الرجل، قم فادفن أباك، فقام فدفنه(3).

____________

1- ارشاد القلوب 2: 347، عنه البحار 100: 232.

2- ارشاد القلوب 2: 348، عنه البحار 100: 233.

3- البحار 82 : 68 ح 5 باب 15 ، ومستدرك الوسائل 2: 310 ح2056، عن ارشاد القلوب 2: 348.


الصفحة 104
ومن خواص ذلك الحرم الشريف أنّ جميع المؤمنين يُحشرون فيه.

روي عن أبي عبد الله عليه السّلام أنّه قال: ما من مؤمن يموت في شرق الأرضوغربها إلاّ وحشر الله روحه إلى وادي السلام، قيل: وأين وادي السلام؟ قال: بين وادي النجف والكوفة، كأنّي بهم حَلَقٌ حَلَقٌ قعودٌ يتحدّثون على منابر من نور(1).

والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

المطلب الثالث:

في فضل زيارته عليه السّلام وما جاء في ذلك من الأخبار والآثار


روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال للحسين عليه السّلام: يزوركم طائفة من أمتي تريد برّي و صِلتي، فاذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف، وأخذت بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده(2).

وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال لعليّ عليه السّلام: والله لتقتلنّ بأرض العراق فتدفن بها، قلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟

فقال لي: يا أبا الحسن إنّ الله تعالى جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله تعالى جعل قلوباً من خلقه، وصفوة عباده تحنّ إليكم، وتحتمل الأذى فيكم، فيعمرون قبوركم تقرّباً منهم إلى الله، ومودّة لرسوله، أولئك يا عليّ المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنّة.

يا عليّ من زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حين يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمّه، فأبشر وبشّر أولياءك

____________

1- البحار 6 : 268 ح 118 باب 8 ، عن الكافي 3 : 243 ح 2 باختلاف يسير، ونحوه ارشاد القلوب 2: 349.

2- ارشاد القلوب 2: 349، وفي البحار 10: 441، ومستدرك الوسائل 10: 228 ح11910 عن الفصول للسيد المرتضى.


الصفحة 105
ومحبّيك من النعيم وقرّة العين بما لا عين رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالةٌ(1) من الناس يُعيّرون زوّار قبوركم بزيارتكم كما تُعيّر الزانية بزناها، أولئك شرار أمّتي لا ينالهم شفاعتي، ولا يردون حوضي(2).

وقال الصادق عليه السّلام: إنّ أبواب السماء لتفتح عند دعاء الزائر لأمير المؤمنين عليه السّلام(3).

وقال عليه السّلام: من ترك زيارة أمير المؤمنين عليه السّلام لم ينظر الله إليه، ألا تزوروا من تزوره الملائكة والنبيّون عليهم السّلام، وإنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أفضل من كلّ الأئمة، وله مثل ثواب أعمالهم، وعلى قدر أعمالهم فُضّلوا(4).

وقال عليه السّلام: إنّ بظاهر الكوفة لقبراً ما زاره مهموم إلاّ فرّج الله همّه(5).

وروى بعضهم قال: كنت عند الصادق عليه السّلام فذكر أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال ابن مارد(6) لأبي عبد الله: ما لمن زار جدّك أمير المؤمنين عليه السّلام؟

فقال عليه السّلام: يا ابن مارد من زار جدّي عارفاً بحقّه كتب الله له بكلّ خطوة حجّة مقبولة، وعمرة مبرورة، والله يا ابن مارد ما يُطعم الله النار قدماً تغبّرت في زيارة أميرالمؤمنين ماشياً كان أو راكباً، يا ابن مارد اكتب هذا الحديث بماء الذهب(7).

والأخبار الواردة في هذا المعنى كثيرة، وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الفصل الثالث.

واعلم أنّ الذي ذكرناه في هذه الرسالة في فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام إنّما هو البعض القليل اليسير من الشيء الغزير الكثير الذي ورد من طرق أهل السنة،

____________

1- الحُثالة والحُثال : الردي من كلّ شيء ، وحُثالة الناس : رُذَالتهم (لسان العرب/حثل) .

2- فرحة الغري : 77، عنه البحار 100: 120 ح22، وفي ارشاد القلوب 2: 349.

3- ارشاد القلوب 2: 352، عنه البحار 100: 262 ح16.

4- الخصائص للرضي : 40، عنه مستدرك الوسائل 10: 212 ح11883، وارشاد القلوب 2: 351.

5- ارشاد القلوب 2: 352، وفي البحار 101: 45.

6- في "ب" : ابن أبي مارد .

7- فرحة الغري: 75، عنه البحار 100: 260 ح10، وفي ارشاد القلوب 2: 352.


الصفحة 106
دون ما ورد من طريق الشيعة.

فإنّا لم نتعرّض لشيء من ذلك لتكون آكد في الحجّة، وأتمّ في الالزام، ومع هذا فهو عليه السّلام المشرّف للكمالات النفسانية، والمزيّن للفضائل البدنية.


وإذا الدر زان حسن نحوركان للدر حسن نحرك زيناً
وتزيدين طيّب الطيب طيباًإن تمسّيه أين مثلك أيناً