(9)
الوفاء بشأن التحكيم ... ومعركة النهروان
وأشاع الخوارج في الكوفة أن علياً عليه السلام يرى رأيهم في القتال ،
وأنه رفض الحكومة ، فأرسل معاوية للإمام يستعجله الوفاء بأمر التحكيم .
فأشخص الإمام أبا موسى الأشعري ، ومعه أربعمائة من فرسانه ، وعليهم
ابن عباس للصلاة ، وشريح بن هاني أميراً .
وأرسل معاوية ، عمرو بن العاص ومعه أربعمائة من أصحابه .
وقد حاول الحكمان استدراج من إعتزل الفريقين لحضور الاجتماع كسعد بن
أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وعبد الله بن
الزبير ، فلم يستجب لهما أحد من هؤلاء فيما ذكر المؤرخون .
واجتمع الحكمان بدومة الجندل ، يتفاوضان في الأمر ، ويجيلان الرأي ،
وكان عمرو بن العاص يتظاهر بالتضاؤل أمام أبي موسى ، ويقدمه للصلاة ، ويجلس
بين يديه عند الطعام ، ويعطيه صدر المجلس ، فتراخى أبو موسى لهذا التصنع ،
وطرب لهذه المظاهر ، وكان ذلك تمهيداً دقيقاً لخداع أبي موسى ، وأبو موسى
هذا بعيد عن الإمام في
297
شعوره وتفكيره ودينه ، وقد عجمه الأحنف بن قيس وأعطى رأيه فيه للإمام ، وقد
خذّل أبو موسى عن الإمام في حرب الجمل ، وقد عزله علي عليه السلام عن إمارة
الكوفة ، وقد تبعه المهوسون يستريحون إليه في حب السلامة ، وفي نفسه موجدة
على عليّ نتيجة عزله ، وفيه أزورار عنه لتهاونه بشأنه ، وقد ظهر بمظهر
الورع والتحرج وهو بعيد عنهما ، وقد تلهف على الشورى ، بل ونادى بالطيب بن
الطيب عبد الله بن عمر على حد تعبيره ، وتمطى بسذاجة مخلة أو شيطنة مبطنة
بوقت واحد ، فاستغل عمرو بن العاص كل هذه المخلفات استغلالاً كبيراً حتى
أودى به وقلب له ظهر المجن .
كان الإجتماع بدومة الجندل حيناً ، وفي أذرح حيناً آخر ، وتفاوض
الحكمان مدة مديدة في الأمر ، وقد كثرت آراء المؤرخين فيما تفاوضا فيه ،
فذهبوا في ذلك أكثر من مذهب . ولكن المؤكد أن الحكمين قد اتفقا على خلع علي
ومعاوية ، وجعل الأمر شورى بين المسلمين ، وواضح أن هذا الاقتراح كان مكيدة
من عمرو ، واستغفالاً لأبي موسى ؛ إذ ما هو معيار هذه الشورى ؟ وإلى من
تعود ؟ وفيمن يرشح لها ؟ وكيف الحال عند المسلمين ، فالعراقيون يرشحون
علياً ، والشاميون يرشحون معاوية ، فتعود جذعة كأن لم يصنعا شيئاً ، وإن
رُدّت الشورى إلى أهل الحل والعقد ، فأهل الحل والعقد قد بايعوا علياً ؛
فلماذا الشورى حينئذٍ ؟
في هذا المقترح ـ إذن ـ يكمن غدر ابن العاص ، وتغافل أبي موسى ، فابن
العاص مخطط متمرس للقضية ، ومنظر دقيق لها ، وأبو موسى في خدعة مستمرة لا
يستفيق ، عمرو يخدعه وهو يخادع نفسه ، ولا يرعوي بينهما إلى سند وثيق .
298
وفجأة ظهر الحكمان أمام الناس بعد احتجاب طويل استغرق عدة أشهر ،
وأعلنا عن اتفاقهما بما فيه الرضا للمسلمين ، والنصح للدين ، واستمر الخداع
هذا في هذا الموقف فقدم عمرو أبا موسى لإعلان ما اتفقا عليه ، وأشفق ابن
عباس من هذا التقديم ، وأشار بإصرار على أبي موسى بالتأخر ريثما يعلن ابن
العاص ما عنده ، فما استجاب له أبو موسى ، ولا استمع إلى نصحه ، وإنما تقدم
إلى المنبر ، وأعلن أنه وعمرو بن العاص اتفقا على خلع علي ومعاوية ، ورد
الأمر شورى بين المسلمين ، ثم قام عمرو بن العاص ، وقال : إن هذا قد خلع
صاحبه ، وأنا أخلعه كما أخلع خاتمي هذا ، وأثبت صاحبي كما أثبت هذا الخاتم
.
فقال أبو موسى : مالك لا وفقك الله ، غدرت وفجرت ، إنما مثلك كمثل
الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، فأجابه عمرو بن العاص : إنما مثلك
كمثل الحمار يحمل أسفاراً .
وانتهت مهزلة الحكمين بهذا الشكل المريع ، فماج الناس واضطربوا ،
وتراشقوا بالكلام والسياط ، وأدرك أبو موسى خزيه فضرب راحلته ورمى بها مكة
، وأقبل عمرو بن العاص وأهل الشام وسلّموا على معاوية بأمرة المؤمنين ،
وعاد أهل العراق بخفيّ حنين ، وأدرك المسلمون أن الحكمين جارا في الحكم ،
وعدلاً عن القصد . وبلغ علياً ذلك فقال معاوداً : إن القوم ليسوا بأصحاب
دين ولا قرآن .
واغتبط معاوية لهذه النتيجة ، فقد كسب الموقف ، وقد أراح أصحابه من
الحرب ، وقد ثبّته صاحبه بالخلافة .
وأفاق العراقيون بعد سكرة موقتة ، فرأوا الأمور تدار في صالح
299
الضلالة ، وأن الحق مغلوب على أمره ، وإن إصرارهم على الإمام بقبول التحكيم
كان خطأ العمر الذي لا يتداركه شيء إلا الحرب والقتال عوداً على بدء ،
فعادوا إلى الكوفة يستعدون للقتال فيما يزعمون ، وكان الإستعداد قضية مؤقتة
أيضاً ، إذ انشغل الإمام بما هو أفدح من ذلك ، فقد انشق عليه فريق من
أصحابه بالأمس ، ونجم قرن الخوارج حينما تحقق نبأ الحكمين فأعجله ذلك عن
أهل الشام ، لمعالجة الخرق الجديد .
وكان الإمام عليه السلام قد خطب أصحابه بعد أخبار الحكمين فقال :
« الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل ، وأشهد أن لا
إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :
فان معصية الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة وتعقب الندم . وقد كنت
أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ، ونخلت لكم رأيي لو يُطاع
لقُصير رأي ، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم ، فكنت واياكم كما قال أخو هوازن :
أَمَرتُهُمُ أَمرِي بِمُنعَرِجِ الِلوى |
فَلَم يَستَبِينُوا الرُشدَ إلاّ ضُحَى الغَدِ |
ألا إن الرجلين اللذين اخترتوهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء
ظهورهما ، وإرتأيا الرأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا
ما أمات القرآن . ثم إختانا في حكمهما فكلاهما لا يرشد ولا يسدد . فبريء
الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للسير ،
وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إن شاء الله » .
وغدا الناس إلى معسكرهم كما أمر الإمام ، وسرح إليه ابن عباس كوكبة من
جنود البصرة ، واستقر رأي الإمام على النهوض بجيشه إلى
300
الشام ، إلا أن طلائع الخوارج في النهروان قد عرقلت المسيرة ، وأرجأت الزحف
، فقد تداعوا سراً وعلناً وعادوا إلى التحكيم ، وخرجوا زرافات ووحداناً إلى
النهروان ، وإنهم لفي طريقهم إذ أدركوا الصحابي الجليل عبد الله بن خباب بن
الأرت ، وهو وأبوه من المعذبين في الإسلام على أيدي طواغيت قريش ، التقوا
بعبد الله هذا ، وفي عنقه كتاب الله تعالى طلباً للأمان ، ومعه امرأته وهي
حامل استدراراً للعطف والرحمة ، فقتلوه ذبحاً ، وقتلوا زوجته وولدها ذبحاً
أيضاً ، وتركوهم قتلى مجردين على شاطىء الفرات ، ذلك أنهم استطلعوا رأيه في
الإمام فأثنى عليه خيراً ، وقال حقاً .
ووصل النبأ إلى الإمام عليه السلام فأرسل إليهم يستنكر هذا الإفساد في
الأرض ، ويطلب إليهم تسليم القتلة ، فامتنعوا عن ذلك ، وأجابوا : كلنا قتلة
ابن خبّاب ، وسار إليهم الإمام بنفسه فوعظهم ما شاء له الوعظ ، وحذرهم ما
استطاع إلى التحذير سبيلاً ، فركبوا رؤوسهم ، وطلبوا إليه أن يشهد على نفسه
بالكفر فقال لهم :
« بعد إيماني بالله وهجرتي ، وجهادي مع رسول الله ، أشهد على نفسي
بالكفر ، لقد ضللت إذن ، وما أنا من المهتدين ، وَيحَكُمْ بم إستحللتم
قتالنا والخروج عن جماعتنا ؟ » فما كان جوابهم إلا أن امتشقوا السيوف ،
وشهروا الرماح وتنادوا من كل جانب « هل من رائح إلى الجنة » ويجيب بعضهم
بعضاً « الرواح إلى الجنة » وإذا بهم يشدّون على ميمنة الإمام وميسرته ،
فينفرق لهم الجيش ، ويستقبلهم الرماة بالنبل ، وتحتدم المعركة ، ويندلع
لهيبها عالياً ، ويباشر الإمام القتال بنفسه ، وإذا بالقوم صرعى كأمس
الدابر .
وكان عليّ عليه السلام قد أخبر أصحابه عند القتال بأنه : لا يقتل
301
منكم عشرة ، ولا يفلت منهم عشرة ، وكان كما قال فما نجى من الخوارج إلا ثمانية أو
تسعة ، ولم يقتل من اصحابه إلا تسعة .
ووضعت الحرب أوزارها ، وإذا بأمير المؤمنين يضطرب التماساً لرأس من رؤوس
الخوارج يسمى ذا الثدية ، مخدّج اليد ، على عضده ثدية ذات شامه ، تشبه ثدي المرأة ،
ويطلب إلى صحابته أن يلتمسوه في القتلى فلا يجدونه ، ويلح الإمام مصّراً على البحث
عنه فيجدونه مجدّلاً صريعاً ، فإذا وقف على ذلك ، يخر لله ساجداً ، ويقول للناس : «
والله ما كذبت ولا كذبت ، ولقد قتلتم شر الناس » .
ولهذا المخدّج ذي الثدية نبأ يتحدث عنه المؤرخون ، بأنه قال للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم يوم حنين عند قسمة الغنائم : « اعدل يا محمد فإنك لم تعدل منذ اليوم
» .
ويعرض عنه النبي مرة وأخرى ، ويكرر القول ثالثة ، فيقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وهو مغضب :
« ومن يعدل إذا لم أعدل » ويهّم قوم بقتله ، فيكفهم النبي قائلاً : « يخرج من
ضئضيء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يتلون القرآن لا
يتجاوز تراقيهم » .
وقد روى مسروق عن عائشة كما في مسند أحمد بن حنبل :
« قالت لي عائشة إنك من أحبّ ولدي إليّ ، فهل عندك علم بالمخدّج ؟ فقلت : نعم
قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال له النهروان ، فقالت : ابغني على ذلك بيّنة ،
فأتيتها برجال عندهم علم بذلك ، ثم قلت لها : أسألك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه قالت سمعته يقول : إنه شر الخلق والخليقة
يقتله
302
خير الخلق ، وأقربهم عند الله وسيلة » .
وما هي إلا ساعات من نهار حتى فرغ عليٌ عليه السلام من قتال الخوارج بالنهروان
، ولكنه لم يفرغ من فلولهم ، ولم يقطع مادتهم ، فهم يتسللون من الكوفة لواذاً ، وهم
يتجمعون أشتاتاً ، فيقلقون الدولة ، وتزداد قوتهم يوماً بعد يوم ، وكان عليّ عليه
السلام رفيقاً بهم حيناً ، وعنيفاً حيناً آخر ، فهو لا يعرض لهم ، ولا يقطع
جراياتهم ولا يبدؤهم بحرب ، حتى إذا بدرت منهم بادرة ، أو نجمت ناجمة قابلها بتسيير
جند إليها يقمعها ، أو واعظ يزجرها ويفرقها ، ولكن الأمور تدهورت ، والأحداث قد
تطورت نسبياً ، فما إن تخمد للخوارج حركة حتى تشب حركة أخرى ، وما إن تنتهي معركة
حتى تبدأ معركة مثلها ، فهم بين مدّ وجزر ، والإمام بين قتال وكفاح ، هم يطمعون
بعدله ، أو يطمعهم فيه عدله ، وهو يطمح لإصلاحهم ، و صلاحهم حتى إذا أشتدت شوكتهم
على يد الخرّيت بن راشد ، وكان وقحاً شديداً ، جمع إليه أخلاط الناس ، وتدرع
بالعلوج والأعاجم ، وتهيأ للخروج على الإمام ، ولقد جبه الإمام علياً بين الناس ،
وقال له مجاهراً غير هيّاب ولا متوجل : « والله لا أطعتُ أمرك ، ولا صليت خلفك » .
فقال له أمير المؤمنين : « إذن تعصي ربك ، وتنكث عهدك ، ولا تغرّ إلا نفسك ،
ولم تفعل ذلك » . فقال : « حكمت الرجال ، وضعفت عن الحق ، وركنت إلى القوم الذين
ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك زارٍ ، وعليهم ناقم » .
وأسمح عليّ عليه السلام له من نفسه ، ودعاه إلى المناظرة ، فأبى عليه ، وقال :
أعود إليك غداً ، فتركه الإمام وشأنه ، ولم يعد الرجل إليه ، وإنما انطلق إلى قومه
بني ناجية ، وكان ذا رأي لديهم ومطاعاً
303
فيهم ، فخرج بهم مناجزاً للإمام ، ولقي الخريت ومعه بنو ناجية رجلين في الطريق ،
وسألوهما عن دينهما ، فكان أحدهما يهودياً ، والآخر مسلماً ، فأطلقوا اليهودي لأنه
من أهل الذمة ، واستوقفوا المسلم ، فسألوه عن عليّ فأجاب خيراً ، فقتلوه ، وأخبر
اليهودي عامل الإمام على السواد بما رأى ، فكتب العامل لعليّ عليه السلام بذلك ،
فأرسل الإمام كوكبة من جيشه لردهم إلى الطاعة ، وقتالهم إن أبوا ذلك ، وطلب إليهم
قائد الجيش أن يسلموا قتلة المسلم ، فأبوا إلا الحرب ، وقامت الحرب على قدم وساق ،
ولم يبلغ أحد من صاحبه شيئاً ، وأظلهم الليل ، فهرب الخريت وأصحابه إلى البصرة ،
فأمر الإمام واليه على البصرة عبد الله بن عباس أن يتعقبهم ، ففعل ذلك ابن عباس
جادّاً ، وهيأ جيشاً لقتالهم ، والتقى الجيشان بقتال شديد ، وبان الخذلان على
الخريت وأصحابه ، فاتخذ الليل جملاً وهرب فيه ، وساحل الرجل بأصحابه ، وأنضم إليه
المرتدون والمتمردون ، فتعقبهم جيش الإمام ، وحاصرهم محاصرة محكمة ، وقتل الخريت
وأصحابه ، وأسر من بقي منهم ، فمن كان مسلماً منّ عليه وأطلقه ، واستتاب المرتدين ،
فمن أسلم سرحه ، ومن لم يسلم أسره ، فكان الأسرى خمسمائة ، فمروا على عامل علي عليه
السلام : مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وهو على كور من فارس ، فضجوا إليه ، فخلصهم من
الأسر بالفداء وأعتقهم ، وتحمل عنهم فداءهم على أن يسدده أقساطاً لبيت المال ، وصوب
عليٌّ رأيه ، ولكن مصقلة ماطل في الدين ، فطالبه ابن عباس بذلك فقال : « لو قد طلبت
أكثر من هذا المال إلى عثمان ما منعني إياه » . وما لبث أن هرب إلى معاوية ،
فاستقبله معاوية بالأحضان وآواه وأكرمه ، وبلغ علياً ذلك فقال : « ما له قاتله الله
، فَعل فِعلَ الأحرار ، وفرّ فرار العبيد » . وأمر بداره فهدمت لا أكثر ولا أقل .
304
ولم يكن هذا شأن مصقلة وحده ، بل له مدد آخر من الموالين لمعاوية ، فهو يطمعهم
وهم يتعاونون معه في نشر الفساد ، وإحلال الفوضى ، والإخلال بالأمن ، فيستعين بهم
في الإغارة على أطراف العراق ، ويستجلبهم عيوناً لديه ، ينبئونه بالأخبار ،
ويسيّرون إليه المعلومات كما سترى .
(10)
معاوية والخوارج يقتسمان الأحداث الدموية
ما استقر علي عليه السلام في الكوفة حتى أزعجته عن استقراره أحداث متفرقة ،
وهي وإن تكن صغيرة إلا أنها مقلقة ، عكرّت صفو إقامته إن يكن له صفو ، وعرضت كيان
دولته للإختلال ، ووسمت سلطانه العادل بالضعف لدى أعدائه .
وهذه الأحداث المتناوبة تتلخص في ثلاثة مظاهر مهمة :
المظهر الأول ، ويتجلى بسياسة معاوية بهذه الغارات المستمرة على أطراف العراق
والحجاز وقلب اليمن .
والمظهر الثاني ، ويكمن في حركات الخوارج المتتالية من هنا وهناك ، تعيث
فساداً في الأرض ، وتعلن العصيان المسلّح .
والمظهر الثالث ، يتلخص في شأن ولاته وعماله على الامصار فلم يكن كلهم كما
أراد ، ولم يفِ له إلاّ بعضهم .
ولكل حدث من هذه الأحداث حديث خاص به ، نحاول إجماله وإلقاء الضوء عليه دون
الدخول في متاهة التفصيلات التأريخية المدونّة في السِيّرِ والمغازي والتواريخ .
أولاً : إستغل معاوية تفكك جيش الإمام في حربه مع الخوارج ، واستطار
فرحاً بانقسام أصحابه عليه ، ورأى في هذين عاملين مساعدين
306
على التخريب المتعمد ، فأراد أن يدخل الرعب في قلوب العراقيين ، وأن يضعف المعنويات
لدى المقاتلين وقد بلغه أن علياً عليه السلام يعدّ العدّة للعودة إلى صفين ؛ فاتخذ
لنفسه منهجاً جديداً بتسيير قطع من جيش أهل الشام نحو أطراف العراق ، وأمر هذه
القطع بالإغارة والنهب والقتل ، وإشاعة الخوف والرهبة في قلوب العراقيين ، وكان
المتآمرون على الإمام من الداخل يوغلون بالتمادي مستغلين ورع الإمام وسماحه ،
فوقفوا موقف الإنتهازي المستفيد ، وتجلببوا بجلباب الحاقد المنتقم ، ورأى معاوية
ذلك فأمدّهم بالأموال الطائلة ، وأجزل لهم العطايا والهبات ، ومنّى كثيراً منهم
بالإمارة والولاية ، ولوّح لبعضهم بالإصهار إليه أو منه ، فكان هؤلاء خطّاً معادياً
، له كيده وفكره ضد الإمام ، فتألّبوا عليه سراً ، وتقاعسوا عنه جهاراً ، فكانوا
إلباً على إمامهم ، وعوناً لعدوهم ، فمهّدوا لمخططات معاوية تمهيداً ، وحسنوا له
مساوءَهُ وانتهاكاته ، وزينوا له سوء عمله ، وآنسوا لهذا الترويع المستمر لسواد
العراق ، وشجّع ذلك معاوية في إرسال السرايا الصغيرة ، وقطع الجيش المترصدة ، يقوم
عليها أتباعه من ذوي الضمائر الميتة والأكباد الغليظة ، ويأمرهم فيها بالغارة
المنظمة والمرتبة قتلاً ونهباً وترويعاً ، فكان له ما أراد : خوف شامل ، واستقرار
مزعزع ، وغنائم باردة ، يعز معاوية بها سلطانه ، ويضعف بها الإمام وحكمه في الداخل
. وقد تولى كبر هذه الغارات : الضحاك بن قيس ، والنعمان بن بشير ، وابن سعدة
الفزاري .
وكان أشدها وقعاً على أمير المؤمنين غارة سفيان بن عوف الغامدي الذي تسلل إلى
الأنبار فأكثر فيها الفساد ، وعاد بالغنائم وقتل الوالي ، وفتك بالجند بين عشية
وضحاها . وانتهت الأنباء إلى الإمام عليه السلام ، فكانت اللوعة والأسى ، وكان
القلق والحزن ، وكان التأنيب لأصحابه ، وكان الحث على الجهاد ، ولكن الإمام كان
يضرب
307
على حديد بارد في جماعة إستولى عليها التواكل والخذلان ، وعمل بها الوهن والضعف ،
إستلذوا العافية ، ورضوا بالذلّة ، فما كان من الإمام إلا أن أبان لهم حقيقة الحال
، وشجب تقاعسهم شتاءً عن الجهاد ، وخمولهم صيفاً عن القتال ، حتى أفسدوا على الإمام
رأيه ، فخطب على منبر مسجد الكوفة مستصرخاً لهم ؛ وزارياً بهم ، وغاضباً عليهم :
« أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فمن تركه رغبة ألبسه الله ثوب
الذلّ ، وسِيم الخسف ، ودِيث بالصَغار ، وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً
ونهاراً ، وسراً وإعلاناً ، وقلت لكم : اغزوهم من قبل أن يغزوكم ، فوالذي نفسي بيده
، ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا . فتخاذلتم وتواكلتم ، وثقل عليكم قولي ،
واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، حتى شنت عليكم الغارات .
هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ، وقتلوا حسان بن حسان ورجالاً منهم كثيراً
ونساءً . والذي نفسي بيده ، لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة
فينتزع أحجالهما ورعثهما ؛ ثم انصرفوا موفورين لم يُكلم أحد منهم كَلما ، فلو أن
امرأً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي فيه ملوماً ، بل كان به عندي جديراً
. يا عجباً كل العجب . عجب يميت القلب ويشغل الفهم ، ويكثر الأحزان ، من تظافر
هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم ، حتى أصبحتم غرضاً تُرمون ولا ترمون ،
ويُغار عليكم ولا تغيرون ، ويعضى الله فيكم وترضون ، إن قلت لكم اغزوهم في الشتاء ،
قلتم : هذا أوان قرّ وصرّ ، وإن قلت لكم إغزوهم في الصيف ، قلتم : هذه حمّارة القيظ
، أَنظرنا ينصرم الحرّ عنا ، فإذا كنتم من الحرّ والبرد تفروّن ، فأنتم والله من
السيف أفرّ ؛ يا أشباه الرجال ولا رجال ، ويا طغام الأحلام ويا عقول
308
ربّات الحجال ، والله لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان ، ولقد ملأتم جوفي غيظاً حتى
قالت قريش : ابن أبي طالب ، رجل شجاع ولكن لا رأي له في الحرب لله درّهم ، ومن ذا
يكون أعلم بها مني ، أو أشد لها مراساً ، فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ،
ولقد نيفّت اليوم على الستين . ولكن لا رأي لمن لا يطاع ، لا رأي لمن لا يطاع ، لا
رأي لمن لا يطاع » .
ومرت هذه الخطبة بسلام ، كأن الإمام ما فاه بشيء ، وقد تؤثر في أقليّة لا تغني
عن الإمام شيئاً ، ولكنها تستجيب لأوامره ، فتتبع المغيرين ، تردّهم حيناً ،
وتطاولهم حيناً آخر ، وهذا ما أطمع معاوية بتجاوز حدود العراق إلى أطراف الحجاز
وأعماق اليمن ، فقد أرسل بسر بن أرطأة في قطعة من الجيش ، وبسر هذا قائد همجي متهتك
، لا يرعى حرمة ولا ذمة ، ولا يركن إلى عقل أو دين ، دفعه تهوره فأغار على أهل
البوادي في طريقه إلى اليمن ، وتمكن من شيعة الإمام فروعهم ترويعاً مريراً ، وأتى
مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأكثر فيها الفساد ، ويمم شطر البيت الحرام
فزلزل أهل مكة عن مأمنهم ، وأوغل في أعماق اليمن ، فيفرّ الوالي عليها من قبل
الإمام ، ويكثر فيها فيها الفساد والقتل ، ويسرف في ذلك إسرافاً شنيعاً ، ويستذل
العباد إذلالاً فاحشاً ، ويذبح ابني الوالي عبيد الله بن العباس ، ويكون لمصرعهما
مشهد من لوعة واسى عند القريب والبعيد ، وترثيهما أمهما بمرّ الرثاء ، ويمعن بسر في
الإبادة وسفك الدماء ، ويمعن جنده في النهب واستصفاء الأموال ، ويأخذ البيعة
لمعاوية كرهاً ، ويرسل الإمام جارية بن قدامة السعدي رحمه الله في ألفي مقاتل ،
ويفر بسر من اليمن حائزاً الغنائم ، مرضيّاً عند معاوية بما أصاب ، ويُرجع جارية
اليمن إلى طاعة أمير المؤمنين ، وتستقيم بها الأمور له ، ولكن بسراً بلغ ما أراد ،
وكان الله له بالمرصاد ، فقد دعا عليه
309
الإمام ففقد عقله ، وتصورت له بشاعة أعماله وجرائمه فجّن جنوناً مستحكماً ، فجعل
يهذي بالسيف والقتال ، ويتصور له ابناء عبيد الله بن العباس ، فيتخذ له سيفاً من
خشب يضرب به الوسائد والنضائد حتى هلك على هذه الحال .
ورأى معاوية في هذا الضرب من الإغارة إشغالاً لعلي عليه السلام ، فأكثر منها ،
وأثاب عليها ، ودعا إليها ، حتى شمل الخوف أهل العراق .
ثانياً : وكان الخوارج مصدر قلق مستمر لدولة الإمام ، فهم قرّاء أهل
المصر ، وهم عبّاد أهل الكوفة ، وهم أصحاب الجباه السود من كثرة السجود ، والسواد
غير قدير على التمييز ، وهم يدعون إلى حكم القرآن ، وهم ناقمون من عليّ ومعاوية ،
وهم يقاطعون الإمام في خطبته و صلاته وعلى عليه السلام صابر محتسب لا يتير حرباً و
لا بألوا جهداً في الإصلاح ، ولكن الخوارج يلحّون في التواثب ، ويستفحلون على
العدوان ، ويتمرسون صنوف العصيان ، يرون كل ذلك جهاداً في سبيل الله ، وتلك محنة ما
وراءها محنة ، فهم يطلبون الحق فيخطئونه ، وهم يشجبون الباطل ويخوضون فيه ، وقد
وصفهم الإمام فأحسن الصفة والتحليل « فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل
فأدركه » .
وكانت النهروان قد أكلت جموعهم ، وأفنت رجالهم ، وبقي منهم من عاش موتوراً ،
فهو يحقد على الإمام صولته فيهم ، وهو ينقم من الإمام موقفه منهم ، فما برح الرجل
والرجلان يثأران فيتبعهما المئة أو المئتان ، وإذا بهم يعلنون القتال ، ويخيفون
السواد ، وينشرون الهلع ، ويقطعون السبل ، وعلي عليه السلام يسرّح لهم الجند ،
ويسير لهم الطلائع ، فيلقون على أشدّ قتال تندر فيه الرؤوس وتسيل المهج ، حتى إذا
قمعوا نجم قرن آخر ، وتعود الكرّة عليهم إثر الكرّة ، وهم بين إحجام وإقدام ،
310
وهم بين فرّ وكرّ ، والإمام بين تهيأة واستعداد لا يريح ولا يستريح ، وما إن تمحق
منهم طائفة إلا برزت طائفة ، وما أن يقتل قائد حتى ينبعث قائد آخر ، يجتمع حوله
السواد ، ويسير بين يديه السعاة ، والإمام في حرب مستمرة لا يفرغ من بعضها حتى يقع
في مثلها .
وكان الخارجون على الإمام وحكمه يتناوبون المهمة واحداً بعد واحد ، ويتهيأون
للقتال قائداً إثر قائد ، فقد خرج هلال بن علفة التيمي ، فلمّا قتل هو وفلوله ، خرج
الأشهب بن بشر البجلي ، فلما قتل وجنوده ، خرج سعد بن قفل التيمي ، فلمّا قتل
وأصحابه ، خرج أبو مريم السعدي ... وهكذا كانت الأمور تجري في حرب داخلية لا أول
لها ولا آخر ، يفقد فيها الإمام أنصاره بالأمس وأعداءه اليوم ، ويفيد منها معاوية
تثبيتاً للسلطان ، فالخوارج أضروا بدولة الإمام ، والخوارج مهّدوا لدولة أهل الشام
شاؤوا أم أبوا .
ثالثاً : ولم يكن الإمام في مأمن من ولاته وعمّاله ، فهم بين من خان
الأمانة ، وبين من يرتد على عقبيه جبناً وتردداً ، وبين من تحاك حوله الدسائس فيطلب
السواد عزله من الإمام ، وبين متحفظ رضي برفاهية العيش عن مرارة النضال العقائدي ،
وهناك القلة الملتزمة التي نصحت وبرّت ، وعموماً لم تكن الإتجاهات المتباينة لترضي
الإمام ، فكان في عناء منها أي عناء ، فهو يريد أن يعود بمناخ ولاته إلى عصر النبوة
، وهو يريد أن يكون عماله كعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقوى وورعاً
وعدالة ، وهو يريد أن ينهض بهم إلى مستوى المسؤولية ، ويرتفع بأقدارهم عن مزالق
الإنحراف والخيانة ، وهو يتابع كل ذلك بنفسه ، ويشرف على تخطيطه عن كثب ، والناس
عبيد الدنيا ، وقد ذاقوا طعم التوسع والبذخ والإسراف أيام عثمان ، وابتعدوا شيئاً
فشيئاً عن حياة
311
الشظف والبؤس والحرمان ، وهو يريد أن يعيدهم إلى الجادّة ، ويحملهم على
المحجة البيضاء ، وكان من الطبيعي لهذا الإتجاه أن يلقى المعارضين له ، وأن
يصطدم بالمنحرفين عنه ، يريد المعارضون لهذا المنهج أن يتنعموا بالولاية ،
ويريد المنحرفون عن هذا السبيل أن يتمتعوا بالسلطان ، ويريد هو أن لا يكون هذا
ولا ذاك ، فالراعي كالرعية ، والأمير كالمأمور ، كلّهم في شرع الحق سواء .
وكانت سيرته الخاصة بعدله وخشونته تملي هذه المفاهيم قبل أقواله وتوجيهاته ،
فقد أخذ نفسه بالشدة ، وهو يأخذ عماله بالشدة أيضاً ، وقد يبعث بالمراقبين على
شؤون هؤلاء العمال ، وقد يبّث الأرصاد لمعاينة سيرة أولئك الولاة ، إذن هو لا
يكتفي بالإشراف على ذلك بنفسه فحسب ، بل يرسل ثقته ليأتيه بالنبأ اليقين ؛ وهذا
وذاك كفيلان بإستقامة الأمر ، وتدارك الخطأ ، ودرأ الإنحراف ، وتلك جدّية ما
بعدها جدّية ، يتلافى بها الإمام الإهمال والإنحلال ، وقد مرت عليك خيانة مصقلة
بن هبيرة إذ فَعل فِعل السيد ، وفرّ فرار العبد ، وقد سبق إليك تخاذل عبيد الله
بن العباس وهربه من اليمن ، وتركها لبسر بن أرطاة يعيث فساداً في الأرض . وكذلك
ما كان من أمر عامله على مكة قثم بن العباس حين فرّ منها بدخول يزيد بن شجرة
الرهاوي أميراً على الموسم من قبل معاوية ، وكيف يمثل كل ذلك الضعف والوهن في
نفوس الولاة ، وكيف ينجرّ ذلك الضعف على الدولة التي يقودها الإمام بأمثال
هؤلاء . فإذا أضفت إلى ذلك خيانة الأمة في أموالها ، والتلاعب بفيء المسلمين ،
أدركت مدى معاناة الإمام ، فقد كسر الأكراد شيئاً من خراج البصرة ، وكان عليها
زياد ابن أبيه نيابة عن ابن عباس ، وقد طلب إليه الإمام حمل المال بيد أحد رسله
، وأراد زياد أن لا يخبر الرسولُ الإمام بهذه المضيعة ، فأنبأ الرسول الإمام
بذلك ، فكتب إلى زياد :
312
« قد بلغنّي رسولي عنك ما أخبرته عن الأكراد واستكتامك إياه ذلك ، وقد
علمت أنك لم تُلق ذلك إليه إلا ليبلغني إياه ، وإني أقسم بالله عز وجل قسماً
صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدّن عليك
شدة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظهر . والسلام » .
وكان الأشعث بن قيس عاملاً لعثمان ، على أذربيجان وقد ترك له عثمان خراجها
، وطمع الأشعث بذلك أيام الإمام ، فكتب له أمير المؤمنين يعزله ، ويحمله أداء
الأمانة بقوله : « إنما غرّك من نفسك إملاء الله لك ، فما زلت تأكل رزقه ،
وتستمتع بنعمه ، وتذهب طيباتك في أيام حياتك ، فأقبل وإحمل ما قبلك من الفيء ،
ولا تجعل على نفسك سبيلاً » .
واستشار الأشعث في هذا الكتاب أمناءه ، وقد أراد اللحاق بمعاوية ، فما
أشاروا عليه بذلك ، فنفذّه كارهاً ، وقدم على عليّ عليه السلام منابذاً في سرّه
، مشايعاً في ظاهره .
وكان المنذر بن الجارود العبدي عامله على إصطخر ، وقد كان أبوه من الصلحاء
، فبلغت الإمام عنه بعض الهنات ، فكتب إليه يعزله ويستقدمه :
« إن صلاح أبيك غرّني فيك ، وظننت أنك متبّع هديه وفعله ، فإذا أنت فيما
رقي إليَّ لا تدع الإنقياد لهواك ، وإن أزرى ذلك بدينك ، ولا تسمع إلى الناصح ،
وإن أخلص النصح لك . بلغني أنك تدع عملك كثيراً وتخرج لاهياً متنزهاً متصيداً ،
وأنك قد بسطت يدك من مال الله لمن أتاك من أعراب قومك ، كأنه تراثُكَ عن أبيك
وأمك ، وإني أقسم
313
بالله لئن كان ذلك حقاً لجملُ أهلك ، وشسع نعلك خير منك ، وإن اللعب واللهو لا
يرضاهما الله . وخيانة المسلمين وتضييع أموالهم مما يسخط ربك . ومن كان كذلك
فليس بأهل لأن يسّد به الثغر ، ويجبى به الفيء ، ويؤتمن على مال المسلمين ،
وأقبل حين يصل كتابي هذا إليك » .
وواضح من لهجة هذا الكتاب شدّته في مال المسلمين ، ومن فحواه صرامته في
ذات الله ، ومن فقراته تقويم تصرفات العامل ، وقدم عليه المنذر ، فاستجوبه
الإمام ، فكان عليه من مال المسلمين ثلاثون ألفاً ، فأنكر المنذر ذلك ، فطالبه
الإمام باليمين فأبى ، فأودعه السجن ، وضمنه صعصعة بن صوحان العبدي وكان من
خيار صحابة الإمام ، فاستجاب له وأطلقه .
وبلغت الإمام غطرسة بعض ولاته مع أهل الذمة فكتب إليه يرفق بهم :
« أما بعد ، فإن دهاقين بلادك شكوا منك قسوة وغلظة واحتقاراً ، فنظرت فلم
أرهم أهلاً لأن يُدنوا لشر لهم ، ولم أر أن يُقصوا ويجفوا لعهدهم . فالبس لهم
جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة ، في غير أن يُظلموا . ولا تنقض لهم
عهداً . ولكن تفرغ لخراجهم ، وتقاتل من ورائهم ، ولا يؤخذ منهم فوق طاقتهم ،
فبذلك أمرتك والله المستعان . والسلام » .
إن هذه المهمات التي نهض بها الإمام في التتبع والإستكشاف ومعاجلته لها
بما رأيت ، تكشف عن مدى حرصه على نشر العدل ، وحفظ الأمن ، وتوخي الأمانة . ومع
هذا فلم يكن بمأمن من الدسائس حتى على صالحي عماله ، فهذا قيس بن سعد بن عبادة
الأنصاري في
314
ثقته وأمانته وصلاحه ، يزوّر عنه معاوية كتاباً يظهر له فيه الولاء ، ويدسّه
معاوية إلى الكوفة ، فيطالب الناس الإمام بعزل قيس دون رويّة ، وهو بمنزلة عند
الإمام ما بعدها منزلة ، ويعزله الإمام ـ ربما لولاية أعظم ، ومنصب أجل ما
يدرينا ـ يعزله بمحمد بن أبي بكر فيصلَ إلى مصر ، ويأمره الإمام بقتال من لم
يكن على الطاعة ، فيناجزهم محمد الحرب ، وينهزم جنده ، ويضطرب عليه أمر مصر ،
فيعزله الإمام بالأشتر ، ويرحل الأشتر ، وما كاد يصل إلى القلزم حتى ائتمر
معاوية على الأشتر ، ويدس إليه السم بالعسل فيموت الرجل في دار غربة ، ويقول
معاوية : إن لله جنوداً من عسل .
ويعبىء معاوية جيشه لمصر بقيادة عمرو بن العاص ، ويثبتّ الإمام ابن أبي
بكر في ولايته ، ويدعو أهل الكوفة لنصرته ، فما لقيت دعوته استجابة ، ودخل ابن
العاص مصر ، وخاض محمد حرباً فاشلة ، فقتل محمد وأحرقت جثته في جلد حمار .
واحتاز معاوية مصر ، فتوسعت دولته ، وضعفت دولة الإمام .
وقد سأم الإمام هذا التواكل من أصحابه ، وعتب عليهم هذا التواني عن نصرته
، وقد شقت عليه هذه المفارقات ، فالغارات على أطراف العراق متوالية ، والخوارج
في استنفار يتبع بعضه بعضاً ، والولاة بين محتجن للمال وبين رعديد جبان ،
ومعاوية يستثمر كل هذا الاضطراب ليثبت سلطانه ، والإمام يدعو الناس إلى الجهاد
فلا يستجيبون له .
وحين طفح الإناء ، وبلغ التقصير حد الإخلال ، إستنفر الإمام الناس ،
وخطبهم مصمماً على خوض الحرب بالصفوة من أنصاره ، وبالبقية من المخلصين ، إن لم
يستجب الأكثرون ، وقال :
315
« أما بعد : أيها الناس ، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردّكم عنها
. ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها ، فتوثب عليّ متوثبون كفى الله
مؤونتهم ، وصرعهم لخدودهم ، وأتعس جدودهم ، وجعل دائرة السوء عليهم . وبقيت
طائفة تحدث في الإسلام حدثاً ، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق ، ليست بأهل لما
ادعت . وهم إذا قيل لهم تقدمّوا قدماً تقدمّوا ، وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق
كمعرفتهم الباطل ، ولا يُبطلون الباطل كإبطالهم الحق .
أما أني قد سأمت من عتابكم وخطابكم ، فبينوا لي ما أنتم فاعلون . فإن كنتم
شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحبّ ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن
أمركم أرَ رأيي . فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى
يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين ، لأدعونَّ الله عليكم ثم لأسيرن إلى
عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة . أأجلاف أهل الشام وأغرّاؤها أصبر على نصرة
الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم ؟ ما بالكم وما دواؤكم
؟ إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة » .
وقد فعلت هذه الخطبة في النفوس ما لم يفعله أي تحذير وإنذار سابقين ،
لأنها بمثابة التهديد النهائي الذي يعقبه التنفيذ العملي ، فاستجاب الناس
استجابة متكاملة ، وأنبّ بعضهم بعضاً على الخذلان ، ودفع بعضهم بعضاً إلى
الجهاد ، وتلاوم زعماء القبائل ورؤساء الأسباع فيما بينهم ، فأصبحوا اليوم
غيرهم بالأمس ، إنها يقظة الضمير بعد طول رقاد ، وإذا بهم يد واحدة مع الإمام
بعد أن شحنوا صدره غيظاً ، وملئوا قلبه قيحاً ، إنها إنتباهة من ضيع مجده بيده
، فأخذ يتلافى تقصيره
316
المتعمد بتدبير وحكمة ومروءة ، وتداعى الناس بعضهم إلى بعض ، وسار فيهم سراتهم
، وتحدث خطباؤهم ، وتكلم بلغاؤهم ، وقامت النجدة على قدم وساق ، وإنتفظت
الحميّة دون تردد ، وتهلل وجه الإمام فرحاً بهذا الانقلاب الجديد ، واستبشر
قلبه سروراً مع هذا التغير المفاجيء ، فهو يرى النصح في الإستجابة ، وهو يرى
الإخلاص من النفير ، فالزعيم يجتمع إلى أنصاره يحرّضهم على القتال ، والموجّه
يدعو أتباعه إلى النضال ، والأخ يدفع بأخيه إلى التضحية ، والأم تقنع ولدها
بالفداء ، والأب يتابع بنيه في الإستنهاض ، ولم يجتمع العراقيون على الإمام
اجتماعهم له هذا الحين ، فالجيش يتعاقد على المنية ، وشرطة الخميس تبايع على
الموت ، والجند بغاية الأهبة والإستعداد ، والعواطف ملتهبة ، والمشاعر متحفزّة
، وبان للإمام الوجه في هذه الحرب ، والصدق لدى أصحابه هذه الآونة ، فأرسل زياد
ابن حفصة في طليعة من أصحابه ، وأمره أن يغير على أطراف الشام ، ووجه معقل بن
قيس لتعبئة أهل السواد ، واستنجد أهل البصرة فأنجدوه بعزيمة صادقة ، ودعا أطراف
الدولة إلى الإلتحاق بالجيش ، فتكونت للإمام عدة عظيمة في هذا الشأن ، وتهيأت
له الأسباب في السلاح والكراع والرجال ، فما هي إلا أن تحين الساعة فيزحف زحفة
الصادق على الشام ، وإنه لفي هذا السبيل إذ يأتمر الخوارج مخططين قتله ، فينتقض
الأمر .
وستقرأ ذلك فيما بعد ، بعد أن تحيط خبراً بهموم الإمام ، ومحن الإمام ،
وسياسة الإمام ، وهو في هذا المناخ المتناقض العجيب .
(11)
ظواهر العدل الاجتماعي عند الإمام تقلب الموازين
وقد اندلعت العصبية القبلية في عهد الإمام نتيجة التمييز الطبقي السافر في
عصري عمر وعثمان ( رض ) ؛ لا بين اليمانيين والمضريين أو المهاجرين والأنصار ،
أو الأوس والخزرج فحسب ، بل تعدت حدود ذلك إلى المسلمين من غير العرب ؛ هؤلاء
الذين دخلوا في الإسلام بعد الفتوح ، فوجدوا أنفسهم دائماً في المرتبة الدنيا
من الحقوق ، فنجد قادة العنصرية القبلية ، ودعاة الإرستقراطية العربية ، تنصح
أمير المؤمنين بزعمها « يا أمير المؤمنين : اعطِ هذه الأموال ، وفضلّ هؤلاء
الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، وإستمل من تخاف خلافه من الناس »
.
فهم يدعون علياً عليه السلام بدعوى الجاهلية لا الإسلام ، وهم يريدون
تسويغ الغايات بالوسائل الدنيا ، يريدون من الإمام تذليل العقبات بالعطاء ،
وشراء الضمائر بالدراهم ، ومفاضلة بعض المسلمين لبعضهم الآخر بمبررات لا أساس
لها في التشريع ، والإمام بصير بهذه النزعات فيرد عليها :
« أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؛ والله لا أطور به ما
سمر سمير ، وما أمّ نجم في السماء نجماً » . وكان الأمر كما قال ، فلم يفضل
عنده قرشي على غيره من العرب ، ولا عربي على غيره
318
من الموالي ، وما بررت الغاية عنده الوسيلة ، بل سلك نهج رسول الله القائل في
حجة الوداع : « أيها الناس : إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها
بالآباء ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى » .
بل ذهب الإمام إلى تثبيت العدل الإجتماعي في سياسته الماليّة ، فقريش
كسواها من العرب ، والمهاجرون كالأنصار ، والمضريون كاليمانيين ، والأوس
كالخزرج ، والعرب كالموالي ، وهكذا ، وما استمع إلى دعاة التمييز بين المسلمين
في شيء « فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه إثرة ، وقد فرغ الله من قسمته ،
فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب الله به أقررنا ، وله
أسلمنا ، وعهد نبينا بين أظهرنا ، فمن لم يرض به فليتول كيف شاء » .
وما رأيك فيمن يقول : « والله لو أعطيت الأقاليم السبعة ، على أن أظلم
نملة في جلب شعيرة ... ما فعلت » .
ومن كان هذا تفكيره فإنه لا يستجيب للدعوات المنحرفة عن الإسلام في شيء ،
وها هو يحكم شرق الدنيا وغربها ، ويأتيه أخوه الأكبر عقيل بن أبي طالب يستميحه
بره ، فيلتفت إلى ولده الإمام الحسن عليه السلام ويقول له : « إذا خرج عطائي
فخذ عمك واشترِ له ثوبين ونعلين » ويلحف عقيل عليه في السؤال ، ويلحّ في
الإستزادة فيحمي له حديدة يدنيها من جسده ، أو ينيلها إياه في يده ، وعقيل كفيف
لا يبصر ، فيهوي إليها فيحترق بميسمها ، ويخور خوار ذي دنف .
وها هو خليفة الله في أرضه يخرج إلى السوق مع غلامه قنبر ، فيشتري ثوبين
فحسب ، يزّين بألينهما وأحبهما غلامه ، لأنه في ميعة
319
الصبا وعنفوان الشباب ، فينبغي أن يتجمل ! ! أما هذا الشيخ الفاني فقد أعرض عن
الدنيا وأعرضت الدنيا عنه .
يتولى أمير المؤمنين الحكم ، ويخضع المتمردين ، ويجلس وحده في فناء ما
يخصف نعله ، فيدخل عليه ابن عباس فيبادره الإمام : ما تساوي هذه النعل يا ابن
عباس ؟ فيقول لا تساوي شيئاً ، فينبري الإمام : لخلافتكم أزهد عندي من هذه
النعل . طبعاً وقطعاً ، فالحكم ليس غاية عند الإمام بل هو وسيلة إلى تطبيق
قانون السماء في الأرض يقيم الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، ويدفع الباطل ما
وجد على ذلك أعواناً .
كان يأخذ نفسه بالشدة ، ويأخذ أهله بالشدة ، تتزين إحدى بناته بعقد ثمين
تستعيره من بيت المال إعارة مضمونه ، فينتزعه ويرجعه إلى بيت المال مع لوم
وتقريع لهذه الصبية ، وعتب وتأنيب لابن أبي رافع خازن بيت المال ، فلا يعود إلى
ذلك أبداً ، ولا تعود الفتاة له أبداً . أليس هو القائل : « وإنما هي نفسي
أروضها بالتقوى ، لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق » .
يجمع كسر الخبز وأطرافه في جراب معلوم ويختمه ، فيسأل عن ذلك ، فيقول :
أخشى هذين الغلامين ، يعني الحسن والحسين ، أن يلتّاه في سمن أو عسل .
وهو القائل : « والله لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ، ولباب
هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يقودني هواي إلى تخيّر الأطعمة ،
ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ، ولا طمع له في القرص » .
وفي شدة الصيف ، ووقدة القيظ يصوم شهر رمضان فتقدم له ابنته
320
طبقاً فيه قرص من شعير ، وقدح من لبن ، وحفنة من جريش الملح ، فيقول لها :
تريدين أن يطول وقوف أبيك بين يدي الله ، تقدمين له أدامين في طبق واحد ؟
ثم يختار الخبز والملح ويعزف عن اللبن .
إنها الشدة في ذات الله ، والتسليم للقناعة ورضا الله ، وحمل النفس على
الزهد ، وهي في الوقت نفسه المثل العليا التي قلّ أن نجدها عند أحد ، وقد لا
نجدها ، لأننا لا نقدر عليها ، أليس هو القائل الصادق :
« إلا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم
لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد » .
وهذا عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة ، يدعى إلى وليمة فيجيب ،
ويسمع علي بذلك فيكتب إليه :
« أما بعد فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة ، قد دعاك إلى مأدبة
فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما كنت أظنك تجيب إلى
طعام قوم عائلهم مجفوَّ ، وغنيهم مدعوٌ » . وتستطلع إلى هذه الدعوة فتجدها «
كراعاً ورأساً » ليس غير ، تجر نقمة الإمام وتقريعه ، وتستدعي غضبه وتأنيبه ،
لأن هؤلاء القوم يجفون الفقراء ويدعون الأغنياء ، ثم لا يقف الإمام عند هذا
وحده ، حتى يبين لواليه الحكم الشرعي : « فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ،
فما إشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه » .
321
ولك أن تسترسل في سيرة هذا الرجل وإستقامته ، وتنظر إلى تحرجه وتأثمه ، وتتوغل
في تورعه وتشدده ، وتتردد إلى محاسبته لنفسه ومراقبته لها ، يستسهل الصعب ،
ويتوخى العسر فيما فرض عليها ، وما استن لها من ضروب الترويض : « ولئن أبيت على
حسك السعدان مسهداً ، أو أجرّ في الأغلال مصفداً ، أحب إلي من أن ألقى الله ،
وأنا ظالم لبعض العباد ، أو غاصب لشيء من الحطام » .
ولا كبير أمر في ذلك تستغربه عند الإمام ، وإن استغربته عند سواه ، فليس
للظالم في مسيرته ظل ، ولا للحيف في معجمه مفهوم ، وإنما هو منهج الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم مثلاً أعلى وقدوة حسنة .
وقد كان أمير المؤمنين محتاطاً لنفسه ، ومحتاطاً لدينه ، ومحتاطاً
للمسلمين ، أخذ نفسه بمعالي الأمور وابتعد عن صغائرها ، زهداً وتقشفاً وعبادة
« لقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها » .
لم يجنح إلى الترف ، ولم يمل إلى اللين وخفض العيش ، اخشوشن في ذات الله ،
وضحّى في سبيل الله ، ونصب نفسه علماً لدين الله ، ما وقف بين أمرين إلا اختار
أصعبهما مراماً ، وأصلبهما شكيمة ، ما أراح نفسه قط ولا إستراح .
وكان محتاطاً لدينه ، فقد أدى الأمانة بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها ، لم
يرزأ المسلمين شيئاً في مالهم ، ولا تناول من فيئهم إلا بقدر زهيد شأنه فيه شأن
الآخرين لا أكثر ولا أقل ، فلم يصبُ إلى تزيد أو كفاية ، ولم يحاول توسعاً أو
إضافة ، وكانت قبل خلافته يقوم على أرض بينبع ، يلتمس من عيشها الكفاف ، ويصرف
ما فضل في فقراء بني
322
هاشم ، وينفق ما تبقّى في احتياجات إخوانه من المؤمنين ؛ حتى إذا نهض بالأمر
كان واحداً من أدنى المسلمين ـ وهو أميرهم ـ له ما لهم من حقوق ، وعليه ما
عليهم من واجبات ، تحقيقاً لمبدأ العدل السياسي المفقود ، وتنفيذاً لمبدأ العدل
الأجتماعي المنشود .
واحتاط للمسلمين ، فلم يطلق أيدي عماله في الغنائم ، ولم يخولهم تخويلاً
مطلقاً في الحكم ، وإنما أخذهم بكثير من الجدّ والحزم ، وشدد عليهم في الرقابة
والحساب ، يستمع إلى شكوى الرعية ، ويقتص لهم من عماله ، ويتفقد الشؤون العامة
بنفسه ، فكان الله بذلك رقيباً عليه ، وهو رقيب عليهم ، يثيب المحسن ، ويعاقب
المسيء ، حتى إذا لمس من أحدهم خيانة أو جناية أخذه بها أخذ الناظر الحثيث كما
رأيت فيما سبق .
وكان أمير المؤمنين إلى جنب ما تقدم ، رجلَ مجابهة وتحدٍ ، ورجلَ تمهل
وأناة ، رجل مجابهة حين تتهيأ له الأسباب وتواتيه الظروف ، ورجل أناة حين يغدر
به الحدثان ولا يصفو له الزمان . وهو بين هذين يضع الأمور في مواضعها ، لا
يخرجه تحديه عن القصد ، ولا يسلمه تمهلّه إلى الضياع ، ينظر بعين الناقد البصير
إلى الأحداث فيما حوله ، فيجيل فيها فكره ، ويتبعها بنظرته الثاقبة ، فلا يحيد
عن المنهج الذي رسم لنفسه قيد أنمله قط ، مترصداً بذلك مرضاة الله تعالى في
اليسر والعسر ، لم يقعده عن الحق تفرق الناس عنه ، ولم يوقعه في الباطل اجتماع
الناس عليه ، يأنس بالوحدة لأنها تذهب به إلى التفكر في ذات الله ، ويرغب
بالعزلة لأنها تذكره بما وراء الطبيعة . وقد يلم بالناس إلماماً للقيام بأمر
الله « لا يزيدني اجتماع الناس حولي عزاً ، ولا تفرقهم عني وحشة » . ولم يكن
منقطعاً إلى ذاته ، أو مغترباً في حياته ، وإنما كان
323
بين الناس في فرائضهم ومجالسهم وأسواقهم وحياتهم العامة ، يوجه هذا ويرشد ذاك ،
ويستمع إلى هؤلاء ويعني بأولئك ، والوازع هو الوازع لا يتغير ولا يحيد ، الحياة
لله في السر والعلن ، والنصح للمسلمين في الشدة والرخاء ، والعمل بالكتاب
والسنة شاء الناس أم أبوا ، لا يخدعه خادع عن مسلكه هذا ، ولا يغتّر به مغتّر
فيقترح غير هذا ، فقد عرف نفسه فعرف ربه .
وهذا الرجل في قيادته للأمة يعود بالسياسة إلى عهد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم نقية خالصة ، لا تشوبها شائبة ، طريقها واضحة ، وأعلامها شارعة
، لا التواء فيها ولا اعوجاج ، ولا أمت ولا انحراف ، يسلك سبيله فيها سبيل
القادة الأفذاذ ، فلا دجل ولا زيف ، ولا إيهام ولا إبهام ، ولا زيغ ولا غموض ،
يجريها على سننها فشل فيها أم نجح ، فهي أداة للحق ومسرجة للهدى ، والحق والهدى
يبصران ، ودونهما رقيب من الله ، وإيحاء من الضمير الحي المتيقظ ، فلا الضلال
يقيم الهدى ، ولا الباطل يحيف الحق ، وإنما هو القصد والاعتدال يصاحبهما الصدق
والوضوح ، فلا لبس ولا شبهة وإن حققا نفعاً موقوتاً لأن النفع الموقوت زائل ،
وتبقى صحائف الأعمال قائمة .
ليس لدى الإمام في هذا المذهب تفكير السياسيين التقليديين القائم على أساس
التسوية والغاية ، فهذان أمران مرفوضان تأباهما له صرامته في الحق ، وعدالته في
المسعى ، الحق وإن جحد والمسعى وإن أخفق . ولماذا هذا ، وكل هذا ، الإمام يفلسف
ذلك : « قد يجد الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ، ودونها حاجز من تقوى الله ،
فينتهزها من لا حريجة له في الدين » .
ولا أعلم أحداً في العرب سبقه إلى استعمال مادة « الانتهازية »
324
بمعناها الدقيق كما استعملها في هذا النص . ومن هنا نجد قوله فيصلاً في الحكم
رداً على المتنطعين :
« والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، وكل فجرة غدرة ، وكل
غدرة كفرة ، وكل كفرة في النار » .
الدهاء في منطق الإمام هو الحكمة التي لا تستطال بفسق وفجور ، فالفاجر
غادر ، والغادر كافر ، والكافر في النار .
ولا يستقيم لأول القوم إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً أن يسلك هذا النهج ؛ كيف
وقد تربى في حجور الإيمان ، وترعرع في ظلال الوحي ، وألهم معالم القرآن .
السياسة الواضحة عند الإمام ، كتب لها النجاح إيمانياً ، وكتب لها الخلود
تأريخياً ، ففي سيرة هذا الرجل من الأمثال ما لم يتهيأ لأحد من الناس ، وقد
يقال بأنها أخفقت ، وقد يصح هذا القول عكسياً ، لأن أمير المؤمنين كان يريد أن
يعود بالناس إلى عهد رسول الله ، وكان عهده قد استطال عليه الزمان ، ومرت
بالناس ظروف وأحداث وأزمات التمسوا فيها الرفاهية واللامبالاة ، فمن العسير
انقيادهم لهذا الرجل العائد بهم إلى عهود الدين ، وقد حثت الأحداث بهم السير
نحو شؤون الدنيا ، فهم عن الدين أبعد ، وهم إلى الدنيا أقرب ، وإذا كان الأمر
كذلك ، فهم الذين أخفقوا في الانقياد لسياسة الإمام ، ولم تخفق سياسة الإمام
لعدم انقيادها إليهم .
نموذجان بسيطان أضعهما بين يدي الباحث الموضوعي نموذج خاص ، ونموذج عام ،
على سلامة هذين النموذجين وبراءتهما ، تجد أن سياسة الإمام الخاصة بذاته وبأمته
سياسة أنبياء وأوصياء ، لا سياسة أشدّاء وأدعياء .
325
كان عدل الإمام واسماحه وتواضعه وإسجاحه شاملاً متسعاً لا يضيق بذلك صدره
، فقد دعا إليه غلامه مرة فلم يجبه ، ودعاه ثانياً فلم يجبه ، وناداه ثالثاً
فلم يجبه ، فقام الإمام عليه السلام فرآه مضطجعاً ، فقال : ألم تسمع يا غلام ؟
فقال : نعم ، قال عليه السلام : فما حملك على ترك جوابي ؟ قال : آمنت عقوبتك
فتكاسلت ، فقال عليه السلام أمض فأنت حر لوجه الله تعالى .
السياسي التقليدي قد يقتل هذا الغلام ، وقد يأدبه أو يسجنه أو يعزله من
الخدمة ، أما الإمام فقد حرره لوجه الله تعالى .
وهذا نموذج خاص في السياسة ، ونموذج عام بسيط مثله :
دخل على أمير المؤمنين اثنان من أصحابه ، ولعلهما طلحة والزبير قبل نكث
البيعة ، والإمام في بيت المال ، وبدءا يحاورانه في شيء من شؤونهما ، فيطفىء
الإمام السراج ، ويخرج بهما بعيداً عن بيت المال وإلى داره ، لأن زيت السراج
يتقد من أجل مصلحة أو منفعة لبيت مال المسلمين ليس غير . وهما في مسألة قد تكون
خاصة فيهما ، فليذهب عليٌّ بهما إلى خارج هذا المقر الرسمي ، وليكن لهما ما
شاءا ، أما أن ينفق وقته معهما على حساب هذا الزيت ـ وإن كان ضئيلاً ـ فليس إلى
ذلك سبيل .
ووجد القادمان أن لا حياة لهما مع الإمام في هذه السياسة .
وكان رحيماً بالمسلمين رؤوفاً بهم ، عطوفاً عليهم ، يبسم لهذا ويهش لذاك ،
يواسي أهل العوز والفقر والفاقة ، ويجالس المضنى والمتعب والمستفيد ، ليس بينه
وبين الرعية حجاب ، قائماً بشؤونهم : في الصلاة إماماً ، وعلى المنبر خطيباً ،
وفي الحروب متقدماً ، ولدى
326
الأسواق آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر ، حاملاً درتّه حيناً ، ومخصرته
حيناً آخر ، تالياً لقوله تعالى : ( وَيلٌُ لِلمُطَفِّفِينَ
) في عدّة آيات .
وكان عنيفاً مع رحمته ، وشديداً مع رقته ، لا يعطل لديه حدّ ، ولا يتهاون
في فرض ، ولا يتجافى عن سنة ، وهو إلى ذلك يدبر أمور هذه الدولة المترامية
الأطراف ، ويتابع شأن هذه النفوس المتشتة الأهواء ، يخوض المشكلات خوضاً
مباشراً ، يرتق هذا الفتق ، ويصلح ذاك الخرق ، وهو يجاري من أصحابه من لا يجارى
ولا يدارى إلا بعسر ومرارة ، وهو يتجرع الغصص ويسيغ الشجا ، عالماً بأنها أيام
سينقضي بؤسها وشرها ، ويبقى خيرها وأجرها ، فعنده « الدهر يومان : يوم لك ويوم
عليك ، فإذا كان لك فلا تبطر ، وإن كان عليك فاصبر ، فكلاهما سينحسر » .
وهؤلاء المعارضون من ناكثين وقاسطين وخوارج ، والمتمردون من انتهازيين
ونفعيين وأصحاب مطامع ، تجمعوا عليه من كل صوب وحدب لا لأمر نفسوا به عليه ،
ولا لموجدة أُحتقبت بحقهم ، ولكنها الأهواء المتناثرة ، والأحقاد المتأصلة ،
والأهواء لا سيطرة عليها ، والأحقاد لا سبيل لاقتلاعها ، ولكنه يعاملها جميعاً
بأناة الحكيم ، ويترصدها بعقلية القائد المتلبث ريثما تنجلي الغبرة ، ينفس عنها
شيئاً فشيئاً ، ولكنها بمجموعها المتزاحم ، وبزخمها المتراكم تبقى في النفس
ألماً ، وفي القلب جراحاً ، وما أكثر آلام الإمام ، وما أبلغ جراحه .
وهذا السواد الأعظم ، في تناقض نزعاته ، وعجيب أولاعه ورغباته ، وكثرة
خروجه ونزعاته ، مناخ غوغائي مستفيض ، لا بد من مداراته حيناً ، وضبطه حيناً
آخر ، وتوجيهه بعض الأحيان ، وهم همج
327
رعاع يتبعون كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .
هؤلاء السواد الذين تحركت في نفوسهم النخوة ، وعادت إليهم الجاهلية ،
فالثأر من جهة ، والأحقاد من جهة أخرى ، وتضييع النظام الإسلامي والشرع الجديد
بين عشية وضحاها كل أولئك عقبات في طريق المسيرة ، ولكنه يذللها بحكمته ،
ويتداركها بعظيم حنكته وسياسته ، فهو إذن في جهد دائم مضني ، وعمل دؤوب مستمر ،
والحبل على الغارب ، فالمشاكل آخذة بالازدياد ، والمستجدات بغير حساب .
وإن تعجب ، ولا ينتهي العجب في سيرة هذا الرجل العملاق ، إدعاؤهم «
الدعابة » فيه ، إذ لم يجدوا عليه مطعناً ، ولم يصلوا إلى مغمز ، فأخذوا عليه
يسره وإسماحه ، واستوحشوا نبله وأخلاقه ، فقد كان رقيق الحاشية ، ليّن الجانب ،
طيّب المعاشرة ، دون غلظة أو جفاف أو قسوة ـ شأن الأولياء الصالحين ـ يهش لهذا
أو يبسم لذلك ، مع شدة هيبته ، وجلالة وقاره وسمته ، فقال عمرو بن العاص أن في
علي دعابة « لقد زعم ابن النابغة أن فيّ دعابة ، وأنني رجل تلعابة » .
وما كان عليّ عليه السلام هازلاً يوماً ، ولا لاعباً أو عابثاً حيناً ما ،
فجدّه وحزمه يأبيان هذا الإتهام الفضفاض الذي لم ينخدع به أهل البصائر ، فما
وجد أذناً صاغية حتى عند سواد الناس ، ولكنه كان خاشعاً متواضعاً مع خشية الله
لا جبروت في نفسه ، ولا طاغوت في حكمه حتى قال من وصفه « كان بيننا كأحدنا ،
وكنا لا نكلمه هيبة له » . وقد صدق ضرار ( ضمرة ) بن أبي ضمرة حينما وصفه
لمعاوية :
« كان والله شديد القوى ، بعيد المدى ، ينطق فصلاً ويحكم عدلاً » . وشدة
قواه ، وبعد مداه ، لم يسمحا له بدعابة ، ونطقه الفصل ،
328
وحكمه العدل ، لم تتهيأ بهما له الفكاهة ، ولكنها الاعتداءات التي لا تستند إلى
المنطق ، فتسحق الضمير والنزاهة والعفاف . وأنى تستقيم هذه الدعوى ، ولا بينة
عليها ولا شواهد في قول ولا عمل ، وهو القائل في نصيحته لولده الإمام الحسن :
« وإياك أن تذكر في الكلام ما كان مضحكاً ، وإن حكيت ذلك عن غيرك » .
وليتهم وصفوة في جديته وصرامته وخشونته لوجدوا إلى ذلك سبيلاً ، ولكنهم
ألصقوا به ما هو بعيد عنه بعد السماء عن الأرض ، اللهم إلا صفاء المؤمن ،
وسلامة الورع التقي ، ومرونة العارف بعواقب الأمور ، فلا تبطره الدولة ، ولا
تطغيه السلطة ، وإنما هو رجل من الناس لا يتعالى ولا يتطاول ، قد خفض جناحه
للمسلمين ، وألان أكتافه لعامة الناس في دعة وتواضع ، في رقة من لهجة ، وبسمة
من ثغر ، وطلاقة من محيا .
وهذا كله شيء ، والدعابة المدعاة شيء آخر .
وظاهرة أخرى ؛ فمتى بسم الدهر لعلي عليه السلام حتى يستخّفه الأنس مع
الحاضرين ، ومتى سالمه حتى يجد السبيل إلى البطالة والفراغ ، ومتى سايره حتى
يساير هذا النمط من العاطلين ؛ وإنما هي المحن والفتن التي واجهها بالصبر
والجلد والثبات ، مشمّراً عن ساعد الجهاد ، وداعياً إلى سبيل ربه بالحكمة
والموعظة الحسنة شأنه في ذلك شأن الشهداء والصالحين والصديقين ، وحسن أولئك
رفيقاً .