روى ابن أبي الحديد في شرحه: خطب عليّ عليه السلام لمّا تواقف الجمعان، فقال: 'لا تقاتلوا القوم حتّى يبدءوكم، فإنّكم بحمد اللَّه على حجّة، وكفّكم عنهم حتّى يبدءوكم حجّة اُخرى، وإذا قاتلتموهم فلا تُجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتّبعوا مُدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال قوم فلا تهتكوا سِتراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً، ولا تهيجوا امرأة أذى، وإن شتمنَ أعراضكم وسبَبن اُمراءكم وصلحاءكم، فإنّهنّ ضعاف القوم، والأنفس والعقول، لقد كنّا نؤمَر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة فيُعيّر بها وعقبه من بعده'.
تذكير عليّ الزبير وانصرافه عن الحرب ثمّ مقتله
قال المسعودي: وخرج عليّ عليه السلام بنفسه حاسراً على بغلة رسول اللَّه، لا سلاح عليه، فنادى: 'يا زبير، اخرج إليَّ'، فخرج إليه الزبير شاكّاً بسلاحه... فقال له عليّ عليه السلام: 'ويحك يا زبير! ما الّذي أخرجك؟'، قال: دم عثمان، قال عليه السلام: 'قتل اللَّه أولانا بدم عثمان، أما تذكر يوم لقيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في بني بياضة وهو راكب حماره، فضحك إليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وضحكتُ إليه وأنت معه، فقلتَ أنتَ: يا رسول اللَّه، ما يدع عليٌّ زَهوه؟ فقال لك: 'ليس به زهو، أتحبّه يا زبير؟'، فقلت: إنّي - واللَّه - اُحبّه، فقال لك: 'إنّك - واللَّه - ستقاتله وأنت له ظالم'؟ فقال الزبير: أستغفر اللَّه، واللَّه لو ذكرتها ما خرجتُ، فقال عليه السلام له: 'يا زبير، ارجع'، فقال: وكيف أرجعُ الآن وقد التقت حَلْقَتا البطان؟ هذا واللَّه العار الّذي لا يُغسل، فقال عليه السلام: 'يا زبير، ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنّار'، فرجع الزبير وهو يقول:
اخترتُ عاراً على نارٍ مؤجَّجَةٍ*** ما أن يقوم لها خلق من الطين
نادى عليُّ بأمر لستُ أجهله*** عار لعمرك في الدنيا وفي الدين
فقلت: حسبك من عَذْل أبا حسن*** فبعضُ هذا الّذي قد قلت يكفيني
فقال ابنه عبداللَّه: أين تذهب وتَدَعُنا؟ فقال: يا بُنيّ، أذكَرَني أبو الحسن بأمر كنتُ اُنسيتُه، فقال: لا واللَّه، ولكنّك فررتَ من سيوف بني عبدالمطّلب
[وفي المناقب لابن شهرآشوب 155:3، قالت عائشة: بل خفت سيوف ابن أبي طالب].
فإنّها طوال حداد يحملها فتية أنجاد، قال: لا واللَّه، ولكنّي ذكرتُ ما أنسانيه الدهر، فاخترتُ العار على النّار، أبالجبن تعيّرني لا أباً لك؟ ثمّ أمال سنانه وشدَّ في الميمنة.
فقال عليّ عليه السلام: 'أفرجوا له فقد هاجوه'، ثمّ رجع فشدَّ في الميسرة، ثمّ رجع فشدَّ في القلب، ثمّ عاد إلى ابنه، فقال: أيفعل هذا جبان؟ ثمّ مضى منصرفاً حتّى أتى وادي السباع، والأحنف بن قيس معتزل في قومه من بني تميم، فأتاه آتٍ فقال له: هذا الزبير مارّاً، فقال: ما أصنع بالزبير وقد جمع بين فئتين عظيمتين من النّاس يقتل بعضهم بعضاً، وهو مارّ إلى منزله سالماً؟!
فلحقه نفر من بني تميم فسبقهم إليه عمرو بن جُرموز وقد نزل الزبير إلى الصلاة فقتله عمرو في الصلاة، وقُتِل الزبير وله خمس وسبعون سنة، وأتى عمرو عليّاً بسيف الزبير وخاتمه ورأسه، وقيل: إنّه لم يأت برأسه.
فقال عليّ عليه السلام: 'سيف طالما جلا الكرب عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لكنّه الحين ومصارع السوء، وقاتلُ ابن صفية "يعني قاتل الزبير" في النّار'، ففي ذلك يقول عمرو بن جرموز التميمي في أبيات:
أتيتُ عليّاً برأس الزبير*** وقد كنتُ أرجو الزلفهْ
فبشّر بالنّار قبل العيان*** وبئس بشارة ذي التحفهْ
لَسيّان عندي قتلُ الزبير*** وضرطة عَنز بذي الجحفهْ
[راجع: مروج الذهب 270:2، وفي المناقب لابن شهرآشوب 154:3، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 79، وقريب من هذا المضمون].
وفي "أعيان الشيعة": عن ابن أبي الحديد: وخرج ابن جُرموز على عليّ عليه السلام مع أهل النهروان، فقتله معهم فيمن قتل.
تذكير عليّ طلحة
قال المسعودي: وحين رجع الزبير عن المعركة نادى عليّ عليه السلام طلحة وقال: 'يا أبا محمّد، ما الّذي أخرجك؟'، قال طلحة: الطلب بعدم عثمان؟! قال عليّ عليه السلام: 'قتل اللَّه أولانا بدم عثمان، أما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه'، وأنت أوّلُ من بايعني، ثمّ نكثتَ وقد قال اللَّه عزّ وجلّ: 'فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ'، فقال: أستغفر اللَّه، ثمّ رجع.
[مروج الذهب 373:2، والآية 10 من سورة الفتح].
وعنه أيضاً عن مروان بن الحكم أنّه قال: رجع الزبير ويرجع طلحة، ما اُبالي رميتُ هاهنا أم هاهنا، فرماه في أكْحَلِه فقتله، وقيل: قُتِل طلحة في ذلك اليوم ولم يُعرَف قاتله، فمرّ به عليّ عليه السلام بعد الوقعة في موضعه في قنطرة قرّة، فوقف عليه فقال: 'إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، واللَّه لقد كنت كارهاً لهذا، أنتَ واللَّه كما قال القائل:
فتىً كان يُدنيه الغنى من صديقه*** إذا ما هو استغنى ويُبعده الفقر
كأنّ الثُّريّا عُلّقت في يمينه*** وفي خدِّه الشعرى وفي الآخر البدر
وهو عليه السلام يمسح عن جبينه الغُبار ويقول: 'وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً'.
التحام القتال واشتعال نار الحرب
عن العلامة الإربلي في "كشف الغمّة" ما ملخّصه: ثمّ التحم القتال، وقال عليّ عليه السلام: 'وَإِن نَكَثُوا أَيْمَانَهُم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ'
[سورة التوبة: 12].
ثمّ حلف حين قرأها أنّه ما قُوتِل عليها منذ نزلت حتّى اليوم، واتّصلت الحرب وكثر القتل والجرح... ولم يزل القتل يُؤجّج ناره والجمل يفنى حتّى خرج رجلٌ مدجّج يظهر بأساً ويُعرّض بذكر عليّ عليه السلام حتّى قال:
أضربكُم ولو أرى عليّا*** عَمّمتُه أبيض مشرفيا
فخرج إليه عليّ عليه السلام متنكّراً، وضربه على وجهه فرمى بنصف قحف رأسه، ثمّ انصرف، إلى أن قال: واستعرت الحرب حتّى عُقر الجمل فسقط، وقد احمرّت البيداء بالدماء، وخذل الجمل وحزبه، وقامت النوادب بالبصرة على القتلى، وكان عدّة مَن قتل من جند الجمل ستّة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين إنساناً، وكانوا ثلاثين ألفاً، فأتى القتل على أكثر من نصفهم، وقُتل من أصحاب عليّ عليه السلام ألف وسبعون رجلاً، وكانوا عشرين ألفاً.
وكان محمّد بن طلحة - المعروف بالسجّاد - قد خرج مع أبيه وأوصى عليّ عليه السلام أن لا يقتله من عساه أن يظفر به، وكان شعار أصحاب عليّ: حم، فلقيه شريح بن أوفى العبسي من أصحاب عليّ عليه السلام فطعنه، فقال: حم، وقد سبق كما قيل السيف العذل، فأتى على نفسه، وجاء عليّ عليه السلام فوقف عليه وقال: 'هذا رجل قتله برّه بأبيه'.
[كشف الغمّة - باب المناقب 328:1].
وفي "شرح ابن أبي الحديد": وقال عليّ عليه السلام - لمّا فنى النّاس على خِطام الجمل، وقطعت الأيدي وسالت النفوس -: 'ادعوا لي الأشتر وعمّاراً'، فجاءا، فقال: 'اذهبا فاعقرا هذا الجمل، فإنّ الحرب لا يبوخ
[لا يبوخ: أي لا يخمد].
ضرامها ما دام حيّاً، إنّهم قد اتّخذوه قبلة، فذهبا ومعهما فتيان من مُراد يعرف أحدهما بعمر بن عبداللَّه، فما زالا يضربان النّاس حتّى خَلَصا إليه، فضربه المُراديّ على عرقوبيه، فأقعى وله رُغاء، ثمّ وقع لجنبه وفرّ النّاس من حوله، فنادى عليّ عليه السلام: 'اقطعوا أنساع الهودج'، ثمّ قال لمحمّد بن أبي بكر: 'أكفني اُختك "عائشة"'، فحملها محمّد حتّى أنزلها دار عبداللَّه بن خلف الخُزاعي، ثمّ بعث عليّ عليه السلام عبداللَّه بن عبّاس إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة - الحديث.
[شرح ابن أبي الحديد 228:6، وفي الباب كلام طويل، فراجع مظانّه، وقد تعرّضنا لبعضٍ منه في الفصل 99 "في مظلوميّة عليّ عليه السلام" في المجلّد الخامس، فلاحظه].
العفو العامّ بعد حرب الجمل وعدوته إلى الكوفة
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان كالرسول الأعظم صلى الله عليه و آله في التعامل مع أعدائه، فعندما تكون الغلبة والتمكّن له على أعدائه، وعندما يكون عدوّه كافاً عنه وليس له مردّ ولا ما يلجأ إليه ليستعيد قوّته مجدّداً، فإنّه يعفو عنه ويغضّ عنه النظر.
وهكذا كان الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في فتح مكّة، إذ أصدر عفواً بإطلاقه جميع كفّار مكّة، وهكذا كان فعل عليّ عليه السلام في حرب الجمل، حيث أعفى عائشة وطلحة والزبير وصفح وتجاوز عن خطئهم، وكذا تعامل مع أهل البصرة وعامّة المشاركين في حرب الجمل.
ابن عبّاس والي البصرة
وروى المفيد رحمه الله عن الواقدي عن رجاله، قال: لمّا أراد أمير المؤمنين عليه السلام الخروج من البصرة استخلف عليها عبداللَّه بن العبّاس ووصّاه، وكان من وصيّته له أن قال: 'يابن عبّاس، عليك بتقوى اللَّه والعدل بمن ولّيت عليه، وأن تبسط للنّاس وجهك، وتوّسع عليهم مجلسك، وتسعهم بحلمك، وإيّاك والغضب فإنّه طيرة الشيطان، وإيّاك والهوى فإنّه يصدّك عن سبيل اللَّه، واعلم أنّ ما قرّبك من اللَّه فهو مباعدك من النّار، وما بعادك من اللَّه فمقرّبك من النّار، واذكر اللَّه كثيراً ولا تكن من الغافلين'.
[كتاب الجمل: 223، طبع مكتبة الداوري - قم].
وروى أبو مخنف بن يحيى قال: لمّا استعمل أمير المؤمنين عليه السلام عبداللَّه بن العبّاس على البصرة، خطب النّاس فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله، ثمّ قال:
'معاشر النّاس، قد استخلفتُ عليكم عبداللَّه بن العبّاس، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع اللَّه ورسوله، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحقّ فاعلموا أنّي أعزله عنكم، فإنّي أرجو أن أجده عفيفاً تقيّاً ورعاً، وإنّي لم اُولِّه عليكم إلا وأنا أظنّ ذلك به، غفر اللَّه لنا ولكم' - الحديث.
[كتاب الجمل: 223، طبع مكتبة الداوري - قم].
وقال المسعودي: وولّى عليّ عليه السلام البصرة عبداللَّه بن عبّاس وسار إلى الكوفة، فكان دخوله عليه السلام إلى الكوفة لاثنتي عشرة ليلة مضت من رجب.
مسير عائشة إلى المدينة
ولمّا عزم أمير المؤمنين عليه السلام على المسير إلى الكوفة أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة، فتهيّأت لذلك، وأنفذ معها أربعين امرأة ألبسهنّ العمائم والقلانس، وقلّدهنّ السيوف، وأمرهنّ أن يحفظنها، يكنّ عن يمينها وشمالها، ومن ورائها، فجعلت عائشة تقول في الطريق: اللّهمّ افعل بعليّ بن أبي طالب وافعل، بعث معي الرجال ولم يحفظ بي حرمة رسول اللَّه، فلمّا قدمن المدينة معها ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها، فلمّا رأتهنّ ندمت على ما فرّطت بذمّ أمير المؤمنين عليه السلام وسبّه، وقالت: 'جزى اللَّه ابن أبي طالب خيراً، فلقد حفظ فيَّ حرمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'.
ختام الفصل
روى في "كشف الغمّة" عن زرّ: أنّه سمع عليّاً عليه السلام يقول: 'أنا فقأت عين الفتنة، ولولا أنا ما قتل أهل النهر وأهل الجمل، ولولا أنّني أخشى أن تتركوا العمل لأنبأتكم بالذي قضى اللَّه على لسان نبيّكم صلى الله عليه و آله لمن قاتلهم، مستبصراً ضلالهم، عارفاً للهدى الّذي نحن فيه وعليه'.
[كشف الغمّة - باب المناقب 331:1].
عليّ في حرب صفّين
ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيم: 'أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الُْمجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ. وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِأَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الُْمخَالِفِينَ الْجُفَاةِ، وَالمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ، فَكُنْتُ أَنَا وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ: نهج البلاغة: الخطبة 35
نظرة في حرب صفّين
تعدّ حرب صفّين إحدى الحروب العظيمة الّتي وقعت في الإسلام، وخلّفت وراءها الخسائر الجسيمة في الأموال والأرواح، حيث سقط فيها على ما روي "110 - 70 ألف" قتيل... تلك الحرب الّتي دامت لأشهر وتركت من الجرحى ما يفوق القتلى، وشغلت الدولة الإسلاميّة بالمسائل الداخليّة والحرب الأهليّة المدمّرة، وهدرت القوى وبدّدتها، فهل كان معاوية والمخطّطون لهذه الحرب يطالبون بدم عثمان حقّاً؟! وهل إنّ المسلمين قد أثاروا حرب صفّين من أجل نصرة الإسلام والدفاع عن عثمان؟! وهل كان من الضروري أن يقتل 110 آلاف مسلم من أجل المطالبة بدم عثمان؟!
ألم يكن عثمان ذلك الحاكم الّذي يعتبر بيت المال ملكاً شخصيّاً، ويدافع عن شاربي الخمور ويولّيهم الاُمور، ويضرب صاحب النبيّ ويطرده، وخلّف بعد موته عشرات الآلاف من الدراهم والدنانير - من بيت المال - لنفسه؟ أيصحّ أن يضحّى بكلّ هؤلاء المسلمين من أجل الأخذ بثأر مثل هذا الشخص؟!
كلا، فإنّ الطلب بدم عثمان كان ذريعة ليس إلا، وإلا فإنّ معاوية وأصحابه أثاروا حرب صفّين اتّباعاً للهوى، وعبادةً للدنيا، وطلباً للجاه، وحسداً لعليّ عليه السلام وبنيه، ووجّهوا من خلالها ضربة عنيفة للإسلام.
لو أنّ هذه الحروب قد قامت من أجل نصرة الإسلام فأيّة ثمار عظيمة كانت ستؤتي، وكم ستروي شجرة الإسلام وتعود بالنفع على المسلمين، ولحدثت روح جديدة في الإسلام ينفخها فيه عليّ عليه السلام بقوّته، ولعاد الحقّ يسير في مجراه الطبيعي؟
لكن وبناءً على قول جماعة من المؤرّخين فإنّ معركة صفّين قد وقعت بعد ستّة أشهر من معركة الجمل - أي أوّل ذي الحجّة سنة 36 - وانتهت في 13 صفر سنة 37، فلم تمض سنة على حكومة عليّ عليه السلام حتّى فرضت عليه حربان مهمّتان شعواءان: حرب الجمل وحرب صفّين، ولم تمض بعدهما فترة حتّى فرضت عليه معركة النهروان، ولذلك لم يدعوا عليّاً عليه السلام الّذي كان مع الحقّ والحقّ معه يطبّق الحقّ والمساواة في المجتمع، ويجري العدالة بحذافيرها بين النّاس.
مضى ما مضى، وألف أسف وغمّ، على أنّ الدنيا قد حرمت من أن تنهل من معين مثال الفضائل والتقوى - نعني عليّاً عليه السلام - وأخيراً قتلت تداعيات تلك الحروب عليّاً عليه السلام، وهو في محرابه لتسرق وإلى الأبد مثال العدل والمساواة والتقوى من المجتمع الإسلامي.
قال السيّد محسن الأمين في ذلك: صفّين هي من الحروب العظيمة الّتي وقعت في الإسلام، وقتل فيها من الفريقين مائة وعشرة آلاف على الأكثر، وسبعون ألفاً على الأقلّ، وكان الباعث عليها كالباعث على حرب الجمل، وهو حبّ الدنيا، والعداوة للرسول صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، ولو كانت هذه الحروب في نصرة الإسلام لجرّت على الإسلام خيراً كثيراً بقدر ما جرّت عليه من الضرر أو أكثر. [أعيان الشيعة 465:1].
ما معنى القاسطين؟
سمّي أهل صفّين بالقاسطين في حديث رسول اللَّه وعليّ عليهماالسلام.
[قال أمير المؤمنين عليه السلام: 'فَلَمّا نَهضتُ بالأمرِ نكثتْ طائفةٌ، ومَرَقَتْ اُخرى، وَقَسطَ آخرون' الخطبة 3 من نهج البلاغة الخطبة 3 "الشقشقية"].
والقسط: من مادة "قسط"، وهو العدل والمساواة، وفي لغة العرب قد تعطي الكلمة معنى مغايراً إذا تغيّرت صيغتها إلى باب آخر، فكلمة "نفق" - مثلاً - تعني الشقّ والحفرة والفاصلة، أمّا عندما تأتي على وزن "إفعال" أي كلمة "الإنفاق" فإنّها تعني طمّ الحفرة ومل ء الشقّ والفاصلة، والقاسط تعني الظالم والباغي، وهو يعاكس معنى العدل والقسط، فالظالم عدوّ العدالة.
وأهل صفّين الذين سمّوا بالقاسطين هم اُولئك الظالمون يظلمون جهراً ويسلبون حقوق النّاس، وكان كلّ همّهم القضاء على حقّ عليّ عليه السلام وعدالته، وهم الأعداء الذين يقابلون الخوارج.
كان معاوية هذا وعمرو بن العاص وأصحابهما يقاتلون الإسلام حتّى الأمس تحت راية هبل والعزّى، وواجهوا الإسلام المحمّدي بأحقاد الشرك والجاهلية، وهم اليوم يقاتلون عليّاً عليه السلام برفعهم المصاحف على رؤوس الرماح... هؤلاء هم نفس الأعداء لكنّهم حاربوا الإسلام بصور شتّى، ولمثل هؤلاء يقال: القاسطون.
سبب واقعة صفّين
لمّا انتهت حرب الجمل في البصرة ووضعت الحرب أوزارها، ورجع عليّ عليه السلام إلى الكوفة مظفّراً منصوراً، أرسل إلى جرير بن عبداللَّه البجلي، وكان عاملاً على همدان استعمله عثمان، وإلى الأشعث بن قيس، وكان على أذربيجان استعمله عثمان أيضاً، يأمرهما بأخذ البيعة والحضور عنده، وحضر جرير والأشعث عند عليّ عليه السلام.
وأراد عليّ عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولاً، فقال له جرير بن عبداللَّه البجلي: ابعثني إليه، فإنّه لم يزل لي مستنصحاً، فأدعوه إلى أن يسلّم لك الأمر على أن يكون أميراً من اُمرائك، وعاملاً من عمّالك ما عمل بطاعة اللَّه، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وجلّهم قومي وأهل بلادي، وقد رجوت أن لا يعصوني، فقال له الأشتر: لا تبعثه، فواللَّه إنّي لأظنّ هواه هواهم، فقال له عليّ عليه السلام: 'دعه حتّى ننظر ما يرجع به إلينا'، فبعثه وقال له: 'إنّ حولي من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أهل الدين والرأي مَن قد رأيت، وقد اخترتك عليهم، ائت معاوية بكتابى، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه وأعلمه أنّي لا أرضى به أميراً'.
[أعيان الشيعة 467:1].
و عنه أيضاً عن المبرّد أنّه قال: إنّ جريراً قال له: واللَّه - يا أمير المؤمنين - ما ادّخرك من نصرتي شيئاً، وما أطمع لك في معاوية، فقال عليّ عليه السلام: 'إنّما قصدي حجّة اُقيمها'.
فانطلق جرير حتّى أتى الشام ودخل على معاوية فقال:
أمّا بعد - يا معاوية - فإنّه قد اجتمع لابن عمّك أهل الحرمين وأهل المصرين، وأهل الحجاز، واليمن، ومصر، وأهل العروض، وعمان، وأهل البحرين، واليمامة، ولم يبق إلا هذه الحصون الّتي أنت بها، لو سال عليها سيل من أوديته أغرقها، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل، ودفع إليه كتاب عليّ بن أبي طالب، وفيه:
'بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أَمَّا بَعْدُ.. فَإِنَّ بَيْعَتِي بِالْمَدِينَةِ لَزِمَتْكَ وَأَنْتَ بِالشَّامِ؛ لِأَنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان عَلى مَا بُويِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ... وَإِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيرَ بَايَعَانِي ثُمَّ نَقَضَا بَيْعَتِي، وَكَانَ نَقْضُهُمَا كَرِدَّتِهِمَا، فَجَاهَدْتُهُمَا عَلى ذ لِكَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ.
فَادخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّ أَحَبَّ الْاُمُورِ إِلَيَّ فِيكَ الْعَافِيَةَ، إِلَّا أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ، فَإِنْ تَعَرَّضْتَ لَهُ قَاتَلْتُكَ وَاسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ....' إلى آخر الكتاب.
[أعيان الشيعة 467:1].
وجمع معاوية بعض مشاهير قومه، وأمرهم بإشاعة هذا الخبر فيما بين النّاس: أنّ عليّاً قتل عثمان، ومعاوية وليّ دم عثمان، فيجب الطلب بثأر عثمان ودمه، وأعانه على هذه الفكرة عمرو بن العاص، واشترط على معاوية أنّه إذا بايعه وأعانه على حرب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأخرجوا مصر من سلطة أمير المؤمنين عليه السلام يكون عمرو بن العاص والياً عليها، فبايعه على ذلك، وبايع أهل الشام معاوية أيضاً.
قال الطبري في رواية، فسار جرير إلى معاوية، فلمّا قدم عليه ماطله واستنظره واستشار عَمراً فأشار عليه أن يجمع أهل الشام، ويُلزم عليّاً دم عثمان ويقاتله بهم، ففعل معاوية ذلك، وكان أهل الشام لمّا قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الّذي قُتل فيه مخضوباً بالدم بأصابع زوجته - نائلة - إصبعان منها وشي ء من الكفّ وإصبعان مقطوعتان من اُصولهما ونصف الإبهام، وضع معاوية القميص على المنبر وجمع الأجناد إليه، فبكوا على القميص مدّة، وهو على المنبر والأصابع معلّقة فيه، وأقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسّهم الماء إلا للغسل من الجنابة، وأن يناموا على الفرش حتّى يقتلوا قتلة عثمان، ومن قام دونهم قتلوه، فلمّا عاد جرير بن عبداللَّه إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشام معه على قتاله، وأنّهم يبكون على عثمان ويقولون: إنّ عليّاً قتله وآوى قتلته، وإنّهم لا ينتهون عنه حتّى يقتلهم أو يقتلوه.
[تاريخ الطبري 561:3، وفي الكامل في التاريخ 359:2، نحوه].
مسير عليّ إلى صفّين
قال المسعودي: وكان سير عليّ عليه السلام من الكوفة إلى صفّين
[صفّين: اسم أرض كبيرة واسعة].
لخمس خلون من شوّال سنة ستّ وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر الأنصاري، فاجتاز في مسيره بالمدائن ثمّ أتى الأنبار وسار حتّى نزل الرقّة، فعُقد له هناك جسر فعبر إلى جانب الشام، وأمّا جيشه فقد تنوزع في مقدار ما كان معه من الجيش، فمكثّر ومقلّل، والمتّفق عليه من قول الجميع تسعون ألفاً.
[مروج الذهب 384:2].
وكتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمّاله في الآفاق يأمرهم بالمسير إليه، وحثّ النّاس على الجهاد معه، فكتب إلى مخنف بن سليم عامله على اصبهان وهمدان، فاستعمل مخنف على اصبهان وهمدان رجلين من قومه، وأقبل حتّى شهد معه صفّين، وكتب إلى عبداللَّه بن عبّاس إلى البصرة:
'أَمَّا بَعْدُ، فَأَشْخِصْ إِلَيَّ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَكِّرْهُمْ بَلَائِي عِنْدَهُمْ وَعَفْوِي عَنْهُمْ، وَاسْتِبْقَائِي لَهُمْ، وَرَغِّبْهُمْ فِي الْجِهَادِ وَأَعْلِمْهُمُ الَّذِي فِي ذ لِكَ مِنَ الْفَضْلِ'.
فقرأ عليهم ابن عبّاس كتاب عليّ عليه السلام وقال: أيّها النّاس، استعدّوا للمسير إلى إمامكم، وانفروا في سبيل اللَّه خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فإنّكم تقاتلون المحلّين القاسطين الذين لا يقرؤون القرآن، ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحقّ مع أمير المؤمنين، وابن عمّ رسول اللَّه عليهماالسلام، الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والصادع بالحقّ، والحاكم بحكم الكتاب، الّذي لا يداهن الفجّار، ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم... وأجاب النّاس إلى المسير، ونشطوا وخفّوا، فاستعمل ابن عبّاس على البصرة أبا الأسود الدؤلي، وقدم هو ومن معه على عليّ عليه السلام بالنخيلة.
وبقي عليّ عليه السلام بالنخيلة أيّاماً، وخطب النّاس ثمّ خرج من النخيلة لخمس مضين من شوّال يوم الأربعاء سنة 36ه، حتّى نزل على شاطئ البرس
[البُرس - بالضمّ -: بلدة بين الكوفة والحلّة]. وخطب بالنّاس، ثمّ سار حتّى نزل صفّين. [راجع تفصيله في أعيان الشيعة 479 - 475:1].
مسير معاوية إلى صفّين وسبقه عليّاً واستيلاؤه على الفرات
قال المسعودي: وسار معاوية من الشام، وقد تنوزع في مقدار من كان معه، فمكثّر ومقلّل، والمتّفق عليه من قول الجميع خمس وثمانون ألفاً، فسبق عليّاً عليه السلام إلى صفّين، وعسكر في موضع سهل أفْيَح اختاره قبل قدوم عليّ عليه السلام، على شريعة لم يكن على الفرات في ذلك الموضع أسهل منها للوارد إلى الماء، وما عداها أخراق عالية، ومواضع على الماء وعرة، ووكّل أبا الأعور السلمي بالشريعة مع أربعين ألفاً على مقدّمته، وبات عليّ عليه السلام وجيشه في البرّ عطاشى، قد حيل بينهم وبين الورود إلى الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إنّ عليّاً لا يموت عطشاً هو وتسعون ألفاً من أهل العراق وسيوفهم على عواتقهم، ولكن دَعْهُم يشربون ونشرب؟ فقال معاوية: لا اللَّه! أو يموتوا عطشاً كما مات عثمان - الحديث.
[مروج الذهب 384:2].
ثمّ قال: ولمّا وصل معاوية وجيشه إلى صفّين، وكان ورودهم قبل جيش عليّ عليه السلام، وَكّل أبا الأعور السلمي على الفرات مع أربعين ألفاً.
[المصدر السابق: 385].
ووصل مالك الاشتر ومعه أربعة آلاف رجل، وهم مقدّمة الجيش العلوي، فاصطدموا بأبي الأعور وأزالوهم عن الفرات، فوصل معاوية مع الجيش الجرّار، فانسحب الأشتر عن الفرات، فاستولى معاوي وأصحابه على شاطئ الفرات وصار الماء بأيديهم، فوصل الإمام ومعه مائة ألف إنسان ويزيدون، فأمر الإمام أن ينزلوا ويضعوا أثقالهم وأحمالهم، وتسرّع بعضهم إلى ناحية معاوية واقتتلوا قتالاً قليلاً.
[عليّ من المهد إلى اللحد: 332].
وروى نصر بن مزاحم: لمّا غلب أهلُ الشام على الفرات فرحوا بالغلبة، وقال معاوية: يا أهل الشام، هذا - واللَّه - أوّل الظفر، لا سقاني اللَّه، ولا أبا سفيان، إن شربوا منه أبداً حتّى يُقتلوا بأجمعهم عليه، وتباشر أهل الشام - الحديث. [وقعة صفّين: 163].
ارسال عليّ صعصعة إلى معاوية ليُخَلِّيَ بينه وبين الفرات
روى جمع من اهل السير و التاريخ: عن يوسف بن يزيد، عن عبداللَّه بن عوف الأحمر، قال: لمّا قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفّين وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه مستوياً بساطاً واسعاً، وأخذوا الشريعة فهي في أيديهم... ففزعنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرناه بذلك، فدعا صعصعة بن صوحان، فقال: 'ائت معاوية، وقل له: إنّا سرنا إليك مسيرنا هذا وإليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنّك قدّمت خيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالحرب، ونحن ممّن رأينا الكفَّ حتّى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه اُخرى قد فعلتموها، قد حُلْتُم بين النّاس وبين الماء، فخلِّ بينهم وبينه حتّى ننظر فيما بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم له، وإن كان أحبّ إليك أن ما جئتنا له وندع النّاس يقتتلون حتّى يكون الغالب هو الشارب، فعلنا'.
فلمّا مضى صعصعة برسالته إلى معاوية، قال معاوية لأصحابه: ما ترون؟
فقال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان، حصروه أربعين يوماً يمنعونه بَرْدَ الماء ولين الطعام، اقتلهم عطشاً قتلهم اللَّه!
وقال عمرو بن العاص: خَلّ بين القوم وبين الماء فإنّهم لن يعطشوا وأنتَ رَيّان، ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم، وأعاد الوليد مقالته.
وقال عبداللَّه بن سعيد بن أبي سرح - وكان أخا عثمان من الرضاعة -: امنعهم الماء إلى الليل، فإنّهم إن لم يقدروا عليه رجعوا، وكان رجوعهم هزيمتهم، امنعم الماء، منعهم اللَّه يوم القيامة!
فقال صعصعة بن صوحان: إنّما يمنعه اللَّه يوم القيامة الفجرة الكفرة شربة الخمر، ضربك
[ضربك: أي مثلك].
و ضرب هذا الفاسق، يعني الوليد بن عقبة، فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه، فقال معاوية: كفّوا عن الرجل، فإنّما هو رسول، قال عبداللَّه بن عوف بن أحمر: إنّ صعصعة لمّا رجع إلينا حدّثنا بما قال معاوية، وما كان منه، وما ردّه عليه، قلنا: وما الّذي ردّه عليك معاوية؟ قال: لمّا أردتُ الانصراف من عنده، قلت: ما ترد عليَّ؟ قال: سيأتيكم رأيي، قال: فواللَّه ما راعنا إلا تسوية الرجال والصفوف والخيل، فأرسل إلى أبي الأعور، امنعهم الماء، فازدلفنا واللَّه إليهم، فارتمينا واطّعنّا بالرماح، واضطربنا بالسيوف، فطال ذلك بيننا وبينهم حتّى صار الماء في أيدينا فقلنا: لا واللَّه! لا نسقيهم، فارسل إلينا عليّ عليه السلام: أن خذوا من الماء حاجتكم، وارجعوا إلى معسكركم، وخلّوا بينهم وبين الماء، فإنّ اللَّه قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.
[تاريخ الطبري 569:3، وشرح ابن أبي الحديد 317:3، والكامل في التاريخ 364:2].
مبيت عليّ وجيشه عطاشى
روى نصر بن مزاحم: ومكث أصحاب عليّ عليه السلام بغير ماء، واغتمّ عليّ عليه السلام بما فيه أهل العراق.
[وقعة صفّين: 164].
روى المسعودي: وبات عليّ عليه السلام وجيشه في البرّ عطاشى، قد حيل بينهم وبين الورود إلى الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إنّ عليّاً لا يموت عطشاً هو وتسعون ألفاً من أهل العراق وسيوفهم على عواتقهم، ولكن دعهم يشربون ونشرب؟ فقال معاوية: لا واللَّه! أو يموتون عطشاً كما مات عثمان.
وخرج عليّ عليه السلام يدور في عسكره بالليل فسمع قائلاً وهو يقول:
أيمنعنا القوم ماء الفرات*** وفينا عليّ وفينا الهدى
وفينا الصلاة وفينا الصيام*** وفينا المناجون تحت الدجى
ثمّ مرّ بآخر عند راية ربيعة وهو يقول:
أيمنعنا القوم ماء الفرات*** وفينا الرماح وفينا الحَجف
[الحَجف: جمع حجفة، وهي الترس من جلود الإبل يطارق بعضها في بعض].
وفينا عليّ له صولة*** إذا خَوّفوه الردى لم يخف
ونحن غداة لقينا الزبير*** وطلحَة خُضنا غِمار
التلف[الغمار: جمع غمرة، وهي الشدّة، إشارة إلى وقعة الجمل].
فما بالنا أمس اُسد العرين*** وما بالنا اليوم شاء النّجف
[شاء: جمع شاة. والنجف: الحلب الجيّد].
قال الراوي: فحرّك ذلك عليّاً عليه السلام، ثمّ مضى إلى رايات كندة، فإذا إنسان يُنشد إلى جانب منزل الأشعث وهو يقول:
لئن لم يُحَلَّ اليوممَ كُربَةً*** من الموت فيها للنفوس بقيَّةُ
فنشرب من ماء الفرات بسيفه*** فَهبنا اُناساً قبلَ ذاك فموَّتوا
قال: فلمّا سمع الأشعث قول الرجل قام فأتى عليّاً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنتَ فينا والسيوف في أيدينا، خلِّ عنّا وعن القوم، فواللَّه لا نرجع حتّى نرده أو نموت، ومُر الأشتر فيعلُوَ بخيله، ويقف حيث تأمره، فقال عليّ عليه السلام: 'ذلك إليكم'.
خطبة عليّ لأجل إخلاء شريعة الفرات
عندما لاحظ الإمام عليه السلام شدّة العطش في أصحابه، ولم يوثّر ما قاله صعصعة بن صوحان في معاوية وأصحابه، ولاحظ التجاوب والاستعداد من قِبل رؤساء أصحابه للقتال، خطب فيهم خطبة مؤثّرة ومهيّجة وقال:
'قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ؛ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ. أَ لَا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمْ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ'. [نهج البلاغة، الخطبة 51].
وفي هذا الكلام من الحسن واللطف ما لا يخفى؛ إذ من المعلوم أنّ الإقرار بالعجز والثبات على الذلّة مكروه بالطبع، والتروّي من الماء للعطاش محبوب بالطبع، والعاقل لا يختار المكروه على المحبوب قطعاً بل يُرجّحه عليه ويتوصّل إليه ولو بتروية سيفه من الدماء، فيكون القتال محبوباً عنده أيضاً مع كونه مكروهاً بالطبع من أجل إيصاله إلى المطلوب.
مروءة عليّ بعد تسلّطه على الشريعة
لمّا حرّض عليّ عليه السلام أصحابه بأخذ الماء من العدوّ وألا يكون على المذلّة والموت، قام الأشعث فأتى عليّاً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا، والسيوف في أيدينا! خلّ عنّا وعن القوم، فواللَّه! لا نرجع حتّى نرده أو نموت ومُر الأشتر فيعلو ويقف حيث تأمر، فقال عليّ عليه السلام: 'ذلك إليكم'. فرجع الأشعث فنادى في النّاس: من كان يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا فإنّي ناهض، فخرج اثنا عشر ألف رجل من قبيلة كندة وغيرهم واضعي سيوفهم على عواتقهم، وأقبل الأشتر بخيله، فحملوا على الفرات حملة واحدة، وأخذت أهل الشام السيوف، فولّوا مدبرين حتّى غمست خيل أمير المؤمنين سنابكها في الفرات واستولوا على الماء، وأزالوا أبا الأعور عن الشريعة، وأغرقوا منهم بشراً وخيلاً، وارتحل معاوية عن ذلك الموضع، ولمّا صار الماء بأيديهم قالوا: لا واللَّه! لا نسقيهم، فأرسل إليهم أمير المؤمنين عليه السلام: 'أن خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم، وخلّوا بينهم وبين الماء، فإنّ اللَّه قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم'، وقالوا له: امنعهم الماء كما منعوك.
قال عليه السلام: 'لا، خلّوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون'. واستأذنه معاوية في وروده المشرعة، واستقاء الناس من طريقه، ودخول رسله في عسكره، فأباحه عليّ عليه السلام كلّ ما سأل وطلب منه.
[راجع: شرح ابن أبي الحديد 323:3، ومروج الذهب 386:2].
سيرة عليّ في صفّين
كان عليّ عليه السلام بسيرته في صفّين يحاول المحافظة على السلم والسلام والأمان كما فعل في يوم الجمل، فلم يزل يرسل الأفراد إلى معاوية للتفاهم وحسم النزاع، وكان معاوية مصرّاً على الحرب والقتال.
روى المسعودي: ولمّا كان أوّل يوم من ذي الحجّة "بعد نزول عليّ عليه السلام على هذا الموضع بيومين" بعث إلى معاوية يدعوه إلى اتّحاد الكلمة والدخول في جماعة المسلمين، وطالت المراسلة بينهما، فاتّفقوا على الموادعة إلى آخر المحرّم من سنة سبع وثلاثين، وامتنع المسلمون عن الغزو في البحر والبرّ لشغلهم بالحروب، ولمّا كان في اليوم الآخر من المحرّم قبل غروب الشمس بعث عليّ عليه السلام إلى أهل الشام:
'إنّي قد احتججت عليكم بكتاب اللَّه ودعوتكم إليه، وإنّي قد نبذت إليكم على سواء، إنّ اللَّه لا يهدي كيد الخائنين'، فلم يردّوا عليه جواباً إلا السيف بيننا وبينك أو يهلك الأعجز منّا. [مروج الذهب 387:2].
بدء القتال، وما جرى بين عليّ وعمّار ومقتله
روى المسعودي في "مروج الذهب" قال "ما ملخّصه": وأصبح عليّ عليه السلام يوم الأربعاء - وكان أوّل يوم من صفر سنة 37ه - فعبّأ الجيش، وأخرج الأشتر أمام النّاس، وأخرج إليه معاوية - وقد تصافّ أهل الشام وأهل العراق - حبيب بن مسلمة الفهري، وكان بينهم قتال شديد جلّ النهار وانصرفوا.
فلمّا كان يوم الخميس - وهو اليوم الثاني - أخرج عليّ عليه السلام هاشم بن عتبة، وكان من شيعة عليّ عليه السلام، وأخرج إليه معاوية أبا الأعور السلمي فكانت بينهم الحرب سجالاً، وانصرفوا في آخر يومهم عن قتلى كثيرة.
وأخرج عليّ عليه السلام في اليوم الثالث - وهو يوم الجمعة - أبا اليقظان عمّار بن ياسر في عدّة من البدريّين وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وأخرج إليه معاوية عمرو بن العاص في تَنوخ وبَهْرَاء وغيرهما من أهل الشام، فكانت بينهم الحرب سِجالاً إلى الظهر، ثمّ حمل عمّار بن ياسر فيمن ذكرنا، فأزال عَمراً عن موضعه وألحقَه بعكسر معاوية، وأسفرت عن قتلى كثيرة من أهل الشام ودونهم من أهل العراق.
وأخرج عليّ عليه السلام في اليوم الرابع - وهو يوم السبت - ابنه محمّد بن الحنفيّة في همدان وغيرها، وأخرج إليه معاوية عبيداللَّه بن عمر بن الخطّاب، في حمير ولخم وجُذام فاقتتلوا في ذلك اليوم، وكانت على أهل الشام، ونجا ابن عمر في آخر النهار هرباً.
وأخرج عليّ عليه السلام يوم الأحد عبداللَّه بن العبّاس، وأخرج إليه معاوية الوليد بن عقبة بن أبي معيط و... حتّى خرج عليّ عليه السلام في اليوم الثامن بنفسه في الصحابة من البدريّين وغيرهم من المهاجرين والأنصار وربيعة وهمدان، وخرج معاوية في عدد أهل الشام فانصرفوا عند المساء وكلّ غير ظافر.
وكذا خرج عليّ عليه السلام يوم التاسع، وهو يوم الخميس، ومعاوية أيضاً، واقتتلوا وكثرت القتلى في ذلك اليوم... واشتعلت نار الحرب وقتل كثيرون من أصحاب عليّ وجنود معاوية في صفّين حتّى قتل عمّار بن ياسر. [راجع: مروج الذهب 392 - 387 :2].
روى الطبري عن أبي مخنف: عن عبداللَّه بن أبي حرّ الحنفي، قال: إنّ عمّار بن ياسر خرج إلى النّاس فقال: اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في أن أضع ظُبة سيفي في صدري ثمّ أنحني عليها حتّى تخرج من ظهري لفعلت، وإنّي لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أنّ عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته.
وقال الأزدي: سمعت عمّاراً يقول: واللَّه! إنّي لأرى قوماً ليضربنّكم ضرباً يرتاب منه المبطلون، وأيم اللَّه! لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر
[السعفات: جمع سعفة، وهي أغصان النخيل، وإنّما خصّ هَجَر للمباعدة في المسافة؛ ولأنّها موصوفة بكثرة النخيل - نهاية ابن الأثير 368:2].
لعلمنا أنّا على الحقّ، وأنّهم على الباطل. [تاريخ الطبري 26:4].
وروى المسعودي على نحو ما تقدّم، ثمّ قال: وتقدّم عمّار فقاتل، ثمّ رجع إلى موضعه فاستسقى، فأتته امرأة من نساء بني شيبان من مصافّهم بعُسٍّ فيه لبن فدفعته إليه، فقال: اللَّه أكبرُ، اليوم ألقى الأحبّة تحت الأسنّة، صدق الصادق، وبذلك أخبرني الناطق، وهو اليوم الّذي وُعدتُ فيه، ثمّ قال: أيّها النّاس، هل من رائح إلى اللَّه تحت العوالي؟ والّذي نفسي بيده، لنقاتلنّهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله، وتقدّم وهو يقول:
نحن ضربناكم على تنزيله*** فاليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يُزيل الهام عن مَقيله*** ويُذهل الخليلَ عن خليله
أو يرجعَ الحقّ إلى سبيله*** فتوسّط القوم، واشتبكت عليه الأسنّة، فقتله أبو العادية العاملي، وابن جَون السكسكي، وختلفا في سلبه، فاحتكما إلى عبداللَّه بن عمرو بن العاص، فقال لهما: اُخرجا عنّي، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'ووَلَعَتْ قريش بعمّار، ما لهم ولعمّار؟ يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النّار'، وكان قتله عند المساء، وله ثلاث وتسعون سنة، وقبره بصفّين، وصلّى عليه عليّ عليه السلام ولم يغسّله.
[مروج الذهب 391:2].
وفي "تاريخ الطبري": عن حبّة بن جوين العرني، قال: انطلقت أنا وأبو مسعود إلى حذيفة بالمدائن، فدخلنا عليه، فقال: مرحباً بكما ما خلفتما من قبائل العرب أحداً أحبّ إليَّ منكما فأسندته إلى أبي مسعود، فقلنا: يا أبا عبداللَّه، حَدّثْنا فإنّا نخاف الفتن؟ فقال حذيفة: عليكما بالفتنة الّتي فيها ابن سميّة - يعني عمّار - إنّي سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'قتلته الفئة الباغية، الناكبة عن الطريق، وإنّ آخر رزقه ضياح
[الضياح: اللبن الخاثِر، يُصبّ فيه الماء ثمّ يُخلط - نهاية ابن الأثير 107:3].
من لبن'، قال حبّة: فشهدته يوم صفّين وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا، فاُتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فلمّا أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال: اليوم ألقى الأحبّة محمّداً وحزبه، واللَّه لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل، وجعل يقول: الموت تحت الأسل
[الأسل: الرماح الطوال، وقد جعلها كناية عن الرماح والنبل معاً - النهاية 49:1].
والجنّة تحت البارقة. [تاريخ الطبري 27:4].
وقال السدّي: فبلغني أنّ معاوية قال: إنّما قتله من أخرجه، يخدع بذلك طغام أهل الشام.
[أعيان الشيعة 498:1. في نهاية ابن الأثير: في حديث عن عليّ عليه السلام: 'يا طَغام الأحلام، أي يا من لا عقل له ولا معرفة، وقيل: هم أوغاد النّاس وأراذلهم'].
و روى ابن الأثير عن عبدالرحمن السُّلمي، قال: لمّا قُتِل عمّار، دخلتُ عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا، وكنّا إذا تركنا القتال تحدّثوا إلينا وتحدّثنا إليهم، فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبداللَّه بن عمرو يتسايرون، فأدخلتُ فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون، فقال عبداللَّه لأبيه: يا أبه، قتلتم هذا الرجل في يومكن هذا، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما قال، قال: وما قال رسول اللَّه؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله لَبنة لَبنة، وعمّار لَبِنتين لَبِنتين فغشى عليه، فأتاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول لعمّار: 'ويحك - يابن سميّة - النّاس ينقلون لَبِنة لَبِنة وأنت تنقل لَبِنتين لَبِنتين رغبة في الأجر، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبداللَّه؟ قال: وما يقول؟ فأخبره.
فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنّما قتله من جاء به، فخرج النّاس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنّما قتل عمّار من جاء به، فلا أدري من كان أعجب، أهو أم هم.
[الكامل في التاريخ 382:2، وراجع نحوه في تذكرة الخواصّ: 90].
وفي رواية: فبلغ ذلك عليّاً عليه السلام فقال: 'ونحن قتلنا حمزة؛ لأنّا أخرجناه إلى اُحد!!' [تذكرة الخواصّ: 90].
نقل آخر من المجلسي
ولمّا كان يوم صفّين خرج عمّار بن ياسر رضى الله عنه إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال: يا أخا رسول اللَّه، أتأذن لي في القتال؟ فقال عليه السلام: 'مهلاً رحمك اللَّه'، فلمّا كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام، فأجابه بمثله، فأعاد عليه ثالثاً، فبكى أمير المؤمنين عليه السلام، فنظر إليه عمّار فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه اليوم الّذي وصفه رسول اللَّه؟ ونزل أمير المؤمنين عليه السلام عن بغلته وعانق عمّاراً وودّعه، وقال: 'يا أبا اليقظان، جزاك اللَّه عن نبيّك، وعن الإسلام خيراً، فنِعْمَ الأخ كنت، ونِعْم الصاحب كنت'، ثمّ بكى عليه السلام وبكى عمّار.
ثمّ قال: واللَّه يا أمير المؤمنين، ما اتّبعتك إلا ببصيرة، فإنّي سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول يوم خيبر "يوم حنين": 'يا عمّار، ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتّبع عليّاً عليه السلام وحزبه، فإنّه مع الحقّ والحقّ معه، وإنّك ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين'، فجزاك اللَّه - يا أمير المؤمنين - عن الإسلام أفضل الجزاء، لقد أدّيت وأبلغت ونصحت، ثمّ ركب وركب أمير المؤمنين، وبرز إلى القتال، ثمّ إنّه دعا بشربة من ماء، فقيل ما معنا ماء، فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن، فشربه، ثمّ قال: هكذا عهد إليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يكون آخر زادي شربة من لبن، ثمّ حمل على القوم فقتل ثماني عشرة نفساً، فخرج إليه رجلان من أهل الشام فطعناه، وقتل رحمه الله.
فلمّا كان في الليل، طاف أمير المؤمنين عليه السلام في القتلى فوجد عمّاراً ملقى بين القتلى، فجعل رأسه على فخذه، ثمّ بكى عليه السلام وأنشأ يقول:
'أَلا أَيُّها الْمَوْتُ الّذي لَيْس تاركي*** أَرِحْني فَقَدْ أَفْنَيْتَ كُلَّ خَلِيلِ
أَراك بَصيراً بِالذينَ اُحِبُّهُم*** كَأَنَّكَ تَسْعى نَحْوَهُم بِدَلِيلِ'
ليلة الهرير وانهزام جُند معاوية
[هرّ الكلب يهرُّ وراء أهله: أي يذبّ عنهم. وقد يطلق على صوت غير الكلب، ومنه هرير الرحى: صوت دورانها وهرير الحرب: شدّة زحامها، وهو هنا كناية عن شدّة القتال في تلك الليلة، وشدّة نباح جُند معاوية وضجّتهم من الخوف والكراهة، واللَّه العالم.
]
روى ابن الجوزي: عن هشام بن محمّد أنّه قال: لمّا قتل عمّار وهاشم المرقال بعده، قال عليّ عليه السلام لربيعة همدان: 'أنتم درعي ورمحي'، فانتدب له اثنا عشر ألفاً، وحمل القوم فانتقضت صفوف معاوية، وكان عليّ عليه السلام قد أخرج في ذلك اليوم لواء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يخرجه قبل ذلك، فدفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة، فلمّا رآه المسلمون صرخوا وبكا، واجتمع تحته أهل بدر والأنصار والمهاجرين، وقيس بن سعد يقول:
هذا اللواء الّذي كنّا نحفّ به*** دون النبيّ وجبريل لنا مدد
ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته *** أن لا يكون له من غيرهم عضد
[العيبة من الرجل: موضع السرّ].
ثمّ اتّصل القتال في الليل، وكانت ليلة الجمعة، فاقتتلوا طول الليل، وهي ليلة الهرير، الثامن والعشرون من صفر، تطاعنوا بالرماح حتّى تقصّفت، وكلّت السيوف، ونفد النبل، وخفيت الأصوات، وغابت الأخبار عن عليّ عليه السلام ومعاوية والاُمراء، ولم يسمع إلا الهرير يهرّ بعضهم على بعض، وأصبح النّاس والقتال بحاله، وابن عبّاس في الميمنة، والأشتر في الميسرة، وعليّ عليه السلام في القلب، فبعث إلى الأشتر: 'تقدّم'، وأمدّه بالرجال، فحمل حملة انتقضت منها صفوف معاوية وأيقن بالتلف، فالتفت إلى عمرو، وقال: هل من حيلة؟... فقال: ارفع المصاحف على الرماح ونادِ: بيننا وبينكم كتاب اللَّه، فما يزيدهم ذلك إلا فرقة ولا يزيدنا إلا اجتماعاً - الحديث. [تذكرة الخواصّ: 94].
قال أبان بن أبي عيّاش: وسمعت سليم يقول، وسألته هل شهدت صفّين؟ فقال: نعم، قلت: هل شهدت يوم الهرير؟ قال: نعم، قلت: كم كان أتى عليك من السنّ؟ قال: أربعون سنة، قلت: فحدّثني رحمك اللَّه؟ قال: نعم، مهما نسيت من شي ء من الأشياء فلا أنسى هذا الحديث، ثمّ بكى، وقال: صَفّوا وصففنا، فخرج مالك الأشتر على فرس أدهم وسلاحه معلّق على فرسه وبيده الرمح، وهو يقرع به رؤوسنا ويقول: أقيموا صفوفكم... فأقبل علينا بوجهه، فحمد اللَّه وأثنى على النبيّ صلى الله عليه و آله... ثمّ التقى القوم فكان بينهم أمر عظيم، فتفرّقوا عن سبعين ألف قتيل من جحاجحة العرب، وكانت الرقعة يوم الخميس من حيث استقلّت الشمس حتّى ذهب ثلث الليل الأوّل، ما سجد للَّه في ذينك العسكرين سجدة حتّى مرّت مواقيت الصلوات الأربعة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قال سليم: ثمّ إنّ عليّاً عليه السلام قام خطيباً فقال: 'أيّها النّاس، إنّه قد بلغ بكم ما رأيتم وبعدوّكم كمثله، فلم يبق إلا آخر نفس، وإنّ الاُمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتّى بلغوا فيكم ما قد بلغوا، وأنا غادٍ عليهم بالغداة إن شاء اللَّه ومحاكمهم إلى اللَّه'.
فبلغ ذلك معاوية، ففزع فزعاً شديداً، وانكسر هو وجميع أصحابه وأهل الشام لذلك، فدعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو، إنّما هي الليلة حتّى يغدو علينا، فما ترى؟ قال: أرى الرجال قد قلّوا، وما بقي فلا يقومون لرجاله، ولست مثله، وإنّما يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وليس يخاف أهل الشام عليّاً عليه السلام إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم، ولكن ألق إليهم أمراً، فإن ردّوه اختلفوا وإن قلبوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب اللَّه، وارفع المصاحف على رؤوس الرماح، فإنّك بالغ حاجتك، فإنّي لم أزل ادّخرها لك، فعرفها معاوية وقال: صدقت - الحديث.
[كتاب سُليم بن قيس: 1756، طبع مواسّسة البعثة].
خدعة معاوية ورفع المصاحف ونهاية القتال
اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر، وتوجّه الخطر إلى معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمكر، فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح، وأهل الشام ينادون بما تقدّم من كلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم: 'هذا كتاب اللَّه بيننا وبينكم'.
قال أبو مخنف: فلمّا رأى عمرو بن العاص أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ وخاف في ذلك الهلال، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم.
قال عمرو: نرفع المصاحف ثمّ نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: بلى ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا: بلى نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنّا، وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين، فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب اللَّه عزّ وجلّ بيننا وبينكم، مَن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومَن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلمّا رأى النّاس المصاحف قد رفعت، قالوا: نجيب إلى كتاب اللَّه وننيب إليه. [تاريخ الطبري 34:4].
وروى المسعودي: وكان الأشتر في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - على ميمنة عليّ عليه السلام، وقد أشرف على الفتح، ونادت مشيخة أهل الشام: يا معشر العرب، اللَّه اللَّه في الحرمات والنساء والبنات، وقال معاوية: هلمّ مخبّاتك - يابن العاص - فقد هلكنا، وتذكّر ولاية مصر.
فقال عمرو: أيّها النّاس، مَن كان معه مصحف فليرفعه على رُمحه، فكثر في الجيش رفع المصاحف، وارتفعت الضجّة، ونادوا: كتاب اللَّه بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومَن لثغور العراق بعد أهل العراق؟ ومَن لجهاد الروم؟ ومَن للترك؟ ومَن للكفّار؟ ورفع في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف، وفي ذلك يقول النجاشي بن الحارث:
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا*** عليها كتاب اللَّه خير قُرَان
ونادوا عليّاً! يابن عمّ محمّد*** أما تتّقي أن يَهلك الثقلانِ
فلمّا رأى كثير من أهل العراق ذلك قالوا: نُجيب إلى كتاب اللَّه ونُنيب إليه، وأحبّ القوم الموادعة.
وقيل لعليّ عليه السلام: قد أعطاك معاوية الحقّ، ودعاك إلى كتاب اللَّه فأقبل منه، وكان أشدّهم في ذلك الأشعث بن قيس.
[مروج الذهب 400:3، وفي الكامل 386:2، نحوه].
و روى الطبري: عن جندب الأزدي: إنّ عليّاً عليه السلام قال: 'عباد اللَّه، امضوا على حقّكم وصدقكم، وقتال عدوّكم، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثمّ رجالاً، فكانوا شرّ أطفال وشرّرجال، ويحكم إنّهم ما رفعوها ثمّ لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيه وما رفعوها لكم إلا خديعة ووهناً [في المصدر: 'دهناً']
ومكيدة'. [تاريخ الطبري 34:4].وعن ابن الأثير بعد نقل خديعة معاوية ورفع المصاحف، قال: فقالوا لعليّ عليه السلام: ابعث إلى الأشتر فليأتك تستدعيه، فبعث عليّ يزيد بن هاني إلى الأشتر يستدعيه، فقال الأشتر: ليست هذه الساعة بالساعة الّتي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي، إنّي قد رجوتُ أن يفتح اللَّه لي، فرجع يزيد فأخبره وارتفعت الأصوات، وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: واللَّه! ما نراك إلا أمرته أن يقاتل؟ فقال عليّ عليه السلام: 'هل رأيتموني ساررته؟ أليس كلّمتُه على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟'، قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا واللَّه اعتزلناك!! فقال له: 'ويلك - يا يزيد - قل له: أقبل إليَّ فإنّ الفتنة قد وقعت؟' فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم، قال: واللَّه، لقد ظننت أنّما ستوقع اختلافاً وفرقة! إنّها مشورة ابن العاهر
[كذا في الكامل، وفي تاريخ الطبري: 'ابن العاهرة'، وفي وقعة صفّين: 'ابن النابغة'، وهو عمرو بن العاص].
ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع اللَّه لنا؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم.
فقال له يزيد: أتحبّ أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم إلى عدوّه أو يُقتل؟ قال: لا واللَّه، سبحان اللَّه، فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: يا أهل العراق، يا أهل الذلّ والوهن! أحين علوتم القوم وظنّوا أنّكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وهم واللَّه قد تركوا ما أمر اللَّه به فيها، وسنّة من اُنزلت عليه؟ فأمهلوني فواقاً فإنّي أحسستُ بالفتح؟ قالوا: لا، قال: أمهلوني عدو الفرس، فإنّي قد طمعتُ في النصر؟ قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك - الحديث.
عدة قتلى صفّين ومدة القتال
استمرّت الحرب من يوم شروعها إلى صبيحة ليلة الهرير مائة وعشرة أيّام، وبلغ عدد القتلى من أهل الشام تسعين ألفاً، ومن أهل العراق عشرين ألفاً، والمجموع مائة وعشرة آلاف. [مروج الذهب 404:2].
ذكر الحكمين وبدء التحكيم
نقل ابن الأثير في تاريخه: جاء الأشعث بن قيس إلى عليّ عليه السلام فقال: أرى النّاس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيتُ معاوية فسألته ما يريد؟
قال عليه السلام: 'ائته'، فأتاه فقال لمعاوية: لأي شي ءٍ رفعتم هذه المصاحف؟ قال معاوية: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر اللَّه به في كتابه، تبعثون رجلاً ترضون به، ونبعث رجلاً نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب اللَّه لا يعدوانه، ثمّ نتّبع ما اتّفقنا عليه!! قال له الأشعث: هذا هو الحقّ، فعاد إلى عليّ عليه السلام فأخبره، فقال النّاس: قد رضينا وقبلنا. فقال أهل الشام: قد رضينا عَمراً. وقال الأشعث واُولئك القوم الذين صاروا خوارج: إنّا قد رضينا بأبي موسى الأشعري.
فقال عليّ عليه السلام: 'قد عصيتموني في أوّل الأمر فلا تعصوني الآن، لا أرى أنّ اُوَلِّي أبا موسى'.
فقال الأشعث وزيد بن حُصين ومِسعَر بن فَدكي: لا نرضى إلا به، فإنّه قد حذَّرنا ما وقعنا به.
قال عليّ عليه السلام: 'فإنّه ليس بثقة، قد فارقني وخذَّل النّاس عنّي، ثمّ هرب منّي حتّى أمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عبّاس اُوَلِّيه ذلك'، قالوا: واللَّه لا نبالي أنت كنت أم ابن عبّاس! لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، قال عليّ عليه السلام: 'فإنّي أجعل الأشتر'، قالوا: وهل سعّر الأرض غير الأشتر؟ فقال: 'قد أبيتم إلا أبا موسى؟'، قالوا: نعم. قال: 'فاصنعوا ما أردتم'.
فبعثوا إلى أبي موسى الأشعري، وقد اعتزل القتال وهو بِعُرُضٍ، فأتاه مولى له فقال: إنّ النّاس قد اصطلحوا. فقال: الحمد للَّه، قال: قد جعلوك حكماً؟ قال: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، وجاء أبو موسى حتّى دخل العسكر... وحضر عمرو بن العاص عند عليّ عليه السلام ليكتب القضيّة بحضوره، فكتبوا:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم: هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وأمّا أميرنا فلا.
فقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين، فإنّي أخافُ إن محوتها أن لا ترجع إليك أبداً، لا تمحها وإن قتل النّاس بعضهم بعضاً، فأبى ذلك عليّ عليه السلام مليّاً من النّهار، ثمّ إنّ الأشعث قال: امح هذا الاسم، فَمُحي.
فقال عليّ عليه السلام: 'اللَّه أكبر! سنّة بسنّة، واللَّه إنّي لكاتب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم الحديبية فكتبتُ: محمّد رسول اللَّه، وقالوا: لستَ برسول اللَّه؟! ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمحوه، فقلت: لا أستطيع، فقال: أرنيه؟ فأريته، فمحاه بيده وقال: إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب'.
فقال عمرو بن العاص: سبحان اللَّه! أنُشَبَّه بالكفّار ونحن مؤمنون! فقال عليّ عليه السلام: 'يابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليّاً، وللمؤمنين عدوّاً؟'، فقال عمرو "لعنه اللَّه": واللَّه! لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً، فقال عليّ عليه السلام: 'إنّي لأرجو أن يطهّر اللَّه مجلسي منك ومن أشباهك'.
وكُتب الكتاب: 'هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي عليّ عليهماالسلام على أهل الكوفة ومَن معهم، وقاضي معاوية على أهل الشام ومَن معهم: إنّنا ننزل عند حكم اللَّه وكتابه، وأن لا يجمع بيننا غيره، وأنّ كتاب اللَّه بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحَكَمان في كتاب اللَّه - وهما أبو موسى الأشعري عبداللَّه بن قيس، وعمرو بن العاص - عملا به، وما لم يجداه في كتاب اللَّه فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرِّقة... وأجل القضاء إلى رمضان وإن أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه، وإنّ مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام'.
ظهور مقالة الخوارج بعد صحيفة الصلح
روى المسعودي في "تاريخه" ما ملخّصه: وكان فيما كتب في الصحيفة أنّ يُحيي الحكمان ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، ولا يتّبعان الهوى ولا يُداهنان في شي ء وصيّروا الأجل إلى شهر رمضان على اجتماع الحكمين في موضع بين الكوفة والشام، وكان الوقت الّذي كتبت فيه الصحيفة لأيّام بقين من صفر سنة سبع وثلاثين [وفي الكامل في التاريخ "389:2"، وتاريخ الطبري "40:4": وكُتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة 37، واتّفقوا على أن يوافي أمير المؤمنين عليّ عليه السلام موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان].
وقيل بعد هذا الشهر من سنة 37ه.
ومرّ الأشعث بالصحيفة يقرؤها على النّاس فرحاً مسروراً حتّى انتهى إلى مجلس بني تميم، وفيه جماعة من زعمائهم فقرأها عليهم، فجرى بين الأشعث واُناس منهم خطب طويلة، وإنّ الأشعث كان بدأ هذا الأمر والمانع لهم من قتال عدوّهم حتّى يفيئوا إلى أمر اللَّه، قال له عروة بن أدَيه التميمي: أتحكّمون في دين اللَّه وأمره ونهيه الرجال؟ لا حكم إلا للَّه، فكان أوّل من قالها وحكم بها، وقد تنوزع في ذلك وشدّ بسيفه على الأشعث فضمّ فرسه عن الضربة، فوقعت في عجز الفرس ونجا الأشعث.
[مروج الذهب 404:2].
ومرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم فقال رجل منهم: لا حكم إلا للَّه يقضي بالحقّ وهو خير الفاصلين، ومرّ برايات عنزة وكان منهم بصفّين مع عليّ أربعة آلاف مجفّف، فقرأها عليهم، فقال معدان وجعد العنزيان فتيان اخوان منهم: لا حكم إلا للَّه.
ثمّ رجع الأشعث إلى عليّ عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام وأهل العراق، فقالوا جميعاً: قد رضينا حتّى مررت برايات بني راسب ونبذ من النّاس سواهم، فقالوا: لا نرضى، لا حكم إلا للَّه.
وظنّ عليّ عليه السلام أنّهم قليلون لا يعبأ بهم، فما راعه إلا نداء النّاس من كلّ جهة: لا حكم إلا للَّه، الحكم للَّه يا عليّ لا لك، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين اللَّه، إنّ اللَّه قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم - الخبر.
رجوع عليّ إلى الكوفة واعتزال الخوارج
روى المدائني في "وقعة صفّين" عن نصر بن مزاحم، عن عبدالرحمن بن جندب، قال: لمّا أقبل عليّ عليه السلام من صفّين أقبلنا معه. قال نصر: ورجع أمير المؤمنين إلى الكوفة، فأخذ طريقاً غير الطريق الّذي أقبلنا فيه، فقال عليه السلام: 'آئبون عابدون، لربّنا حامدون، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في المال والأهل'، ثمّ أخذ بنا طريق البرّ على شاطئ الفرات، حتّى انتهينا إلى هيت، و أخذنا على صندوداء، فخرج الأنماريّون بنو سعيد بن حزيم، واستقبلوه فعرضوا عليه النزول فلم يقبل، فبات بها، ثمّ غدا حتّى جزنا النخيلة ورأينا بيوت الكوفة... فلم يزل يذكر اللَّه حتّى دخل الكوفة.
[وقعة صفّين: 528، وراجع أعيان الشيعة 515:1].
قال المسعودي: فلمّا دخل عليّ "سلام اللَّه عليه" الكوفة انحاز عنه اثنا عشر ألفاً من القرّاء وغيرهم، فلحقوا بحروراء - قرية من قرى الكوفة - وجعلوا عليهم شبث بن ربعي التميمي، وعلى صلاتهم عبداللَّه بن الكوّاء اليشكري من بكر بن وائل، فخرج عليّ عليه السلام إليهم وكانت له معهم مناظرات، فدخلوا جميعاً الكوفة، وإنّما سمّوا الحرورية لاجتماعهم في هذه القرية وانحيازهم إليها.
[مروج الذهب 405:2].
وفي "الكامل لابن الأثير": ولمّا رجع عليّ عليه السلام من صفّين فارقه الخوارج وأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، ونادى مناديهم: إنّ أمير القتال شبثُ بن ربعي التميمي، وأميرَ الصلاة عبدُاللَّه بن الكوّاء اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة للَّه تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلمّا سمع عليّ عليه السلام ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية نحن أولياء مَن واليتَ، وأعداء مَن عاديتَ، فقالت خوارج: استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهلُ الشام معاويةَ على ما أحبّوا وكرهوا، وبايعتم أنتم عليّاً على أنّكم أولياء من والى، وأعداء مَن عادى، فقال لهم زياد بن النضر: واللَّه! ما بسط عليّ عليه السلام يَده فبايعناه قطّ، إلا على كتاب اللَّه وسنّة نبيّه، ولكنّكم لمّا خالفتموه جاءته شيعة فقالوا له: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحقّ، والهدى مَن خالفه ضالّ مضلّ.
وبعث عليّ عليه السلام عبداللَّه بن عبّاس إلى الخوارج، وقال: 'لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتّى آتيك'، فخرج إليهم يكلّمونه، فلم يصبر حتى راجعهم...
اجتماع الحكمين بدومة الجندل
روى الطبري و ابن مسعود: كان "اجتماع الحكمين بدومة الجندل" في شعبان سنة 38 من الهجرة.
[تاريخ الطبري 52:4، ومروج الذهب 406:2، والصواب أنّه كان في شعبان 37ه].
قال علماء السير والتاريخ: ولمّا جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل عليٌّ عليه السلام أربعمائة رجل، عليهم شريح بن هاني الحارثى، وبعث معهم عبداللَّه بن عبّاس، وهو يصلّي بهم ويلي اُمورهم، وأبو موسى الأشعري معهم، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام حتّى توافدوا بدومة الجندل بأذرح.
[الكامل في التاريخ 394:2، وتاريخ الطبري 49:4، وتذكرة الخواصّ: 97].
عليّ ونصيحته لعمرو بن العاص
على ما نقله بعض المورخين: أنّ عليّاً عليه السلام أوصى شريح بن هاني أن يقول لعمرو بن العاص: أنّ عليّاً يقول لك: 'إنّ أفضل النّاس عند اللَّه عزّ وجلّ مَن كان العملُ بالحقّ أحبّ إليه، وإن نقصه من الباطل وإن زاده، يا عمرو، واللَّه إنّك لتعلم أين موضع الحقّ، فَلِمَ تتجاهل؟! وإن اُوتيتَ طمعاً يسيراً كنت للَّه به ولأولايائه عدوّاً وكأنّ واللَّه ما اُوتيتَ قد زال عنك، ويحك فلا تكن للخائنين خصيماً.
[الخصيم هنا بمعنى المدافع، أي لا تكن مدافعاً وحامياً للخائنين، وهو اقتباس من قوله تعالى في سورة النساء: 105: 'إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً'].
وللظالمين ظهيراً، أما إنّي أعلم بيومك الّذي أنت فيه نادم وهو يوم وفاتك، تتمنّى أنّك لم تُظهر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة'، فلمّا بلغه تغيّر وجهه، ثمّ قال: متى كنتُ أقبل مشورة عليّ، أو أنتهي إلى أمره، أو أعتدّ برأيه؟ فقال له شريح: وما يمنعك - يابن النابغة - أن تقبل من مولاك وسيّد المسلمين بعد نبيّهم مشورته؟ - الحديث. [راجع: تاريخ الطبري 50:4، والكامل في التاريخ 394:2].
نصيحة ابن عبّاس لأبي موسى الأشعري
روى ابن ابى الحديد عن المدائني: لمّا أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى، وأحضروه للتحكيم على كُرهٍ من عليّ عليه السلام، أتاه عبداللَّه بن عبّاس وعنده وجوه النّاس وأشرافهم، فقال له: يا أبا موسى، إنّ النّاس لم يرضوا بك، ولم يجتمعوا عليك لفضلٍ لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدّمين قبلك! ولكنّ أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحَكَمُ يمانيّاً، ورأوا أنّ معظم أهل الشام يمانٍ، وأيمُ اللَّه إنّي لأظنّ ذلك شرّاً لك ولنا، فإنّه قد ضُمّ إليك داهية العرب، وليس في معاوية خلّة يستحقّ بها الخلافة، وساق الكلام في ذلك إلى أن قال: وإنّ عليّاً بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وإنّها بيعة هدى، وإنّه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين.
فقال أبو موسى: رحمك اللَّه، واللَّه ما لي إمامٌ غير عليّ، وإنّي لواقف عند ما رأى، وإنّ حقّ اللَّه أحبُّ إليَّ من رضا معاوية وأهل الشام، وما أنت وأنا إلا باللَّه.
نقاش الحكمين ونتيجة التحكيم وخدعة عمرو لأبي موسى
روى أهل السير والتاريخ: أنّه لمّا اجتمع الحكمان قال عمرو: يا أبا موسى، ألستتعلم أنّ عثمان قُتل مظلوماً؟ قال أبو موسى: أشهد. قال عمرو: ألست تعلم أنّ معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال أبو موسى: بلى، قال عمرو: فما يمنعك منه وبيته في قريش كما قد علمتَ؟ فإن خفت أن يقول النّاس: ليست له سابقة، فقل: وجدته وليّ عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه، الحسن السياسة والتدبير، وهو أخو اُمّ حبيبة زوج رسول اللَّه وكاتبه، وقد صحبه وعرض له بسلطان.
فقال أبو موسى: يا عمرو، اتّق اللَّه، فأمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فإنّ هذا ليس على الشرف تولاه أهله، إلى أن يقال: وأمّا تعريضك لي بالسلطان، فواللَّه لو خرج معاوية لي من سلطانه كلّه لما ولّيته، وما كنتُ لأرتشي في حكم اللَّه، ولكنّك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطّاب؟ قال له عمرو: فما يمنعك من ابني وأنتم تعلم فضله وصلاحه؟ فقال: إنّ ابنك رجلُ صدق، ولكنّك قد غمسته في هذه الفتنة. فقال عمرو: إنّ هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل يأكل ويطعم، وكانت في ابن عمر غفلة، وكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه في الكلام يقول له: أنت صاحب رسول اللَّه، وأسنّ منّي، فتكلّم، وتعوّد ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كلّه أن يقدّمه في خلع عليّ عليه السلام، فلمّا أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى، وأراد أبو موسى ابن عمر فأبى عمرو، قال له عمرو: خبّرني ما رأيك؟ قال: أرى أن تخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم مَن أحبّوا، فقال عمرو: الرأي ما رأيت، فأقبلا إلى النّاس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى، أعلمهم إنّ رأينا قد اتّفق، فتكلّم أبو موسى، فقال: إنّ رأينا قد اتّفق على أمر نرجو أن يُصلح اللَّهُ به أمر هذه الاُمّة، فقال عمرو: صَدَقَ وبرّ، تقدّم يا أبا موسى فتكلّم، فتقدّم أبو موسى فقال له ابن عبّاس: ويحك! إنّي لأظنّه قد خدعك، إن كنتما اتّفقتما على أمرٍ فقدمه فليتكلّم به قبلك ثمّ تكلّم به بعده، فإنّه رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما، فإذا قمتَ في النّاس خالفك؟ وكان أبو موسى مغفّلاً، فقال: إنّا قد اتّفقنا.
ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة، فلم نرَ أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية، ويُولّي النّاس أمرهم مَن أحبّوا، وإنّي قد خلتُ عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه أهلاً، ثمّ تنحّى.
وأقبل عمرو بن العاص، فقام وقال: إنّ هذا قد قال ما سمعتموه، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، واُثبت صاحبي معاوية، فإنّه ولي ابن عفّان، والطالبُ بدمه، وأحقّ النّاس بمقامه.
إلى أن قال: وقال عبدالرحمن بن أبي بكر: لو مات الأشعري قبل هذا اليوم لكان خيراً له.
وقال أبو موسى الأشعري لعمرو بن العاص: لا وفّقك اللَّه، غدرتَ وفجرتَ، إنّما مثلك 'كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ'.
[سورة الأعراف: 176].
و قال عمرو لأبي موسى: إنّما مثلك 'كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً'
[سورة الجمعة:5].
فحمل شريح بن هاني على عمرو فضربه بالسوط، وحمل ابن عمرو على شريح فضربه بالسوط أيضاً، وحجز النّاس بينهم، وكان شريح يقول بعد ذلك: ما ندمتُ على شي ء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ولم أضربه بالسيف.
هرب أبي موسى إلى مكّة
ذكر ابن الاثير في تاريخه: والتمس أهل الشام أبا موسى، فهرب إلى مكّة، ثمّ انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عبّاس وشريح إلى عليّ. [الكامل في التاريخ 397:2].
ما جرى بين عليّ وأصحابه بعد قصّة التحكيم
لمّا بلغ عليّاً عليه السلام ما كان من أمر أبي موسى وعمرو، قال: 'إنّي كنتُ تقدّمت اليكم في هذه الحكومة، ونهيتكم عنها، فأبيتم إلا عصياني، فكيف رأيتم عاقبة أمركم إذ أبيتم عليّ؟ واللَّه! إنّي لأعرف من حملكم على خلافي، والترك لأمري، ولو أشاء أخذه لفعلت، ولكنّ اللَّه من ورائه - يريد بذلك الأشعث بن قيس - واللَّه أعلم، وكنت فيما أمرت به كما قال أخو بني خثعم:
أَمَرْتُكُمُ أَمْرِي بمُنْعَرَجِ اللِّوَى*** فَلَمْ تَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ
[وفي نهج البلاغة "الخطبة 35": 'فلم يستبينوا النُّصح إلا ضحى الغدِ'].
إِلَّا ضُحى الْغَدِ'
من دعا إلى هذه الحكومة فاقتلوه قتله اللَّه، ولو كان تحت عمامتى هذه
[يعني: ولو كان الداعي إلى الحكومة أنا بنفسي أيضاً].
ألا إنّ هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم اللَّه وحكما بهوى أنفسهما بغير حجّة ولا حقّ معروفٍ، فأماتا ما أحيا القرآن، وأحييا ما أماته، واختلف في حكمهما كلامهما، ولم يرشدهما إليه ولم يوفّقهما، فبرئ اللَّه منهما ورسوله وصالح المؤمنين، فتأهّبوا للجهاد، واستعدوا للمسير، وأصبحوا في عساكركم إن شاء اللَّه'. [مروج الذهب 412:2].
عليّ في حرب النهروان
'أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنيِّ فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِى ءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا "ظلمتها"، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا'.
من هم أهل النهروان؟
هم المارقون [كلمة المارق مأخذوة من حديث نبوي نقله مسلم بن الحجّاج في صحيحه وأبو داود، عن زيد بن وهب - كان في الجيش الّذي كان مع عليّ عليه السلام - فقال عليّ عليه السلام: 'أيّها النّاس، إنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: يخرج قوم من اُمّتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشي ء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشي ء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشي ء، يقرؤون القرآن يحسبون أنّه لهم وهو عليهم، ولا يجاوز قراءتهم تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية' - راجع: شرح نهج البلاغة للخوسي 120:4، وشرح ابن أبي الحديد 266:2 و 269].
وهم الخوارج الذين خرجوا على إمام المسلمين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وبغوا عليه، وكانوا إلى يوم النهروان من شيعة عليّ عليه السلام وجاهدوا في ركابه ولم يكونوا من الناكثين ولا من أيادي معاوية، بل كانوا في ركابه عليه السلام في الجمل وصفّين، يعتقدون بالإسلام والقرآن والإمامة، لكن منشأ هذا الانحراف فيهم أنّه كان من صفاتهم: الجهل، والتعصّب، والخشونة، والتحجّر، وعدم إدراك الواقع، وعدم تمييز الحقّ عن الباطل، وعدم البصيرة في الواقعيّات والمصالح الموجودة، ولا يستضيئون ممّن هو أهل لذلك، أعني عليّاً عليه السلام.
ومن صفاتهم الاُخرى أنّهم سريعو التأثّر، ويخدعون بالشائعات، ومَثَلُهُم كما في الحديث: 'همجٌ رِعاع، يَمِيلونَ مع كلِّ رِيح'.
ومن صفتهم الثالثة أنّه تتزلزل عقيدتهم بمجرّد رؤية شي ء يوجب الشكّ والترديد، ولذا رأيناهم في صفّين حين غلبة الأشتر على جيش معاوية وتقرّبه من مضرب معاوية، وتمسّك معاوية بحيلة رفع المصاحف الكريمة بالرماح، سلّموا وتردّدوا في اعتقادهم بعليّ عليه السلام، وأشاروا على عليّ عليه السلام بأنّه لا يجوز السيف على القرآن، ومهما أصرّ عليّ عليه السلام: 'بأنّي أنا القرآن الناطق، وهذه حيلة أحدثها معاوية وعمرو بن العاص'، لم يقبلوا منه وأجبروا عليّاً عليه السلام بأن يأمر مالك الأشتر أن يرجع ويوقف الحرب.
ومن صفاتهم أيضاً التحجّر والتمسّك بالظواهر، ولم يتوجّهوا إلى بواطن الاُمور والحقائق، بل توجّهوا إلى ظاهر القرآن، ولم يتوجّهوا إلى حقيقة القرآن المتجسّدة في عليّ عليه السلام.
ونتيجة هذا العمل ضعف جانب عليّ عليه السلام وتقوية معاوية وجيشه، ثمّ أصروا على عليّ عليه السلام بقبول التحكيم وبعث أبي موسى الأشعري، وجرى ما جرى، وكان نتيجة ذلك عزل إمام المسلمين عن إمامته من قِبل أبي موسى، وتثبيت معاوية على حكومته من قِبل عمرو بن العاص.
ثمّ التفت الخوارج إلى أنّ حاصل التحكيم والحكومة كانت في ضررهم وضرر الإسلام، فهجموا على عليّ عليه السلام وقالوا: نحن لا نفهم، فلماذا أصغيت - يا عليّ - لنا؟ فيجب عليك أن تتوب ممّا عملت، ولم يكتفوا بذلك بل قالوا: لا بدّ أن تعترف بالذنب والكفر ثمّ تتوب!
ومعلوم أنّ هذا الاعتراف من عليّ عليه السلام لا يمكن أن يكون؛ لأنّه لم يذنب بل - كما وصفه هو - أنّه خطأ سياسي فُرض عليه ولم يرض به، وهو حاصل من إصرار نفس الخوارج لا بميل عليّ "صلوات اللَّه عليه".
غير أنّ هؤلاء الحمقى المتعصّبين الجهلاء لم يقبلوا من عليّ ووقفوا بوجهه عليه السلام، وفرّقوا صفوف المسلمين، فأصبح أنصار عليّ عليه السلام بالأمس أعداءه اليوم، فصاروا سبباً لضعف الإسلام المحمّدي الأصيل وتقوية الكفر، أي معاوية ومَن بعده من الحُكّام الظلمة.
وأخيراً اجتمع أربعة آلاف نفر من المصلّين المتنسّكين في النهروان، وقال عليّ عليه السلام: 'واللَّهِ لا يَفلُتْ مِنْهُمْ عَشْرة، وَلا يهلك مِنكم عشرة'
[نهج البلاغة، الخطبة 58].
وكان الجهاد عليهم وقتلهم ثواباً وحسنة، ومن أفضل الجهال الشهادة في ركابه عليه السلام.
[في شرح ابن أبي الحديد "265:2 و 267": قد تظافرت الأخبار حتّى بلغت حدّ التواتر بما وعد اللَّه تعالى قاتلي الخوارج من الثواب على لسان رسوله صلى الله عليه و آله، وفي بعض الصحاح أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: 'يقتلهم أولى الفريقين بالحقّ'، وسيأتي كلام عليّ عليه السلام في ذلك].
اخبار رسول اللَّه بالخوارج
كان النبيّ صلى الله عليه و آله يخبر عليّاً عليه السلام بما سيقع في المستقبل من حوادث لئلا يقع الناس في الانحراف، وكان يوضّح ذلك للنّاس ليكونوا على بيّنة من الصراط المستقيم، ولئلا ينحرفوا عن جادّة الصواب، وكان من جملة تلك القضايا قضيّة الخوارج، وقد أشار إليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وفيما يلي نذكر بعض الأخبار في هذا الصدد:
1 - عن "صحيح البخاري"، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'يخرج في هذه الاُمّة - ولم يقل منها - قوم تحقّرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن ولا يجاوز حلوقهم - أو قال: حناجرهم - يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية'.
[الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 111].
2 - روى بعض المحدّثين: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لأصحابه يوماً: 'إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله'، فقال أبو بكر: أنا يا رسول اللَّه؟ فقال صلى الله عليه و آله: 'لا'، فقال عمر: أنا يا رسول اللَّه؟ فقال صلى الله عليه و آله: 'لا، بل خاصف النعل'، وأشار إلى عليّ.
[راجع: شرح ابن أبي الحديد 277:2، وينابيع المودّة: 59].
3 - وروى ابن عساكر الشافعي: عن أبي سعيد، قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من باب بيوت أزواجه فانقطع من نعله شسع أو غيره، قال: فرمى به إلى عليّ بن أبي طالب وقال: 'إنّ منكم مَن سيضرب على تأويله كما ضربتُ على تنزيله'، قال: فقال رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أنا هو؟ قال: 'لا، هو صاحب النعل'.
قال أبوسعيد: أنا بشّرت بها عليّاً فما رأيته اكترث لذلك، كأنّه قد علم به قبل ذلك.
[تاريخ دمشق 128:2، ح 1169، وراجع ح 1170 و 1172].
4 - وفي المستدرك: عن "دعائم الإسلام"، عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنّه خطب بالكوفة، فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا للَّه، فسكت أمير المؤمنين، ثمّ قام آخر وآخر، فلمّا أكثروا، قال عليه السلام: 'كلمة حقّ يراد بها باطل'، لكم عندنا ثلاث خصال؛ لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفي ء ما كانت أيديكم في أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتّى تبدؤونا، وأشهد لقد أخبرني النبيّ الصادق صلى الله عليه و آله عن الروح الأمين، عن ربّ العالمين، أنّه لا يخرج منكم من فئة قلّت أو كثرت إلى يوم القيامة إلا جعل اللَّه حتفها على أيدينا، وإنّ أفضل الجهاد جهادكم، وأفضل المجاهدين مَن قَتَلكم، وأفضل الشهداء مَن من قتلتموه، فاعملوا ما أنتم عاملون، فيوم القيامة يخسر المبطلون، ولكلّ نبأ مستقرّ فسوف تعلمون'.
[مستدرك الوسائل 254:2].
5 - وفي الصحاح المتّفق عليها: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بينا هو يقسّم قَسْماً "غنائم حنين" جاء رجل من بني تميم يُدعى ذا الخُويصرة، فقال: اعدل يا محمّد! فقال صلى الله عليه و آله: 'قدعلت'، فقال له ثانية: اعدل يا محمّد فإنّك لم تعدل؟! فقال صلى الله عليه و آله: 'ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل!'، فقام عمر بن الخطّاب، فقال: يا رسول اللَّه، ائذن لي أن أضرب عُنُقَه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'دعه، فسيخرج من ضئضئ هذا [ضئضئي هذا، أي من جنس هذا].
قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية [مرق السهم من الرمية مروقاً: خرج من الجانب الآخر، والخوارج مارقة لخروجهم عن الدين]
ينظر أحدكم إلى نصله [النصل: حديدة السهم والسيف] فلا يجد شيئاً، فينظر إلى نضيّه [النضي ءُ: القدح - بكسر فسكون -، وهو السهم قبل أن يتّصل ويريش] فلا يجد شيئاً، ثمّ ينظر إلى القُذذ [القذة: ريشة السهم] فكذلك سبق الفرث والدم، يخرجون على حين فرقة من النّاس، تُحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم، وصومكم عند صومهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، آيتهم رجلٌ أسود - أو قال: أدعج [الدعج: شدّة سواد العين مع اتّساعها] - مخدج اليد [مخدج اليد: من أخدجه اللَّه، إذا نقص عضواً منه] إحدى يديه كأنّها ثدي امرأة أو بضعة تُدردر' [تدردر: تجيئ وتذهب].ثمّ قال: وفي بعض الصحاح: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لأبي بكر - وقد غاب الرجل عن عينه -: 'قم إلى هذا فاقتله'، فقام ثمّ عاد وقال: وجدته يصلّي، فقال لعمر مثل ذلك، فعاد وقال: وجدته يصلّي، فقال لعليّ مثل ذلك، فعاد فقال: لم أجده، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لو قتل هذا لكان أوّل فتنة وآخرها، أما إنّه سيخرج من ضئضئى هذا قوم' - الحديث.
[شرح ابن أبي الحديد 266:2].
6 - و عن قتادة، قال: كنّا مع أمير المؤمنين عليه السلام في قتال أهل النهروان، وكنّا ستّين أو سبعين من الأنصار، وكنت على الرجّالة، فلمّا رجعنا إلى المدينة دخلنا على عائشة فسألتنا عن مقدمنا فأخبرناها بقتل الخوارج، فقالت: ما كانوا يقولون؟ قلنا: يسبّون أمير المؤمنين وعثمان بن عفّان وأنتِ ويكفّرونكم، فلم نزل نقاتلهم وعليّ عليه السلام بين أيدينا وتحته بغلة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ إذ وقف عليّ عليه السلام على بعض القتلى، فقال: 'اقلبوهم؟'، فقلبناهم فإذا رجل أسود على كتفيه مثل حملة الثدي، فقال عليّ عليه السلام: 'اللَّه أكبر'، واللَّه ما كَذِبتُ ولا كُذِّبتُ، كنتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يقسم غنائم حنين، فجاء هذا فقال: يا محمّد، اعدل، فواللَّه ما عدلت منذ اليوم' - الحديث.
[تذكرة الخواصّ: 100].