المستفاد من مجموع الآية الشريفة فضيلة أهل البيت وعصمتهم
بعد نقل الأخبار، وتوضيح معاني مفردات الآية يستفاد أنّ هذه الآية من كرائم الآيات الّتي تدلّ على أنّ عليّاً وفاطمة والحسنين عليهم السلام أفضل البشر، وخير البريّة من الأوّلين والآخرين، من الأنبياء والمرسلين، سوى خاتم النبيّين صلى الله عليه و آله، وتدلّ أيضاً على عصمتهم من جميع الذنوب والخطأ والسهو؛ إذ معنى الآية: يا أهل البيت، يا أصحاب الكساء، أنتم الذين أراد اللَّه لكم فقط لا لغيركم أن يذهب عنكم الرجس ويطهّركم تطهيراً كاملاً شاملاً، ونذكر هنا بعض كلمات لعلماء الإماميّة "رضوان اللَّه عليهم أجمعين":
1- قال العلامة الأميني في "الغدير" في توضيح المستفاد من الآية: إنّ سدّ الأبواب الشارعة في المسجد كان لتطهيره عن الأدناس الظاهريّة والمعنويّة، فلا يمرّ به أحدٌ جنباً، ولا يجنب فيه أحدٌ.
وأمّا ترك بابه صلى الله عليه و آله وباب أمير المؤمنين
[إشارة إلى حديث: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله سدّالأبواب إلاباب عليّ عليه السلام، وقد حرّرناه مفصّلاً في فصل سدّ الأبواب"].
عليه السلام، فلطهارتهما عن كلّ رجس ودنس بنصّ آية التطهير، حتّى إنّ الجنابة لا تحدث فيهما من الخبث المعنوي ما تحدث في غيرهما، كما يعطى ذلك التنظير بمسجد موسى الّذي سأل ربّه أن يطهِّره لهارون وذرّيّته، أو أنّ ربّه أمره أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا هو وهارون، وليس المراد تطهيره من الأخباث فحسب، فإنّه حكم كلّ مسجد - إلى أن قال: - إنّ إبقاء ذلك الباب والإذن لأهله بما أذن اللَّه لرسوله ممّا خصّ به، مبتنٍ على نزول آية التطهير النافية عنهم كلّ نوع من الرجاسة، ويشهد لذلك حديث مناشدته يوم الشورى، وفيه قال أمير المؤمنين عليه السلام: 'أفيكم أحد يطهّره كتاب اللَّه غيري، حتّى سدّ النبيّ صلى الله عليه و آله أبواب المهاجرين جميعاً وفتح بابي إليه؟ حتّى قام إليه عمّاه حمزة والعبّاس، وقالا: يا رسول اللَّه، سددت أبوابنا وفتحت باب عليّ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'ما أنا فتحت بابه ولا سددت أبوابكم، بل اللَّه فتح بابه وسدّ أبوابكم'، فقالوا: لا. ثمّ قال الأميني "رضوان اللَّه عليه": ولم يكن أبو بكر من أهل هذه الآية، حتّى أن يُفتح له بابٌ أو خوخةٌ، فالفضل مخصوص بمن طهّره الكتاب الكريم. [الغدير 211:3].
2- وقال الإمام السيّد شرف الدين: فيا أهل البصائر برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، العارفين بمبلغه من الحكمة والعصمة، المقدّرين قدر أفعاله وأقواله، هل تجدون وجهاً لحصرهم تحت الكساء عند تبليغه الآية عن اللَّه تعالى إلا المبالغة البليغة في توضيح ما قلناه من اختصاصها بهم وامتيازهم بها عن العالمين؟ وهل تفهمون من قوله: 'اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً'، إلا الحصر بهم والقصر عليهم؟ وهل ترون وجهاً لجذب الكساء من يد اُمّ سلمة ومنعها من الدخول معهم - على جلالة قدرها، وعظم شأنها - إلا الّذي ذكرنا؟
فأين تذهبون؟ وأنّى تؤفكون؟ 'إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ'
[سورة التكوير: 22 - 19].
فيكون بحجبه إيّاهم في كسائه عابثاً؟ أو يكون بقوله: 'اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي' هاذياً؟! أو يكون بجذبه الكساء من اُمّ سلمة مجازفاً؟ حاشا اللَّه: 'إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى'. [سورة النجم: 4 و 5].
وقد تكرّرت منه صلى الله عليه و آله قضيّة الكساء، حتّى احتمل بعض العلماء تكرار نزل الآية أيضاً، والصواب عندنا نزول الآية مرّة واحدة، لكن حكمة الصادق الأمين في نصحه ببلاغة المبين اقتضت تكرير القضيّة، مرّة في بيت اُمّ سلمة عند نزول الآية وتبليغها لأهل المخاطبين فيها، واُخرى في بيت فاطمة، وفي كلّ مرّة يتلو عليهم الآية مخاطباً لهم بها، وهم في معزل عن النّاس تحت ذلك الكساء درءاً للشبهة في نحور أهل الزيغ، وقد بلغ - بأبي هو واُمّي - فى توضيح اختصاص الآية بهم كلّ مبلغ، وسلك في إعلان ذلك مسالك ينقطع معها شغب المشاغب، ولا يبقى بعدها أثر لهذيان النواصب، حتّى كان بعد نزول الآية كلّما خرج إلى الفجر يمرّ ببيت فاطمة عليهاالسلام فيقول: 'الصلاة يا أهل البيت 'إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً''. وقد استمرّ على هذا ستّة أشهر في رواية أنس، في "مسند أحمد بن حنبل 259:3"، وعن ابن عبّاس سبعة أشهر. وفي رواية ذكرها النبهاني وغيره ثمانية أشهر، فصرّح الحقّ عن محضه، وبدأ الصبح لذي عينين، انتهى كلامه رفع اللَّه مقامه.
[الفصول المهمّة للسيّد شرف الدين: 207].
وعنه أيضاً: أنّ الآية دلّت بالالتزام على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّه ادّعى الخلافة لنفسه، وادّعاها له الحسنان وفاطمة، ولا يكونون كاذبين؛ لأنّ الكذب من الرجس الّذي أذهبه اللَّه عنهم وطهّرهم منه تطهيراً.
[المصدر السابق: 217].
3- وأنشد العلامة الشيخ يوسف النبهاني البيروتي قائلاً:
آل طاه يا آل خير نبيّ*** جدّكم خيرة وأنتم خيار
أذهب اللَّه عنكم الرجس أهل البيت*** قدماً وأنتم الأخيار
لم يسل جدكم على الدين أجراً*** غير وُدِّ القربى ونعم الإجار
[الإحقاق 562:2].
4- وقال آية اللَّه السيّد شهاب الدين المرعشي في هامش الإحقاق في التتمّة: اعلم أنّ الآية صريحة في الدلالة على عصمة أهل البيت، توضيحه: أنّ الآية صريحة في تعلّق إرادته تعالى بتطهير أهل البيت، فيثبت تحقّقه لاستحالة تخلّف إرادته تعالى عن مراده؛ لكونها مرادة بالإرادة التكوينيّة لا محالة دون التشريعيّة، فإنّ الإرادة التشريعيّة لا تتعلّق إلا بفعل المكلّف، وهي مساوقة للأمر به، وقد تعلّق في الآية بفعل اللَّه عزّ وجلّ، فقال: 'إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ...' الآية، مضافاً إلى أنّ إرادته تعالى بالإرادة التشريعيّة للطهارة لا تختصّ بأهل البيت، بل تعمّ جميع المكلّفين.
وبالجملة ما سمّوه في الاصطلاح بالإرادة التشريعيّة ليس إلا إرادة صدور الفعل عن العبد باختياره المستتبعة لمجرّد أمر المولى عبده بذلك الفعل، من غير أن يصدر من المولى ما يوقعه في الفعل ويلزمه عليه، بل العبد قد يختار عصيانه، وقد يختار طاعته باستقلال إرادته، من غير أن تتوجّه إليه قدرة تقوده إلى الفعل أو الترك.
ومن هنا يعلم أنّ الإرادة التشريعيّة ليست إرادة في الحقيقة، فإنّ الإرادة على ما عرّفوها: هي كيفيّة نفسانيّة مستتبعة لتحريك العضلات نحو الفعل، وإن كان يجب تجريدها بالنسبة إلى المبادئ العالية عن خصوصيّة كونها كيفيّة عارضة وتجريد فعله عن كونه بتحريك العضلات، فيكون ما يتحقّق من المولى عند التكليف مجرّد إرادة الأمر والإيجاب أو النهي والتحريم، ثمّ إنّ من البديهي أيضاً أنّه ليس المراد من الرجس في الآية الرجس البدني الظاهري، فالمراد منه: الرجس الباطني من الشرك والكفر ودنس الذنب ومعصية اللَّه، وكلّ ما يعدّ رجساً.
فإن قلت: يحتمل أن يراد من التطهير أنّه تعالى غفر ذنوبهم.
قلت: إنّ المغفرة لا تطهّر الدنس الحادث في نفس العاصي، بل إنّما توجب رفع العقوبة عنه ضرورة أنّ مغفرة المعصية لا توجب إنقلابها عمّا وقعت عليها، ألا ترى أنّ مغفرة المظلوم لظلم من ظلمه لا يخرج فعله عن القبح، هذا مضافاً إلى أنّ حمل الآية عليها ينافي إطلاق الآية، فإنّ مغفرة الذنب لا تكون إلا بعد تحقّقه، فالمذنب عند صدور الذنب منه غير مطهّر لعدم إمكان مغفرة الذنب عند الارتكاب به، وإلا خرج عن كونه ذنباً ولم يصدق عليه عنوانه.
إلى أن قال: فالآية الكريمة دالّة على عصمتهم من الأرجاس بجميع أنواعها، بالتأكيدات من ذكر لفظة 'إِنَّمَا'، وإدخال اللام في الخبر 'لِيُذْهِبَ'، واختصاص الخطاب وتكرير المؤدّى، وإيراد المفعول المطلق بعده، وتنكيره الدالّ على الاهتمام والتعظيم، وتقديم ما حقّه التأخّر، كتقديم 'عَنكُمُ' على 'الرِّجْسَ'، فاُنشدك - أيّها الأخ - أفبعد هذا يبقى لك ريب وشكّ في السند أو الدلالة أو الجهة؟ لا واللَّه العليّ العظيم. [الإحقاق 562:2].
فيما أورد بعض المعاندين على الآية والجواب عنه
وممّا ورد عمّن اشتهر بالنصب والعداوة لأهل البيت عليهم السلام، كعكرمة مولى ابن عبّاس، ومقاتل بن سليمان، ومن يحذو حذوه "أخزاهم اللَّه جميعاً" أنّ الآية نزلت في أزواج النبيّ صلى الله عليه و آله، وحاصل قولهم: أمّّا إجماع المفسّرين على أنّ الآية نزلت في عليّ عليه السلام فخلاف الواقع؟ ولم يجمعوا على ذلك، بل أكثر المفسّرين على أنّ الآية نزلت في شأن أزواج النبيّ صلى الله عليه و آله، وهو المناسب لنظم القرآن؛ لقوله تعالى: 'يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلَا مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً'.
[سورة الأحزاب: 32 و 33].
هذا نصّ القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّ صلى الله عليه و آله؛ لأنّه مقرون بحكاياتهنّ والمخاطبة معهنّ، ولكن لمّا عدل عن صيغة خطاب المؤمنين إلى خطاب الذكور، فلا يبعد أن تكون نازلة في شأن كلّ أهل بيت النبيّ من الرجال والنساء، فشملت عليّاً وفاطمة والحسن والحسين وأزواج النبيّ صلى الله عليه و آله.
وعلى هذا فليس الرجس هاهنا محمولاً على الطهارة من كلّ الذنوب، بل المراد من الرجس الشرك وكبائر الفواحش، كالزنا، كما يدلّ عليه سابق الآية، وهو قوله تعالى: 'فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ'.
ولو سلّمنا هذا، فلا نسلّم أنّ عليّاً عليه السلام ادّعى الإمامة لنفسه، ولو كان يدّعيها لما كان يدّعيها بالعجز والخفية لوجود القوّة والشجاعة والأعوان وكثرة القبائل والعشائر وشرف القوم، وغيرها من الفضائل.
ثمّ لو كان الرجس محمولاً على الذنب لما كانت عائشة مؤاخذة بذنبها في وقعة الجمل؛ لأنّ الآية نزلت فيها وفي أزواج النبيّ غيرها على قول أكثر المفسّرين، فلا يتمّ له الاستدلال بهذه الآية.
[الإحقاق 563:2].
هذا كلّ الإشكال على الاستدلال بالآية الشريفة على عصمة عليّ وفاطمة والحسنين عليهم السلام.
اما الجواب على الإيرادات
قال العلامة التستري في جوابه وجوه:
أوّلاً: فلما مرّ من أنّ مراد المصنّف من إجماع المفسّرين هاهنا، وفي أمثاله، اتّفاق المفسّرين من الشيعة والسنّة على ذلك، وأنّ هذا المعنى يتحقّق بموافقة بعض المفسّرين من أهل السنّة معهم، وأنّ ما ذهب إليه بعض من طائفة، ووافق فيه آخرون من خصومهم، حجّة على الكلّ.
وأيضاً قد قلنا سابقاً: إنّ مراد المصنّف دعوى إجماعهم على ذلك قبل ظهور المخالف، والمخالف حادث لا يعتدّ به، والّذي يدلّ على ذلك أنّ من المفسّرين من روى خلاف ذلك كانوا متأخّرين على الثعلبي وأحمد بن حنبل، ولهذا لم يذكر الناصب الرجس المارد من أكثر هؤلاء المفسّرين المخالفين الذين ادّعى وجودهم واحداً باسمه، بل قد كذّبه في ذلك مَن هو أعلم منه بالحديث والتفسير من مشايخ نحلته؛ إذ قال الشيخ ابن حجر في صواعقه: [الصواعق المحرقة: 141].
إنّ أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام لتذكير ضمير 'عَنكُمُ'.
و ثانياً: فلأنّ ما ذكره من المناسبة إنّما تجب رعايتها إذا لم يمنع عنه مانع، ومن البيّن أنّ تذكير ضمير 'عَنكُمُ' و 'يُطَهِّرَكُمْ'، وبعض القرائن الخارجة الآتية مانع عن ذلك، فمن ذهب من المفسّرين إلى حمل الآية على خصوص الأزواج نظراً إلى تلك المناسبة قد جعل نفسه مورداً لقول الشاعر:
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء*** على أنّ في تغيير الاُسلوب في الآيات المتقاربة المسوقة لذكر أهل البيت والأزواج دقيقة، هي أنّ الأزواج في محلّ وأهل البيت في محلّ آخر عند اللَّه.
و ثالثاً: فلأنّ قوله: هذا نصّ القرآن يدلّ... إلى آخر كلامه، إن أشار فيه بقوله: 'هذا' إلى الآيات الّتي ذكرها الناصب، وهي السابقة على آية التطهير الّتي ذكرها المصنّف، فمسلّم أنّها تدلّ على إرادة الأزواج، لكن لا يجديه نفعاً، وإن أشار به إلى ما يعمّها وآية والتطهير، فكون خصوص آية التطهير أيضاً دالّة على ذلك، ظاهر البطلان، بل هو نصّ في خلاف ذلك لما عرفت وستعرفه.
وأمّا استدلاله على ما فهمه من الدلالة بقوله: 'لأنّه مذكور في قَرْن حكاياتهنّ...' إلى آخره.
ففيه: أنّ كون الآية الاُولى في أزواجه صلى الله عليه و آله لا يمنع عن كون ما هو في قرنها متّصلاً بها
[كذا في المصدر، والسياق: 'بما'].
بعدها في غيرهنّ، سيّما إذا قام الدليل على ذلك، وهو تذكير ضمير 'عَنكُمُ' و 'وَيُطَهِّرَكُمْ'، وما روي من أنّه لمّا نزلت هذه الآية جمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وجلّلهم بكساء فدكي، فقال: 'هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً'.
[قد مرّت الأحاديث في هذا الباب، فلا نعيدها رعاية للاختصار].
وأيضاً أهل بيت الرجل في العرف هم قرابته من عترته، لا أزواجه بدليل سبق الفهم إلى ذلك، وهو السابق إلى فهم كلّ عصر، فما أحد يذكر أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله في شعر أو غيره، إلا وهو يريد من ذكرناه، لا أزواجة.
ثمّ أقول: إنّ مناقشة الجمهور في هذا المقام إنّما نشأت من حملهم البيت في الآية والحديث على البيت المبني من الطين والخشب المشتمل على الحجرات الّتي كان يسكنها النبيّ صلى الله عليه و آله مع أهل بيته وأزواجه؛ إذ لو اُريد بالبيت ذلك لاحتمل ما فهموه، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بأهل البيت على طبق قولهم: أهل اللَّه وأهل القرآن وأهل بيت النبوّة، ولا ريب أنّ هذا منوط بحصول كمال الأهليّة والاستعداد المستعقب للتنصيص والتعيين من اللَّه ورسوله على المتّصف به، كما وقع في الآية والحديث، ولهذا احتاجت اُمّ سلمة إلى السؤال عن أهليّتها للدخول فيهم كما مرّ في الأخبار.
و رابعاً: فلأنّ قول الناصب المعاند: وعلى هذا، فليس الرجس هاهنا محمولاً على الطهارة من كلّ الذنب... إلى آخره، مردود بأنّ الرجس لا يحمل على الطهارة لظهور بطلان ذلك، وإنّما تحمل الطهارة على الطهارة عن الرجس، وأيضاً الّذي حمل الطهارة على الطهارة من كلّ الذنوب، إنّما حملها عليها على تقدير أن يكون المراد من أهل البيت المذكور في الآية، الخمسة من آل العباء، لا على تقدير أن يراد منها الأزواج، فنفي كون الطهارة محمولاً على الطهارة عن كلّ الذنوب على التقدير الثاني ظاهر لا حاجة إلى ذكره.
وأمّا ما ذكره من أنّا لا نسلّم أنّ عليّاً ادّعى الإمامة لنفسه، فقد ظهر بطلانه من مطاوي فصولنا في هذا الكتاب، حيث مرّت مناشدته في يوم الشورى، وعلى المنابر المتعدّدة، واحتجاجاته في مواطن كثيرة.
و خامساً: فلأنّ ما ذكره بقوله: 'ثمّ لو كان الرجس محمولاً على الذنب لما كانت عائشة مأخوذة بذنبها في وقعة الجمل... الكلام'، ففيه مؤاخذة ظاهرة؛ لأنّ دخول عائشة في الآية فرض محال، وعلى فرض أنّها مذنبة كيف يمكن دخولها في الآية؟
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الآية نزلت في عصمة أهل الكساء، وهم الخمسة الطيّبين، النبيّ صلى الله عليه و آله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام لا غيرهم.
فأرجو من اخواني المتديّنين بمذاهب السنّة أن ينبذوا اتّباع سلفهم، ويمعنوا النظر فيما تلونا عليهم، وربّي الواقف على الضمائر، والمطّلع على السرائر، يعلم أنّي مخلص لهم في هذه النصيحة ليس في ضميري مرض، ولا لي سوى الإرشاد غرض، هذا سبيل ربّي، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، إنّا هديناه السبيل، إمّا شاكراً وإمّا كفوراً:
على اللَّه في كلّ الاُمور توكّلي*** وبالخمس أصحاب الكساء توسّلي
محمّد المبعوث وابنيه بعده*** وفاطمة الزهراء والمرتضى عليّ
[راجع: إحقاق الحقّ بتحقيق آية العظمى النجفي المرعشي "قدّه" 565:2، ولقد أجاد السيّد شرف الدين "قدّه" في الفصول المهمّة: 214 - 209 في ردّ الإشكال، فراجعه فإنّه لا يخلو من فائدة].
اللّهمّ أحينا حياتهم، وأمتنا مماتهم، واحشرنا في زمرتهم، ولا تفرّق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً. آمين يا ربّ العالمين
عليّ و آية المباهلة
قال تعالى: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'. سورة آل عمران: 61 - 59
ذكر وفد نجران على النبيّ و واقعة المباهلة
من حوادث سنة عشر من الهجرة قدوم وفد نجران
[نجران: بلدة كبيرة على سبع مراحل من مكّة إلى جهة اليمين، وتشتمل على ثلاث وسبعين قرية، وكان أهلها نصارى].
على النبيّ صلى الله عليه و آله بالمدينة، وكانوا ثلاثين، وقيل ستّين راكباً، ومنهم السيّد والعاقب وعبد المسيح "ورأسهم أبو حارثة اُسقف نجران"، وجاءوه يجادلونه في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، ودخلوا المسجد النبوي وعليهم ثياب الحبرة، وأردية الحرير، متختّمين بخواتيم الذهب، ومعهم هدية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهي بسط فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل. فقال صلى الله عليه و آله: 'أمّا هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها'، فقالوا: نعطيكها.
ولمّا رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزيّ الحسن تشوّقت نفوسهم إلى الدنيا، فأنزل اللَّه تعالى: 'قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَ لِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ'. [سورة آل عمران: 15].
وأمّا وفد نجران فإنّهم أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلك بعد صلاة العصر، فأراد النّاس منعهم لما فيه من إظهار دينهم الباطل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'دعوهم'؛ تألفاً لهم، ورجاءً لإسلامهم، ولدخولهم بالأمان، فأقرّهم على كفرهم سياسة، وليس فيه إقرار على الباطل، بل جعل ذلك وسيلة لدخولهم في الحقّ، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم، فعرض عليهم صلى الله عليه و آله الإسلام وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا، وقالوا: قد كُنّا مسلمين قبلك! فقال صلى الله عليه و آله: 'كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وزعمكم أنّ للَّهِ ولداً'.
[لأنّ بعضهم يقول: المسيح هو ابن اللَّه، وأنّه لا أب له، وقال آخر: المسيح هو اللَّه؛ لأنّه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الادواء كلّها و..].
فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا، وتزعم أنّه عبد؟ فقال صلى الله عليه و آله: 'أجل، هو عبد اللَّه، وكلمته ألقاها إلى مريم'، فغضبوا وقالوا: فهل رأيتَ مثل عيسى أو اُنبئت به؟ فسكت صلى الله عليه و آله، ثمّ خرجوا من عنده، فنزل جبرئيل وقال له: قل لهم: 'لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ'
[سورة المائدة: 17].
وقوله تعالى: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'.
[سورة آل عمران: 61 - 59].
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لهم: 'إنّ اللَّه أمرني إن لم تنقادوا للإسلام أن اُباهلكم'.
[اُباهلكم: أي ندعو ونجتهد في الدعاء باللعنة على الكاذبين].
فقالوا له: يا أبا القاسم، نرجع فننظر في أمرنا، ثمّ نأتيك، فتشاوروا في أمرهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه.
وفي لفظ: أنّهم واعدوه على الغد، فلمّا أصبح صلى الله عليه و آله أقبل ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعليّ عليهم السلام، وقال: 'اللّهمّ هؤلاء أهلي'، وعند ذلك قال لهم الاُسقف: إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللَّه تعالى أن يزيل لهم جبلاً لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ، فقالوا: لا نباهلك.
ويروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: 'أما والّذي نفسي بيده، لقد تدلّى العذاب على أهل نجران، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولاُضرم الوادي عليهم ناراً، ولاستأصل اللَّه نجران وأهله حتّى الطير على الشجر، ولا حال الحول على النصارى حتى يهلكوا'.
[راجع: السيرة الحلبيّة 411:3، وبهامشه السيرة النبويّة 4:4].
و قال ابن الأثير: وأمّا نصارى نجران فإنّهم أرسلوا العاقب والسيّد في نفر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأرادوا مباهلته، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فلمّا رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على اللَّه أن يزيل الجبال لأزالها، ولم يباهلوا وصالحوه على ألفي حُلّة، ثمن كلّ حلّة أربعون درهماً، وعلى أن يضيفوا رسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وجعل لهم ذمّة اللَّه تعالى وعهده ألا يفتنوا عن دينهم، ولا يعشروا، وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به، وكانوا باقون إلى عهد عمر بن الخطّاب، فإنّ عمر أجلى أهل الكتاب عن الحجاز وأجلى أهل نجران، فخرج بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى نجرانيّة الكوفة، واشترى منهم عقارهم وأموالهم.
[الكامل في التاريخ 294:2].
و للزمخشري - بعد نقل قصّة وفد نجران ودعوتهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المباهلة وامتناعهم - قال: فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبيّن الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمرٌ يختصّ به وبمن يكاذبه. فما معنى ضمّ الأبناء والنساء؟
قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، وأفلاذ كبده، وأحبّ النّاس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى يهلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الاستئصال إن تمّت المباهلة، وخصّ الأبناء والنساء؛ لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب.
[تفسير الكشّاف 434:1].
توضيح ذلك
:قال المفيد: ولمّا انتشر الإسلام بعد فتح مكّة وما يليه من الغزوات المذكورة وقوي سلطانه، وفد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله الوفود، فمنهم من أسلم، ومنهم من استأمن؛ ليعود إلى قومه برأيه صلى الله عليه و آله فيهم، وكان ممّن وفد عليه أبو حارثة اُسقف نجران في ثلاثين رجلاً من النصارى منهم: العاقب، والسيّد، وعبد المسيح، فقدموا المدينة وقت صلاة العصر، وعليهم لباس الديباج والصُّلب، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم، فقالت النصارى لهم: لستم على شي ء، وقالت لهم اليهود: لستم على شي ء، وفى ذلك أنزل اللَّه سبحانه: 'وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْ ءٍ'
[سورة البقرة: 113].
الآية. فلمّا صلّى النبيّ صلى الله عليه و آله العصر، توجّهوا إليه يقدمهم الاُسقف فقال له: يا محمّد، ما تقول في السيّد المسيح؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'عبد اللَّه، اصطفاه وانتجبه'، فقال له الاُسقف: أتعرف - يا محمّد - له أباً ولده؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'لم يكن عن نكاح فيكون له والد'. قال: فكيف قلت إنّه عبد مخلوق، وأنت لم ترَ عبداً مخلوقاً إلا عن نكاح وله والد؟ فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى الآيات من سورة آل عمران إلى قوله: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'.
[سورة آل عمران: 61 - 59].
فتلاها النبيّ صلى الله عليه و آله على النصارى، ودعاهم إلى المباهلة، وقال: 'اللَّه عزّ وجلّ أخبرني أنّ العذاب ينزل على المبطل عقب المباهلة ويبيّن الحقّ من الباطل بذلك'.
فاجتمع الاُسقف مع عبد المسيح والعاقب على المشورة، واتّفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غدٍ من يومهم ذلك، فلمّا رجعوا إلى رحالهم قال لهم الاُسقف: انظروا محمّداً في غدٍ، فإن جاء بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن جاء بأصحابه فباهلوه، فإنّه على غير شي ء.
فلمّا كان من الغد جاء النبيّ صلى الله عليه و آله آخذاً بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين عليهماالسلام يمشيان بين يديه، وفاطمة عليهاالسلام تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم اُسقفهم، فلمّا رأى الاُسقف النبيّ صلى الله عليه و آله قد أقبل بمن معه سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو صهره وأبو ولديه، وأحبُّ الخلق إليه، وهذان الطفلان ولدا بنته من عليّ عليه السلام، وهما من أحبّ الخلق إليه، وهذه الجارية بنته فاطمة عليهاالسلام أعزّ النّاس عليه، وأقربهم إلى قلبه.
فنظر الاُسقف إلى العاقب والسيّد وعبد المسيح، وقال لهم: انظروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده ليباهل بهم واثقاً بحقّه، واللَّه! ما جاء بهم وهو يتخوّف الحجّة عليه، فاحذروا مباهلته، واللَّه! لولا مكان قيصر لأسلمتُ له، ولكن صالحوه على ما يتّفق بينكم وبينه، وارجعوا إلى بلادكم، وارتؤوا لأنفسكم،. فقالوا له: رأينا لرأيك تبع. فقال الاُسقف: يا أبا القاسم صلى الله عليه و آله، إنّا لا نُباهلك، ولكنّا نصالحك، فصالحنا على ما ننهض به.
فصالحهم النبيّ صلى الله عليه و آله على ألفي حلّة من حلل الأواقي، قيمة كلّ حلّة أربعون درهماً جياداً، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم النبيّ صلى الله عليه و آله كتاباً على ما صالحهم عليه، وكان الكتاب.
'بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمّدٍ النبيّ رسول اللَّه لنجران وحاشيتها في كلّ صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق، لا يؤخذ منهم شي ء غير ألفي حلّة من حُلل الأواقي، ثمنُ كلِّ حلّةٍ أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك، يؤدّون ألفاً منها في صفر، وألفاً منها في رجب، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك، وعليهم في كلِّ حدث يكون باليمن من كلّ ذي عدن عارية مضمونة ثلاثون درعاً، وثلاثون فرساً، وثلاثون جملاً عارية مضمونة، لهم بذلك جوار اللَّه، وذمّة محمّد بن عبداللَّه، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة'، وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا.
[إرشاد المفيد 169 - 166: 1، وفي كشف الغمّة - باب المناقب 313:1، مع تفاوت يسير في بعض ألفاظه].
في معنى ألفاظ الآية وتوضيحها
المحاجّة: هي تبادل الحجّة، وهي ما يقصد به إثبات المدّعى، سواء كان دليلاً حقّاً أو مغالطة باطلة.
في "المفردات": والمحاجّة: أن يطلب كلّ واحد أن يردّ الآخر عن حجّته ومحجّته.
[مفردات الراغب: 108].
وأمّا الابتهال: البهل والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرّع، نحو قوله: 'ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'، ومن فسّر الابتهال باللعن، فلأجل أنّ الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن. قال الشاعر:
نظر الدهر إليهم فابتهل*** أي استرسل فيهم، فأفناهم
[مفردات الراغب: 63].
وفي "النهاية" ما ملخّصه: البهل: التضرّع والمبالغة في السؤال، وفي حديث الدعاء: 'والابتهال أن تمدّ يديك جميعاً'، ويأتي بمعنى اللعن، والمباهلة: الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شي ء فيقولوا: لعنة اللَّه على الظالم منّا.
[نهاية ابن الأثير 167:1، مادة "بهل"].
وفي "تفسير الكشّاف": 'ثُمَّ نَبْتَهِلْ' ثمّ نتباهل، بأن نقول: بهلة اللَّه على الكاذب منّا ومنكم، والبهلة - بالفتح والضمّ -: اللعنة، وبهله اللَّه: لعنه وأبعده من رحمته، من قولك: أبهله إذا أهمله.
[تفسير الكشّاف 434:1].
ويسبق هذه الآية قوله تعالى: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ...'، وهو احتجاج على النصارى الذين جعلوا ولادة المسيح عليه السلام من غير أب دليلاً على كونه ابن اللَّه!! فردّ اللَّه عليهم بأنّ مثله كمثل آدم عليه السلام؛ إذ خلقه من غير أب واُمّ، ولم يكن هذا دليلاً على بنوّته للَّه تعالى أو اُلوهيّته، وكذلك الأمر في عيسى بن مريم عليه السلام.
وهذه الحجّة مع قطع النظر عن كونها وحياً إلهيّاً هي حجّة عقليّة لا تقبل المعارضة، إلا أنّ النصارى كانوا يجادلون ويبالغون في الجدال، ويصرّون على الضلال، فلم يكن ثمّة سبيل إلا بارجاع الأمر إلى اللَّه تعالى حتّى يحكم بالحقّ وهو خير الحاكمين.
ومن هنا فقد أمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله أن يعرض عليهم موضوع الابتهال إلى اللَّه حتّى يجعل لعنة اللَّه على الكاذبين، ويبيّن صدق الصادقين. وقد كان هذا التحدّي الحسّي الكبير يشكل حدّاً ومنعطفاً تاريخيّاً كبيراً للدعوة الإسلاميّة وموقفها من أعدائها...؛ لأنّه الدليل الحاسم الّذي لا يمكن تكذيبه.
ولكي يبدو بوضوح اطمئنان صاحب الدعوة المباهل بدعوته وصدقه، طلبت الآية أن يحضر كلّ من المتباهلين خاصّته من أهله وولده، ليبدو الحقّ جليّاً، وينكشف صدق النوايا، في حين يكون الإحجام عن ذلك دليل التزلزل والارتياب؛ إذ قد يحسم الأمر قبل الوصول إلى اللحظة الأخيرة، حيث يرى الخصم اطمئنان صاحب الدعوة بدعوته، وتعريض نفسه وأحبّائه لمثل هذا الأمر الخطير، فيكشف له أنّه على الحقّ، وقد يستسلم له ويرتدع عن ضلاله.
وقد عبّرت الآية بتعبير موجز عن هذه الدعوة، فقالت: 'تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ' الآية، بمعنى تعالوا كي ندعو نحن وأنتم خاصّتنا وأهلينا للمشاركة في الابتهال، ولعلّه لبيان شدّة الاطمئنان قدّمت الآية ذكر الأبناء، ثمّ ذكرت النساء، ثمّ ذكرت الخاصّة، باعتبار أنّ عناية الإنسان بحفظ ولده الصغير والغيرة على نسائه أشدّ منها بالنسبة لسائر خاصّته.
هذا وقد اتّفقت الروايات، وأجمع المفسّرون، وكذلك المؤرّخون، على أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعا وفد النصارى إلى المباهلة، وحضر بنفسه وأهل بيته عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، إلا أنّ النصارى أحجموا عن المباهلة عندما شاهدوا هؤلاء الصفوة، واقترحوا أن يعطوا الجزية، فقبل النبيّ صلى الله عليه و آله الجزية منهم.
[انظر: الولاية في القرآن: 131].
وممّا لا ريب فيه أنّ نزول الآية الشريفة في حقّ أصحاب الكساء والخمسة النجباء الأطهار عليهم السلام، على درجة من الوضوح والاشتهار، بحيث كاد أن يعدّ من الضروريات الأوّليّة، فكم من مفسّر ومحدّث ومؤرّخ وفقيه، ذكروه في أسفارهم وكتبهم، وأرسلوه إرسال المسلّمات، بل ذهب جلّ أهل القبلة على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يدع للمباهلة من النساء سوى بضعته فاطمة الزهراء عليهاالسلام، ومن الأبناء سوى سبطيه الحسن والحسين عليهماالسلام، ومن الأنفس إلا أخاه الّذي كان منه بمنزلة هارون من موسى عليه السلام، فهؤلاء أصحاب هذه الآية.
وبعبارة اُخرى: أجمع المفسّرون على أنّ 'أَبْنَاءَنَا' إشارة إلى الحسن والحسين عليهماالسلام، 'وَنِسَاءَنَا' إشارة إلى فاطمة عليهاالسلام، 'وَأَنفُسَنَا' إشارة إلى عليّ عليه السلام، فجعل اللَّه تعالى علياً عليه السلام نفس محمّد صلى الله عليه و آله، والمراد: المساواة، والمساوي للأكمل والأوْلى بالتصرّف يساويه في ذلك.
دلالة الآية على أفضلية أهل البيت على غيرهم
الآية تأمر بدعوة الأبناء والنساء والأنفس بصيغ الجمع، وامتثال هذا الأمر يقتضي إحضار ثلاثة نفر على الأقلّ من كلّ جنس تحقيقاً لمعنى الجمع، لكنّ الّذي أتى به النبيّ صلى الله عليه و آله في مقام امتثال هذا الأمر على ما تشهد به الأخبار الصحاح والتاريخ لم يكن كذلك، وليس لفعله صلى الله عليه و آله وجه إلا انحصار المصداق فيما أتى به، فالآية بالنظر إلى كيفيّة امتثالها بما فعل النبيّ صلى الله عليه و آله تدلّ على أنّ هؤلاء هم الذين كانوا صالحين للاشتراك معه في المباهلة، وأنّهم أحبّ الخلق إليه، وأعزّهم عليه، وأخصّ خاصّته لديه، وكفى بذلك فخراً وفضلاً.
ويؤكّد دلالتها على ذلك أنّه صلى الله عليه و آله كان له عدّة نساء، ولم يأت بواحدة منهنّ سوى بنت له، فعَلَام يحمل ذلك إلا على شدّة اختصاصها وحبّه لها؛ لأجل قربها إلى اللَّه وكرامتها عليه؟
كما أنّ انطباق عنوان "النفس" على أمير المؤمنين عليه السلام لا غير، يدلّ على أعظم فضيلة، و أكرم مزيّة له عليه السلام، حيث نزل منزلة نفس النبيّ صلى الله عليه و آله.
[انظر الولاية في القرآن: 134].
و قال العلامة القاضي السيّد نور اللَّه الحسيني المرعشي التستري: و هذه الآية من أدلّ دليل على علوّ مرتبة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّه تعالى حكم بالمساواة لنفس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنّه عيّنه في استعانة النبيّ صلى الله عليه و آله في الدعاء، وأيّ فضيلة أعظم من أن يأمر اللَّه تعالى نبيّه بأن يستعين به على الدعاء إليه، والتوسّل به، ولمن حصلت هذه المرتبة؟
[إحقاق الحقّ 62:3].
و الطبرسي في تفسيره ذيل الآية: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ' الآية، - بعد نقل قصّة أهل نجران - قال ما ملخّصه: أجمع المفسّرون على أنّ المراد ب 'أَبْنَاءَنَا' الحسن والحسين عليهماالسلام، واتّفقوا على أنّ المراد ب 'نِسَاءَنا' فاطمة عليهاالسلام؛ لأنّه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء، وهذا يدلّ على تفضيل الزهراء عليهاالسلام على جميع النساء، و 'أَنفُسَنَا' يعني عليّاً عليه السلام خاصّة، ولا يجوز أن يكون المعنيّ به النبيّ صلى الله عليه و آله؛ لأنّه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه، وإنّما يصحّ أن يدعو غيره.
وإذا كان قوله: 'وَأَنفُسَنَا' لا بدّ أن يكون إشارة إلى غير الرسول صلى الله عليه و آله وجب أن يكون إشارة إلى عليّ عليه السلام؛ لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وزوجته وولديه في المباهلة.
وهذا يدلّ على غاية الفضل، وعلوّ الدرجة، والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد؛ إذ جعله اللَّه نفس الرسول، وهذا ما لا يدانيه فيه أحد ولا يقاربه، ولذا ورد في الحديث أنّه صلى الله عليه و آله قال لبريدة الأسلمي: 'يا بريدة، لا تبغض عليّاً، فإنّه منّي وأنا منه، إنّ النّاس خُلقوا من شجر شتّى، وخُلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة'.
[مجمع البيان 452:2].
و عن المفيد بعد نقل قصّة أهل نجران و في فضل أمير المؤمنين عليه السلام مع ما فيه من الآية للنبيّ صلى الله عليه و آله، والمعجز الدالّ بنبوّته، قال: ألا ترى إلى اعتراف النصارى له بالنبوّة، وقطعه عليه السلام على امتناعهم من المباهلة، وعلمهم بأنّهم لو باهلوه لحلّ بهم العذاب، وثقته صلى الله عليه و آله بالظفر بهم، والفلج بالحجّة عليهم، وأنّ اللَّه تعالى حكم في آية المباهلة لأمير المؤمنين عليه السلام بأنّه نفس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كاشفاً بذلك عن بلوغه نهاية الفضل، ومساواته للنبيّ في الكمال والعصمة من الآثام.
وأنّ اللَّه تعالى جعله وزوجته وولديه مع تقارب سنّهما حجّة لنبيّه صلى الله عليه و آله، وبرهاناً على دينه، ونصّ على الحكم بأنّ الحسن والحسين عليهماالسلام أبناؤه، وأنّ فاطمة عليهاالسلام نساؤه المتوجّه إليهنّ الذِّكر والخطاب في الدعاء إلى المباهلة والاحتجاج.
وهذا فضلٌ لم يشركهم فيه أحد من الاُمّة، ولا قاربهم فيه، ولا ماثلهم في معناه، وهو لاحق بما تقدّم من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام الخاصّة له على ما ذكرناه.
[الإرشاد 169: 1].
ونذكر هنا ما استفاد الإمام السيّد شرف الدين من الآية الشريفة في فضل أهل الكساء، حيث قال: فباهل النبيّ صلى الله عليه و آله بأهل الكساء خصومه من أهل نجران، فبهلهم، واُمّهات المؤمنين كنّ حينئذٍ في حجراته، ولم يدع واحدة منهنّ، وهنّ بمرأى منه ومسمع، ولا واحدة من نساء الخلفاء الثلاثة وغيرهم من المهاجرين والأنصار.
كما أنّه لم يدع مع سيّدي شباب أهل الجنّة أحداً من أبناء الهاشميّين على أنّهم كانوا، ولا دعا أحداً من أبناء الصحابة على كثرتهم ووفور فضلهم.
وكذلك لم يدع من الأنفس مع عليّ عليه السلام عمّه، وصنو أبيه، العبّاس بن عبدالمطّلب، وهو شيخ الهاشميّين، وأعظم النّاس عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بل لم يدع أحداً من كافّة عشيرته الأقربين، ولا واحداً من السابقين الأوّلين، وكانوا بمرأى من المباهلة ومسمع، بل لم ينتدب واحداً منهم مع مَن انتدبهم إليها، وإنّما خرج صلى الله عليه و آله، كما نصّ عليه الرازي في تفسيره الكبير: وعليه مرط من شعر أسود وقد احتضن الحسين وأخد بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفهما، وهو يقول: 'إذا أنا دعوت فأمّنوا'، فقال اُسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللَّه أن يزيل جبلاً لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.
[قال الرازي - بعد هذا في تفسيره الكبير 80:8 -: واعلم أنّ هذه الرواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث].
ثمّ قال السيّد شرف الدين: وهذا ليس إلا للجلالة الربّانيّة، والعظمة الروحانيّة الّتي أدركها خصمهم من أوّل نظرة إلى وجوههم المباركة، فكأنّ الجلالة والعظمة والمهابة والاُبّهة وقرب المنزلة من اللَّه، والكرامة عليه مكتوبة بنوره تعالى في أسارير جباههم الميمونة، ومعنونة في صفحات وجناتهم الكريمة، وإنّي لأعجب واللَّه من المسلم لا يقدّر هذا المقام قدره.
وأنت تعلم أنّ مباهلته صلى الله عليه و آله بهم، والتماسه منهم التأمين على دعائه بمجرّده فضل عظيم، وانتخابه إيّاهم لهذه المهمّة العظيمة، واختصاصهم بهذا الشأن الكبير، وإيثارهم فيه على مَن سواهم من أهل السوابق فضل على فضل لم يسبقهم إليه سابق، ولن يلحقهم فيه لاحق.
وهناك نكتةٌ يعرف كنهها علماء البلاغة، ويقدّر قدرها العارفون بأسرار القرآن، وهي أنّ الآية ظاهرة في عموم الأبناء والنساء والأنفس، كما يشهد به علماء البيان، وإنّما اُطلقت هذه العمومات عليهم بالخصوص تبياناً لكونهم ممثّلي الإسلام، وإعلاناً لكونهم أكمل الأنام، وآذاناً بكونهم صفوة العالم، وبرهاناً على أنّهم خيرة الخيرة من بني آدم، وتنبيهاً إلى أنّ فيهم من الروحانيّة الإسلاميّة، والإخلاص للَّه في العبودية ما ليس في جميع البريّة، وأنّ دعوتهم إلى المباهلة بحكم دعوة الجميع وحضورهم خاصّة فيها منزّل منزلة حضور الاُمّة، وتأمينهم على دعائه مغنٍ عن تأمين من عداهم، وبهذا جاز التجوّز بإطلاق تلك العمومات عليهم بالخصوص. ومن غاص في أسرار الكتاب الحكيم، ووقف على أغراضه يعلم أنّ إطلاق هذه العمومات عليهم بالخصوص إنّما هو على حدّ قول القائل:
ليس على اللَّه بمستنكر*** أن يجمع العالم في واحد
بقيت نكتةٌ يجب التنبّه لها، وحاصلها: أنّ اختصاص الزهراء عليهاالسلام من النساء والمرتضى عليه السلام من الأنفس - مع عدم الاكتفاء بأحد السبطين عليهماالسلام من الأبناء - دليل على ما ذكرناه من تفضيلهم عليهم السلام؛ لأنّ عليّاً وفاطمة عليهماالسلام لمّا لم يكن لهما نظير في الأنفس والنساء كان وجودهما مغنياً عن وجود من سواهما، بخلاف كلّ من السبطين، فإنّ وجود أحدهما لا يغني عن وجود الآخر لتكافئهما؛ ولذا دعاهما صلى الله عليه و آله جميعاً، ولو دعا أحدهما دون صنوه كان ترجيحاً بلا مرجّح، وهذا ينافي الحكمة والعدل. نعم، لو كان ثمّة من الأبناء من يساويهما لدعاه معهما، كما أنّه لو كان لعليّ عليه السلام نظير من الأنفس أو لفاطمة عليهاالسلام من النساء لما حاباهما، عملاً بقاعدة الحكمة والعدل والمساواة.
ثمّ قال: وأنت هداك اللَّه إذا عرفت أنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أنزل نفس عليّ عليه السلام منزلة نفس النبيّ صلى الله عليه و آله، وأجراها في محكم الذِّكر مجراها لا يرتاب حينئذٍ في أنّه أفضل الاُمّة وأولاها برسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيّاً وميّتاً، وقد صرّح أولياء أهل البيت، واعترف أعداؤهم بدلالة الآية على هذا التفضيل الخالد في القرآن ذكره، والطيّب في بيّنات الفرقان نشره، حتّى إنّ الرازي مع غرامه بنقض المحكمات، وهيامه في التشكيك والشبهات، لم يناقش في دلالتها على هذا المقدار من تفضّله عليه السلام، وإنّما ناقش محمود بن الحسن، حيث صرّح بدلالتها على تفضيله على من كان قبل محمّد من الأنبياء "عليه وعليهم السلام"، وإليك عبارة الرازي بعين لفظه، قال: كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثني عشريّة، وكان يزعم أنّ عليّاً عليه السلام أفضل من جميع الأنبياء، سوى محمّد صلى الله عليه و آله، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: 'وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ'؛ إذ ليس المراد بقوله: 'وَأَنفُسَنَا' نفس محمّد صلى الله عليه و آله؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد غيرها، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ عليه السلام هي نفس محمّد صلى الله عليه و آله، ولا يمكن أن يكون المراد أنّ هذه النفس هي عين تلك، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي المساواة في جميع الوجوه، تركنا العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة، وفي حقّ الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله كان نبيّاً، وما كان عليّ عليه السلام كذلك، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله كان أفضل من عليّ عليه السلام، فبقي فيما وراءه معمولاً به، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام، فيلزم أن يكون عليّ عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء،...
[الفصول المهمّة للإمام السيّد شرف الدين: 201].
ويؤيّد ذلك احتجاج مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الفضيلة يوم الشورى، واعتراف القوم بها، وعدم إنكارهم عليه، حيث قال عليّ عليه السلام: 'اُنشدكم اللَّه، هل فيكم أحد أقرب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الرحم منّي؟ ومن جعله نفسه، وأبناءه أبناءه، ونساءه نساءه، غيري؟' قالوا: اللّهمّ لا.
[رواه في البحار 266:35، عن ابن حجر في صواعقه: 124].
و كذا يؤيّد ذلك احتجاج عليّ عليه السلام على أبي بكر، حيث قال عليه السلام: 'فاُنشدك اللَّه، أَبِيَ برز رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبأهلي وولدي في مباهلة المشركين من النصارى، أم بك وبأهلك وبولدك؟'، قال: بكم.
[روي في تفسير نور الثقلين 349:1، عن كتاب الخصال للصدوق].
في لفظ الحديث
أمّا الأخبار الواردة في إحضار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أهل بيته عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ليباهل بهم نصارى نجران، وجعله المباهلة بهم دليلاً على صدق نبوّته ورسالته، فكثيرة جدّاً من طرق العامّة والخاصّة.
ولقد قال الإمام السيّد شرف الدين: أجمع أهل القبلة، حتّى الخوارج منهم، على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يدع للمباهلة من النساء سوى بضعته الزهراء، ومن الأبناء سوى سبطيه وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين عليهماالسلام، ومن الأنفس إلا أخاه الّذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، فهؤلاء أصحاب هذه الآية بحكم الضرورة الّتي لا يمكن جحودها، لم يشاركهم فيها أحد من العالمين، كما هو بديهي لكلّ من ألمّ بتاريخ المسلمين وبهم خاصّة نزلت لا بسواهم.
[الفصول المهمّة للإمام السيّد شرف الدين: 201 - 197].
ومن أخرجه من المسلمين من إخواننا أهل السنّة والإماميّة أعلى اللَّه كلمتهم كثيرة جدّاً، نتبرّك بذكر نبذة منها احترازاً من الإطالة.
عن جابر، قال: قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله العاقب والطيّب، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا - يا محمّد - قبلك. قال: 'كذبتما، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام؟'، قالا: فهات أنبئنا، قال: 'حبّكما الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير'.
قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، وواعداه على أن يغادياه بالغداة، فغدا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فأرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه، وأقرّا له بالجزية.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'والّذي بعثني بالحقّ، لو فعلا لأمطر عليهما الوادي ناراً'.
قال الشعبي: قال جابر: وفيهم نزلت "هذه الآية": 'نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ'. قال الشعبي: قال جابر: 'وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ' رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام، 'وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ' فاطمة عليهاالسلام، 'أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ' الحسن والحسين عليهماالسلام.
ما رواه ابن الصبّاغ المالكي
و قال: أهل البيت على ما ذكر المفسّرون في تفسير آية المباهلة، وعلى ما روي عن اُمّ سلمة هم النبيّ صلى الله عليه و آله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ثمّ قال: أمّا آية المباهلة، وهي قوله تعالى: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ' إلى قوله: 'ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'.
[سورة آل عمران: 61 - 59].
وسبب نزول هذه الآية: إنّه لمّا قدم وفد نجران على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر وعليهم ثياب الحبرات، وأردية الحرير، لابسين الحلل، متختّمين بخواتم الذهب، يقول من رآهم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله: ما رأينا مثلهم وفداً قبلهم، وفيهم ثلاثة من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم، وهم: العاقب، واسمه عبد المسيح، كان أمير القوم، وصاحب رأيهم، وصاحب مشورتهم، لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيّد، وهو الأيهم، وكان ثمالهم، وصاحب رحابهم ومجتمعهم، وأبو حاتم بن علقمة، وكان اُسقفهم، وحبرهم، وإمامهم، وصاحب مدارسهم، وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنّه تنصّر فعظّمته الروم وملوكها وشرّفوه، وبنوا له الكنائس، وولّوه وأخدموه؛ لما علموه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وشأنه وصفته ممّا علمه من الكتب المتقدّمة، ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانيّة لما رأى من تعظيمه ووجاهته عند أهلها.
فتكلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع أبي حاتم بن علقمة والعاقب عبد المسيح وسألهما وسألاه، ثمّ إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا تكلّم مع هذين الحبرين اللذين هما العاقب وعبد المسيح دعاهما إلى الإسلام، فقالوا: أسلمنا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'كذبتم، إنّه يمنعكم من الإسلام ثلاثة أشياء: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم للَّه ولد'، فقالوا: هل رأيت ولداً بغير أب؟ فَمن أبو عيسى؟ فأنزل اللَّه تعالى: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ' الآية.
فلمّا نزلت هذه الآية مصرّحة بالمباهلة، دعا رسول اللَّه وفد نجران إلى المباهلة، وتلا عليهم الآية، فقالوا: حتّى ننظر في أمرنا ونأتيك غداً، فلمّا خلا بعضهم ببعض قالوا للعاقب صاحب مشورتهم: ما ترى من الرأي؟ فقال: واللَّه قد عرفتم - معشر النصارى - أنّ محمّداً نبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من عند صاحبكم، فواللَّه ما لاعن قوم قطّ نبيّهم إلا هلكوا عن آخرهم، فاحذروا كلّ الحذر أن تكون شأفة
[الشّأفَة: قَرْحَةً تَخْشُن فَتُسْتأْصَل بالكيّ، واستأصل اللَّه شأفته: أزاله من أصله].
الاستئصال منكم، وإن أبيتم إلا ودينكم والإقامة عليه، فوادعوا الرجل وأعطوه الجزية، ثمّ انصرفوا إلى مقرّكم.
فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فخرج وهو محتضن الحسين، وآخذ بيد الحسن، وفاطمة خلفه، وعليّ خلفهم، وهو يقول: 'اللّهمّ هؤلاءِ أهلي، إذا أنا دعوت أمِّنوا'، فلمّا رأى وفد نجران ذلك وسمعوا قوله، قال كبيرهم: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو سألت اللَّه تعالى أن يزيل جبلاً لأزاله، لا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ منكم إلى يوم القيامة، فاقبلوا الجزية، فقبلوا الجزية وانصرفوا.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'والّذي نفس محمّد بيده، إنّ العذاب قد نزل على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخهم اللَّه قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً، ولاستأصل اللَّه تعالى نجران وأهله حتّى الطير على الشجر، ولم يحل الحول على النصارى حتّى هلكوا'.
قال جابر بن عبداللَّه: 'أَنفُسَنَا' محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعليّ عليه السلام، و 'أَبْنَاءَكُمْ' الحسن والحسين، و 'نِسَاءَنَا' فاطمة "سلام اللَّه عليهم أجمعين"، هكذا رواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن عيسى. [الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 23].
ما رواه الزمخشري بسنده
- بعد ذكر قصّة مراجعة نجران -: ودعاهم الرسول صلى الله عليه و آله إلى المباهلة، قال: فأتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد غدا محتضناً الحسين عليه السلام، آخذاً بيد الحسن عليه السلام، وفاطمة عليهاالسلام تمشي خلفه، وعليّ عليه السلام خلفهما، وهو يقول: 'إذا أنا دعوت فأمِّنوا'.
فقال اُسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللَّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة.
فقالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، وأن نُقرّك على دينك ونثبت على ديننا، قال: 'فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم'، فأبوا، قال: 'فإنّي اُناجزكم'. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة: ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: 'والّذي نفسي بيده، إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادى ناراً، ولاستأصل اللَّه نجران وأهله حتّى الطير على رؤوس الشجر، ولمّا حال الحول على النصارى كلّهم حتّى يهلكوا'.
[تفسير الكشّاف 434:1].
وفيه عن عائشة: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج وعليه مرط مرجّلٌ من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ عليهم السلام، ثمّ قال: 'إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ'. [تفسير الكشّاف 434:1].
ما رواه السيوطي عن مستدرك الحاكم وصحّحه
وابن مردويه وأبي نعيم في "الدلائل" عن جابر الأنصاري، قال: قدم على النبيّ صلى الله عليه و آله العاقب والسيّد فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمّد، قال: 'كذبتما إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام'. قالا: فهات. قال: 'حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير'.
قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فوعداه إلى الغد، فغدا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ثمّ أرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه وأقرّا له. فقال: 'والّذي بعثني بالحقّ، لو فعلا لاُمطر الوادي عليهما ناراً'.
قال جابر: فيهم نزلت: 'تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ' الآية. قال جابر: 'أَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ' رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام، و 'أَبْنَاءَنَا' الحسن والحسين، و 'نِسَاءَنَا' فاطمة عليهاالسلام.
[الدرّ المنثور 39 - 38 :2].
وعنه أيضاً: عن مسلم، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن سعد بن أبي وقّاص، قال: لمّا نزلت هذه الآية: 'فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ' دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: 'اللّهمّ هؤلاء أهلي'. [الدرّ المنثور 39 - 38 :2].
ما رواه مسلم في صحيحه
بسنده عن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلن أسبّه، لئن تكون لي واحدة أحبّ إليَّ من حمر النعم - إلى أن قال: - ولمّا نزلت هذه الآية: 'فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ' دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: 'اللهمّ هؤلاء أهلي'. [صحيح مسلم 120:7، نقلاً عن الإحقاق 46:3].
ما رواه الرازي
قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا أورد الدلائل على نصارى نجران، ثمّ إنّهم أصرّوا على جهلهم، فقال صلى الله عليه و آله: 'إنّ اللَّه أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن اُباهلكم'.
فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك، فلمّا رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: واللَّه! لقد عرفتم - يا معشر النصارى - أنّ محمّداً نبيّ مرسلٌ، ولقد جاءكم بالكلام الحقّ في أمر صاحبكم - إلى أن قال: - وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج وعليه مرط
[المرط: ثوب غير مخيط].
من شعر أسود، وكان قد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ عليه السلام خلفها، وهو يقول: 'إذا دعوت فأمّنوا'.
فقال اُسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللَّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة'. [التفسير الكبير 80:8].
قال العلامة الجصّاص
نقل رواة السير ونقلة الأثر أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخذ بيد الحسن والحسين وعليّ وفاطمة عليهم السلام، ثمّ دعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً، ولم يبق نصراني ولا نصرانيّة إلى يوم القيامة. [أحكام القرآن 295:2].
و عن محمّد بن عبده
قال: وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديهما عليهم السلام، وخرج بهم وقال: 'إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم'.
[تفسير المنار 322:3].
وقال فيه أيضاً: في رواية مسلم والترمذي وغيرهما، عن سعد، قال: لمّا نزلت هذه الآية 'فَقُلْ تَعَالَوْا' الآية دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: 'اللّهمّ هؤلاء أهلي'.
[المصدر السابق، وسنن الترمذي 210:5، ح 2999].
ما رواه علماء الإماميّة
و ما رواه علماء الامامية عن المعصومين عليهم السلام كثيرة جداً و نشير الى بعض منها رعاية للاختصار:
منها: ما رواه عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ذيل آية: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ' إلى قوله: 'فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ' بسنده عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: 'أنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد، وحضرت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول اللَّه: هذا وفي مسجدك؟ فقال صلى الله عليه و آله: 'دعوهم'، فلمّا فرغوا دنوا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقالوا: إلى ما تدعون؟ فقال: 'إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأنّي رسول اللَّه، وأنّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث'. قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: قل لهم ما تقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب وينكح؟ فسألهم النبيّ صلى الله عليه و آله فقالوا: نعم. فقال: 'فمن أبوه'؟ فبهتوا، فبقوا ساكتين، فأنزل اللَّه: 'إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ'.
وأمّا قوله: 'فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ' إلى قوله: 'فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'فباهلوني، فإن كنتُ صادقاً اُنزلت اللعنة عليكم، وإن كنتُ كاذباً نزلت عليَّ'، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم، قال رؤساؤهم: السيّد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنّه ليس بنبيّ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة فلا نباهله، فإنّه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادق، فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمّه، ووصيّه، وختنه عليّ بن أبي طالب، وهذه بنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين عليهم السلام، فعرفوا وقالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'نعطيك الرضى فأعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على الجزية، وانصرفوا'.
[تفسير القمّي 104:1].
و منها: ما في "تفسير نور الثقلين" عن "روضة الكافي" بسنده عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: 'يا أبا الجارود، ما يقولون لكم في الحسن والحسين عليهماالسلام؟' قلت: ينكرون علينا أنّهما ابنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. قال: 'فبأيّ شي ء احتججتم عليهم؟'. قلت: احتججنا عليهم بقول اللَّه تعالى لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ' - الحديث.
[تفسير نور الثقلين 348:1].
و منها: ما رواه عن "عيون أخبار الرضا عليه السلام" في باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع المأمون في الفرق بين العترة والاُمّة، وهو حديث طويل: وفيه قالت العلماء: فأخبرنا هل فسّر اللَّه تعالى الاصطفاء في الكتاب؟
فقال الرضا عليه السلام: 'فسّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موطناً وموضعاً، - إلى أن قال: - وأمّا الثالثة حين ميّز اللَّه الطاهرين من خلقه، فأمر نبيّه صلى الله عليه و آله بالمباهلة بهم في آية الابتهال، فقال عزّ وجلّ: يا محمّد، 'فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'، فأبرز النبيّ صلى الله عليه و آله عليّاً والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام، وقرن أنفسهم بنفسه، فهل تدرون ما معنى قوله: 'وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ'؟' قالت العلماء: عنى به نفسه.
قال أبو الحسن عليه السلام: 'غلطتم، إنّما عنى به عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وممّا يدلّ على ذلك قول النبيّ صلى الله عليه و آله حين قال: لينتهينّ بنو وليعة أو لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي، يعني عليّ بن أبي طالب، وعنى بالأبناء الحسن والحسين، وعنى بالنساء فاطمة عليهم السلام، فهذه خصوصيّة لا يتقدّمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق؛ إذ جعل نفس عليّ كنفسه'.
[تفسير نور الثقلين 349:1].
و منها: ما رواه الصدوق في باب جمل من أخبار موسى بن جعفر عليهماالسلام مع هارون الرشيد: لمّا قال له: كيف تكونون ذرّيّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنتم أولاد ابنته؟ - وهو حديث طويل - ذكر فيه أدلّة كثيرة منها: قول اللَّه تعالى: 'فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ'
[سورة آل عمران: 61].
ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ صلى الله عليه و آله تحت الكساء عند المباهلة للنصاري إلا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فكان تأويل قوله تعالى: 'أَبْنَاءَنَا' الحسن والحسين عليهماالسلام، 'وَنِسَاءَنَا' فاطمة عليهاالسلام، 'وَأَنفُسَنَا' عليّ بن أبي طالب عليه السلام. على أنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل عليه السلام قال يوم اُحد: يا محمّد، إنّ هذه لهي المواساة من عليّ، قال: لأنّه منّي وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول اللَّه'.
[عيون أخبار الرضا عليه السلام 68:1، وكذا في تفسير نور الثقلين 348:1].
ايراد واهٍ من محمّد بن عبده حول الآية وجوابه
ومن عجيب الكلام ما ذكره محمّد عبده على ما حكى عنه تلميذه السيّد محمّد رشيد رضا في المجلّد الثالث من تفسيره، حيث قال: إنّ الروايات متّفقة على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديهما، ويحملون كلمة 'نِسَاءَنَا' على فاطمة عليهاالسلام، وكلمة 'أَنفُسَنَا' على عليّ عليه السلام فقط، ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّى راجت على كثير من أهل السنّة، ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإنّ كلمة 'نِسَاءَنَا' لا يقولها العربيّ ويريد بها بنته، لا سيّما إذا كان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلك أن يراد ب 'أَنفُسَنَا' عليّ عليه السلام.
ثمّ إنّ وفد نجران الذين قالوا: إنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم. وكلّ ما يفهم من الآية أمر النبيّ صلى الله عليه و آله أن يدعو المحاجّين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويجمع هو المؤمنين رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويبتهلون إلى اللَّه تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.
وهذا الطلب يدلّ على قوّة يقين صاحبه وثقته بما يقول، كما يدلّ امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب، سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون، وزلزالهم فيما يعتقدون؛ وكونهم على غير بيّنة ولا يقين، وأنّى لمن يؤمن باللَّه أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من النّاس المحقّين والمبطلين في صعيد واحد، متوجّهين إلى اللَّه تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته، و أيّ جرأة على اللَّه واستهزاء بقدرته وعظمته من هذا! إلى آخر ما أورده.
[تفسير المنار 322:3].
أقول في الجواب: ما أقول في رجل اتّخذ إلهه هواه، وأضلّه اللَّه على علم، وختم على سمعه وقلبه؟ لست أدري ما يريد بقوله: 'إنّ مصادر هذه الروايات الشيعة؟! فإنّ إمامهم فخر الدين الرازي مفسّر شهير ادّعى الاتّفاق على صحّة هذه الروايات، وهو مع كونه إمام المشكّكين يقول فى تفسيره: لمّا خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المِرط الأسود فجاء الحسن عليه السلام فأدخله، ثمّ جاء الحسين عليه السلام فأدخله، ثمّ فاطمة عليهاالسلام، ثمّ عليّ عليه السلام، ثمّ قال: 'إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً'. واعلم أنّ هذه الرواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث.
[التفسير الكبير 80:8].
وروى ابن طاووس في كتابه القيّم "سعد السعود" حديث المباهلة من كتاب "تفسير ما نزل من القرآن في النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل بيته" لمحمّد بن العبّاس بن مروان، المعروف بابن الحجّام، أو ابن الماهيار، من واحد وخمسين طريقاً.
[راجع للاطّلاع على طرق الحديث: سعد السعود: 91].
وبعد كلّ هذا هل يعتقد محمّد عبده أنّ الشيعة كانوا مصدر هذه الروايات المتظافرة الّتي أجمع على نقلها وعدم طرحها المحدّثون، وليست بالواحدة والاثنين والثلاث، وأطبق على نقلها وتلقّيها بالقبول أهل الحديث، وأثبتها أرباب الجوامع ومنهم مسلم في صحيحه، والترمذي في صحيحه، وأيّدها أهل التاريخ. وأطبق المفسّرون على إيرادها وإبداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب، وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ، كالطبري وأبي الفداء وابن كثير والسيوطي في كتبه، وغيرهم.
[راجع: صحيح مسلم 1471:4، سنن الترمذي 225:5، مصابيح السنّة 183:4، الكامل في التاريخ 293:2، أسباب النزول للواحدي: 60، تفسير الرازي 81:8، تفسير أبي السعود 46:2، فتح القدير 347:1 و 348، معالم التنزيل 480:1، جامع الاُصول 470:9، تفسير الآلوسي 188:3، وغيرها. ومن أراد التوسّع في الاطّلاع على كتب العامّة الناقلة لحديث أهل نجران وآية المباهلة فليراجع إحقاق الحقّ 46:3، فإنّه روى عن كثير من كتب العامّة من التفسير والتاريخ والحديث بلغت 53 كتاباً، كصحيح مسلم بن الحجّاج، ومسند أحمد بن حنبل، وتفسير الطبري، ومستدرك الحاكم، ومعرفة علوم الحديث للحاكم، ودلائل النبوّة لأحمد بن عبداللَّه الاصبهاني، وتفسير الثعلبي، وغيرها كثير].
وأعتقد أنّ المعترض - يعني محمّد عبده - ما قال هذا الإيراد إلا عناداً لأمير المؤمنين عليه السلام، وإلا فبعد ما عرفت من نقل الرواة الكثيرين عن الرسول صلى الله عليه و آله وضبط الحديث في كتبهم، وإجماع المفسّرين على نقلها في تفاسيرهم، لا يبقى شكّ ولا ريب في بطلان هذا الإيراد.
ولو سلّمنا أنّ مصادر هذه الروايات الشيعة، أيريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الإسناد في الروايات، أعني سعد بن أبي وقّاص، وجابر بن عبداللَّه، وعبداللَّه بن عبّاس، وعثمان بن عفّان، وغيرهم من الصحابة، أو التابعون، كأبي صالح، والكلبي، والسدّي، والشعبي، وغيرهم، وأنّهم تشيّعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه؟
فهؤلاء وأمثالهم ونظراؤهم هم الوسائط في نقل السنّة، ومع رفضهم لا تبقى سنّة مذكورة ولا سيرة مأثورة.
وكيف يمكن لمسلم أو باحث حتّى ممّن لا ينتحل الإسلام أن يبطل السنّة ثمّ يروم أن يطّلع على تفاصيل ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله من تعليم وتشريع، والقرآن ناصّ بحجّيّة قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسيرته، وناصّ ببقاء الدين حيّاً ما بقي الدهر، ولو جاز بطلان السنّة من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لإنزاله ثمر؟!
أو أنّه يريد أنّ الشيعة دسّوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث وكتبهم وكتب التاريخ، فيعود محذور سقوط السنّة وبطلان الشيعة، بل تكون البلوى أعمّ، والفساد أتمّ.
قال محمّد عبده: ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإنّ كلمة 'نِسَاءَنَا' لا يقولها العربي ويريد بها بنته، سيّما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلك، أن يراد ب 'أَنفُسَنَا' عليّ عليه السلام.
أقول في دفعه: فتلك كلمة واهية، وإنّي أتعجّب من رجل يعدّ من المفسّرين، وله تلامذة يأخذون منه التفسير، ومع ذلك يتكلّم بكلام ليس له قدر عند أهل التحقيق، أما قرأ هذه الآية الشريفة: 'وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ'.
[سورة النساء: 176].
يعني إذا كان ورثة الميّت إخوة أبناءً وبناتاً فللابن سهمان، وللبنت سهم واحد، ففي هذه الآية اُطلقت كلمة النساء على البنات بلا خلافٍ.
وأما قرأ هذه الآية الشريفة: 'يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ'
[سورة النساء: 11].
فلماذا يقول "محمّد بن عبده": إنّ كلمة 'نِسَاءَنَا' لا يقولها العربي ويريد بها بنته؟ ألم ينزل القرآن بلسان عربيّ مبين؟!
وأمّا قوله: وأبعد من ذلك أن يراد ب 'أَنفُسَنَا' عليّ عليه السلام: فلاحظ كلام الواحدي النيشابوري، وهو من أعلام القرن الرابع، ومن أعاظم علماء العامّة، فإنّه قال: قال جابر بن عبداللَّه: فنزلت فيهم "في أهل الكساء" هذه الآية 'فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ' الآية.
[سورة آل عمران: 61].
فاراد من لفظه 'أَنفُسَنَا' هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و لاحظ قول الشعبي: 'أَبْنَاءَنَا' الحسن والحسين، 'وَأَنفُسَنَا' فاطمة، 'وَأَنفُسَنَا' عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
[عن أسباب النزول: 60].
و لاحظ ايضاً قول البغوي: 'أَبْنَاءَنَا' أراد الحسن والحسين، 'وَنِسَاءَنَا' فاطمة، 'وَأَنفُسَنَا' عنى نفسه وعليّ.
[معالم التنزيل 480:1].
ايضاً ان قال ابن حجر الهيتمي المكّي: نقل عن عبدالرحمن بن عوف حديث، يدلّ على أنّ نفس النبي صلى الله عليه و آله هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام حيث قال: لمّا فتح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكّة انصرف إلى الطائف، فحصرها سبع عشرة ليلة أو تسع عشرة ليلة، ثمّ قام خطيباً، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: 'اُوصيكم بعترتي خيراً، وإنّ موعدكم الحوض، والّذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزكاة، أو لأبعثنّ إليكم رجلاً منّي كنفسي يضرب أعناقكم'، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ قال: 'هو هذا'.
[الصواعق المحرقة: 126].
وقال الحافظ أخطب خوارزم: عن المطّلب بن عبداللَّه بن حنطب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لوفد ثقيف حين جاءوه: 'لتسلمنّ أو ليبعثنّ اللَّه رجلاً منّي - أو قال: مثل نفسي - فليضربنّ أعناقكم بالسيف'.
[المناقب للخوارزمي: 81].
وقال أيضاً أن عائشة قالت: مَن خير النّاس بعدك، يا رسول اللَّه؟ قال: 'عليّ بن أبي طالب، هو نفسي، وأنا نفسه'. [المناقب للخوارزمي: 90].
وغير ذلك من الروايات المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله، الدالّة على أنّ عليّاً عليه السلام كنفس محمّد صلى الله عليه و آله، ولا يمكن إنكاره.
[من أراد أكثر ممّا ذكرناه، فليراجع البحار 296:38 و 311 و 49:37 و 107:20، وليراجع أيضاً تذكرة الخواصّ وينابيع المودّة].
ثمّ إنّه مع الشكّ والترديد في استعمال لفظ النساء في فاطمة عليهاالسلام، والنفس في عليّ عليه السلام، هل يوجب ذلك أن يطرح هذه الروايات على كثرتها في أنّ الآية نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين عليهم السلام، ثمّ يطعن على رواتها وكلّ مَن تلقّاها بالقبول ويرميهم بما ذكره؟!
[ومن أراد جواب إشكاله أكثر توضيحاً فليراجع كتاب تفسير الميزان 264 - 257 :3، فقد أعرضنا عن ذكره هنا طلباً للاختصار].
ففق وبالجملة إيراد محمّد عبده واهٍ خالٍ عن الاعتبار والدقّة ولا يعتنى به.
خاتمة في انّ الحسن والحسين إبنا رسول اللَّه
لا يخفى أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام ابنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنّ ابن البنت ابن حقيقة، ويؤيّده قوله صلى الله عليه و آله: 'ابناي هذان، إمامان إن قاما، وإن قعدا'.
وفي "تفسير الرازي": هذه الآية دالّة على أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام كانا ابني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعد أن يدعو ابنيه فدعاهما فوجب أن يكونا ابنيه.
وقال: وممّا يؤكّد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام: 'وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ' إلى قوله تعالى: 'وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى' [سورة الأنعام: 85 - 84].
ومعلوم أنّ عيسى عليه السلام إنّما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالاُمّ لا بالأب، فثبت أنّ ابن البنت قد يسمّى ابناً. [تفسير الرازي 80:8].
عليّ و آية المودّة
لمّا نزل قوله تعالى: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، قالوا: يا رسول اللَّه، مَن هؤلاءِ الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال صلى الله عليه و آله: 'عليّ وفاطمة وابناهما، وإنّ اللَّه تعالى جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي، وإنّي سائلكم غداً عنهم'.
ينابيع المودّة: 194، والآية من سورة الشورى: 23.
سبب نزول الآية
عند ما استقرّ النظام الإسلامي في المدينة جاء جمع من الأنصار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقالوا: يا رسول اللَّه، لقد آويناكم ونصرناكم ونحن نضع أموالنا بين أيديكم.
والّذي يبدو من ظاهر كلامهم أنّهم إنّما كانوا يريدون إعلاء دين اللَّه وإعانة الرسول صلى الله عليه و آله، وربّما كانوا يقصدون تعويض الرسول صلى الله عليه و آله أتعابه، وما تحمّل من المشقّة في سبيل دين اللَّه تعالى؛ لذلك نزلت هذه الآية جواباً لهم: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، فجعل اللَّه جلّ وعلا مودّة أهل البيت عليهم السلام الأجر الوحيد على هذه الرسالة السمحاء، وسنعرض مجموعة من الأخبار المنقولة عن السنّة والشيعة في سبب نزول الآية:
نذكر هنا بعض ما ورد من الروايات في شأن نزول الآية:
منها: ما روى الشيخ الطبرسي، بإسناده عن عبداللَّه بن عبّاس، قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين قدم المدينة واستحكم الإسلام، قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنقول له: إن تَعرُك اُمور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك، فأتوه في ذلك، فنزلت: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى' [سورة الشورى: 23].
فقرأها عليهم، وقال: 'تودّون قرابتي من بعدي'، فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله.
فقال المنافقون: إنّ هذا لشي ء افتراه في مجلسه، أراد بذلك أن يذلّلنا لقرابته من بعده، فنزلت: 'أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً' [سورة الشورى: 24].
فأرسل إليهم فتلاها عليهم، فبكوا واشتدّ عليهم، فأنزل اللَّه سبحانه: 'وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ' [سورة الشورى: 25].
فأرسل في أثرهم فبشّرهم، وقال: 'وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا' [سورة الشورى: 26].
وهم الذين سلّموا لقوله، ثمّ قال سبحانه: 'وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً' [سورة الشورى: الآية 23].
أي مَن فعلَ طاعة نزد له في تلك الطاعة حُسناً بأن يوجب له الثواب. [مجمع البيان 29:9].
منها: قال الزمخشري في تفسيره: وقيل: أتت الأنصار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمال جمعوه، وقالوا: يا رسول اللَّه، قد هدانا اللَّه بك، وأنت ابن اختنا، وتعروك نوائب وحقوق، وما لك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت الآية 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، وردّه. [تفسير الكشّاف 468:3].
وفيه أيضاً أنّ الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا، كأنّهم افتخروا، فقال عبّاس - أو ابن عبّاس: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتاهم في مجالسهم، فقال: 'يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم اللَّه بي؟'، قالوا: بلى، يا رسول اللَّه، قال: 'ألم تكونوا ضلالاً فهداكم اللَّه بي؟'، قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: 'أفلا تجيبونني؟'، قالوا: ما نقول، يا رسول اللَّه؟ قال: 'ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أوَلم يكذّبوك فصدّقناك؟ أوَلم يخذلوك فنصرناك؟'، قال: فما زال يقول حتّى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا وما في أيدينا للَّه ولرسوله، فنزلت الآية: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'.
[المصدر السابق: 467].
و منها: ما روى ابن المغازلي بسنده عن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا نزلت: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى' قالوا: يا رسول اللَّه، مَن هؤلاء الذين أمر بمودّتهم؟ قال صلى الله عليه و آله: 'عليّ وفاطمة وولدهما'.
[المناقب لابن المغازلي الشافعي: 307، ح 352].
و منها: ما في تفسير القمّي، قال: حدّثني أبي، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول اللَّه: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، 'يعني في أهل بيته'. قال: جاءت الأنصار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: إنّا قد آوينا ونصرنا فخذ طائفة من أموالنا فاستعن بها على ما نابك [نابك: أي أصابك].
فأنزل اللَّه 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً'، يعني على النبوّة 'إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، يعني في أهل بيته. [تفسير القمّي 275:2].
اجر الرسالة هو مودّة ذى القُربى
إنّ التشريع الديني إنّما يكون من الخالق العزيز، وليس لأحد الحقّ في وضع القوانين والشرائع؛ إذ إنّ القانون الإلهي هو الّذي يضمن السعادة البشرية، وهذا القانون لا يمكن أن يصل بلا واسطة، بل لا بدّ من وجود الأنبياء كواسطة بين الخالق والمخلوق، ولا بدّ للرسول أن يبذل قصارى جهده في سبيل تطبيق هذا الدين وإعلاء كلمة اللَّه تعالى، وأن يتحمّل أشكال الأذى في سبيل هذا الهدف المقدّس.
وقد تحمّل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنواع الأذى، وبذل الدماء، وتحمّل ظلم قومه، والهجرة من الوطن، وتحمّل أعباء نشر الدين الإسلامي، حتّى أنّه كان يشارك المسلمين بسيفه في الغزوات والفتوحات، كلّ ذلك من أجل إسعاد البشرية، ولعلّ هذا كان سبباً في قدوم الأنصار على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
ومن الطبيعي أنّهم إنّما فعلوا ذلك من أجل تقوية دين الإسلام، ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه و آله وفقاً لمنطوق القرآن: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، فأجري هو محبّة أهل البيت، وهذه المحبّة تعود إلى النّاس بالهداية والإرشاد؛ لأنّ الاقتداء بأهل البيت هو الاقتداء بالإسلام الأصيل، وفي الحديث المروي في "ينابيع المودّة" عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال في قوله تعالى: 'قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ' [سورة سبأ: 47].
يقول: 'الأجر الّذي هو المودّة في القربى الّتي لم أسألكم غيرها فهي لكم تهتدون بها، وتسعدون بها، وتنجون من عذاب اللَّه يوم القيامة'. [ينابيع المودّة: 106].
في معنى المودّة في القربى
وقع الاختلاف بين مفسّري الشيعة والسنّة في معنى المودّة في القربى على النحو التالي:
الأوّل: يعتقد الشيعة أنّ مودّة أهل البيت هي المودّة في الدين، وهي أجر الرسالة المقصودة في القرآن الكريم، وليست هذه المودّة هي مجرّد محبّة عادية كالتي بين الأصدقاء، بل هي تتناسب مع أجر الرسالة السمحاء؛ إذ تتطلّب الإيمان بإمامة المعصومين عليهم السلام والاعتقاد به، وكما سيجيئ، فإنّ مودّتهم هي وسيلة لتقوية الرسالة؛ إذ في الحقيقة لم تكن المودّة هنا غير الدعوة الدينيّة من حيث بقائها ودوامها.
إذن فإنّ مفاد الآية الشريفة لا يغاير مؤدّى سائر الآيات النافية لسؤال الأجر، وبذلك يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه من أنّه لا يناسب شأن النبوّة لما فيه من التهمة، فإنّ أكثر طلاب الدنيا يفعلون شيئاً ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وهذا الإيراد واضح البطلان ممّا ذكرناه.
وقد وردت بهذا المعنى روايات من طرق أهل السنّة، وتكاثرت الأخبار من طرق الشيعة في تفسير الآية بمودّتهم وموالاتهم.
و نكتفي هنا بما رواه الفخر الرازي في تفسير هذه الآية، عن صاحب الكشّاف أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللَّه، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال: 'عليّ وفاطمة وابناهما'، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى الله عليه و آله، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ويدلّ عليه وجوه:
الأوّل: قوله تعالى: 'إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'. الثاني: لا شكّ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يحبّ فاطمة عليهاالسلام. قال صلى الله عليه و آله: 'فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها'، وثبت بالنقل المتواتر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الاُمّة مثله؛ لقوله: 'وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ': ولقوله تعالى: 'فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ'... الثالث: أنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهو قوله: اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وارحم محمّداً وآل محمّد، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب. [تفسير الرازي 166:27].
الثاني: ما عن بعض اهل السنة في تفسير المودّة في القربى، يقول: إنّ الخطاب لقريش، والأجر المسؤول هو مودّتهم للنبيّ صلى الله عليه و آله؛ لأنّه له علاقة قرابة ونسب معهم، واللَّه يقول له: قل لهم: إنّني منكم لا تؤذوني.
وفيه: أنّ هذا التفسير واهٍ جدّاً؛ لأنّ المخاطب في هذه الآية هم المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين ممّن آمن باللَّه ورسوله إلى يوم القيامة، وعلاوة على هذا فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان بالمدينة ولم يكن يتعرّض للأذى فيها لكي يحتاج إلى مثل هذه الوصيّة.
الثالث: عن بعض آخر من مفسري أهل السنّة حيث يقولون: انّ المودّة بما يفعله العبد لأجل التقرّب إلى اللَّه سبحانه، وبعبارة اُخرى هي التودّد إليه بالطاعة والتقرّب، فالمعنى لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تتودّدوا إليه تعالى بالتقرّب إليه.
وفيه: أنّ المخاطبين هم الأنصار والمهاجرين، وكلّهم يوادّون اللَّه تعالى، فلا يحتاج إلى التأكيد في حدّ أجر الرسالة، مضافاً إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يطلب من النّاس طاعة الخالق العزيز لا محبّته فقط؛ لأنّ المشرك يحاول التقرّب إلى اللَّه تعالى أيضاً.
الرابع: عن بعض المفسّرين منهم أنّه فسّر المودّة في القربى بعيال المسلمين وأقاربهم عامّة، أي أنّه صلى الله عليه و آله طلب التقرّب إليهم ووصل رحمهم، وهذا هو أجر الرسالة.
وفيه: أوّلاً: ما الأثر الّذي تتركه مودّة الأقارب على الرسالة الإسلاميّة؟
وثانياً: أنّ أجر الرسالة من المسائل الخطيرة الّتي يجب أن تعود بالفائدة على الرسالة.
ويظهر من جملة التفاسير المذكورة أنّ التفسير الأوّل هو الأرجح في أداء المعنى المراد.
مودّةُ ذوي القربى استمرار لدين الإسلام
إنّ المقصود من ذوي القربى في قوله تعالى: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى' هو المعنى الّذي رجّحناه سابقاً، سيّما بعد ملاحظة الآيات الاُخرى في هذا الباب، وكذا آية 'وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً' الّتي تأتي بعد آية المودّة، فالمودّة المقصودة هي مودّة عليّ عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين وأبنائهم من الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ومن الطبيعي أنّ المودّة المقصودة في هذه الآية ليست المحبّة العادية، بل هي مودّة تُناسب حجم الرسالة السمحاء والمشاقّ الّتي تحمّلها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في سبيلها، وتلك المحبّة هي الّتي تكون وسيلة لقبول الولاية الإلهيّة، واستمرار الخطّ المحمّدي الأصيل وخلوده، فمودّة ذوي القربى في الآية الشريفة يُرادُ بها استمرار الإسلام بقيادة عليّ وأولاده عليهم السلام، وهم الخلفاء لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وهذه الآية الشريفة تثبت الولاية والقيادة والخلافة لعليّ وأولاده عليهم السلام بعد الرسول صلى الله عليه و آله، ولا تعني المحبّة والصداقة السطحيّة والظاهريّة؛ لأنّ مجرّد محبّة أولاد الرسول صلى الله عليه و آله لم تكن تثبت أجر الرسالة، بل إنّ أجر الرسالة يجب أن يكون شيئاً ملموساً يُناسب موضوع الرسالة وحكمها، وهو حفظ قيادة عليّ وأولاده عليهم السلام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وإذا كان هناك ثمّة نفع فإنّه إنّما يكون للنّاس بأن يسلكوا طريق الحقّ ويحافظوا على دينهم، وإنّما يتحقّق ذلك بمودّة أهل البيت عليهم السلام "ذوي القربى" والتمسّك بقيادتهم الرساليّة.
إيضاح آخر:
تطالعنا في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدّث عن أنّ أنبياء اللَّه كانوا يقولون لاُممهم: إنّنا لم نطلب أجراً مقابل هذه الرسالة إلا من اللَّه جلّ وعلا 'وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ'. [سورة الشعراء: 109 و 127].
ونلمس من خلال القرآن الكريم الكثير من أقوال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الّتي تؤكّد هذا المعنى 'قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ'
[سورة سبأ: 47].
ويقول عزّ وجلّ: 'قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً' [سورة الفرقان: 57].
ويقول: 'قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ' [سورة ص: 86].
وجاء في الآية مورد البحث 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'.
ويتبيّن من خلال هذه الآيات ما قلناه، ففي الآية الاُولى ينفي وبشكل كامل أجر الرسالة إلا من اللَّه تعالى. وفي الآية الثانية يقول: إنّه لا يطلب من أحد أي أجرٍ إلا العمل في سبيل اللَّه، وأن يستجيب لدعوة اللَّه تعالى. وفي الآية الثالثة يقول: إنّ أجر هذه الرسالة هو لكم. وفي الآية مورد البحث يقول: إنّ أجر رسالتي هو مودّة ذوي القربى وسلوك طريقهم الّذي يمثّل طريق الإسلام وطريق الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله. ولغرض توضيح هذه الحقائق بشكل جليّ في الآية التاليه: 'وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ'.
[سورة الشورى: 23].
وهل يتوخّى الإنسان قادةً ونماذج يقتدي بها أحسن من عليّ وفاطمة وأولادهما عليهم السلام؟! وما أجمل أن يتّخذ ذوي القربى "أهل البيت" عليهم السلام نموذجاً له ليحلّ معضلات وتعقيدات حياته، ويتّجه إلى توحيد الخالق...
وفي حديث عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'والّذي نفسي بيده، لا يزول قدم عبد يوم القيامة حتّ يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن ماله ممّ كسبه، وفيم أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت'. [ينابيع المودّة: 106].
فكما أنّ السؤال في القيامة عن عمره وماله، فكذلك السؤال عن حبّ أهل البيت بمقدار اعتقاده بهم عليهم السلام، والعمل بما اعتقده.
نماذج من الأخبار
نشير هنا إلى بعض الروايات كنموذج لما جاء في هذا الباب من أحاديث، لكي يزال بها - إن شاء اللَّه - ما يختلج أذهان البعض، ولكي يزدادوا مودّة لذوي القربى، واعتقاداً بأنّ ذوي القربى في الآية الكريمة، إنّما هم أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.
وقد وردت في ذلك روايات من طرق أهل السنّة، وتكاثرت الأخبار من طرق الشيعة كما مرّ بعضها على تفسير الآية بمودّة عترة النبيّ صلى الله عليه و آله من أهل بيته عليهم السلام وموالاتهم، وتؤيّده الأخبار المتواترة عن طريق الفريقين الدالّة على وجوب موالاة أهل البيت ومحبّتهم عليهم السلام، وفيما يلي بعضها الاُخر:
1- قال العلامة التستري في "الإحقاق": قوله تعالى: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'.
[سورة الشورى: 23].
روى الجمهور في الصحيحين وأحمد بن حنبل في مسنده، والثعلبي في تفسيره، عن ابن عبّاس رحمه الله، قال: لمّا نزلت: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ' الآية، قالوا: يا رسول اللَّه، من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: 'عليّ وفاطمة وابناهما'، ووجوب المودّة يستلزم وجوب الطاعة.
[الإحقاق 2:3].
نقل عن الإمام الشافعي في وجوب إطاعتهم عليهم السلام شعراً وهو قوله:
يا أهل بيت رسول اللَّه حبّكم*** فرض من اللَّه في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنّكم*** من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
[مسند أحمد بن حنبل 323:6].
2- روى الحافظ الكنجي الشافعي بسنده عن جابر بن عبداللَّه، قال: جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وقال: يا محمّد، اعرض عليَّ الإسلام؟ فقال: 'تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله'. قال: تسألني عليه أجراً؟ قال: 'لا، إلا المودّة في القربى'. قال: قرابتي أو قرابتك؟ قال صلى الله عليه و آله: 'قرابتي'، قال: هات اُبايعك، فعلى مَن لا يحبّك ولا يحبّ قرابتك لعنة اللَّه، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'آمين'.
[الكفاية للكنجي: 90].
3- روى محيي الدين بن عربي في تفسيره: أنّ الآية "آية المودّة" لمّا نزلت، قيل: يا رسول اللَّه، مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال صلى الله عليه و آله: 'عليّ وفاطمة والحسن والحسين وأبناؤهما'.
[تفسير القرآن 432:2].
4- وفي "الغدير": أخرج أحمد في المناقب وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والواحدي والثعلبي وأبو نعيم والبغوي في تفسيره، وابن المغازلي في المناقب، بأسانيدهم عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللَّه، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال: 'عليّ وفاطمة وابناهما'.
[الغدير 307:2. ورواه محبّ الدين الطبري في الذخائر: 25، والزمخشري في الكشّاف 339:2، والجويني في الفرائد، والنيشابوري في تفسيره، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: 8 وصحّحه، والرازي في تفسيره، وأبو السعود في تفسيره "هامش تفسير الرازي" 665:7، وأحمد بن حنبل في فضائل الصحابة: 218، مخطوط، نقلاً عن الإحقاق 2:3، وأبو حيّان في تفسيره 516:7، والنسفي في تفسيره "هامش تفسير الخازن" 99:4، والحافظ الهيثمي في المجمع 168:9، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة: 12، والحافظ الكنجي في الكفاية: 31، والقسطلاني في المواهب، وغير ذلك].
5- وفي "الدرّ المنثور": أخرج أبو نعيم والديلمي من طريق مجاهد، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى، أن تحفظوني في أهل بيتي وتودّوهم بي'.
[تفسير الدرّ المنثور 7:6].
6- وفيه أيضاً: وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت هذه الآية 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، قالوا: يا رسول اللَّه، مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودّتهم؟ قال صلى الله عليه و آله: 'عليّ وفاطمة وولداها'.
[تفسير الدرّ المنثور 7:6].
7- وفيه أيضاً: عن ابن جرير، عن أبي الديلم، قال: لمّا جي ء بعليّ بن الحسين عليهماالسلام أسيراً فاُقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام، فقال له عليّ بن الحسين: 'أقرأت القرآن؟'، قال: نعم، قال: 'أقرأت آل حم؟'، قال: لا، قال: 'أما قرأت 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'؟'، قال: فإنّكم لأنتم هم؟ قال عليه السلام: 'نعم'.
[تفسير الدرّ المنثور 7:6].
8- و روى الطبرسي عن كتاب "شواهد التنزيل لقواعد التفضيل" مرفوعاً إلى أبي اُمامة الباهلي، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ اللَّه تعالى خلق الأنبياء من أشجار شتّى، وخُلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة، فأنا أصلها، وعليّ فرعها، "وفاطمة لقاحها"، والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ عنها هوى، ولو أنّ عبداً عبداللَّه بين الصفا والمروة ألف عام، ثمّ ألف، ثمّ ألف عام، حتّى يصير كالشنّ البالي، ثمّ لم يدرك محبّتنا أكبّه اللَّه على منخريه في النّار، ثمّ تلا: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'.
[تفسير مجمع البيان 28:9، وفي شواهد التنزيل 140:2، ح 837].
9- وفيه أيضاً: وروى زاذان عن عليّ عليه السلام، قال: 'فينا في آل حم آية لا يحفظ مودّتنا إلا كلّ مؤمن'، ثمّ قرأ هذه الآية: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ...'، وإلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية*** تأوّلها مِنّا تقيٌّ ومُعرب
[مجمع البيان 29:9].
10- روى البخاري، بسنده عن عبدالملك بن ميسرة، قال: سمعت طاووساً، عن ابن عبّاس أنّه سئل عن قوله: 'إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمّد.
[صحيح البخاري 5-502:6 ، باب 467، ح 1245].
11- وروى أبو جعفر الطبري، عن سعيد بن جبير 'إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، قال: هي قربى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
[تفسير الطبري 16:25].
12- وروى الحاكم النيسابوري بسنده عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام، قال: خطب الحسن بن عليّ النّاس حين قتل عليّ عليه السلام، فحمد اللَّه وأثنى عليه... إلى أن قال: 'وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذين افترض اللَّه مودّتهم على كلّ مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيّه صلى الله عليه و آله: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً'، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت'.
[المستدرك 172:3].
13- عن أبي الطفيل، قال: خطبنا الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذكر أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام خاتم الأوصياء، ووصيّ الأنبياء، وأمين الصدّيقين والشهداء، ثمّ قال: أنا ابن النبيّ، أنا ابن الداعي إلى اللَّه بإذنه، أنا ابن السراج المنير، وأنا ابن الّذي اُرسل رحمة للعالمين، وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذين افترض اللَّه تعالى مودّتهم وولايتهم، فقال فيما اُنزل على محمّد: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى''.
[شرح ابن أبي الحديد 11:4، والهيثمي في مجمع الزوائد 146:9، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة: 166، والكنجي في الكفاية: 32، وغيرهم، نقلاً عن الغدير 308:2، ومقاتل الطالبيّين: 32].
وفي لفظ الحافظ الزرندي في "نظم درر السمطين": قال الحسن بن عليّ عليه السلام: 'وأنا من أهل البيت الذين كان جبريل عليه السلام ينزل فينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الّذي افترض اللَّه تعالى مودّتهم على كلّ مسلم، وأنزل اللَّه فيهم: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً...''. [الغدير 309:2].
ايرادان على الآية وجوابهما
الايراد الأوّل: عن بعض علماء العامّة: الاستثناء منقطع، والمعنى كذا: 'لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، لكن المودّة في القربى حاصلة بيني وبينكم'، فلهذا أسعى واجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم.
الايراد الثاني: انّ الاستثناء فى الآية متّصل، والمعنى: لا أسألكم عليه أجراً من الاُجور إلا المودّة في قرابتي، وظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبيّ صلى الله عليه و آله، ولو خصّصناه بأهل البيت لا يدلّ على خلافة عليّ "ووجوب طاعته"، بل يدلّ على وجوب مودّته، ونحن نقول: إنّ مودّته واجبة على كلّ المسلمين، والمودّة على فرض أن تكون مع الطاعة، ولكن لا كلّ مطاع يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى.
[هذان الايرادان اقتباس من الإحقاق 19:3، وتفسير الزمخشري "الكشّاف" 466:3].
الجواب: أقول في دفع الإيراد الأوّل: إنّ الاستثناء المنقطع مجاز، واقع على خلاف الأصل، ولا يحمل الاستثناء على المنقطع إلا لتعذّر المتّصل، وقد صرّح به الشارح العضدي حيث قال: واعلم أنّ الحقّ إنّ المتّصل أظهر، فلا يكون مشتركاً ولا للمشترك، بل حقيقة فيه ومجاز في المنقطع، ولذلك لم يحمله علماء الأمصار على المنفصل إلا عند تعذّر المتّصل، حتّى عدلوا للحمل على المتّصل على الظاهر وخالفوه، ومن ثمّ قالوا في قوله: له عندي مائة درهم إلا ثوباً، وله عليَّ إبل إلا شاة، معناه: إلا قيمة ثوب، أو قيمة شاة، فيرتكبون الإضمار، وهو خلاف الظاهر ليصير متّصلاً، ولو كان في المنقطع ظاهراً لم يرتكبوا مخالفة ظاهر حذراً عنه، انتهى كلامه.
وأمّا الإيراد الثاني، وهو قوله: إنّ كون ظاهر الآية على هذا المعنى شاملاً لجميع قرابات النبيّ صلى الله عليه و آله فمسلّم، لكن الحديث الصحيح الّذي يبلغ حدّ التواتر خصّصها بعليّ وفاطمة وابنيهما عليهم السلام، كما ذكرناه.
وأمّا قوله: إنّه لا يدلّ على خلافة عليّ عليه السلام فجهل صرف أو تجاهل وعناد محض؛ لظهور الآية على أنّ مودّة عليّ عليه السلام واجبة، حيث جعل اللَّه تعالى أجر الرسالة بما يستحقّ به الثواب الدائم مودّة ذوي القربى، وإنّما يجب ذلك مع عصمتهم؛ إذ مع وقوع الخطأ منهم يجب ترك مودّتهم لقوله تعالى: 'لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ'
[سورة المجادلة: 22].
الآية...، وغير عليّ عليه السلام ليس بمعصوم بالاتّفاق
[وسيأتيك البحث في عصمته عليه السلام في فصل "عليّ عليه السلام والإمامة والحكومة"].
فتعيّن أن يكون هو الإمام صاحب الزعامة الكبرى.
وقد روى ابن حجر في الباب الحادي عشر من "الصواعق" عن إمامه الشافعي شعراً في وجوب ذلك، كما مرّ آنفاً وهو قوله:
يا أهل بيت رسول اللَّه حبّكم*** فرض من اللَّه في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنّكم*** من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
على أنّ إقامة الشيعة للدليل على إمامة عليّ عليه السلام على أهل السنّة غير واجب، بل تبرّعي؛ لاتّفاق أهل السنّة معهم على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، غاية الأمر أنّ الشيعة ينفون الواسطة وأهل السنّة يثبتونها، والدليل على المثبت - يعني أهل السنّة - دون النافي - يعني الشيعة - إلا أن يرتكبوا خرق الإجماع بإنكار إمامته مطلقاً، فحينئذٍ يجب على الشيعة إقامة الدليل، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.
[انظر: الإحقاق 21:3، والايرادات الواهية على الآية كثيرة، فمن أرادها بتفصيلها مع جوابها فليراجع الفصول المهمّة للسيّد شرف الدين: 323، وتفسير الميزان 48 - 43 :18].