عليّ و آية الولاية
قوله تعالى: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ' "سورة المائدة: 55" نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
المناقب لابن المغازلي: 311، الرقم 354، وتفسير الدرّ المنثور 293:2، وشواهد التنزيل 161:1.
نظرة في آية الولاية
الولاية نوع من حكومة الشعب على الشعب، وهي تعني القيام بأمر الناس وتدبير شؤونهم، ومن هذا الباب وليّ اليتيم، ووليّ المرأة، ويقال للسلطان: وليّ الأمر، وقد جعل اللَّه تعالى مثل هذه الولاية للنبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام إلى قيام الساعة.
وفي اعتقادنا - نحن الشيعة - أنّ الولاية والحكومة مختصّة باللَّه تعالى 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ' وهو تعالى قد فوّض هذه الولاية والحكومة إلى النبيّ 'وَرَسُولُهُ' ومن بعده إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب باب علم رسول اللَّه 'الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ'.
[سورة المائدة: 55].
ومع أنّ اسم عليّ عليه السلام لم يذكر صريحاً في هذه الآية الشريفة لحكم ومصالح، شأنها شأن كثير من الآيات النازلة في عليّ عليه السلام، إلا أنّ هذه الآية لمّا نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان عليّ عليه السلام مصداقها الوحيد؛ إذ طبقاً للروايات المستفيضة المتواترة من طرق الفريقين فإنّ عليّاً عليه السلام كان راكعاً في صلاته وتصدّق بخاتمه على الفقير، فنزلت هذه الآية على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، فلما سمع من في المسجد بنزول الآية الشريفة؛ فكبّر بعد تكبير النبيّ صلى الله عليه و آله ولذلك ورد في الخبر التالي أنّ عمر بن الخطّاب قد تصدّق بأربعين خاتماً وهو في الركوع لعلّ آية تنزل فيه، فما نزلت.
و روى الصدوق عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...' الآية، قال: 'إنّ رهطاً من اليهود أسلموا منهم: عبداللَّه بن سلام، وأسد، وثعلبة، وابن يامين، وابن صوريا، فأتوا النبيّ صلى الله عليه و آله فقالوا: يا نبيّ اللَّه، إنّ موسى عليه السلام أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيّك يا رسول اللَّه، ومن وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' الآية. قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: قوموا، فقاموا، فأتوا المسجد فإذا سائلٌ خارجٌ فقال: يا سائل، أما أعطاك أحدٌ شيئاً؟ قال: نعم، هذا الخاتم. فقال: مَن أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الّذي يصلّي. قال: على أيّ حالٍ أعطاك؟ قال: راكعاً، فكبّر النبيّ صلى الله عليه و آله وكبّر أهل المسجد، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: عليّ بن أبي طالب وليُّكم بعدي. قالوا: رضينا باللَّه ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد صلى الله عليه و آله نبيّاً، وبعليّ بن أبي طالب وليّاً، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: 'وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ' [سورة المائدة: 56].
فروي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: واللَّه لقد تصدّقتُ بأربعين خاتماً وأنا راكعٌ ليَنزل فيَّ ما نزل في عليّ بن أبي طالب، فما نزل'.
[أمالي الصدوق - المجلس السادس والعشرون: رقم 4، وتفسير نور الثقلين 648:1].
المستفاد من الآية أنّ الأئمّة هم أولياء الأمر
لا يخفى أنّه لم يكن نزول الآية من أجل التصدّق في حالة الركوع ليظنّ عمر وأمثاله بأنّهم إذا ما تصدّقوا بخاتم فستنزل فيهم آية! كلا، بل إنّ المقومات الذاتيّة لشخصيّة عليّ عليه السلام وامتلاكه الخصوصيّات المعنويّة هي الّتي أدّت إلى نزول الآية؛ إذ لا بدّ لنزول الآية من سبب، وكان التصدّق في الركوع سبباً لنزول الآية، ولذلك فإنّ عليّاً عليه السلام حتّى لو لم يتصدّق بخاتمه في الصلاة، فإنّه وليّ اللَّه بعد النبيّ صلى الله عليه و آله على كلّ حال، ولهذا أيضاً فإنّ الأئمّة الآخرين لم يتصدّقوا بخاتم وهم في ركوعهم، لكنّهم داخلون في هذه الآية
[كما أشار إلى هذا المعنى ما ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وسيأتيك لفظ الحديث عاجلاً، إن شاء اللَّه].
فإنّ ضمائر الآية قد جاءت بصيغة الجمع "الذين، يقيمون، يؤتون، وهم، راكعون"، مع أنّ عليّاً عليه السلام كان فرداً واحداً، ولو كان المراد شخص عليّ عليه السلام لجاءت الضمائر بصيغة المفرد "الّذي، يقيم، يؤتي، وهو، راكع".
[ويحتمل أنّ مجي ء الضمائر بصيغة الجمع إنّما هو لأجل الاحترام والتعظيم، وسيأتي في آخر الفصل عند بحث الإشكالات الواردة على الآية توضيحه].
إذن يعلم من ذلك أنّ الضمائر جاءت بصيغة الجمع لتفهم النّاس أنّ عليّاً عليه السلام لا ينفرد بالولاية، بل إنّ كلّ من يمتلك خصوصيّات عليّ ّعليه السلام وكمالاته بعده فهو وليّ النّاس، كما أنّ اللَّه ورسوله وليّاهم. ومن المتيقّن أنّ الأئمّة المعصومين هم أكمل النّاس وأفضلهم، ولهم مقام العصمة والطهارة، وعليه فالوليّ بعد عليّ، الحسن، ومن بعده الحسين و... وعلى هذا فحتّى لو لم تكن بين أيدينا الروايات الدالّة على أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام هم أولياء الأمر، فإنّ هذه الآية ترشدنا إلى هذه الحقيقة الإلهيّة الإسلاميّة المهمّة، ولذلك يمكن القول بأنّ هذه الآية الشريفة، وبملاحظة الروايات الكثيرة الواردة في شأن نزولها، تدلّ على خلافة عليّ لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله مباشرة، ومن بعده الأئمّة المعصومين عليهم السلام، خليفة اللَّه و وليّ الأمر للناس. ونشير هنا إلى رواية في هذا المقام:
ففي "تفسير العيّاشي": عن ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أعرض عليك ديني الّذي أدين اللَّه به؟ قال: 'هاته'. قلت: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه، واُقرّ بما جاء به من عند اللَّه، قال: ثمّ وصفتُ له الأئمّة حتّى انتهيتُ إلى أبي جعفر، قلت: واُقرّ بك
[وفي بعض النسخ: 'وأقول فيك'].
ما أقول فيهم. فقال: 'أنهاك أن تذهب باسمي في النّاس'.
قال أبان: قال ابن أبي يعفور: قلت له مع الكلام الأوّل: وأزعم أنّهم الذين قال اللَّه في القرآن: 'أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ'، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: 'والآية الاُخرى فاقرأ'؟ قال: قلت له: جُعلتُ فداك، أيُّ آيةٍ؟ قال: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ'. قال: فقال: 'رحمك اللَّه'، قال: قلت: تقول رحمك اللَّه على هذا الأمر؟ قال: فقال: 'رحمك اللَّه على هذا الأمر'. [تفسير العيّاشي 327:1].
طرق الأحاديث الواردة في شأن نزول الآية
في المناقب لابن شهر آشوب قال: أجمعت الاُمّة أنّ هذه الآية نزلت في عليّ عليه السلام لمّا تصدّق بخاتمه وهو راكع، لا خلاف بين المفسّرين في ذلك، ذكره الثعلبي، والماوردي، والقشيري، والقزويني، والرازى، والنيسابوري، والفلكي، والطوسي، والطبري، في تفاسيرهم، عن السدّي، ومجاهد، والحسن، والأعمش، وعتبة بن أبي حكيم، وغالب بن عبداللَّه، وقيس بن الربيع، وعباية الربعي، وعبداللَّه بن عبّاس، وأبي ذرّ الغفاري، وذكره ابن الربيع في "معرفة اُصول الحديث" عن عبداللَّه بن عبيد اللَّه، عن عمر بن عليّ بن أبي طالب، والواحدي في "أسباب نزول القرآن"، عن الحلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، والسمعاني في "فضائل الصحابة"، عن حميد الطويل، عن أنس، وسلمان بن أحمد في "معجمه الأوسط"، عن عمّار، وأبو بكر البيهقي في "المصنّف"، ومحمّد الفتّال في "التنوير"، وفي "الروضة" عن عبداللَّه بن سلام، وأبي صالح، والشعبي، ومجاهد، وزرارة بن أعين، عن محمّد بن عليّ، والنطنزي في "الخصائص" عن ابن عبّاس، و"الإبانة" عن الفلكي، عن جابر الأنصاري، وناصح التميمي وابن عبّاس، والكلبي في روايات مختلفة الألفاص متّفقة المعاني.
ثمّ قال: وفي "أسباب النزول" عن الواحدي أنّ عبداللَّه بن سلام أقبل ومعه نفر من قومه، وشكوا بُعد المنزل عن المسجد وقالوا: إنّ قومنا لمّا رأونا أسلمنا رفضونا ولا يكلّمونا ولا يجالسونا ولا يناكحونا، فنزلت هذه الآية، فخرج النبيّ صلى الله عليه و آله إلى المسجد، فرأى سائلاً فقال: 'هل أعطاك أحد شيئاً؟'، قال: نعم، خاتم فضّة،... قال صلى الله عليه و آله: 'من أعطاكه؟'، قال: أعطانيه هذا الراكع | وأشار إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام|. [المناقب لابن شهرآشوب 2:3].
و روى المجلسي: عن السيّد ابن طاووس في كتاب "سعد السعود": رأيت في تفسير محمّد بن العبّاس بن عليّ بن مروان أنّه روى نزول آية 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا' الآية
[سورة المائدة: 54].
في عليّ عليه السلام من تسعين طريقاً بأسانيد متّصلة كلّها، أو جلّها من رجال المخالفين لأهل البيت عليهم السلام. [البحار 201:35].
وقاله أيضاً ما ملخّصه: أنّ الآية نازلة في عليّ عليه السلام، وعليه إجماع المفسّرين، وقد رواها الزمخشري والبيضاوي والرازي في تفاسيرهم مع شدّة تعصّبهم، وكثرة اهتمامهم في إخفاء فضائله عليه السلام؛ إذ كان هذا في الاشتهار كالشمس في رائعة النهار، فإخفاء ذلك ممّا يكشف الأستار عن الّذي انطوت عليه ضمائرهم الخبيثة من بغض حيدر الكرّار.
[المصدر السابق: 205].
نبذة من الأخبار في سبب نزول الآية
اخرج السيوطي عن ابن مردويه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: 'نزلت هذه الآية على رسول اللَّه في بيته 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' الآية، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: دخل المسجد وجاء النّاس يصلّون بين راكع وساجد وقائم يُصلّي فإذا سائل، فقال: يا سائل، هل أعطاك أحدٌ شيئاً؟ قال: لا، إلا ذاك الراكع "مشيراً إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام" أعطاني خاتمه'.
[تفسير الدرّ المنثور 293:2، وشواهد التنزيل 175:1، ح 233].
و روى البحراني عن "احتجاج الطبرسي" في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: 'قال المنافقون لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هل بقي لربّك علينا بعد الذى فرض علينا شي ء آخر يفترضه فيذكر فتسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره؟ فأنزل اللَّه في ذلك: 'قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ'
[سورة سبأ: 46].
يعني الولاية، فأنزل اللَّه: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ'، وليس بين الاُمّة خلاف أنّه لم يؤت الزكاة يومئذٍ وهو راكعٌ غير رجل واحد، لو ذكر اسمه في الكتاب لاُسقط ما اُسقط من ذكره'.
[غاية المرام: 109، الباب 19 من المقصد الأوّل، رقم 9].
حديث أبي ذرّ
روي بالإسناد عن أبي ذرّ رضى الله عنه بطرق متعدّدة أنّه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا، يقول: 'عليّ قائدُ البررة، وقاتلُ الكفرة، منصورٌ من نصره، ومخذول من خذله'، أما إنّي صلّيتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً من الأيّام صلاة الظهر، فسأل سائر في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يده إلى السماء، وقال: اللّهمّ اشهد أنّي سألتُ في مسجد رسول اللَّه فلم يعطني أحدٌ شيئاً، وكان عليّ عليه السلام راكعاً، فأومأ بخنصره اليمنى إليه - وكان يتختّم فيها - فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا فرغ النبيّ صلى الله عليه و آله من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: 'اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: 'رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي'
[سورة طه: 32 - 25].
فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: 'سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا'
[سورة القصص: 35].
اللّهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللّهمّ فاشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، عليّاً، اُشدد به ظَهري'.
قال أبو ذرّ: فوَاللَّه ما استتمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الكلمة حتّى نزل عليه جبرئيل من عند اللَّه تعالى، فقال: يا محمّد، اقرأ، قال: 'وما أقرأ؟'. قال: اقرأ: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ'.
[تفسير مجمع البيان 210:3، تفسير الميزان 19:6، فرائد السمطين 191:6، كشف الغمّة - باب المناقب 222:1، البحار 194:35، شواهد التنزيل 177:1، ح 235، تفسير الرازي 26:12، فضائل الصحابة 678:2، ح 1158، تذكرة الخواصّ: 15، كنز العمّال 11، ح 32909].
حديث الإمام الباقر
في "تفسير عليّ بن إبراهيم" في ذيل قوله تعالى: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ' الآية، قال: حدّثني أبي، عن صفوان، عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جالسٌ وعنده قومٌ من اليهود وفيهم عبداللَّه بن سلام؛ إذ نزلت عليه هذه الآية، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المسجد فاستقبله سائل، فقال: 'هل أعطاك أحدٌ شيئاً'؟ قال: نعم، ذاك المصلّي، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإذا هو عليّ أمير المؤمنين عليه السلام. [تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 170:1، وتفسير نور الثقلين 645:1].
حديث ابن عبّاس
روى السيوطي عن ابن عبّاس، قال: تصدّق عليّ عليه السلام بخاتمه وهو راكع، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله للسائل: 'من أعطاك هذا الخاتم؟'، قال: ذاك الراكع، فأنزل اللَّه: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' الآية.
[تفسير الدرّ المنثور 293:2].
وعنه أيضاً عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' الآية، قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
[تفسير الدرّ المنثور 293:2].
وعنه أيضاً: عن ابن عبّاس، قال: أتى عبداللَّه بن سلام ورهطٌ معه من أهل الكتاب، نبيّ اللَّه صلى الله عليه و آله عند الظهر فقال: يا رسول اللَّه، إنّ بيوتنا قاصيّة لا نجد من يجالسنا ويخالطنا دون هذا المسجد، وإنّ قومنا لمّا رأونا قد صدقنا اللَّه ورسوله وتركنا دينهم أظهروا العداوة، وأقسموا أن لا يخالطونا ولا يؤاكلونا، فشقّ ذلك علينا، فبينا هم يشكون ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ نزلت هذه الآية على رسول اللَّه، 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا' الآية، ونودي بالصلاة صلاة الظهر، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإذا بسائل، فقال: 'أعطاك أحدٌ شيئاً؟'، قال: نعم، قال: 'مَن؟'، قال: ذاك الرجل القائم، قال: 'على أيّ حال أعطاكه؟'، قال: وهو راكعٌ، قال: 'وذاك عليّ بن أبي طالب'، فكبّر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند ذلك وهو يقول: 'وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ'.
[المصدر السابق، وكذا في شواهد التنزيل 181:1، والآية من سورة المائدة: 56، و روى نحوه في فرائد السمطين 193:1، رقم 152، وكشف الغمّة - باب المناقب 412:1، روح المعاني 167:6].
و عن ابن المغازلي الشافعي، بإسناده إلى ابن عبّاس، قال: مرّ سائل بالنبيّ صلى الله عليه و آله وفي يده خاتم، فقال صلى الله عليه و آله: 'مَن أعطاك هذا الخاتم؟'. قال: ذاك الراكع، وكان عليّ عليه السلام يصلّي، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'الحمد للَّه الّذي جعلها فيَّ وفي أهل بيتي 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' الآية'، وكان على خاتمه الّذي تصدّق به 'سبحان مَن فخري بأنّي له عبدٌ'.
[المناقب لابن المغازلي: 312، ح 356، وروى نحوه عن ابن عبّاس بسند آخر: 313، ح 357].
حديث عمّار بن ياسر
روى السيوطي عن عمّار بن ياسر، قال: وقف بعليّ عليه السلام سائلٌ وهو راكعٌ في صلاة تطوّع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأعلمه بذلك، فنزلت على النبيّ صلى الله عليه و آله هذه الآية: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' الآية، فقرأها رسول اللَّه على أصحابه، ثمّ قال: 'من كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه'.
[تفسير الدرّ المنثور 293:2، ورواه العيّاشي في تفسيره 327:1، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 173:1، ح 231].
حديث سلمة بن كهيل
روى السيوطي عن سلمة بن كهيل، قال: تصدّق عليّ عليه السلام بخاتمه وهو راكعٌ، فنزلت 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' الآية.
حديث مجاهد
و روى السيوطي عن مجاهد في قوله: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...' الآية، نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام تصدّق وهو راكع.
حديث ابن سلام
روى المجلسي عن "الطرائف" من كتاب "الجمع بين الصحاح الستّة" من صحيح النسائي، عن ابن سلام، قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقلتُ: إنّ قومنا حادّونا لمّا صدّقنا اللَّه ورسوله، وأقسموا أن لا يُكلّمونا، فأنزل اللَّه تعالى: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا' الآية. ثمّ أذّن بلال لصلاة الظهر، فقام النّاس يصلّون، فمن بين ساجدٍ وراكعٍ، وسائل إذا سأل، فأعطى عليّ عليه السلام خاتمه وهو راكعٌ، فأخبر السائل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقرأ علينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ' - إلى قوله تعالى: - 'الْغَالِبُونَ'.
[البحار 199:35، وغاية المرام: 104، الباب 18 من المقصد الأوّل، رقم 8].
حديث أبي رافع
وفي "تفسير الدرّ المنثور" بسنده عن أبي رافع، قال: دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو نائم يوحى إليه، فإذا حيّة في جانب البيت، فكرهت أن أبيت عليها فاُوقظ النبيّ صلى الله عليه و آله، وخفت أن يوحى إليه، فاضطجعت بين الحيّة وبين النبيّ لئن كان سوء كان فيَّ دونه، فمكث ساعة، فاستيقظ النبيّ وهو يقول: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ...' الحمد للَّه الّذي أتمّ لعليّ نعمه وحيّا لعليّ بفضل اللَّه إيّاه'.
حديث أنس بن مالك
روى الجويني بإسناده عن أنس بن مالك أنّه قال: إنّ سائلاً أتى المسجد وهو يقول: مَن يقرض المليّ الوفيّ؟ وعليّ عليه السلام راكع يقول بيده خلفه للسائل: خذه، أي اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا عمر، وجبت'، قال عمر: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللَّه، ما وجبت؟ قال صلى الله عليه و آله: 'وجبت له الجنّة، واللَّه ما خلعه من يده حتّى خلعه اللَّه من كلّ ذنب، ومن كلّ خديعة'.
[فرائد السمطين 187:1، ح 149].
ونقل العلامة الأميني الحديث عن أنس، وزاد في آخره: فما خرج أحد من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقول اللَّه عزّ وجلّ: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ' الآية. [الغدير 162:3].
فيما قيل من الشعر في آية المودّة
أنشأ حسّان بن ثابت في هذه الفضيلة مشيراً إلى نزول الآية:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي*** وكلّ بطيئ في الهدى ومسارع
فأنتَ الّذي أعطيت إذ أنت راكع*** فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيّد*** ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بايع
فأنزل فيك اللَّه خير ولاية*** وبيّنها في محكمات الشرائع
[الغدير 156:3، كشف الغمّة 412:1، فرائد السمطين 190:1، بحار الأنوار 197:35، شواهد التنزيل 182:1، تذكرة الخواصّ: 15 و 16، كفاية الطالب: 228، مناقب الخوارزمي: 186، تفسير روح المعاني 167:6].
و عنه أيضاً ذلك قولة:
من ذا بخاتمه تصدّق راكعاً*** وأسرّها في نفسه إسرارا
من كان بات على فراش محمّد*** ومحمّد أسرى يؤمّ الغارا
من كان في القرآن سمّي مؤمناً*** في تسع آيات تلين غزارا
[الغدير 47:2].
وأنشأ ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت رضى الله عنه:
فديت عليّاً إمام الورى*** سراج البريّة مأوى التقى
وصيّ الرسول وزوج البتول*** إمام البريّة شمس الضحى
تصدّق خاتمه راكعاً*** فأحسِن بفعل إمام الورى
ففضّله اللَّه ربّ العباد*** وأنزل في شأنه هل أتى
[المناقب لابن شهرآشوب 6:3].
وأنشأ السيّد الحميري:
من كان أوّل من تصدّق راكعاً*** يوماً بخاتمه وكان مشيرا
من ذاك قول اللَّه إنّ وليّكم*** بعد الرسول ليعلم الجمهورا
[المناقب لابن شهرآشوب 6:3].
و عنه أيضاً:
وأوّل مؤمن صلّى وزكّى*** بخاتمه على رغم الكفور
وقد وجب الولاء له علينا*** بذلك في الجهار وفي الضمير
تفسير ألفاظ الآية وتوضيحها
قوله تعالى: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا' الآية، لا ريب في أنّ المراد بالولاية هنا ولاية اللَّه والرسول المطلقة، وأنّها التصرّف في شؤون المسلمين، وليس مجرّد المحبّة والنصرة، قال اللَّه تعالى: 'النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِن أَنفُسِهِمْ'
[سورة الأحزاب: 6].
والولاية في هذه الآية تفسير وتبيين للولاية في الآية 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ'، وقوله: 'وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ' أي أنّ الولاية الّتي للَّه وللرسول ثابتة أيضاً لمن جمع بين الزكاة والركوع.
وقال الرازي: فسّرت الولاية هنا بمعنى الناصر، لا بمعنى المتصرّف، ولكنّ الإماميّة تقول: إنّ لفظ اللَّه تعالى والرسول، ومن جمع بين الزكاة والركوع في الصلاة جاء في آية واحدة، وولاية اللَّه والرسول معناها التصرّف، فيجب أيضاً أن يكون هذا المعنى بالذات مراداً من ولاية مَن جمع بين الوصفين، وإلا لزم أن يكون لفظ الولاية مستعملاً في مختلفين في آن واحد وهو غير جائز.
[أخذنا هذا الكلام من تفسير الكاشف 81:3.
وفي الولاية بحيث مستوفٍ أوردناه في فصل "عليّ عليه السلام يوم الغدير"، فلاحظه].
قوله: 'وَالَّذِينَ آمَنُوا' وإن كان عامّاً إلا أن إطلاق الجمع على إرادة الخاصّ - أي الواحد - تعظيماً، شائع في اللغة والعرف، وهو كثير في القرآن الكريم أيضاً، كقوله تعالى: 'إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً' [سورة نوح: 1].
و'إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ' [سورة الحجر: 9].
و'وَالسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ' [سورة الذاريات: 47].
و'الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ' [سورة آل عمران: 173].
مع أنّ القائل كان واحداً وهو اللَّه تعالى في الآيات الاُول، وفي عرف العرب والعجم إذا خاطبوا واحداً يقولون فعلتم كذا، وقلتم كذا، تعظيماً له.
وقال الزمخشري: إن قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ واللفظ لفظ جماعة.
قلت: جي ء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً، ليرغب النّاس في مثل فعله، فينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان، وتفقّد الفقراء حتّى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروه إلى الفراغ منها.
[تفسير الكشّاف 624:1].
أقول: على أنّه يظهر من بعض الأخبار أنّ المراد به جميع الأئمّة عليهم السلام، وأنّ المعصومين عليهم السلام قد وفّقوا جميعاً لمثل تلك الفضيلة، أي كونهم ولاة الأمر والقادة الرساليّين بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وفيما يلى بعض الحديث الدالّ على ذلك.
و في تفسير "نور الثقلين": عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في حديث قال: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا' الآية 'يعني الأئمّة منّا'.
[تفسير نور الثقلين 646:1].
وفيه أيضاً: عن الحسين بن أبي العلاء، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ قال عليه السلام: 'نعم، هُم الذين قال اللَّه عزّ وجل: 'أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ'، وهم الذين قال اللَّه تعالى: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ...' الآية. [المصدر السابق: 647].
وكذلك استدلّ عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام في مجلسه مع المأمون بهذه الآية، فقال: 'وكذلك آية الولاية 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا' الآية، فجعل ولايتهم مع طاعة الرسول مقرونة بطاعته، كما جعل سهمهم مع سهم الرسول مقروناً بسهمه في الغنيمة والفي ء، فتبارك وتعالى ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت!'. [المصدر السابق: 647].
وقال العلامة المجلسي: وأيضاً كلّ من قال: بأنّ المراد بالوليّ في هذه الآية ما يرجع إلى الإمامة قائل بأنّ المقصود بها عليّ عليه السلام ولا قائل بالفرق، فإذا ثبت الأوّل ثبت الثاني. [البحار 206:35].
وأمّا قوله تعالى: 'وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ'، المراد من الزكاة فيه هي الصدقة؛ لأنّ الزكاة وإن اشتهرت في الشرع بأنّها الصدقة الواجبة لكنّها تطلق على المستحبّة أيضاً بكثرة. وقوله تعالى: 'وَهُمْ رَاكِعُونَ' حال لضمير يؤتون، أي ويؤتون الزكاة في حال ركوعهم.
ايرادات واهية على الآية نذكرها مع أجوبتها
ايراد الزمخشري على الاستدلال بالآية
بقوله:
'وَهُمْ رَاكِعُونَ' الواو فيها للحال، والركوع بمعنى الخشوع والخضوع، أي: يعلمون ذلك في حال الركوع، وهو الخشوع والإخبات والتواضع للَّه تعالى، إذا صلّوا وإذا زكّوا.
[تفسير الكشّاف 624:1].
انتهى محلّ الشاهد من كلامه، وعلى هذا يكون معنى الآية: ليس أولياؤكم اليهود والنصارى والمنافقين، بل أولياؤكم اللَّه ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبيّة بالسمع والطاعة، وإنّهم يؤتون الزكاة وهم فقراء معسرون.
وأقول في الجواب:
الركوع وإن كان في اللغة بمعنى مطلع الخشوع والخضوع، لكنّه صار في الشرع اسماً لركوع الصلاة، كما أنّ الصلاة كان معناها في اللغة مطلق الدعاء، ولكنّها صارت في عرف المتشرّعة والشرع حقيقة لذات الأركان، فقوله تعالى: 'وَهُمْ رَاكِعُونَ' لا يصحّ أن يراد به وهم خاضعون؛ لأنّ الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة مقدّمة على الحقيقة اللغوية، ولم يستعمل في القرآن إلا في ذلك المعنى كقوله: 'وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ' [سورة المرسلات: 48].
'يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ' [سورة آل عمران: 43].
'الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ' [سورة التوبة: 112].
وغير ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن المشتملة على لفظ الركوع الّذي هو ركوع الصلاة لا الخشوع والتواضع.
مضافاً إلى أنّ الروايات متكاثرة من طرق أهل السنّة والشيعة على أنّ الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام لمّا تصدّق بخاتمه وهو في الصلاة، كما مرّ نزر منها.
ما أورده الفخر الرازي على الاستدلال
بقوله:
انّ في قوله تعالى: 'الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ' قولان:
الأوّل: أنّ المراد عامّة المؤمنين؛ وذلك لأنّ عبادة بن الصامت لمّا تبرّأ من اليهود، وقال: أنا بري ء إلى اللَّه من حلف قريظة والنضير، وأتولّى اللَّه ورسوله، نزلت هذه الآية على وفق قوله. ثمّ قال: وروي أيضاً أنّ عبداللَّه بن سلام، قال: يا رسول اللَّه، إنّ قومنا قد هجرونا، وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا باللَّه ورسوله وبالمؤمنين أولياء، فعلى هذا الآية عامّة في حقّ كلّ المؤمنين، فكلّ من كان مؤمناً فهو وليّ كلّ المؤمنين، إلى آخره.
[تفسير الفخر الرازي 416:3].
و ثانياً: أنّ المراد من هذه الآية شخص معيّن، وفي هذا جملة أقوال: منها: روى عكرمة: أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر، ومنها: روى عطاء، عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
رُوي أنّ عبداللَّه بن سلام قال: لمّا نزلت هذه الآية قلت: يا رسول اللَّه، أنا رأيت عليّاً تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه، وروى حديث أبى ذرّ الّذي قدّمناه في سبب نزول الآية.
[تفسير الفخر الرازي 417:3].
أقول في الجواب:
أولاً: علم من مجموع ما سلف أنّ احتمال إرادة عموم المؤمنين ضعيف، لا يعوّل عليه، ولا يرجع إلى مستند، ولا يعارض الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ نزولها في عليّ عليه السلام، وأنّ وجود القائل به غير متحقّق، مضافاً إلى أنّه على هذا الاحتمال تكون الواو في 'وَهُمْ رَاكِعُونَ' عاطفة من عطف الخاصّ على العامّ كما في 'وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ'
[سورة البقرة: 43].
ولو كان كذلك لكان من مقتضى البلاغة أن يقول: 'وهم يركعون'؛ لأنّ الجُمل الّتي قبلها فعليّة، فلا يناسب عطف الجملة الاسميّة الصرفة عليها، بل المناسب أن يقول: 'وهم يركعون'، كما في قوله تعالى: 'الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ'
[سورة البقره: 3 و 4].
ولم يقل 'موقنون'.
ثانياً: و الاستشهاد بخبر عبداللَّه بن سلام على أنّ المراد عامّة المؤمنين لا وجه له؛ لأنّه يدلّ على أنّ اللَّه تعالى جعل لهم بدل هجر قومهم إيّاهم ولاية اللَّه ورسوله والذين آمنوا، سواء اُريد بالذين آمنوا، العموم أو الخصوص، فإذا كان هناك ما يدلّ على الخصوص لم يكن فيه منافاة لهذا الخبر.
وأمّا رواية عكرمة فقد انفرد بها، ولا تعارض الروايات الكثيرة، مع أنّه كان متّهماً برأي الخوارج، وإذا كان المراد بهذه الآية شخصاً معيّناً - وهو عليّ بن أبي طالب - كانت دالّة على إمامته؛ لأنّ في اقتران ولايته بولاية اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله مع الحصر 'إِنَّمَا' أقوى دليل على ذلك.
ما أورده الرازاي أيضاً
بقوله:
إنّ اللائق بمثل عليّ عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر اللَّه في الصلاة لا يتفرّع الاستماع كلام الغير وفهمه. [تفسير الفخر الرازي 419:3].
وتفوّه بهذا الإيراد أيضاً شمس الدين الهروي الحنفي حيث قال: إنّكم تقولون إنّ عليّاً عليه السلام في حال صلاته في غاية ما يكون من الخشوع والخضوع واستغراق جميع حواسّه وقواه وتوجّهها شطر الحقّ حتّى انّكم تبالغون وتقولون: كان إذا اُريد إخراج السهام والنصول من جسمه الواقعة فيه وقت الحرب تركوه إلى وقت الصلاة فيخرجونها منه وهو لا يحسّ بذلك؛ لاستغراق نفسه وتوجّهها نحو الحقّ، فكيف مع ذلك أحسّ السائل حتّى أعطاه خاتمه فى حال صلاته؟!
[انظر الإحقاق 414:2].
وأجاب عنه بعض علمائنا فقال:
يعطي ويمنع لا تلهيه سكرته*** عند النديم ولا يلهو من الكأس
أطاعه سكره حتّى تمكّن من*** فعل الصحاة وهذا أفضل النّاس
وحاصل الجواب:
أولاً: أنّه عليه السلام في تلك الحالة وإن كان كما ذكر لكنّه حصل منه التفات أدرك به السائل وسؤاله، لا يلزم منه التفاته إلى غير الحقّ؛ لأنّه فعل فعلاً تعود نهايته إلى الحقّ، فكان كالشارب الّذي فعل حال سكرته فعلاً موافقاً لفعل الصحاة، ولم يلهه ذلك عن نديمه ولا عن كأسه، ولا خرج بذلك عن سكرته.
[انظر الإحقاق 414:2].
ثانياً: أنّه عليه السلام لمّا كان بكلّيّته متوجّهاً إلى اللَّه تعالى، مقبلاً إليه، معرضاً عمّا سواه، متمحّضاً في العبادة، نبّهه سبحانه بالإلهام والإلقاء في الروع في هذه العطيّة الكريمة؛ وذلك لعموم أفضاله جلّ وعزّ شأنه على عباده، فكيف بالمؤمن السائل في بيته، أعني المسجد النبويّ، فلا غرو أن يلقي في قلب وليّه إعانة المسكين المفتاق، فالتصدّق طاعة في طاعة، وهذا الوجه ممّا يقبله الذوق السليم والفكر المستقيم، نبّهنا اللَّه واخواننا من سِنة الغفلة، آمين آمين.
[انظر الإحقاق 414:2].
ثالثاً: أنّ الاستماع إلى كلام السائل لا يخرجه عن ذلك، كما يحكى عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ حين سمع صراخ الصبي في الصلاة اكتفى بواجبات صلاته، وأسرع في إتمام صلاته.
[في الكافي "48:6"- باب حقّ الأولاد، ح 4: بسنده عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام، قال: 'صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالنّاس الظهر فخفّف في الركعتين الأخيرتين، فلمّا انصرف قال له النّاس: هل حدث في الصلاة حدث؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: خفّفت في الركعتين الأخيرتين؟ فقال لهم: أما سمعتم صراخ الصبي'].
ما أورده الرواي أيضاً
أنّ دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير، واللائق بحال عليّ عليه السلام أن لا يفعل ذلك.
[تفسير الفخر الرازي 419:3].
أقول في الجواب:
إن أراد أنّه عمل كثير مبطل الصلاة، فقد أجاب عنه الزمخشري: كان الخاتم مرجاً في خنصره، فلم يتكلّف خلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
[تفسير الكشّاف 624:1].
وأمّا عند فقهائنا أنّه لا يفسد الصلاة، إلا العمل الكثير الماحي لصورة الصلاة. وإن أراد الرازي أنّه عمل كثير يكره فعله، ففيه: أنّه كيف يكره التصدّق على الفقير الّذي هو من أفضل الطاعات، مضافاً إلى أنّه قد نزلت هذه الآية في فضله عليه السلام لتصدّقه في الصلاة.
ما أورده أيضاً
بقوله:
إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض، فلو كانت هذه الآية دالّة على إمامته لاحتجّ بها في محفل من المحافل، وليس للقوم أن يقولوا: إنّه عليه السلام تركه للتقيّة، فإنّهم ينقلون عنه عليه السلام أنّه تمسّك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع فضائله ومناقبه، ولم يتمسّك البتّة بهذه الآية في إثبات إمامته، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض.
[تفسير الفخر الرازي 418:3].
أقول في الجواب:
إنّه علم عليه السلام أنّ احتجاجه بالآية لا تأثير له في الخصم، كما لم يؤثر فيه احتجاجه في الآيات الاُخر والسنن.
وثانياً: عدم الاحتجاج لا يدلّ على عدم كونه عليه السلام مصداقاً لآية الولاية.
وثالثاً: نجد من طرقنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام احتجّ بالآية أيضاً في إثبات أحقيّته.
و عن كتاب المجالس للشيخ الطوسي بإسناده عن أبي ذرّ في حديث مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام عثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص يوم الشورى، واحتجاجه عليه السلام عليهم بما فيه من النصوص من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والكلّ منهم يصدّقه فيما يقوله عليه السلام، فكان ممّا ذكره عليه السلام: 'فهل فيكم أحد آتى الزكاة وهو راكع فنزلت فيه: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ' غيري؟' قالوا: لا.
[غاية المرام: 108، الباب 19 من المقصد الأوّل، ح 17].
و عن "الخصال" في احتجاج عليّ عليه السلام على أبي بكر، قال: 'فاُنشدك باللَّه، ألِي الولاية من اللَّه مع ولاية رسوله في زكاة الخاتم أم لك؟'، قال: بل لك.
ما أورده ابن تيميّة
قال ابن تيميّة الحنبلي في كتابه المسمّى ب "منهاج السنّة": قد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفترى أنّ هذه الآية: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا' نزلت في عليّ عليه السلام، لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة، وهذا كذب بإجماع أهل العلم، ثمّ استدلّ على كذب القول به بأوهام وتفاهات طالما يكرّر أمثالها تجاه النصوص.
أمّا الجواب عنه:
قال العلامة الأميني رحمه الله في جوابه ما ملخّصه: ما كنت أدري أنّ القحة تبلغ بالإنسان إلى أن يُنكر الحقائق الثابتة، ويزعم أنّ ما خرّجته الأئمّة والحفّاظ وأنهوا أسانيده إلى مثل أمير المؤمنين عليه السلام، وابن عبّاس، وأبي ذرّ، وعمّار، وجابر الأنصاري، وأبي رافع، وأنس بن مالك، وسلمة بن كهيل، وعبداللَّه بن سلام، ممّا قام الإجماع على كذبه، فهو كبقيّة إجماعاته المدّعاة ليس له مقيل من مستوى الصدق.
إلى أن قال: أضف إلى ذلك: إخراج الحفّاظ وحملة الحديث له في مدوّناتهم مخبتين إليه، وفيهم من نصّ على صحّته، فانظر إذن أين يكون مستوى إجماع ابن تيميّة؟!
وأين استقلّ اُولئك المجمعون من أديم الأرض، وذلك الحكم الفاصل، وإليك أسماء جمع ممّن أخرج الحديث أو أخبت إليه وهم: الواقدي في "ذخائر العقبى": 102، والصنعاني في "تفسير ابن كثير" 71:2، وعثمان بن أبي شيبة الكوفي في تفسيره، والإسكافي في رسالته الّتي ردّ بها على الجاحظ، وأبو محمّد في تفسيره كما في "الدرّ المنثور"، والأشجع الكوفي في تفسيره، والنسائي صاحب السنن في صحيحه، والطبري في تفسيره 186:6 بعدّة طرق، والرازي كما في تفسير ابن كثير و "الدرّ المنثور" و "أسباب النزول" للسيوطي، والطبراني في "معجمه الأوسط"، وعبداللَّه بن محمّد الأنصارى في تفسيره، وأبو بكر الجصّاص الرازي في "أحكام القرآن" 542:2، عن عدّة طرق، وعليّ بن عيسى الرمّاني في تفسيره، والنيشابوري في "معرفة اُصول الحديث": 102، وأبو بكر الشيرازي في كتابه "فيما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام، وابن مردويه الاصبهاني. - وعدّ العلامة الأميني ستّة وستّون رجلاً من علماء العامّة - الّذين رووا أنّ آية 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا'، نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلا يبقى شكّ ولا مجال ترديد في أنّ الآية نزلت في أمير المؤمنين، وإيراد ابن تيميّة مزيّف مردود لا يُعتنى به، ولا يخالج الشكّ في الآية أيّ عربي صميم مهما غالط وجدانه، وبسّط القول يتكفّله كتب أصحابنا في التفسير والكلام. [راجع الغدير 155:3].
عليّ و آية السقاية
قوله تعالى: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ' نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام والعبّاس وطلحة بن شيبة. تفسير الدرّ المنثور 218:3، والآية من سورة التوبة: 19.
سبب نزول الآية ودلالتها على أفضليّة عليّ وإمامته
من الآيات الكريمة الّتي نزلت في شأن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قوله تعالى: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ'، حيث إنّ العبّاس وطلحة بن شيبة وعليّ بن أبي طالب تفاخروا، فذكر العبّاس سقاية الحاجّ، وطلحة بن شيبة عمارة المسجد وبيده مفتاح الكعبة، وعليّ بن أبي طالب عليه السلام الإيمان باللَّه قبل النّاس بسنوات، والجهاد في سبيل اللَّه، فانطلقوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبر كلّ واحد منهم بفخره فما أجابهم النبيّ صلى الله عليه و آله بشي ء، فنزل الوحي: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية، فدلّت الآية على أنّ عليّاً عليه السلام أوْلى وأفضل منهما.
قال العلامة التستري: الآية مع الرواية تدلّ على أفضليّته عليه السلام، ووجه الدلالة أنّ كلّاً من العبّاس وطلحة كانا يدّعيان أولويّتهما بالبيت بالنسبة إلى غيرهم من الاُمّة، فردّ عليهما عليّ عليه السلام بأنّ الأوْلى بذلك هو عليه السلام لا غير، وصدّقه تعالى في ذلك بموجب الرواية، فيكون أوْلى بالبيت خصوصاً البيت المعنوي، ويكون أفضل من الكلّ وأوْلى بالإمامة وأبصر بما يتعلّق بالبيت، فإنّ صاحب البيت أبصر بما في البيت. [الإحقاق 128:3].
وقال العلامة الطباطبائي: الآية وما يتلوها من الآيات تبيّن أنّ الزنة والقيمة إنّما هو للعمل إذا كان حيّاً بولوج روح الإيمان فيه، وأمّا الجسد الخالي الّذي لا روح فيه ولا حياة له فلا وزن له في ميزان الدين ولا قيمة له في سوق الحقائق، فليس للمؤمنين أن يعتبروا مجرّد هياكل الأعمال ويجعلوها ملاكات للفضل وأسباباً للقرب منه تعالى إلا بعد اعتبار حياتها بالإيمان والخلوص. [تفسير الميزان 205:9].
وممّا يدلّ على هذا الاستدلال وعلى أفضلية عليّ عليه السلام على غيره وعلى إمامته عليه السلام أيضاً بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما رواه العلامة المجلسي في "البحار" عن "تفسير فرات" عن قدامة بن عبداللَّه البجلي معنعناً عن ابن عبّاس، قال: افتخر شيبة بن عبدالدار، والعبّاس بن عبدالمطّلب، فقال شيبة: في أيدينا مفاتيح الكعبة نفتحها إذا شئنا، ونغلقها إذا شئنا، فنحن خير النّاس بعد رسول اللَّه. وقال العبّاس: في أيدينا سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، فنحن خير النّاس بعد رسول اللَّه؛ إذ مرّ عليهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأرادا أن يفتخرا، فقالا له: يا أبا الحسن، أنخبرك بخير النّاس بعد رسول اللَّه؟ فقال شيبة: في أيدينا مفاتيح الكعبة نفتحها إذا شئنا، ونغلقها إذا شئنا، فنحن خير النّاس بعد النبيّ صلى الله عليه و آله. وقال العبّاس: في أيدينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فنحن خير النّاس بعد رسول اللَّه.
فقال لهما أمير المؤمنين عليه السلام: 'ألا أدلّكما على من هو خير منكما؟'. قالا له: ومن هو؟ قال: 'الّذي ضرب رقبتكما
[كذا في البحار، وفي تفسير فرات: 'الّذي ضرب رقابكما'].
حتّى أدخلكما في الإسلام قهراً'، قالا ومن هو؟ قال: 'أنا'. فقام العبّاس مغضباً حتّى أتى النبيّ صلى الله عليه و آله وأخبره بمقالة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلم يردّ النبيّ صلى الله عليه و آله شيئاً، فهبط جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه يقرؤك السلام ويقول لك: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ و اليوم الآخر وَ جاهَدَ في سبيل اللَّه لا يستونَ عند اللَّه و اللَّهُ لا يَهدى القَومَ الظالِمين'، فدعا النبيّ صلى الله عليه و آله العبّاس فقرأ عليه الآية، وقال: 'يا عمّ، قم فاخرج، هذا الرّحمن
[كذا في البحار، وفي تفسير فرات: 'هذا رسول الرحمن'].
يخاصمك فى عليّ بن أبي طالب'. [البحار 36:36].
نظرة في لفظي السقاية والعمارة في الآية وتوضيح الآية
في "تفسير الميزان": والسقاية كالحكاية والجناية، مصدر، يقال: سقى يسقي سقاية. والسقاية أيضاً الموضع الّذي يسقى فيه الماء، والإناء الّذي يسقى به، كما في قوله تعالى: 'جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخيهِ'
[سورة يوسف: 70].
والمراد بالسقاية في الآية معناها المصدري وهو السقي، ويؤيّده مقابلتها ب 'وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ'، والمراد بها المعنى المصدري قطعاً بمعنى الشغل.
وقد قوبل في الآية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام بمن آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللَّه، ولا معنى لدعوى المساواة بين الإنسان وبين عمل من الأعمال، كالسقاية والعمارة أو نفيها، فالمعادلة والمساواة إمّا بين عمل وعمل أو بين إنسان ذي عمل وإنسان ذي عمل. ولذلك اضطرّ المفسّرون إلى القول بأنّ تقدير الكلام: أجعلتم "أهل" سقاية الحاج و "أهل" عمارة المسجد كمن آمن باللَّه واليوم الآخر، حتّى يستقيم السياق.
وأوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الآية الكريمة، فقد أخذ في أحد الجانبين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أيّ قيد زائد، وفي الجانب الآخر الإيمان باللَّه واليوم الآخر، والجهاد في سبيل اللَّه، وإن شئت فقل: الجهاد في سبيل اللَّه مع اعتبار الإيمان معه.
وهو يدلّ على أنّ المراد: السقاية والعمارة خاليتين من الإيمان، ويؤيّده قوله تعالى في ذيل الآية: 'وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ' على تقدير كونه تعريضاً لأهل السقاية والعمارة، لا تعريضاً لمن يسوّي بينهما كما يتبادر من السياق.
وهذا يكشف أوّلاً عن أنّ هؤلاء الذين كانوا يسوّون بين كذا وكذا، وبين كذا، إنّما كانوا يسوّون بين عمل جاهلي خالٍ من الإيمان باللَّه واليوم الآخر، كالسقاية والعمارة من غير أن يكون عن إيمان، وبين عمل ديني عن إيمان باللَّه واليوم الآخر، كالجهاد في سبيل اللَّه، أي كانوا يسؤون بين جسد عمل لا حياة فيه، وبين عمل حيّ طيّب نفعه، فأنكره اللَّه عليهم.
وثانياً: أنّ هؤلاء المسوّين كانوا من المؤمنين، يسوّون بين عمل من غير إيمان، كان صدر عنهم قبل الإيمان، أو صدر عن مشرك غيرهم، وبين عمل صدر عن مؤمن باللَّه عن محض الإيمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الانكار وبيان الدرجات في الآيات.
ويدلّ ذكر نفس السقاية والعمارة من غير ذكر صاحبهما، على أنّ صاحبيهما كانا من أهل الإيمان عند التسوية، فلم يذكرا حفظاً لكرامتهما، وهما مؤمنان حين الخطاب ووقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر في آخر الآية من أن يسمّيا ظالمين.
[تفسير الميزان 210:9].
ويؤيّد هذا المعنى ما قاله السيوطي فى تفسيره عن ابن عبّاس في قوله تعالى: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية، قال: وذلك أنّ المشركين قالوا: عمارة بيت اللَّه وقيام عن السقاية خير ممّن آمن وجاهد، فكانوا يفتخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنّهم أهله وعمّاره، فذكر اللَّه استكبارهم وإعراضهم فقال لأهل الحرم من المشركين: 'قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُون مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ'
[سورة المؤمنون: 66 و 67].
يعني أنّهم كانوا يستكبرون بالحرم، وقال 'بِهِ سَامِراً' كانوا به يسمرون ويهجرون بالقرآن والنبيّ صلى الله عليه و آله، فخير الإيمان باللَّه والجهاد مع نبيّ اللَّه صلى الله عليه و آله على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية، ولم يكن ينفعهم عند اللَّه مع الشرك به، وإن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه. قال اللَّه تعالى: 'لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ'، يعني الذين زعموا أنّهم أهل العمارة، فسمّاهم ظالمين بشركهم، فلم تغن عنهم العمارة شيئاً.
[تفسير الدرّ المنثور 218:3].
وفيه أيضاً: عن ابن عبّاس، قال: قال العبّاس - حين اُسر يوم بدر - إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنّا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ ونفكّ العاني
[العاني: الأسير].
فأنزل اللَّه تعالى: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية، يعني أنّ ذلك كان في الشرك، فلا أقبل ما كان في الشرك.
[تفسير الدرّ المنثور 218:3].
وفيه أيضاً: عن ابن سيرين، قال: قدم عليّ بن أبي طالب عليه السلام مكّة، فقال للعبّاس: أي عمّ ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فقال: أعمر المسجد الحرام وأحجب البيت، فأنزل اللَّه 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية.
[تفسير الدرّ المنثور 218:3. ورواهما صاحب تفسير المنار 215:10 بعين ما تقدّم عن السيوطي في الدرّ المنثور].
ايراد صاحب تفسير المنار
قبل ان نتعرض لإيراده أقول: يتّضح ممّا مرّ أنّ هذه الآية الّتي نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام تعدّ من مفاخره، وستتّضح هذه الحقيقة أكثر من خلال الروايات الّتي ستأتي فيما بعد، ومن المعلوم أنّ مفهوم الآية الكريمة يشمل الآخرين، لكنّ سبب نزولها مختصّ بعليّ عليه السلام، غير أنّ بعض مفسّري العامّة يأبون إثبات فضيلة عظيمة لعليّ عليه السلام مع أنّهم يعترفون بأنّه رابع خليفة للمسلمين، ولعلّ سبب ذلك هو خوفهم من أنّهم إن أثبتوا الفضائل لعليّ عليه السلام فسيستدلّ الشيعة بتلك الفضائل الّتي أوردوها، على طريقة: من فمك اُدينك، وبذلك سيعترض عليهم في سبب تقديمهم الآخرين على عليّ عليه السلام مع اعترافهم بفضائله؛ و لذلك فإنّهم كلّما أتوا إلى الروايات الواردة في فضائل عليّ عليه السلام إمّا أن يقدحوا في سندها، وإن لم يستطيعوا طعنوا في دلالتها، وإن لم يتمكّنوا من ذلك، فإنّهم يعمدون إلى تقوية الروايات الضعيفة الّتي جعلت في مقابل فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.
ومن تلك الموارد ما أورده صاحب "تفسير المنار" فإنّه نقل رواية عن النعمان بن بشير، وقوّاها ورجّحها على جميع الروايات الّتي وردت من طرق الفريقين كما سيأتي نذر منها من أنّ الآية نزلت في فضيلة عليّ عليه السلام. و اليك لفظ الحديث النعمان مع جوابه:
في "تفسير المنار": روى مسلم وأبو داود وابن حبّان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما اُبالي أن لا أعمل للَّه عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاجّ، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل اللَّه خير ممّا قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صلّيت الجمعة دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأستفتيه فيما اختلفتم فيه "دخل بعد الصلاة فاستفتاه"، فأنزل اللَّه 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' إلى قوله تعالى: 'لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ'. [تفسير المنار 215:10].
ثمّ روى أيضاً بعض الروايات المعروفة الدالّة على أنّ الآية نزلت في عليّ عليه السلام، وبعد نقل الروايات قال: والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحّة سنده، وموافقة متنه لما دلّت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجّاجه من أعمال البرّ البدنيّة الهيّنة المستلذّة، وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشقّ العبادات النفسيّة البدنيّة الماليّة، والآيات تتضمّن الردّ عليها كلّها إلى آخره. [المصدر السابق: 216].
أقول في الجواب عنه:
أنّ رواية النعمان لا تنسجم مع الآيات من جهات مختلفة، منها:
1 - إنّ الآيات المذكورة لم تقارن بين الجهاد وسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وإنّما فاضلت بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد من جهة، وبين الإيمان باللَّه واليوم الآخر والجهاد من جهة اُخرى، وهذا يوحي بأنّ بعض النّاس كان يفاضل بين تلك الأعمال الّتي كانوا يقومون بها في الجاهلية، وبين الإيمان والجهاد، والقرآن يقول بصراحة بأنّ هذين الأمرين لا يمكن المقارنة بينهما، وليس الأمر هو المقارنة بين الجهاد وبين عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ.
2 - إنّ قوله تعالى: 'وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ' توحي بأنّ أعمال الفئة الاُولى كانت مقترنة بالظلم، إضافة إلى أنّها وقعت في حال الشرك، والقرآن يقول: 'إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ'
[سورة لقمان: 13].
وإذا كانت المقارنة بين الإيمان وبين سقاية الحاجّ المقترنة بالإيمان والجهاد فسوف لن يكون هناك مفهوم ومعنى لقوله جلّ وعلا: 'وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ'.
3 - إنّ الآية الّتي تلت الآية مورد البحث تقول: 'الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ'
[سورة التوبة: 20].
وهي تعني تفوّق ذوي الإيمان والهجرة والجهاد على غيرهم، وهذا المعنى لا ينسجم مع حديث النعمان بن بشير؛ وذلك أنّ المتحادثين - طبقاً لهذا الحديث - هم جميعاً من المؤمنين، وربّما اشتركوا في الجهاد والهجرة.
4 - كان الكلام في الآيات الّتي سبقت هذه الآية حول قيام المشركين بعمارة المساجد 'مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ'
[سورة التوبة: 17].
وتواصل الآيات مورد البحث الكلام حول نفس الموضوع، وهذا يوضّح أنّ هذه الآيات تبحث في عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ في حال الشرك، وهو لا ينسجم مع رواية النعمان.
إيراد آخر مع جوابه:
والإشكال الوحيد الّذي يبقى هو أنّ التعبير ب 'أَعْظَمُ دَرَجَةً' يوحي بأنّ طرفي المقارنة عمل جيّد وحسن، غايته أنّ أحدهما أفضل من الآخر.
والجواب على هذا السؤال يتضّح من خلال أمرين:
الأوّل: أنّ أفعل التفضيل لا تعني الأفضليّة دائماً، بل ربّما تأتي في المقارنة بين شيئين أحدهما صفر الاعتبار والأهمّية، وآخر راجح تماماً، كقوله عزّ وجلّ: 'وَالصُّلْحُ خَيْرٌ'
[سورة النساء: 128].
وخير بصيغة أفعل في حين أنّ الحرب ليست خيراً وحسنة، وكقوله تعالى: 'وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ'
[سورة البقرة: 221].
في حين أنّ المشرك لا خير فيه، وكقوله تعالى: 'لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِن أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ'
[سورة التوبة: 108].
أي أنّ مسجد قبا أحقّ أن تقوم فيه من مسجد ضرار، في حين أنّ مسجد ضرار لا خير فيه، كما أنّ الخير في مسجد قبا.
و الثاني: من الممكن أن نقول: إنّ سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام عمل جيّد حسن ذاته، وإن صدر من مشرك، لكنّه لا يقبل المقارنة والفاضلة مع الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله، ولا شكّ أنّ الإيمان والجهاد أفضل.
وخلاصة القول: إنّ رواية النعمان بن بشير لمّا خالفت القرآن فإنّها تطرح جانباً، وتضرب بعرض الجدار، والّتي تقبل هي الروايات الّتي توافق القرآن، والّتي هي الحديث المشهور الدالّ على أنّ الآية نزلت في فضيلة أمير المؤمنين عليه السلام.
سند الحديث
قال العلامة الأميني قدس سره: أخرج كثير من الحفّاظ والعلماء، مجملاً ومفصّلاً، أنّ الآية نزلت في عليّ عليه السلام، منهم:
1- الواحدي في "أسباب النزول": 182، عن الحسن، والشعبي، والقرظي. 2- القرطبي في تفسيره 91:8، عن السدّي. 3- الرازي في تفسيره. 422:4. 4- الخازن في تفسيره. 221:2. 5- أبو البركات النسفي في تفسيره.22:2. 6- الجويني في "الفرائد" في الباب الواحد والأربعين بإسناده عن أنس. 7- ابن الصبّاغ المالكي في "الفصول المهمّة": 123، من طريق واحد، عن الحسن والشعبي والقرطبي. 8- الزرندي في "نظم درر السمطين". 9- الكنجي في "الكفاية": 113، من طريق ابن جرير. 10- ابن عساكر، عن أنس. 11- ابن كثير الشامي في تفسيره. 12- السيوطي في "الدرّ المنثور"، وغير ذلك من علماء العامّة، إلى أن قال: ولا يسعنا ذكر جميع المصادر الّتي وقفنا فيها على هذه المفاخرة ونزول الآية فيها، قال: ونظم غير واحد من شعراء السلف هذه المفاخرة كسيّد الشعراء الحميري، والناشئ والبشنوي ونظرائهم. [الغدير 54:2].
نبذة من الاخبار في المقام
لقد ورد في كثير من الأخبار عند الفريقين أنّ سبب نزول الآية افتخار عليّ عليه السلام على العبّاس وغيره، وتعبير الأخبار مختلفة، والمفتخر به أيضاً مختلف حسب الروايات، ونذكر نزراً منها رعاية للاختصار؛ ولأنّ في تعدّد نقلها مزيداً من الفائدة للطالب المحترم.
عن القندوزي
افتخر طلحة بن شيبة من بني عبدالدار والعبّاس بن عبدالمطلب وعليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال طلحة: معي مفتاح البيت، وقال العبّاس: أنا صاحب السقاية، وقال عليّ عليه السلام: 'لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل النّاس، وأنا صاحب الجهاد'، فأنزل اللَّه تعالى: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ'. [ينابيع المودّة: 93].
و روى السيوطي عن ابن مردويه، عن ابن عبّاس
قال: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية، نزلت في عليّ بن أبي طالب والعبّاس.
وعنه أيضاً: عن الشعبي
قال: كانت بين عليّ والعبّاس منازعة، فقال العبّاس لعليّ: أنا عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله وأنت ابن عمّه، وإلَيّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فأنزل اللَّه تعالى: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية. [تفسير الدرّ المنثور 218:3].
وعنه أيضاً: عن ابن جرير، عن محمّد بن كعب القرظي
قال: افتخر طلحة بن شيبة والعبّاس وعليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، وقال العبّاس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال عليّ عليه السلام: 'ما أدري ما تقولون، لقد صلّيت إلى القبلة قبل النّاس، وأنا صاحب الجهاد'، فأنزل اللَّه تعالى: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية.
وروى العلامة الإربلي
عن الواحدي في تفسيره نحوه، إلا أنّه زاد في قوله عليه السلام: 'لقد صلّيت - ستّة أشهر - قبل النّاس'، وكذا في ذيل الحديث زاد - بعد آية 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' - إلى أن قال: 'الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ' إلى قوله: 'أَجْرٌ عَظِيمٌ'، فصدّق اللَّه عليّاً في دعواه، وشهد له بالإيمان والمهاجرة والجهاد وزكّاه، ورفع قدره بما أنزل فيه وأعلاه، وكم له من المزايا الّتي لم يبلغها أحد سواه.
وعن ابن المغازلي بإسناده إلى أبي حمزة، عن إسماعيل بن عامر
قال: نزلت هذه الآية 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية في عليّ والعبّاس. [المناقب لابن المغازلي الشافعي: 321، ح 367].
وفيه أيضاً: عن عبداللَّه بن عبيدة الربذي
قال: قال عليّ عليه السلام للعبّاس: 'يا عمّ، لو هاجرت إلى المدينة؟'، قال: أولستُ في أفضل من الهجرة؟ ألست أسقي حاجّ بيت اللَّه، وأعمر المسجد الحرام؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية. [المصدر السابق: 322، ح 368].
عن عبداللَّه بن عبيدة، نحوه، إلا أنّه زاد في آخره: فنزلت هذه الآية، يعني قوله تعالى: 'أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ'، قال: فجعل اللَّه للمدينة فضل درجة على مكّة.
[تفسير الدرّ المنثور 218:3].
و روى الطبرسي و غيره من المفسرين عن الحاكم الحسكاني، بإسناده عن ابن بريدة، عن أبيه
قال: بينا شيبة والعبّاس يتفاخران إذ مرّ بهما عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: 'بماذا تتفاخران؟'، فقال العبّاس: لقد اُوتيت من الفضل ما لم يؤت أحدٌ، سقاية الحاجّ. وقال شيبة: اُوتيتُ عمارة المسجد الحرام، فقال عليّ عليه السلام: 'استحييت لكما، فقد اُوتيتُ على صغري ما لم تؤتيا؟!'، فقالا: وما اُوتيت يا عليّ؟، فقال: 'ضربت خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما باللَّه ورسوله'، فقام العبّاس مغضباً يجرّ ذيله حتّى دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقال: أما ترى إلى ما يستقبلني به عليّ؟ فقال: 'ادعوا لي عليّاً'، فدُعي له، فقال: 'ما دعاك إلى ما استقبلت به عمّك؟'، فقال: 'يا رسول اللَّه، صدمته بالحقّ، فمن شاء فليغضب، ومن شاء فليرض'، فنزل جبرئيل وقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عليهم: 'أجعلتم سقايَة الحاجّ' الآية، فقال العبّاس: إنّا قد رضينا - ثلاث مرّات
[تفسير مجمع البيان 15:5، تفسير نور الثقلين 194:2، تفسير البرهان 110:2. وروي نحوه في "الفصول المهمّة" لابن الصبّاغ المالكي: 124، عن الحسن والشعبي والقرطبي].
وروى الجويني بسنده عن عبّاد بن عبدالصمد أبي معمّر، عن أنس بن مالك
قال: قعد العبّاس بن عبدالمطّلب وشيبة صاحب البيت "الكعبة" يفتخران، فقال له العبّاس: أنا أشرف منك، أنا عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ووصيّ أبيه، وسقاية الحجيج لي. فقال له شيبة: أنا أشرف منك، أنا أمين اللَّه على بيته وخازنه، أفلا ائتمنك كما ائتمنني؟ وهما في ذلك يتشاجران حتّى أشرف عليهما عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له العبّاس: أفترضى بحكمه؟ قال: شيبة، نعم، قد رضيت، فلمّا جاءهما قال العبّاس: على رسلك يابن أخي، فوقف عليّ عليه السلام، فقال له العبّاس: إنّ شيبة فاخرني، فزعم أنّه أشرف منّي. قال عليّ عليه السلام: 'فماذا قلت أنت يا عمّاه؟'، قال: قلت له: أنا عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ووصيّ أبيه، وساقي الحجيج، أنا أشرف منك، فقال لشيبة: 'ماذا قلت له أنت يا شيبة؟'، قال: قلت له: بل أنا أشرف منك، أنا أمين اللَّه وخازنه، أفلا ائتمنك كما ائتمنني؟ قال: فقال لهما: 'اجعلا لي معكما فخراً'، قالا: نعم، قال: 'فأنا أشرف منكما، أنا أوّل من آمن بالوعيد من ذكور هذه الاُمّة، وهاجر وجاهد'.
فانطلقوا ثلاثتهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فجثوا بين يديه، فأخبر كلّ واحد منهم بفخره، فما أجابهم النبيّ صلى الله عليه و آله بشي ء، فنزل الوحي بعد أيّام، فأرسل إلى ثلاثتهم فأتوه، فقرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه و آله: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَيَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ'.
[فرائد السمطين 203:1، ح 159، وأخرجه السيوطي في "الدرّ المنثور" 219:3، عن أبي نعيم في فضائل الصحابة، وابن عساكر عن أنس، وأورده الأميني في الغدير 53:2 عن الطبري، عن أنس].
و روى الكليني عن أبي بصير، عن أحدهما
في قول اللَّه عزّ وجلّ: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية: 'نزلت في حمزة وعليّ وجعفر والعبّاس وشيبة، إنّهم فخروا بالسقاية والحجابة، فأنزل اللَّه جلّ وعزّ: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية، وكان عليّ وحمزة وجعفر الذين آمنوا باللَّه واليوم الآخر، وجاهدوا في سبيل اللَّه 'لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ''.
وفي "تفسير نور الثقلين" عن "تفسير مجمع البيان"
أنّ عليّاً عليه السلام قال للعبّاس: 'يا عمّ، ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟'، فقال: ألست في أعظم من الهجرة؟ أعمر المسجد الحرام وأسقي حجّ بيت اللَّه، فنزل: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ' الآية. [تفسير نور الثقلين 194:2].
وممّا يؤيّد أنّها نزلت في عليّ ما رواه في "تفسير البرهان"
عن "أمالي الشيخ" بإسناده إلى الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، يرفعه إلى أبي ذرّ - في حديث الشورى - فيما احتجّ به عليّ عليه السلام على القوم، وقال لهم في ذلك: 'فهل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية: 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية غيري؟'، قالوا: لا.
[تفسير البرهان 110:2، وأخرج نحوه في تفسير نور الثقلين 194:2، عن احتجاج الطبرسي].
وأنشأ الناشئ:
إذ فاخر العبّاس عمّ المصطفى*** لعليّ المختار صهر محمّد
بعمارة البيت المعظّم شأنه*** وسقاة الحجّاج وسط المسجد
فأتى بها جبريل عن ربّ السما*** يقري السلام على النبيّ المهتدي
أجعلتم سقي الحجيج وما يرى*** من ظاهر الأستار فوق الجلمد
كالمؤمنين الضاربي هام العدى*** وسط العجاج بساعد لم يرعد
[المناقب لابن شهرآشوب 69:2].
وأنشأ البشنوي:
يا قاري القرآن مع تأويله*** مع كلّ محكمة أتت في حال
أعمارة البيت المحرّم مثله*** وسقاية الحاجّ في الأمثال
أم مثلي التيمي أم عدويهم*** هل كان في حال من الأحوال
لا والّذي فرض على وداده*** ما عندي العلماء كالجهّال
عليّ في سورة هل أتى
عن ابن عبّاس، قوله تعالى: 'إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً' إلى قوله تعالى: 'إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُوراً' نزلت في عليّ عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
تفسير مجمع البيان 404:10. والآيات من سورة الدهر 22:5.