سبب نزول آيات الأبرار

في كثير من التفاسير وكتب الحديث والسِّير والتاريخ أنّ الآيات نزلت في حقّ الإمام عليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهم السلام.

قال شيخ الطائفة: روت الخاصّة والعامّة أنّ هذه الآيات نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فإنّهم آثروا المسكين واليتيم والأسير ثلاث ليالٍ على إفطارهم، وطووا عليهم السلام ولم يفطروا على شي ء من الطعام، فأثنى اللَّه عليهم هذا الثناء الحسن، وأنزل فيهم هذه السورة، وكفاك بذلك فضيلة جزيلة تتلى إلى يوم القيامة، ثمّ قال: وهذا يدلّ على أنّ السورة مدنيّة. [تفسير التبيان 211:10].

وعن الطبرسي في تفسيره، قال: قد روى الخاصّ والعامّ أنّ الآيات من هذه السورة 'إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ' إلى قوله تعالى: 'وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُوراً' [سورة الدهر 22:5].

نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وجارية لهم تسمّى فضّة، وهو المرويّ عن ابن عبّاس ومجاهد وأبي صالح والقصّة طويلة جملتها أنّهم قالوا: مرض الحسن والحسين عليهماالسلام فعادهما جدّهما صلى الله عليه و آله ووجوه العرب، وقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك نذراً، فنذر صوم ثلاثة أيّام إن شفاهما اللَّه سبحانه، ونذرت فاطمة كذلك، وكذلك فضّة، فبرءا وليس عندهم شي ء، فاستقرض عليّ عليه السلام ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ، وروي أنّه أخذها ليغزل له صوفاً، وجاء به إلى فاطمة "سلام اللَّه عليها"، فطحنت صاعاً منها فاختبزته، وصلّى عليّ عليه السلام المغرب وقرّبته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم فأعطوه، ولم يذوقوا إلا الماء، فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعاً فطحنته وخبزته وقدّمته إلى عليّ عليه السلام، فإذا يتيم في الباب يستطعمهم، فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء، فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته واختبزته وقدّمته إلى عليّ عليه السلام، فإذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه، ولم يذوقوا إلا الماء.

فلمّا كان اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أتى عليّ عليه السلام ومعه الحسن والحسين عليهماالسلام إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وبهما ضعف، فبكى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونزل جبرئيل بسورة هل أتى.

[تفسير مجمع البيان 404:1. وروى نحوه العلامة التستري في الإحقاق 157:3، عن الجمهور كافّة].

دلالة آيات الأبرار على فضائل أهل البيت

قوله تعالى: 'إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ...' الأبرار في الآية جمع برّ، أو بارّ محلّى باللام، فظهوره في الشمول ممّا لا ريب فيه، وإنّما اُطلق على عليّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام تبياناً لكونهم أكمل الأبرار، وأذاناً بأنّهم الأخيار، وبرهاناً على أنّهم صفوة الصفوة، وحجّة على أنّهم خيرة الخيرة، وأيّ عبارة فاضلة شريفة مقدّسة تكافئ قول اللَّه تعالى فيهم: 'إِنَّ الْأَبْرَارَ' عليّاً وفاطمة والحسن والحسين، 'يَشْرَبُونَ' الشراب الطيّب الطاهر يوم العطش الأكبر، 'مِن كَأْسٍ' هي الزجاجة إذا كان فيها الشراب، ويسمّى الشراب نفسه كأساً أيضاً، وقد وصفها بقوله: 'كَافُوراً' لأنّ ماءها في بياض الكافور ورائحته وبرودته، والدليل على أنّ الكافور اسم عين في الجنّة قوله تعالى: 'عَيْناً' بدل من 'كَافُوراً'، 'يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ' عليّ وفاطمة والحسنان، وأمثالهم من الكاملين في العبوديّة للَّه سبحانه الذين يمشون على الأرض هوناً... إلى آخر ما اشتملت عليه آيات الفرقان من صفاتهم الكاملة، وهذه العين 'يُفَجِّرُونَهَا' أي يجرونها حيث شاءوا من كلّ مكان أرادوا 'تَفْجِيراً' سهلاً يسيراً، وقد بيّن اللَّه تعالى السبب في استحقاقهم لهذه الكرامة فقال: 'يُوفُونَ بِالنَّذْرِ' جواباً لسؤال مقدّر، تقديره ما الّذي فعلوه فاستحقّوا به هذا الجزاء؟ وأنت تعلم أن ليس المراد من وصفهم بالوفاء بالنذر إلا المبالغة في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات؛ لأنّ من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه اللَّه عليه أوفى، وتلك شهادة لهم من اللَّه تعالى على المبالغة في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات حتّى بالغ في بُعدهم عن المحرّمات والشبهات بما وصفهم فيه من خشية اللَّه والخوف من يوم القيامة، حيث قال: 'وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً' [مستطيراً: أي فاشياً].

يريد بذلك أنّ هذا الخوف العظيم يستوجب كونهم نصب أمره ونهيه، وتلك منزلة المعصومين.

ومن تدبّر القرآن وغاص في أسراره، وجد في هذه الآيات من عناية اللَّه تعالى في هؤلاء الأبرار أمراً عظيماً، لا يوصف بكيف ولا يقدّر بكم. ألا ترى كيف رتّب هذه الشهادات في تزكيتهم، فكانت كلّ شهادة أكبر من سابقتها؛ إذ شهد أوّلاً بأنّهم يوفون بالنذر، ثمّ شهد ثانياً بأنّهم يخافون يوماً كان شرّه مستطيراً، فكانت أعظم من الاُولى لدلالتها بصريح العبارة على رسوخ الإيمان باللَّه واليوم الآخر، ثمّ شهد لهم ثالثاً بما هو أعظم من ذلك فقال: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً'

[المسكين: البائس العاجز، أي الفقير، واليتيم: هو الطفل الّذي لا والد له، والأسير قيل: إنّ المراد به هنا من أسره المسلمون في الحرب مع أعداء اللَّه والإسلام، وفي تفسير الكاشف "284:7": وروي أنّ الصحابة كانوا إذا أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأسير من أعداء اللَّه وأعدائه صلى الله عليه و آله دفعه إلى بعض المسلمين وقال له: أحسن إليه، فيأخذه إلى بيته ويؤثره على نفسه وأهله].

الضمير في حبّه للطعام على الأظهر، والمعنى أنّهم يطعمون الطعام مع حبّه لشدّة جوعهم بسبب صومهم ثلاثة أيّام، لا يذوقون في لياليها غير الماء، وهذا على حدّ قوله تعالى: 'وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ' [سورة البقرة: 177].

وقوله سبحانه: 'لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ' [سورة آل عمران: 92].

وقوله: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ'. [سورة الحشر: 9].

وإنّما كانت هذه الشهادة أعظم لكشفها عن كمال نفوسهم، وبلوغهم أقصى الغايات في حبّ الخير والإيثار على أنفسهم إشفاقاً على المسكين، ورأفة باليتيم، وعطفاً على الأسير.

وأنت تعلم أنّهم لو لم يؤثروهم لما كان عليهم في ذلك من جناح، لكنّهم مثّلوا الجنان والمرحمة بأجلى مظاهرهما حين لم يكونوا مكلّفين بذلك ولا مسؤولين عنه، وتلك من أفضل صفات المقرّبين.

بقي أعظم الشهادات وأجلّها وأدلّها على تزكيتهم، ألا وهو الّذي أشار إليه سبحانه تعالى حيث قال بلسان حالهم عن مكنون سرائرهم: 'إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً'، يعني لا نريد مكافأة منكم ولا من غيركم، وإنّما نطعم ونبذل بدافع التقرّب إلى اللَّه تعالى والخوف من يوم تفحص فيه الأعمال وتكثر فيه الأهوال.

وأنت إذا تدبّرت بشائره لهم بالأمن من أهوال ذلك اليوم، تعرف مزيد عنايته بهم عليهم السلام، حيث لم يكتف منها ببشارة واحدة، بل جعل البشائر مترادفة متوالية، وكلّ واحدة منها أعظم من سابقتها قال أوّلاً: 'فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً'، أي كفاهم اللَّه، ومنع عنهم أهوال يوم القيامة وشدائده، ولقّاهم وأعطاهم نضرة في الوجوه وسروراً في القلب بدل عبوس أعدائهم وحزنهم، وبالجملة خافوا يوم القيامة فاتّقوا شرّه بطاعة اللَّه والإخلاص له، فبدّلهم من بعد خوفهم أمناً، فأشرقت وجوههم بنور البشر والفرحة، ثمّ ترقّى في البشارة فقال: 'وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً'، وجزاهم اللَّه بما صبروا على شدّة الجوع وإيثار غيرهم ابتغاءً لمرضاة اللَّه بالجنّة والحرير، ولم يكتف في البشارة بالجنّة على سبيل الإجمال حتّى فصّل فيها أكثر الأقوال فقال: 'مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا' فهم في منتهى الراحة والرفاهيّة والغبطة والحبور، مستبشرين فكهين غير رائين شمساً ولا زمهريراً، والحال أنّ ظلالها دانية عليهم، ثمّ لم يكتف سبحانه بهذا القدر من البيان في كرامتهم عليهم السلام حتّى قال: 'وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً'، بمعنى تدلو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، والمراد قطوفها جعلها ذللاً لا تمتنع على قاطفها متى أراد وكيف شاء، ويجوز أن تكون مأخوذة من الذلّ بمعنى الخضوع لسهولة قطفها كيف شاء قطّافها.

ولو اكتفى اللَّه تعالى سبحانه بهذا المقدار من بيان فوزهم في دار كرامته لكفاهم شرفاً وفضلاً، ولكنّه سبحانه آثر الاطناب فيما تحدّى به من معجزات الكتاب ليشمل بذلك عنايته التامّة فيهم تمثيلاً، وليفضّلهم على من سواهم تفضيلاً، فقال: 'وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا' إلى قوله: 'وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً'، وأنت إذا أمعنت النظر فيما ألقاه عزّ وجلّ إليهم في ختام البشائر العظيمة والمواهب الجسيمة، تتمثّل لك عناية اللَّه بهم قالباً حسيّاً، وترى كرامتهم عليه وسموّ منزلتهم لديه شخصاً مرئياً؛ وذلك أنّه ختم كلامه في شؤونهم بقوله مخاطباً لهم: 'إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُوراً'، وهذا الإكرام الّذي فصّلناه في القرآن، وفضّلناكم على العالمين كان لكم جزاءً على أعمالكم المقدّسة الّتي استوجبت هذا الإكرام الجسيم لم تنالوه بشفاعة أو بمجرّد فضل، وإنّما أخذتموه بالاستحقاق والعدل، وكان سعيكم مع ذلك كلّه مشكوراً؛ ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم.

[راجع الفصول المهمّة للإمام السيّد شرف الدين: 238 - 232، وتفسير مجمع البيان 404:10 و 405، وتفسير التبيان 212 - 210 :10].

لفظ الحديث

من كرام الآيات الّتي نزلت في شأن عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام آيات الأبرار ال "18" من سورة "هل أتى"، والروايات الواردة في أنّها نزلت في شأنهم عليهم السلام كثيرة جدّاً بلغت حدّ التواتر.

قال الإمام السيّد شرف الدين "نوّر اللَّه مضجعه": أجمع أولياء أهل البيت تبعاً لكافّة أئمّتهم، على نزول آيات الأبرار في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وصحاحهم في ذلك متواترة من طريق العترة الطاهرة، وهذا عندهم من الضروريات الّتي لا يجهلها أحد، وقد أخرجه عن ابن عبّاس جماعة من أعلام غيرهم، كالإمام الواحدي في كتابه البسيط، والإمام أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير، والإمام أبي المؤيّد موفّق بن أحمد في كتاب الفضائل، وغير واحد من الحفظة وأهل الضبط.

[الفصول المهمّة للسيّد شرف الدين: 230].

أقول: قد ذكرنا في هذا الفصل بعض ما ورد من الفريقين، ونحيل القرّاء إلى أهمّ مظانّها.

[راجع: الغدير 111 - 107 :3، والإحقاق 157:2].

و نذكر نبذة منها:

روى السيوطي عن ابن عباس

قوله تعالى: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً'، قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول اللَّه عليهماالسلام.

[تفسير الدرّ المنثور 299:6].

وقال الطبرسي في تفسيره

في رواية عطاء عن ابن عبّاس: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام آجر نفسه ليستقي نخلاً بشي ء من شعير ليلة حتّى أصبح، فلمّا أصبح وقبض الشعير طحن ثلثه، فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه، يقال له: الحريرة، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام، ثمّ عمل الثلث الثاني، فلمّا تمّ إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه، ثمّ عمل الثلث الثالث، فلمّا تمّ إنضاجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومهم. [مجمع البيان 404:10].

وعنه أيضاً ذكر الواحدي في تفسيره، وذكر عليّ بن إبراهيم: أنّ أباه حدّثه عن عبداللَّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'كان عند فاطمة "سلام اللَّه عليها" شعير، فجعلوه عصيدة، فلمّا أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين، فقال المسكين: رحمكم اللَّه "أطعمونا ممّا رزقكم اللَّه

[ما بين القوسين في هذا ما يتلوه نقل عن تفسير عليّ بن ابراهيم القمي].

فقام عليّ عليه السلام فأعطاه ثلثها، فلم يلبث أن جاء يتيم، فقال اليتيم: رحمكم اللَّه، "أطعمونا ممّا رزقكم اللَّه"، فقام عليّ عليه السلام فأعطاه الثلث، فلم يلبث أن جاء أسير فقال الأسير: رحمكم اللَّه، "أطعمونا ممّا رزقكم اللَّه"

[ما بين الأقواس نقل عن تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي].

فقام عليّ عليه السلام فأعطاه الثلث الباقي، وما ذاقوها، فأنزل اللَّه الآيات فيهم، وهي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك للَّه عزّ وجلّ، وفي هذا دلالة على أنّ السورة مدنيّة.

[تفسير مجمع البيان 405:10، وراجع: تفسير عليّ بن إبراهيم 398:2].

و روى الزمخشري عن ابن عبّاس

قال: أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام مرضا فعادهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك؟

[كذا في المصدر، والسياق: 'ولديك'].

فنذر عليّ وفاطمة وفضّة - جارية لهما - إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام، فشفيا وما معهم شي ء، فاستقرض عليّ عليه السلام من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللَّه من موائد الجنّة، فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّ عليه السلام بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: 'ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم'، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبرئيل وقال: خذها يا محمّد، هنّأك اللَّه في أهل بيتك، فأقرأه السورة، يعني: 'هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ' السورة.

[تفسير الكشّاف 197:4].

و روى الجويني بسنده عن مجاهد، عن ابن عبّاس

في قوله عزّ وجلّ: 'يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً'، قال: مرض الحسن والحسين عليهماالسلام، فعادهما جدّهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعادهما عمومة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك نذوراً؟ فقال عليّ عليه السلام: 'إن برءا صمتُ للَّه ثلاثة أيّام شكراً'، وقالت فاطمة كذلك، وقالت جارية لهم نوبيّة - يقال لها فضّة -: كذلك، وقال الصبيان: 'نحن نصوم ثلاثة أيّام'، فعافاهما اللَّه، وليس عند آل محمّد قليل ولا كثير!! فانطلق عليّ عليه السلام إلى شمعون بن حانا الخيبري - وكان يهوديّاً - فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فوضعه في ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع منها فطحنته فاختبزته، وصلّى عليّ مع النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، فأتاهم مسكين فوقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، مسكين من أولاد المساكين، أطعموني أطعمكم اللَّه على موائد الجنّة، فسمعه عليّ عليه السلام فأنشأ يقول:

فاطم ذات الخير واليقين*** يا بنت خير النّاس أجمعين

أما ترينَ البائس المسكين*** قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى اللَّه ويستكين*** يشكو إلينا جائع حزين

كلّ امرى ء بكسبه رهين*** فأجابته فاطمة "سلام اللَّه عليها":

'أمرك سمع يابن عمّ وطاعه*** ما لي من لؤم ولا وضاعه

اُطعمه ولا اُبالي الساعه*** أرجو لئن أشبع من مجاعه

أن ألحق الأخيار والجماعه*** وأدخل الجنّة ولي شفاعه'

قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته وخبزته، وصلّى عليّ مع النبيّ صلى الله عليه و آله، ثمّ أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، فأتاهم يتيم فقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة، فسمعه عليّ فأنشأ يقول:

'فاطم بنت السيّد الكريم*** بنت نبيّ ليس بالذميم

قد جاءنا اللَّه بذا اليتيم*** من يرحم اليوم فهو رحيم

قد حرّم الخلد على اللئيم*** ينزل في النّار إلى الجحيم'

قال: فأعطوه الطعام، ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلا الماء، فلمّا كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلّى عليّ عليه السلام مع النبيّ صلى الله عليه و آله، ثمّ أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فأتاهم أسير فوقف على الباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة، تأسروننا وتشدّوننا ولا تطعموننا؟ أطعموني أطعمكم اللَّه، فأنشأ عليّ عليه السلام يقول:

'فاطم يا بنت النبيّ أحمد*** بنت نبيّ سيّد مسوّد

هذا أسير للنبيّ المهتد*** مثقِّل في غلّه مقيّد

يشكو إلينا الجوع قد تمدّد*** من يطعم اليوم يجده في غد

عند العليّ الواحد الموحّد*** ما يزرع الزارع سوف يحصد'

فقالت فاطمة:

'لم يبق ممّا جئت غير صاع*** قد دميت كفّي مع الذراع

ابناي واللَّه هما جياع*** يا ربّ لا تتركهما ضياع

أبوهما في المكرمات ساع*** يصطنع المعروف بالإسراع

عبل الذراعين شديد الباع'

قال: فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيّام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلا الماء، فلمّا كان اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ عليّ الحسن بيمناه، والحسين بشماله، وأقبل نحو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، فلمّا بصره النبيّ صلى الله عليه و آله قال: 'يا أبا الحسن، ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم، انطلق بنا إلى فاطمة'، فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع، وغارت عيناها، فلمّا رآها النبيّ صلى الله عليه و آله قال: 'واغوثاه باللَّه أهل بيت محمّد يموتون جوعاً!'.

فنزل جبرئيل عليه السلام، فقال: يا محمّد، خذها هنّأك اللَّه في أهل بيتك، فقرأ عليه: 'هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ' إلى قوله: 'إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً'.

[فرائد السمطين 53:2، ح 383. وروى سبط ابن الجوزي في تذكرته: 281، والقندوزي في ينابيع المودّة: 93، والإربلي في كشف الغمّة 413:1، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 200:2، نحوه].

وروى الآلوسي بإسناده عن عطاء، عن ابن عبّاس

أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام مرضا فعادهما جدّهما محمّد صلى الله عليه و آله ومعه أبو بكر وعمر، وعادهما من الصحابة، فقالوا لعليّ عليه السلام: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك؟ فنذر عليّ وفاطمة وفضّة - جارية لهما - إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام شكراً، فألبس اللَّه تعالى الغلامين ثوب العافية، وليس عند آل محمّد قليل ولا كثير، فانطلق عليّ عليه السلام إلى شمعون اليهودي الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها، فقامت فاطمة "سلام اللَّه عليها" إلى صاع فطحنته، وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم، وصلّى عليّ عليه السلام مع النبيّ صلى الله عليه و آله المغرب، ثمّ أتى فوضع الطعام بين يديه، فوقف بالباب سائل، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللَّه تعالى من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئاً إلا الماء وأصبحوا صياماً، ثمّ قامت فاطمة "سلام اللَّه عليها" إلى صاع آخر فطحنته وخبزته، وصلّى عليّ مع النبيّ صلى الله عليه و آله المغرب، ثمّ أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فوقف يتيم بالباب، وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، يتيم من أولاد المهاجرين، أطعموني أطعمكم اللَّه تعالى من موائد الجنّة، فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلا الماء القراح، وأصبحوا صياماً.

فلمّا كان يوم الثالث قامت فاطمة "سلام اللَّه عليها" إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزته وصلّى عليّ عليه السلام مع النبيّ المغرب، فأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فوقف أسير بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد صلى الله عليه و آله، أنا أسير محمّد صلى الله عليه و آله، أطعموني أطعمكم اللَّه، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء القراح، فلمّا أصبحوا أخذ عليّ عليه السلام الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ورآهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: 'يا أبا الحسن، ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم'، وقام فانطلق معهم إلى فاطمة "سلام اللَّه عليها" فرآها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدّة الجوع، فرقّ لذلك صلى الله عليه و آله وساءه ذلك، فهبط جبرئيل عليه السلام فقال: خذها يا محمّد، هنّأك اللَّه تعالى في أهل بيتك، قال: 'وما آخذ يا جبرئيل؟' فأقرآه: 'هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ' السورة.

[تفسير روح المعاني 157:29، نقلاً عن الإحقاق 166:3].

و عن ابن المغازلي

بسنده عن طاووس بن اليمان، في هذه الآية: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً' الآية، نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ وذلك أنّهم صاموا وفاطمة وخادمتهم، فلمّا كان عند الإفطار، وكانت عندهم ثلاثة أرغفة، قال: فجلسوا ليأكلوا فأتاهم سائل، فقال: أطعموني، فإنّي مسكين، فقام عليّ عليه السلام فأعطاه رغيفه، ثمّ جاء سائل فقال: أطعموا اليتيم، فأعطته فاطمة الرغيف، ثمّ جاء سائل فقال: أطعموا الأسير، فقامت الخادمة فأعطته الرغيف، وباتوا ليلتهم طاوين، فشكر اللَّه لهم، فأنزل فيهم هذه الآيات.

[المناقب لابن المغازلي: 272، ح320].

وبالجملة: السند متواتر واضح لا شبهة فيه، فقد روى الحديث كثير من العامّة، وذكرهم العلامة الأميني فبلغوا أكثر من ثلاثين نفراً من علماء العامّة من ابن عبّاس، وكافّة علماء الإماميّة رووا عن أهل البيت عليهم السلام نزول سورة 'هل أتى' في عليّ وفاطمة والحسنين عليهم السلام.

[ومن أراد الاطّلاع على كتب العامّة في هذا المقام فليراجع الإحقاق 170 - 157 :2، والغدير 111 - 107 :3. و راجع أيضاً: تفسير الرازي 243:30، فتح القدير 349:5، معالم التنزيل 498:5، تفسير أبي السعود 73:9، تفسير البيضاوي 552:2، تفسير النسفي 628:3، روح البيان 268:10، تذكرة الخواصّ: 281، شواهد التنزيل 300:2، وغيرها كثير].

احتجاج المأمون على الفقهاء بهذه الآيات في فضل عليّ

روى أحمد بن محمّد بن عبدربّه الأندلسي المالكي عن إسحاق بن إبراهيم - في حديث طويل

[تقدّم بعضه في فصل "عليّ عليه السلام أوّل من أسلم"].

- ثمّ قال المأمون: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟

قلت: نعم، قال إقرأ علَيّ: 'هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً'، فقرأت منها حتّى بلغت: 'يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً' إلى قوله: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً'، قال: على رسلك، فيمن نزلت هذه الآيات؟ قلت: في عليّ عليه السلام، قال: فهل بلغك أنّ عليّاً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير، قال: 'إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ' | قلت: أجل، قال:| وهل سمعت اللَّه وصف في كتابه أحداً بمثل ما وصف به عليّاً عليه السلام؟ قلت: لا، قال: صدقت لأنّ اللَّه جلّ ثناؤه عرف سيرته.

[العقد الفريد 96:5، وراجع الإحقاق 188:3].

أقول: وهذه منقبة لها عند اللَّه محلّ كريم، وجودهم بالطعام مع شدّة الحاجة إليه أمرٌ عظيم، ولهذا تَتابَعَ وعده سبحانه في الآيات بأنواع الألطاف.

يستفاد من الآيات أنّ الإنفاق مطلوب من عامّة البشر

هذه الآية: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً' ترجع إلى الإحسان وإذابة المهجة في خدمة النوع الإنساني، فالآية تستبطن مدحاً للسخاء، وتحثّ الإنسان على إكرام الفقير من اُمّته والضعفاء، وعلى من هو أجنبي عنه، بل هو من أعدائه، فالمسكين واليتيم قد يكون من اُمّته، فأمّا الأسير فإنّه من قوم أعداء حاربوهم، فأسروا فريقاً منهم، فهؤلاء الأسرى حمد اللَّه الإحسان إليهم.

فملخّص الآية أنّ الإنسان يجب أن يكون نوراً ونافعاً لبني البشر من أبناء ملّته، ومن غيرهم، فإنّ جميع الناس عبّاد اللَّه وأقربهم إليه ألطفهم بعباده، وكلّما زاد الإنسان رأفته بهم ازداد من اللَّه قرباً، وهذا هو الصراط المستقيم، فليكن الإنسان على سنن اللَّه وصراطه المستقيم، ألا ترى أنّه أرسل الشمس والقمر والنجم فأضاءت على البَرِّ والفاجر، والخبيث والطيّب، والصحيح والمريض، فكلّما عمّ نفع الإنسان كان إلى ربّه أقرب، ويشاهد ذلك في الإلهامات الّتي تتوالى عليه، وفي المساعدات الدائمة، وهذا هو المقصود من الآيات، واللَّه العالم.

[اقتباس عن الجواهر في تفسير الميزان جزء 24 من جلد 24].

ايرادات على سبب نزول الآية وجوابها

قال بعض المعاندين فى الايراد على هذا الانفاق

بانّه: هل يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدّ ويجوّع نفسه وأهله حتّى يشرف على الهلاك، وقد قال اللَّه تعالى: 'وَيَسْأَ لُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ'

[سورة البقرة: 219].

والعفو ما كان فاضلاً من نفقة العيال، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'خيرُ الصدقة ما يكون صنواً عفواً'.

[راجع الإحقاق 170:3].

اما الجواب عنه:

قال العلامة التستري رحمه الله في جواب ذلك: صرّح المفسّرون - ومنهم الرازي في تفسيره، والزمخشري في "الكشّاف"، والسيوطي في "الدرّ المنثور"، وغيرهم من علماء العامّة، كما مرّت رواياتهم - أنّ الآيات نزلت في شأن عليّ وفاطمة والحسنين عليهم السلام، وسبب نزولها أنّ الحسن والحسين مرضا، وعلى هذا فمن لم يذكر من المفسّرين أنّها نزلت في عليّ عليه السلام أبقى الآيات على عمومها؛ لعدم وصول سبب النزول إليه، أو لقصد إخفائه عداوة لأهل البيت عليهم السلام، لا أنّه ذكر نزولها في شأن جماعة مخصوصة غيرهم عليهم السلام.

وأمّا ما ذكره من إنكار كثير من المحدّثين المفسّرين لهذه الرواية، وتكلّمهم في جواز المبالغة في الصدقة إلى هذا الحدّ، فالظاهر أنّه من تشكيكات نفسه دون أحد من المحدّثين والمفسّرين، ولو كان لذلك أصل لذكره المشكّك في كلّ شي ء - أعني فخر الدين الرازي - في تفسيره.

وأمّا توهّمه من منافاة قوله تعالى: 'وَيَسْأَ لُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ' الآية، لذلك، فمدفوع بأنّ العفو كما فُسّر بما ذكره المخالف، كذلك فسّر بأفضل المال وأطيبه، ويؤيّده قوله تعالى: 'لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ'.

[سورة البقرة: 92].

وما رواه من قوله صلى الله عليه و آله: 'خير الصدقة ما يكون صنواً عفواً'، معارض لقوله صلى الله عليه و آله: 'خير الصدقة ما أبقت غنى'.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فنقول: إنّما تلزم المنافاة لو لم ينفق عيال عليّ عليه السلام قوتهم معه على ذلك الوجه، وأمّا إذا أتى صاحب العيال بما وجب عليه من النفقة وهم باختيارهم آثروا المسكين و اليتيم والأسير على أنفسهم بإعطاء كلّ واحد منهم حصّة قوتهم لهم، فلا منافاة. [الإحقاق 171:3].

ما قاله ابن حزم الاندلسي

في خلال الأقاويل و الأكاذيب على الشيعة، قال: لسنا من كذب الرافضة في تأويلهم 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً' و إنّ المراد بذلك عليّ بن أبي طالب، قال: بل هذا لا يصحّ، بل الآية على عمومها و ظاهرها لكلّ من فعل ذلك.

[الغدير 106:3 عن الملل و النحل].

أقول في الجواب:

أوّلاً: أنّ كون مفهوم الآيات عامّاً لا ينافي نزولها في مورد خاصّ، فإنّ لكثير من الآيات القرآنيّة مفهوماً عامّاً شاملاً، لكنّ سبب نزولها مورد خاصّ يكون أتمّ وأكمل مصداق لها، والعجب من ابن حزم الّذي جعل كون مفهوم الآية عامّاً دليلاً على نفي سبب نزولها.

وثانياً: أنّ مجرّد نسبة هذا التأويل إلى الشيعة وقذفهم بالكذب، ثمّ اتباع ذلك بعدم صحّة هذا التأويل لا يحطّ من كرامة الحديث الوارد في الآية الشريفة، وهو يعلم أنّ اُمّة كبيرة من أئمّة التفسير والحديث يروون ذلك، ويثبتونه مسنداً في مدوّناتهم، وإن كان لا يدري فتلك مصيبة.

وقد ترى أنّ أبا محمّد العاصمي أفرد في ذلك كتاباً في مجلّدين سمّاه ب "زين الفتى في تفسير سورة هل أتى"، وهل يزعم هذا المغفّل المعاند أنّ اُولئك من الرافضة، أو يحسبهم جهلاء بشرائط صحّة الحديث؟ أم أنّه لا يعتدّ بكلّ ما وافق الرافضة وإن كان مخرّجاً بأصحّ الأسانيد؟

و هو من الإشكالات الواهية الاُخرى

الّتي تطرح أنّهم يقولون: كيف يمكن لإنسان أن يبقى جائعاً ثلاثة أيّام بلياليها ولا يفطر إلا على الماء؟

أقول في الجواب:

أوّلاً: أنّ مجرّد استبعاد ذلك لا يمنع من وقوعه في الخارج، وقد دلّت الروايات المتواترة على أنّ عليّاً وفاطمة والحسينين عليهم السلام وخادمتهم فضّة قد فعلوا ذلك.

وثانياً: أنّ مسألة الإضراب عن الطعام الّتي تحدث في دنيا اليوم قد أوضحت المسألة جيّداً، فإنّ المضربين عن الطعام قد لا يتناولون أيّ شي ءٍ أحياناً، ورأينا في السنوات الأخيرة أنّ بابي ساندز - أحد قادة الحركة الإيرلنديّة في بريطانيا - قد أضرب عن الطعام قرابة السبعين يوماً ولم يتناول إلا الماء، وبقي حيّاً طيلة هذه الفترة، وعلى هذا فلا مانع أن يبقى الإنسان ثلاثة أيّام بدون طعام.

وهناك إشكالات واهيةٌ اُخرى أعرضنا عن ذكرها رعاية للاختصار، ولبطلانها، ولوضوح ردّها.

عليّ و آية الإنفاق

عن ابن عبّاس في قوله تعالى: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ'، قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 413:2، الحديث 911، والآية من سورة البقرة: 274

نظرة حول الآية

من الآيات الّتي نزلت في فضيلة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام آية: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ'.

[سورة البقرة: 274].

حيث إنّه كانت عند عليّ عليه السلام أربعة دراهم من الفضّة، فتصدّق بواحد ليلاً، وبواحد نهاراً، وبواحد سرّاً، وبواحد علانيةً، فنزلت الآية في شأنه، وسمِّي كلّ درهم تصدّق به عليه السلام، مالاً؛ وفقاً للآية الشريفة، وإنّما تدلّ الآية على عناية الخالق الكريم جلّ ذكره بأمير المؤمنين عليه السلام، حيث يكون تصدّقه سبباً لنزول بعض آي القرآن. ومن الطبيعي أنّ الإنفاق والتصدّق مشمول بعناية واهتمام الخالق العزيز طالما يكون مقروناً بالعمل الصالح وإرادة وجه اللَّه تعالى به، وسنتطرّق هنا إلى بعض الروايات الّتي وردت في سبب نزول هذه الآية من العامّة والخاصّة، راجين اللَّه تعالى أن يجعل محبّي عليّ عليه السلام من المتمسّكين به وبخصاله الحميدة.

نبذة من الأخبار

والأخبار الّتي وردت في أنّ الآية نزلت في تصدّق عليّ عليه السلام كثيرة، نذكر بعضها:

1- روى ابن المغازلي، و القندوزي، والواحدي، بسندهم عن ابن عبّاس، في قوله عزّ وجلّ: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً'، قال: هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام، كان له أربعة دراهم، فأنفق درهماً سِرّاً، ودرهماً علانيةً، ودرهماً بالليل، ودرهماً بالنهار.

[المناقب لابن المغازلي الشافعي: 280، ح325، ينابيع المودّة: 92، أسباب النزول للواحدي: 52، عالم الكتب - بيروت].

2- روى ابن عساكر بسنده عن مجاهد، قال: كان لعليّ عليه السلام أربعة دراهم: فأنفق درهماً بالليل، ودرهماً بالنّهار، ودرهماً سرّاً، ودرهماً علانية، فنزلت: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً' الآية...

[تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 414:2، ح 612].

3- و روى ابن الصبّاغ المالكي، عن ابن عبّاس، قال: كان مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً - الحديث.

[الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 123، ونحوه في فرائد السمطين 356:1، وتفسير نور الثقلين 290:1، وكشف الغمّة 235:1].

4- روى الزمخشري، عن ابن عبّاس: نزلت الآية في عليّ عليه السلام، لَم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانيةً.

[تفسير الكشّاف 398:1].

5- روى المجلسي عن "المناقب": أنّ النطنزي روى في خصائصه عن ابن عبّاس والسدّي ومجاهد والكلبي وأبي صالح و... أنّه كان عند عليّ بن أبي طالب عليه السلام أربعة دراهم من الفضّة: فتصدّق بواحد ليلاً، وبواحد نهاراً، وبواحد سرّاً وبواحد علانية، فنزل 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ' الآية، فسمّى كلّ درهم مالاً، وبشّره بالقبول.

[البحار 25:41].

6- و عنه أيضاً عن "تفسير النقّاش" و "أسباب النزول": قال الكلبي: فقال له - لعليّ عليه السلام - النبيّ صلى الله عليه و آله: 'ما حملك على هذا'؟ قال: 'حملني أن أستوجب عَفو اللَّه الّذي وَعدني'، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'ألا إنّ ذلك لك'، فأنزل اللَّه هذه الآية.

[المصدر السابق، ونحوه في شواهد التنزيل 109:1، ح 155].

7- و عنه أيضاً عن "تفسير فرات"، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبدالرحمن السلمي، قال: إنّي لأحفظ لعليّ بن أبي طالب عليه السلام أربع مناقب ما يمنعني أن أذكرها إلا الحسد! قال: فقيل له: اذكرها. قال: فقرأ هذه الآية ذات يوم: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً'، قال: وما كان يملك يومه إلا أربعة دراهم، فأعطى درهماً بالليل، ودرهماً بالنهار، ودرهماً بالسرّ، ودرهماً بالعلانية. [المصدر السابق، ونحوه في شواهد التنزيل 109:1، ح 155].

دلالة الآية على فضيلة عليّ

قال المجلسي رحمه الله: فهذه الآية تدلّ على فضله عليه السلام في السخاء الّذي هو من أشرف مكارم الأخلاق، وأنّ اللَّه قد قبل ذلك منه بأحسن القبول، وأنزلها فيه، ووصفه بأنّه من الآمنين يوم القيامة بحيث لا يعتريه شي ءٌ من الخوف والحزن يوم القيامة، 'فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ'. وهذه من صفات الأولياء والأصفياء، فبذلك وأمثاله استحقّ التفضيل على سائر الصحابة، وقبح تقديم غيره عليه لخلوّهم عن أمثال تلك الفضائل، ولو فرض اتّصافهم ببعضها فلا شكّ في اختصاصه عليه السلام باستجماعها.

[المصدر السابق، ونحوه في شواهد التنزيل 109:1، ح 155].

وأنشأ الحميري في ذلك:

وأنفق ماله ليلاً وصبحاً*** وإسراراً وجهر الجاهرينا

وصَدَّق ماله لمّا أتاه*** الفقير بخاتم المتختّمينا

[المناقب لابن شهرآشوب 71:2].

عليّ و آية الإيثار

وقوله تعالى: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ' نزلت في شأن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. شواهد التنزيل 246:2، والآية من سورة الحشر: 9

سيرة الصحابة في الإيثار

كان للضغط الاقتصادي والحرمان المالي أثر كبير على المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، حتّى إنّ بعض المسلمين من أهل الصفّة كانوا يقضون الليالي بلا مسكن يأويهم، يقضونها في صفّة المسجد، مع حرمانهم من أبسط مستلزمات العيش، كالخبز والقوت، بل حتّى الملابس الرثّة القديمة البالية، وكانوا يطوون كثيراً من الليالي غرثى البطون، يعالجون الجوع بالهجوع.

ومع كلّ هذه الظروف الماديّة القاسية فإنّهم لم يتراجعوا عن سنّة وأخلاق الإسلام، بل ولم يقصّروا في استقبال الضيوف الغرباء المسلمين وغير المسلمين الذين يقصدون مسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، حيث إنّه يمثّل قاعدة الإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه و آله والصحابة يستقبلونهم بأحرّ استقبال، ومثل هذه الأخلاق الحسنة والتعامل المبدئي تجعل من غير المسلم عاشقاً للإسلام، وتجعل من المسلم مضحّياً ومتمسّكاً بالإسلام المحمّدي...

كان في كثير من الأحيان ينام المضيف وهو جائع بعد أن يقدّم كلّ ما يملك إلى ضيفه، ولعلّ ذلك ممّا يلاحظه الضيوف ممّا له تأثير إيجابي في روحيّة الضيف.

وفي هذا المضمار لم يكن أحدٌ أكمل وأعلى في إنفاق والإيثار من عليّ وفاطمة عليهماالسلام بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وخير دليل على ذلك هو نزول أكثر من آية في شأنهم عليهم السلام، منها: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ'، ولمزيد من الاطّلاع سنوضّح للقرّاء الأعزّاء روايات اُخرى عن سبب نزول هذه الآية المباركة، لكي يستلهموا الدروس والعِبر من خليفتهم وإمامهم المعصوم، ولكي يجعلونه نموذجاً يحتذون بخطّه المبارك وصراطه السوي.

الاحاديث في نزول الآية في شأن عليّ

1- روى ابن شهر آشوب: عن تفسير أبي يوسف يعقوب بن سليمان، وعليّ بن حرب الطائي، ومجاهد بأسانيدهم عن ابن عبّاس وأبي هريرة، وروى جماعة عن عاصم بن كليب، عن أبيه أنّه جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى أزواجه فقُلْنَ: ما عندنا إلا الماء! فقال: مَن لهذا الرجل الليلة؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'أنا يا رسول اللَّه'، وأتى فاطمة وسألها: 'ما عندك يا بنت رسول اللَّه؟'، فقالت: 'ما عندنا إلا قوت الصبية، لكنّا نؤثّر به ضيفنا'، فقال عليّ عليه السلام: 'يا بنت محمّد، نوّمي الصبية واطفئي المصباح'، وجعلا يمضغان بألسنتهما، فلمّا فرغ من الأكل، أتت فاطمة بسراج، فوجدت الجفنة مملوءة من فضل اللَّه، فلمّا أصبح صلّى مع النبيّ صلى الله عليه و آله، فلمّا سلّم النبيّ من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين وبكى بكاءً شديداً، وقال: 'يا أمير المؤمنين، لقد عجب الربّ من فعلكم البارحة'، فقرأ: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ'، أي مجاعة 'وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ' يعني عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام 'فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ'.

[المناقب لابن شهرآشوب 73:2، بحار الأنوار 28:41، ولفظ الحديث عن أبي هريرة، ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 246:2، ح 970 و 971، والآية 9 من سورة الحشر].

2- وفي "مجمع البيان"، قال: قيل: نزلت "الآية" في رجل جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: اطعمني فإنّي جائع، فبعث إلى أهله فلم يكن عندهم شي ء، فقال: 'من يُضيفه هذه الليلة؟'، فأضافه رجل من الأنصار وأتى به منزله، ولم يكن عنده إلا قوت صبية له، فأتوا بذلك إليه وأطفأوا السراج، وقامت المرأة إلى الصبية فعلّلتهم حتّى ناموا، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول اللَّه، فظنّ الضيف أنّهما يأكلان معه، حتّى شبع الضيف وباتا طاويين، فلمّا أصبحا غدوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فنظر إليهما وتبسّم وتلا عليهما هذه الآية: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ'.

قال صاحب المجمع: وأمّا الّذي رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: إنّ الّذي أضافه، ونوّم الصبية، وأطفأ السراج عليّ وفاطمة عليهماالسلام.

[تفسير مجمع البيان 260:9].

3- و روى المجلسي عن "كنز جامع الفوائد": هذا الحديث عن كليب بن معاوية، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، في قوله تعالى: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ'، قال: 'بينما عليّ عند فاطمة عليهماالسلام إذ قالت له: يا عليّ، اذهب إلى أبي فابغنا

[بغى الشي ء: طلبه].

منه شيئاً؟ فقال: نعم، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأعطاه ديناراً، وقال له: يا عليّ، اذهب فابتغ به لأهلك طعاماً، فخرجَ من عنده فلقيه المقداد بن الأسود، فقاما ما شاء اللَّه أن يقوما وذكر له حاجته، فأعطاه الدينار، وانطلق إلى المسجد، فوضع رأسه فنام، فانتظره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلم يأت، ثمّ انتظره فلم يأت، فخرج يدور في المسجد فإذا هو بعليّ عليه السلام نائمٌ في المسجد، فحرّكه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقعد، فقال: يا عليّ، ما صنعتَ؟ فقال: يا رسول اللَّه، خرجتُ من عندك فلقيت المقداد بن الأسود، فذكر لي ما شاء اللَّه أن يذكر فأعطيته الدينار، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أما إنّ جبرئيل قد أنبأني بذلك، وقد أنزل اللَّه فيك كتاباً: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ...' الآية.

[البحار 59:36].

4 - و عنه أيضاً عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: 'كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جالساً ذات يومٍ وأصحابهُ جلوس حوله، فجاء عليّ عليه السلام وعليه سمل ثوب

[سمل الثوب: أخلق].

منخرق عن بعض جسده، فجلس قريباً من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فنظر إليه ساعة ثمّ قرأ: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ'، ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: أما إنّك رأس الذين نزلت فيهم هذه الآية وسيّدهم وإمامهم.

ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أين حلّتك الّتي كسوتها يا عليّ؟ فقال: يا رسول اللَّه، إنّ بعض أصحابك أتاني يشكو عريه وعريّ أهل بيته، فرحمته، فآثرته بها على نفسي، وعرفتُ أنّ اللَّه سيكسوني خيراً منها.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: صدقت، أما إنّ جبرئيل قد أتاني يحدّثني أن اللَّه اتّخذ لك مكانها في الجنّة حلّة خضراء من استبرق، وصنفتها

[صنفة الثوب: حاشيته].

من ياقوت وزبرجد، فنِعم الجواز جواز ربّك بسخاوة نفسك، وصبرك على سملتك هذه المنخرقة، فابشر يا عليّ، فانصرف عليّ عليه السلام فرحاً مستبشراً بما أخبره به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'.

[البحار 60:36].

و انشأ الحميري في ذلك:

وقائل للنبيّ إنّي غريب*** جائعٌ قد أتيتكم مستجيرا

فبكى المصطفى وقال: غريب*** لا يكن للغريب عندي ذكورا

من يضيف الغريب قال عليّ*** أنا للضيف فانطلق مأجورا

ابنة العمّ هل من الزاد شي ءٌ*** فأجابت أراه شيئاً يسيرا

كف برٍّ قال: اصنعيه فإنّ*** اللَّه قد يجعل القليل كثيرا

ثمّ أطفي المصباح كي لا يراني*** فأخلي طعامه موفورا

جاهد يلمظ الأصابع والضي *** -ف يراه إلى الطعام مشيرا

عجبت منكم ملائكة اللَّه*** وأرضيتم اللطيف الخبيرا

ولهم قال: يؤثرون على*** أنفسهم، نال ذلك فضلاً كبيرا

[المناقب لابن شهرآشوب 72:2].

عليّ هو الصراط و السبيل في القرآن

قال أبو جعفر عليه السلام: 'أوحى اللَّه إلى نبيّه صلى الله عليه و آله: 'فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ'، قال: إنّك على ولاية عليّ عليه السلام، وعليّ عليه السلام هو الصراط المستقيم'. تفسير نور الثقلين 22:1، الحديث 99 و الآية من سورة الزخرف: 43

اعتقادنا في الصراط

إنّ الآيات والروايات الواردة في الصراط تثبت كونه أمراً حتميّاً في القيامة، والصراط طريق وضع على جهنّم أو في داخلها، ولا يؤدّي بالمشركين إلا إلى جهنّم 'إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ'

[سورة النساء: 169 - 168].

وأمّا المؤمنون فبالرغم من أنّهم يردون جهنّم إلا أنّهم ينجون منها 'وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً'

[سورة مريم: 72 - 71].

وعلى هذا فإنّ جميع بني آدم يمرّون على هذا الطريق الممتدّ على جهنّم، المحسن منهم والمسي ء، غير أنّ المتّقين يفوزون بالنجاة.

و في "البحار" عن "العقائد": اعتقادنا في الصراط أنّه حقّ، وأنّه جسر جهنّم، وأنّه عليه ممرّ جميع الخلق. قال اللَّه تعالى: 'وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً'، والصراط في وجه آخر اسم حجج اللَّه، فمن عرفهم في الدنيا، وأطاعهم أعطاه اللَّه جوازاً على الصراط الّذي هو جسر جهنّم يوم القيامة

[البحار 70:8].

ويؤيّد هذا الاعتقاد ما ورد في بعض الأحاديث:

و في "مجمع البيان" عن كثير بن زياد، عن أبي سمنة، قال: اختلفنا في الورود، فقال قوم: لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون: يدخلونها جميعاً، ثمّ ينجّي اللَّه الذين اتّقوا، فلقيت جابر بن عبداللَّه فسألته، فأومأ بإصبعيه إلى اُذنيه، وقال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'الورود الدخول، لا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا يدخلها، تكون على المؤمنين برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم حتّى انّ للنّار - أو قال لجهنّم - ضجيجاً من بردها، ثمّ نُنَجّي الذين اتّقوا ونذر الظالمين فيها جِثيّاً'.

[تفسير مجمع البيان 526:6].

وفيه أيضاً: قال السدّي: سألت مرّة الهمداني عن هذه الآية فحدّثني أنّ عبداللَّه بن مسعود حدّثهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قال: 'يرد النّاس النّار، ثمّ يصدرون بأعمالهم، فأوّلهم كلمع البرق، ثمّ كمرّ الريح، ثمّ كحضر الفرس، ثمّ كالراكب، ثمّ كشدّ الرجل، ثمّ كمشيه'.

[المصدر السابق: 525].

وفي تفسير "نور الثقلين": عن سعدان بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن الصراط، فقال: 'هُوَ أدقّ من الشعر، وأحدّ من السيف، فمنهم من يمرُّ عليه مثل البرق، ومنهم من يمرُّ عليه مثل عَدْوِ الفرس، ومنهم من يمرُّ عليه ماشياً، ومنهم من يمرُّ عليه حبواً

[حبا الرجل حبواً: مشى على يديه وبطنه].

ومنهم من يمرُّ عليه متعلّقاً، فتأخذ النّار منه شيئاً وتترك منه شيئاً'.

[تفسير نور الثقلين 21:1، ح 93، بحار الأنوار 64:8، نحوه].

وفي "أمالي الصدوق": في حديث طويل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: 'واعلموا أنّ أمامكم طريقاً مهولاً، وسفراً بعيداً، وممرّكم على الصراط، ولا بدّ للمسافر من زاد، فمن لم يتزوّد وسافر عطب وهلك، وخير الزاد التقوى' - الحديث.

[أمالي الصدوق - المجلس السابع والأربعون: ح 9].

الصراط المستقيم صراطان

يستفاد من الروايات المأثورة أنّ الصراط المستقيم صراطان؛ صراط في الدنيا فهو صراط عليّ بن أبي طالب، وصراطٌ في الآخرة وهو جسر جهنّم، وفيما يلي نذكر بعضها:

1- و في "التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام": 'الصراط المستقيم هو صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوّ، وارتفع عن التقصير واستقام فلم يعدل إلى شي ء من الباطل. والطريق الآخر

[وفي البحار: 'وأمّا الصراط في الآخرة'].

"هو" طريق المؤمنين إلى الجنّة الّذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنّة إلى النّار ولا إلى غير النّار سوى الجنّة'.

[التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 55، طبع مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، بحار الأنوار 69:8].

2- وفي "الغدير" عن "مناقب الخوارزمي": 'الصراط صراطان: صراط في الدنيا، وصراطٌ في الآخرة، فأمّا صراط الدنيا فهو عليّ بن أبي طالب، وأمّا صراط الآخرة فهو جسر جهنّم، من عرف صراط الدنيا جاز على صراط الآخرة'.

[الغدير 311:2].

3- وفي "تفسير نور الثقلين" عن "معاني الأخبار" وفي "تفسير البرهان" بإسناده إلى المفضّل بن عمر، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الصراط؟ فقال: 'هو الطريق إلى معرفة اللَّه عزّ وجلّ، وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، ومن عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الّذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة، فتردّى في نار جهنّم'.

[تفسير نور الثقلين 21:1، ح 91، وتفسير البرهان 50:1، ح 218، وبحار الأنوار 66:8].

ما قاله المفيد في أنّ عليّاً هو الصراط المستقيم

نقل المجلسي عن الشيخ المفيد: الصراط في اللغة هو الطريق، فلذلك سمّي الدين صراطاً؛ لأنّه طريق إلى الثواب، وله سمّي الولاء لأمير المؤمنين والأئمّة من ذرّيّته عليهم السلام صراطاً، ومن معناه قال أمير المؤمنين "ع: 'أنا صرط اللَّه المستقيم، وعروته الوثقى الّتي لا انفصام لها'، يعني أنّ معرفته والتمسّك به طريق إلى اللَّه سبحانه. وقد جاء الخبر بأنّ الطريق يوم القيامة إلى الجنّة كالجسر تمرّ به النّاس، وهو الصراط الّذي يقف عن يمينه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعن شماله أمير المؤمنين عليه السلام، ويأتيهما النداء من اللَّه تعالى: 'أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ'.

[سورة ق: 24].

وجاء الخبر: 'أنّه لا يعبر الصراط يوم القيامة إلا من كان معه براءة من عليّ بن أبي طالب عليه السلام من النّار'.

وجاء في الخبر بأنّ الصراط أدقّ من الشعرة، وأحدّ من السيف على الكافر، والمراد بذلك أنّه لا يثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدّة ما يلحقهم من أهوال القيامة ومخاوفها، فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشي ء الّذي هو أدقّ من الشعرة، وأحدّ من السيف، وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدّة في عبوره على الصراط، وهو طريق إلى الجنّة، وطريق إلى النّار، يسير العبد منه إلى الجنّة، ويرى من أهوال النّار.

وقد يعبّر به عن الطريق المعوج، فلهذا قال اللَّه تعالى: 'وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً' [سورة الأنعام: 153].

فميّز بين طريقه الّذي دعا إلى سلوكه من الدين، وبين طريق الضلال، وقال تعالى فيما أمر عباده من الدعاء وتلاوة القرآن: 'اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ' [سورة الفاتحة: 6].

فدلّ على أنّ سواه صراط غير مستقيم، وصراط اللَّه دين اللَّه، وصراط الشيطان طريق العصيان، والصراط في الأصل على ما بيناه هو الطريق، والصراط يوم القيامة هو الطريق للسلوك إلى الجنّة والنّار... [البحار 70:8].

توضيح معنى أنّ عليّاً هو الصراط المستقيم

اعلم أنّ اعتبار الصراط يقوم باعتبارين: أحدهما المبدأ، والآخر هو المنتهى، مثلاً إذا قيل: هذه الجادة صراط مكّة، أي تنتهي إلى مكّة ولها مبدأ وهو المدينة، فعليه يبدو سؤال، وهو: أنّ الصراط المستقيم، وإن لم يكن من الصرط الخارجيّة والجوادّ الماديّة، بل يكون من الصُّرط المعنويّة أو الاعتباريّة، ولكنّه مثل الجادّة الماديّة بين مكّة والمدينة، يحتاج إلى المبدأ والمنتهى، فما هو مبدأ هذا الصراط المعنوي؟

فإذا قيل: الإسلام هو الصراط المستقيم كما في الحديث، فهذا يعني أنّ الإسلام هو الصراط من الضلالة إلى الهداية، وهكذا الإيمان، وغير ذلك من الشرائع. وإذا قيل: رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو الصراط المستقيم أو عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام هو الصراط المستقيم، فهذا يعني أنّ الإنسان الكامل هو الطريق من النقص إلى الكمال، فهنا نقص وكمال، وهذا هو قوس الصعود المتحرّكة فيه الأشياء من الدرجة السفلى إلى الدرجة العليا، والسائرة فيه الصور الكماليّة من النازلة إلى العالية، فمن اعتبار الصراط يثبت التدرّج من النقص إلى الكمال، ومن الضلالة إلى الهداية.

[انظر: تفسير القرآن للعلامة السيّد مصطفى الخميني "قدّه" 28:2].

فعليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد الرسول صلى الله عليه و آله إنسان كامل، فيكون مطّلعاً على حدود اللَّه وسالكاً لسبيل الحقّ المستقيم غير الخارج عن حدّي الإفراط والتفريط، ويكون سيره عليه السلام سيراً واحداً حقيقيّاً إلى الملكوت الأعلى ولقاء اللَّه تعالى، فهذا عليّ عليه السلام هو الصراط المستقيم، فعلى كلّ سالك طريق الحقّ أن يستتبع طريقته وسلوكه وسبيله حتّى لا يقع في الضلال والانحراف عن الحقّ ولا يتجاوز عن الصراط واستقامته، والروايات التالية مع ما فيها من توضيح تبيّن ما ذكرناه:

في "المناقب" عن الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام: 'فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ'. [سورة الزخرف: 43].

قال: 'إنّك على ولاية عليّ عليه السلام، وهو الصراط المستقيم، ومعنى ذلك أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام الصراط إلى اللَّه، كما يقال فلان باب السلطان، إذا كان يوصل به إلى السلطان، ثمّ إنّ الصراط هو الّذي عليه عليّ عليه السلام يدلّك وضوحاً على ذلك قوله: 'صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ' [سورة الفاتحة: 7].

يعني نعمة الإسلام؛ لقوله: 'وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ' [سورة لقمان: 20].

والعلم: 'وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَم' [سورة النساء: 113].

والذرّيّة الطيّبة لقوله: 'إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ' [سورة آل عمران: 33].

الآية، وإصلاح الزوجات؛ لقوله: 'فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ' [سورة الأنبياء: 90].

فكان عليّ عليه السلام في هذه النعم في أعلى ذرها'. [المناقب لابن شهرآشوب 74:3، والذرى جمع الذروة: العلوّ والمكان والمرتفع].

وفي "غاية المرام" عن ابن شاذان، من طريق المخالفين، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'إذا كان يوم القيامة أمر اللَّه مَلكين يقعدان على الصراط، فلا يجوز أحدٌ إلا ببراءة أمير المؤمنين، ومَن لم تكن له براءة أمير المؤمنين أكبّه اللَّه على منخريه في النّار، وذلك قوله تعالى: 'وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ''.

[سورة الصافّات: 24].

قلت: فداك أبي واُمّي - يا رسول اللَّه - ما معنى براءة أمير المؤمنين عليه السلام؟ قال صلى الله عليه و آله: 'مكتوب لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وصيّ رسول اللَّه'.

[غاية المرام: 165، الباب 22 من المقصد الأوّل، ح 50].

نبذة من الأخبار في أنّ أهل البيت هو الصراط المستقيم

ونذكر هنا نبذة من الروايات الّتي وردت في أنّ عليّاً عليه السلام، وكذا سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، هم الصراط المستقيم، وهم الطريق إلى الحقّ المبين، وهم اُمناء اللَّه، ودعائم الإسلام، وهم أركان الإيمان، وحجج اللَّه في خلقه، وهم مصابيح الدجى، ومنار الهدى، وهم المنهاج والسراج إلى اللَّه تعالى، وهم الجسور وقناطير النجاة من العذاب، والمسير إلى الجنّة، ليسلك القارئ المحترم طريقتهم عليهم السلام، ويهتدي بهديهم، ولا يتجاوز عن طريقتهم، لا إلى الشرق ولا إلى الغرب، لا إلى هذا ولا إلى ذاك؛ لأنّ طريقتهم هي المصداق الحيّ لما ورد في سورة الفاتحة، ووجب علينا أن نقوله في كلّ يوم وليلة عشر مرّات: 'اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّآ لِّينَ'.

وقد ذكر العلامة البحراني في "غاية المرام" ثلاثة أحاديث من طرق العامّة، وأربعة وعشرون من طريق الخاصّة، وكذا ذكر صاحب الإحقاق وغيره عدّة أحاديث تصرّح بأنّ الصراط المستقيم هو محمّد والأئمّة المعصومون "صلوات اللَّه عليهم أجمعين"، نذكر هنا بعضها:

1- روى البحراني: عن تفسير "الثعلبي" في ذيل قوله تعالى: 'اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ'، قال مسلم بن حيّان: سمعت أبا بريدة يقول: صراط محمّد وآله.

[غاية المرام: 244، باب 40، ح 2].

2- وفي "الإحقاق": قوله تعالى: 'وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ' [سورة الأنعام: 153].

فممّن ذكره أي أنّ هذه الآية في شأن عليّ بن أبي طالب عليه السلام: الشيرازي من أعيان العامّة، أسند إلى قتادة، عن الحسن البصري، في قوله تعالى: 'هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً'، قال: يقول هذا طريق عليّ بن أبي طالب وذرّيّته طريق مستقيم، ودين مستقيم فاتّبعوه، وتمسّكوا به، فإنّه واضح لا عوج فيه. [الإحقاق 543:3].

3- و روى المجلسي عن "بصائر الدرجات": عن الثمالي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: 'هَذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ' [سورة الحجر: 41].

قال: 'هو واللَّه عليّ عليه السلام، هو واللَّه الصراط والميزان'. [البحار 363:35].

4- وفي "تفسير العيّاشي" عن عبداللَّه بن سليمان، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: قوله: 'قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً' [سورة النساء: 174].

قال: 'البرهان محمّد صلى الله عليه و آله، والنور عليّ عليه السلام'، قال: قلت له: 'صِرَاطاً مُسْتَقِيماً'؟ قال: 'الصراط المستقيم عليّ عليه السلام'.

[تفسير العيّاشي 285:1، والبحار 363:35].

5- روى المجلسي عن "المناقب" عن ابن عبّاس: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحكم وعليّ عليه السلام بين يديه مقابله، ورجل عن يمينه ورجل عن شماله، فقال: 'اليمين والشمال مضلّة، والطريق المستوي الجادّة ثمّ أشار بيده: 'وإِنَّ هذا صِراطُ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ فَاتَّبِعُوه'. [البحار 366:35].

6- و عنه أيضاً عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: 'قال النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: يا عليّ، إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط، فلا يجوز على الصراط إلا من كانت معه براءة بولايتك'.

[البحار 70:8، ومناقب الخوارزمي: 229، تفسير نور الثقلين 22:1، ح 98].

7- وفي "الإحقاق": عن إبراهيم الثقفي، بإسناده إلى أبي برده الأسلمي، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ': [سورة الأنعام: 153].

'سألت اللَّه أن يجعلها لعليّ عليه السلام'. [الإحقاق 543:3].

8- روى الاميني عن "الفرائد السمطين" عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ عليه السلام في قوله تعالى: 'وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ'

[سورة المؤمنون: 74].

قال عليه السلام: 'الصراط ولايتنا أهل البيت'.

[الغدير 311:2].

9- و عنه أيضاً عن "فرائد السمطين" في حديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: 'نحن خيرة اللَّه، ونحن الطريق الواضح، والصراط المستقيم إلى اللَّه'.

[الغدير 312:2، عن فرائد السمطين].

وهم الصراط المستقيم*** فوقه ناج وناكب

[المصدر السابق: 311].

10- وفي "تفسير البرهان" عن "الفقيه" بإسناده إلى المفضّل بن عمر، قال: حدّثني ثابت الثمالي، عن سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام: 'ليس بين اللَّه وبين حجّته حجاب، ولا للَّه دون حجّته ستر، نحنُ أبوابُ اللَّه، ونحنُ الصراط المستقيم، ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه، ونحن أركان توحيده، ونحن موضع سرّه'.

[تفسير البرهان 51:1، ح 25، وتفسير نور الثقلين 22:1، ح 97، عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق].

11- وروى الحاكم الحسكاني عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ بن أبي طالب: 'أنت الطريق الواضح، وأنت الصراط المستقيم، وأنت يعسوب المؤمنين'.

[شواهد التنزيل 58:1، ح 88 و 89].

12- ورواه أيضاً عن جابر بن عبداللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ اللَّه جعل عليّاً وزوجته وابناه حجج اللَّه على خلقه، وهم أبواب العلم في اُمّتي، من اهتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم'.

[المصدر السابق: ح 89].

13- و في "غاية المرام": عن إبراهيم بن محمّد الجويني، من أعيان علماء العامّة، بإسناده إلى أبي جعفر بن بابويه، بإسناده إلى أبي بصير، عن خيثمة الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سمعته يقول: 'نحن جنب اللَّه، ونحن صفوته، ونحن خيرته، ونحن مستودع مواريث الأنبياء، ونحن اُمناء اللَّه عزّ وجلّ، ونحن حجّة اللَّه، ونحن أركان الإيمان، ونحن دعائم الإسلام، ونحن من رحمة اللَّه على خلقه، ونحن بنا يفتح اللَّه وبنا يختم، ونحن أئمّة الهدى، ونحن مصابيح الدجى، ونحن منار الهدى، ونحن السابقون ونحن الآخرون، ونحن العلم المرفوع للخلق، من تمسّك بنا لَحِقَ، ومن تأخّر عنّا غرقَ، ونحن قادة الغُرِّ المحجّلين، ونحن خيرة اللَّه، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى اللَّه، ونحن من نعمة اللَّه عزّ وجلّ على خلقه، ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوّة، ونحن موضع الرسالة، ونحن مختلف الملائكة، ونحن السراج لمن استضاء بنا، ونحن السبيل لمن اقتدى بنا، ونحن الهداة إلى الجنّة، ونحن عرى الإسلام، ونحن الجسور والقناطر، من مضى عليها لم يسبق، ومن تخلّف عنها محق، ونحن السنام الأعلى، ونحنُ بنا ينزل اللَّه عزّ وجلّ الرحمة، وبنا يسقون الغيث، ونحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب، فمن عرف حقّنا ويأخذ بأمرنا فهو منّا وإلينا'.

[غاية المرام: 246، باب 40 من المقصد الأوّل، ح 1].

وأنشأ الحميري في ذلك:

سمّاه جبّار السما*** صراط حقّ فسما

فقال في الذِّكر ما*** كان حديثاً يفترى

هذا صراطي فاتّبعوا*** وعنهم لا تخدعوا

فخالفوا ما سمعوا*** والخلف ممّن شرعوا

واجتمعوا واتّفقوا*** وعاهدوا ثمّ التقوا

إن مات عنهم وبقوا*** أن يهدموا ما قد بنى

[المناقب لابن شهرآشوب 74:3].

وله أيضاً:

عليٌّ ذا صراط هدى*** فطوبى لمن إليه هدي

[المناقب لابن شهرآشوب 74:3].

وله أيضاً:

وله صراط اللَّه دون عباده*** من يهده يرزق تقىً ووقارا

في الكتب مسطور مجلّى باسمه*** وبنعته فاسأل به الأحبارا

[المناقب لابن شهرآشوب 74:3].

نبذة من الأخبار الواردة في أنّ عليّاً هو السبيل في القرآن

1- في "تفسير القمّي": 'انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً'

[سورة الإسراء: 48].

قال: ولاية عليّ عليه السلام، وعليّ هو السبيل.

[تفسير القمّي 111:2، والبحار 362:35].

2- وفيه أيضاً في قوله تعالى: 'يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً'

[سورة الفرقان: 27].

قال أبو جعفر عليه السلام: 'يقول: يا ليتني اتّخذتُ مع الرسول صلى الله عليه و آله عليّاً وليّاً'.

[المصدر السابق 113:2، والبحار 363:35].

3- و روى المجلسي عن المناقب، عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: 'فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً':

[سورة الإسراء: 48].

'إلى ولاية عليّ عليه السلام سبيلاً، وعليّ وهو السبيل'.

[البحار 36:35].

4- و عنه أيضاً: عن جعفر الصادق وأبي جعفر الباقر عليهماالسلام في قوله تعالى: 'إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا': 'يعني بني اُميّة'، 'وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ':

[سورة النساء: 167].

'عن ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام'.

[البحار 364:35].

وفي رواية: 'يعني بالسبيل عليّاً عليه السلام، ولا ينال ما عند اللَّه إلا بولايته'.

[البحار 364:35].

5- و عنه أيضاً: عن المناقب، عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله في قوله تعالى: 'وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ':

[سورة غافر: 7].'يعني عليّاً'. [البحار 364:35].

6- وفيه أيضاً: عن أبي الحسن الماضي عليه السلام، قال: ''إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ' بولاية وصيّك 'قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ' [سورة المنافقون: 5 - 1].

والسبيل هو الوصيّ، 'إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا' برسالَتِكَ 'ثُمَّ كَفَرُوْا' بولاية وصيّك 'فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ' 'وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رُسُولُ اللَّهِ' ارجعوا إلى ولاية عليّ يستغفر لكم النبيّ من ذنوبكم 'لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ' عن ولاية عليّ عليه السلام، 'وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ' عليه'. [البحار 366:35].

عليّ و حديث الثقلين

عن عليّ بن موسى الرضا، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'كأنّي دعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللَّه عزّ وجلّ حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما'. صحيفة الإمام الرضا 135:7

نظرة في حديث الثقلين

إنّ من جملة الأحاديث المعتبرة الّتي رويت عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في فضل عليّ وعترته الطاهرة، هو حديث الثقلين الّذي حدّث به النبيّ صلى الله عليه و آله في آخر سنة من سنّي عمره الشريف في مواضع عدّة، اجتمع فيها خلق كثير من النّاس، وفي مناسبات هامّة تكتظّ بالناس عادة، فقد قاله في عرفة، وفي مسجد الخيف بمنى، وفي غدير خمّ، وفي أواخر أيّام عمره المبارك، وفي مرضه الّذي توفّي فيه، في كلّ هذه الموارد كان النبيّ صلى الله عليه و آله يلفت أنظار الناس ويوجّه اهتمامهم نحو جوهرتين ثمينتين، هما: القرآن، والعترة.

وحتّى في آخر لحظات حياته، حيث أوشك على مفارقة الدنيا، وحيث يكون النّاس عادة أكثر اهتماماً بما يقوله قائدهم وزعيمهم ويصغون بكلّ أعماقهم لكلماته فإنّه قال: 'إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه، وعترتي، كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بما تخلفوني فيهما'.

[مسند أحمد بن حنبل 17:2، والمناقب لابن المغازلي الشافعي: 235، ح281].

لقد روي هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله متواتراً من طرق الفريقين، وقد تعرّض له أرباب الصحاح والسنن والمسانيد

[راجع: سنن الترمذي 662:5، ح 3786، مصابيح السنّة 185:4، ح 4800، مسند أحمد 14:3، سنن الدارمي 432:2، فضائل الصحابة 603:2، ح 1035، الخصائص للنسائي: 21، السيرة الحلبيّة 336:3، تفسير الرازي 163:8، تاريخ اليعقوبي 112:2، تفسير ابن كثير 122:4، العقد الفريد 126:4، تاريخ ابن عساكر 36:2، ح 536، مجمع الزوائد 163:9، الجامع الصغير 244:1، ح 1608، الصواعق المحرقة: باب11، فصل 1، ص149، خصائص السيوطي 466:2، ذخائر العقبى: 16 وغيرها من مصادر الحديث والمناقب].

ففي هذا الحديث جعل رسول اللَّه التمسّك بأهل البيت والإلتزام بأقوالهم واعتبارها حجّة في اُصول الدين وفروعه عِدل الكتاب، فكما أنّ القرآن الكريم حجّة على الجميع ويجب التمسّك به فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله جعل العترة الطاهرة عِدل القرآن ليعلم الناس أنّ التمسّك بأقوالهم وأفعالهم واجب عليهم.

ففي صحيح مسلم في حديث الغدير عن زيد بن أرقم، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: 'أيّها النّاس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فاُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللَّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به - فحثّ على كتاب اللَّه، ورغّب فيه، ثمّ قال: - وأهل بيتي، اُذكّركم اللَّه في أهل بيتي، اُذكّركم اللَّه في أهل بيتي، اُذكّركم اللَّه في أهل بيتي'.

[صحيح مسلم 122:7، طبع دار المعرفة - بيروت].

وروى الحاكم النيشابوري في مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السلام، عن زيد بن أرقم، عن النبيّ صلى الله عليه و آله نحوه. [مستدرك الحاكم 109:3].

وواضح أنّ التمسّك بالكتاب هو الأخذ بما فيه، والتمسّك بالعترة هو الأخذ بأقوالهم وسنّتهم، فأقوالهم وسنّتهم حجّة شرعيّة إلهيّة، فعلى الاُمّة الإسلاميّة التمسّك بالعترة الطاهرة في الأعمال والأقوال، ولا أظنّ أنّ أحداً يجرؤ على القول بأنّ قول أئمّة المذاهب الأربعة مقدّم على قول الأئمّة الطاهرين الذين هم سفن نجاة الاُمّة، وباب حطّتها، وأعلام هدايتها، وباب علم النبيّ؛ ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه و آله في شأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة: 'فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تعلّموهما فإنّهما أعلم منكم'. [تفسير الدرّ المنثور 60:2].

وفي "نهج البلاغة": 'لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أبَداً. هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ. إِلَيْهمْ يَفِي ءُ الغَالِي، وَبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالي. وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الْآنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ...'.

[نهج البلاغة الخطبة 2].

ونحن نرجو من إخوتنا أبناء العامّة أن يمعنوا النظر أكثر في هذه الروايات، وأن يقفوا على عقيدة الشيعة وأدلّتهم بقلوب بعيدة عن التعصّب، وليعلموا أنّ طريق السعادة هو طريق عترة النبيّ لا غير، ولذلك ورد في روايات كثيرة أنّ عليّاً عليه السلام وشيعته هم الفائزون يوم القيامة.