اسمه مقرون باسم رسول اللَّه في مواطن أربعة

روى الصدوق عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال في وصيّته لي: 'يا عليّ، إنّي رأيت اسمك مقروناً باسمي في أربعة مواطن، فآنست بالنظر إليه: إنّي لمّا بلغت بيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرتها مكتوباً: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره، فقلت لجبرئيل: من وزيري؟ فقال: عليّ بن أبي طالب. فلمّا انتهيت إلى سدرة المنتهى، وجدت مكتوباً عليها: إنّي أنا اللَّه لا إله إلا أنا وحدي، محمّد صفوتي من خلقي، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره، فقلت لجبرئيل: مَن وزيري؟ فقال: عليّ بن أبي طالب. فلمّا جاوزت السدرة انتهيت إلى عرش ربّ العالمين جلّ جلاله، فوجدت مكتوباً على قوائمه: أنا اللَّه لا إله إلا أنا وحدي، محمّد حبيبي، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره، فلمّا رفعت رأسي وجدت على بطنان العرش مكتوباً: أنا اللَّه لا إله إلا أنا وحدي، محمّد عبدي ورسولي، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره'. [ خصال الصدوق رحمه الله 207:1، باب الأربعة، ح 26].

 

اهتمام الأنبياء بعليّ عند العرش وأبواب السماء

عن "المناقب" لأبي الحسن الفقيه ابن شاذان: بسنده عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ عليهم السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لمّا اُسري بي إلى السماء لقيني أبي نوح، فقال: يا محمّد، مَن خَلَّفْت على اُمّتك؟ فقلت: عليّ بن أبي طالب، فقال: نِعم الخليفة خلَّفت. ثمّ لقيني أخي عيسى، فقال لي: مَن خَلَّفْتَ على اُمّتك؟ فقلتُ: عليّاً، فقال: نِعم الخليفة خلّفت. ثمّ لقيني أخي موسى، فقال لي: مَن خَلَّفْتَ على اُمّتك؟ فقلت: عليّاً، فقال: نعم الخليفة خَلِّفْتَ. قال: فقلت لجبرئيل: ما لي لا أرى إبراهيم؟ قال: فعدل إلى حظيرة فإذا فيها شجرة لها ضروع كضروع الغنم، كلّما خرج ضرعٌ من فم واحدٍ ردّه فقال: يا محمّد، مَن خَلَّفْتَ على اُمّتك؟ فقلت: عليّاً، قال: نِعم الخليفة خَلَّفْتَ، وإنّي يا محمّد، سألتُ اللَّه بي أن يُولّيني غذاء أطفالِ شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأنا اُغذيهم. [ غاية المرام: 70، الباب 14 من المقصد الأوّل، ح 21].

وفي "البحار": عن كشف اليقين في حديث طويل في المعراج - إلى أن قال: - 'فلمّا أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعث إلى أنس بن مالك فدعاه، فلمّا جاءه قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ادع عليّاً، فأتاه، فقال: يا عليّ، اُبشّرك؟ قال: بماذا؟ قال: أخوك موسى وأخوك عيسى وأبوك آدم عليهم السلام فكلّهم يوصي بك، قال: فبكى عليّ وقال: الحمد للَّه الّذي لم يجعلني عنده منسيّاً'. ثمّ قال: 'يا عليّ، ألا اُبشّرك؟ قال: قلت: بشّرني يا رسول اللَّه، فقال: يا عليّ، نظرت بعيني إلى عرش ربّي جلّ وعزّ فرأيت مثلك في السماء الأعلى، وعهد إليَّ فيك عهداً قال: بأبي واُمّي يا رسول اللَّه، أو كلّ ذلك كانوا يذكرون إليك؟'.

قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، إنّ الملأ الأعلى ليدعون لك، وإنّ المصطفين الأخيار ليرغبون إلى ربّهم جلّ وعزّ أن يجعل لهم السبيل إلى النظر إليك، وإنّك لتشفع يوم القيامة، وانّ الاُمم كلّهم موقوفون على حرف [ الحرف من كلّ شيء : طرفه وشفيره وحده وجانبه].

جهنّم'، قال: فقال عليّ عليه السلام: 'يا رسول اللَّه، فمن الّذي كانوا يقذف بهم في نار جهنّم؟' قال: 'اُولئك المرجئة والحروريّة والقدريّة وبنو اُميّة ومناصبك العداوة. يا عليّ، هؤلاء الخمسة ليس لهم في الإسلام نصيب'. [ البحار 393:38].

 

قم بقعة شيعة عليّ في ليلة المعراج

في "البحار" عن "علل الشرائع": عن عيسى بن عبداللَّه الأشعري، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام، قال: 'حدّثني أبي، عن جدّي، عن أبيه عليه السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لمّا اُسري بي إلى السماء، حملني جبرئيل على كتفه الأيمن، فنظرت إلى بقعة بأرض الجبل حمراء أحسن لوناً من الزعفران، وأطيب ريحاً من المسك، فإذا فيها شيخ على رأسه برنس. فقلت لجبرئيل: ما هذه البقعة الحمراء الّتي هي أحسن لوناً من الزعفران، وأطيب ريحاً من المسك، قال: بقعة شيعتك وشيعة وصيّك عليّ. فقلت: من الشيخ صاحب البرنس؟ قال: إبليس. قلت: فما يريد منهم؟ قال: يريد أن يصدّهم عن ولاية أمير المؤمنين، ويدعوهم إلى الفسق والفجور. فقلت: يا جبرئيل، أهوِ بنا إليهم، فأهوى بنا إليهم أسرع من البرق الخاطف، والبصر اللامح. فقلت: قم يا ملعون، فشارك أعداءهم فى أموالهم وأولادهم ونساءهم، فإنّ شيعتي وشيعة عليّ ليس لك عليهم سلطان، فسمّيت قم'. [ البحار 407:18].

اسم عليّ مكتوب على أبواب الجنّة

روى الجويني بسنده عن علقمة، عن عبداللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لمّا اُسري بي إلى السماء أمر "اللَّه" بعرض الجنّة والنّار علَيّ فرأيتهما جميعاً، رأيت الجنّة وألوان نعيمها، ورأيت النّار وألوان عذابها، فلمّا رجعت قال لي جبرئيل عليه السلام: هل قرأت يا رسول اللَّه ما كان مكتوباً على أبواب الجنّة، وما كان مكتوباً على أبواب النّار؟ فقلت: لا يا جبرئيل.

قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب، على كلّ باب منها أربعة كلمات، كلّ كلمة منها خير من الدنيا وما فيها لمن تعلّمها واستعملها، وإنّ للنّار سبعة أبواب، على كلّ باب منها ثلاث كلمات، كلّ كلمة منها خير من الدنيا وما فيها لمن تعلّمها واستعملها.

فقلت: يا جبرئيل ارجع معي لأقرأها، فرجع معي جبرئيل عليه السلام فبدأ بأبواب الجنّة، فإذا على الباب الأوّل منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، لكلّ شيء حيلة، وحيلة طيب العيش في الدنيا أربع خصال: القناعة، ونبذ الحقد، وترك الحسد، ومجالسة أهل الخير.

وعلى الباب الثاني منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، لكلّ شيء حيلة، وحيلة السرور في الآخرة أربع خصال: مسح رأس اليتامى، والتعطّف على الأرامل، والسعي في حوائج المسلمين، وتفقّد الفقراء والمساكين.

وعلى الباب الثالث منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، لكلّ شيء حيلة وحيلة الصحّة في الدنيا أربع خصال: قلّة الكلام، وقلّة المنام، وقلّة المشي، وقلّة الطعام.

وعلى الباب الرابع منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، مَن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم جاره، مَن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه، مَن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليبرّ والديه، مَن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت.

وعلى الباب الخامس منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، مَن أراد أن لا يُذَلّ فلا يَذِلّ، ومَن أراد أن لا يُشتم فلا يَشتم، ومَن أراد أن لا يُظلم فلا يَظلم، ومَن أراد أن يستمسك بالعروة الوثقى فليستمسك بقول 'لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه'.

وعلى الباب السادس منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، مَن أحبّ أن يكون قبره واسعاً فسيحاً فلينق المساجد، مَن أحبّ أن لا تأكله الديدان تحت الأرض فليكنس المساجد، مَن أحبّ أن لا يظلم لحده فلينوّر المساجد، ومَن أراد أن يبقى طريّاً تحت الأرض فلا يبلى جسده فينشر بسط المساجد.

وعلى الباب السابع منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، بياض القلب في أربع خصال: في عيادة المريض، واتّباع الجنائز، وشراء أكفان الموتى، ودفع القرض.

وعلى الباب الثامن منها مكتوب: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه، مَن أراد الدخول في هذه الأبواب الثمانية فليستمسك بأربع خصال: بالصدق، والسخاء، وحسن الأخلاق، وكفّ الأذى عن عباد اللَّه عزّ وجلّ.

ثمّ جئنا إلى أبواب جهنّم، فإذا على الباب الأوّل منها مكتوب ثلاث كلمات: لعن اللَّه الكذابين، لعن اللَّه الباخلين، لعن اللَّه الظالمين.

وعلى الباب الثاني منها مكتوب ثلاث كلمات: مَن رجا اللَّه سعد، ومَن خاف اللَّه آمن، والهالك من رجا سوى اللَّه وخاف غيره.

وعلى الباب الثالث منها مكتوب: مَن أراد أن لا يكون عرياناً في القيامة فليكس الجلود العارية، مَن أراد أن لا يكون عطشاناً في القيامة فليسقِ العطاش في الدنيا، من أراد أن لا يكون يوم القيامة جائعاً، فليطعم البطون الجائعة في الدنيا.

وعلى الباب الرابع منها مكتوب ثلاث كلمات: أذلّ اللَّه مَن أهان الإسلام، أذلّ اللَّه مَن أهان أهل بيت نبيّ اللَّه، أذلّ اللَّه مَن أعان الظالمين على ظلم المخلوقين.

وعلى الباب الخامس منها مكتوب ثلاث كلمات: لا تتّبع الهوى، فإنّ الهوى يجانب الإيمان، ولا تكثر منطقك فيما لا يعنيك فستقط عن عين ربّك، ولا تكن عوناً للظالمين، فإنّ الجنّة لم تخلق للظالمين.

وعلى الباب السادس منها مكتوب ثلاث كلمات: أنا حرام على المجتهدين، أنا حرام على المتصدّقين، أنا حرام على الصائمين.

وعلى الباب السابع منها مكتوب ثلاث كلمات: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وبّخوا أنفسكم قبل أن توبّخوا، وادعوا اللَّه قبل أن تردوا عليه ولا تقدرون على ذلك'. [ فرائد السمطين 238:1، ح 186].

وروى البحراني عن أحمد الحنفي في كتاب "درّ بحر المناقب"، نحوه. [ غاية المرام: 194، الباب 22 من المقصد الأوّل، ح 43].

 

علي يوم القيامة

قال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'عليّ يزهر لأهل الجنّة كما يزهر الكوكب الصبح لأهل الدنيا'.

و قال صلى الله عليه و آله: 'عليّ يوم القيامة على الحوض، لا يدخل الجنّة إلا من جاء بجواز من عليّ بن أبي طالب عليه السلام'.

فرائد السمطين 295:1، الحديث 233

المناقب لابن المغازلي: 119، حديث 156

كلمة مختصرة حول أوضاع الروح الإنسانيّة في القيامة

إنّ نظام الحياة الفرديّة يوم القيامة يكون على عكس الحياة الماديّة في الدنيا، فإنّ كلّ إنسان يتلقّى في القيامة نتائج أعماله وجزاءها وهو رهين ما قدّم من أعمال كما قال اللَّه تعالى: 'كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ'. [ سورة الطور: 21].

وفي الحديث: 'الدنيا مزرعة الآخرة'، إلا فئة من النّاس لا يكونون رهن شيء ، واُلوئك هم أصحاب اليمين كما يعبّر عنهم بذلك فى القرآن: 'كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ'. [ سورة المدّثر: 38 و 39].

إنّ الأحرار الّذين يفعلون ما يشاءون في الدنيا معذّبون في الآخرة، والطلقاء اليوم مقيّدون غداً، إلا أصحاب اليمين، فإنّهم ينعمون بسرور خاصّ.

وينبغي الالتفات إلى أنّه بغضّ النظر عن الجنّة، وما اُعدّ فيها من النِّعم للمؤمنين، والنّار وما فيها من أنواع العذاب الّذي ينتظر المجرمين، فإنّه توجد في القيامة أنوار وسعادات هي عين وجود الإنسان المؤمن، وسلسلة من الظلمات وأنواع العذاب هي عين وجود الإنسان الكافر الضالّ. يقول القرآن الكريم في المؤمنين: 'يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ' [ سورة الحديد: 12].

ويقول في موضع آخر: 'فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ' [ سورة القيامة: 88 و 89].

وعلى عكس ذلك فإنّه يصف الكافرين بأنّهم حطب جهنّم ووقودها، فيقول: 'فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ' [ سورة البقرة: 24].

ويقول في موضع آخر: 'وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً'. [ سورة الجنّ: 25].

وإذا عرفنا درجات عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومراتبه السامية، فهو نفس النبيّ وأخوه ووصيّه وخليفته بلا فصل، وهو الّذي كان نوراً بكلّ وجوده في الدنيا، وهو الطاهر العدل الّذي كان يضحّي بنفسه في سبيل الإسلام، وفيه نزلت: 'وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ' [ سورة البقرة: 207].

وهو مظهر الصفات الحميدة للَّه تبارك وتعالى، وهو قدوة الإنسانيّة ونموذج الإنسان الكامل بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان يتبع أثر رسول اللَّه خطوة بعد خطوة، ولا يحيد عنه أبداً... إذا عرفنا ذلك فإنّه سيُمْنَح في القيامة أعلى الدرجات، ويتحلّى بأجمل صفات الأنبياء والمقرّبين.

وإذا لاحظنا الأخبار والروايات الواردة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله والموجودة في كتب الفريقين، والّتي تشير إلى عظمة عليّ عليه السلام وجلاله في يوم القيامة، عرفنا مدى تلك العظمة والجلال، ونحن نذكر بعضاً منها فيما يلي:

جملة من أخبار الباب

جلال عليّ يوم القيامة

روى ابن شهرآشوب: عن معمر بن قتادة، عن أنس، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه و آله عن قوله تعالى: 'مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُم مِن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ'. [ سورة القصص: 89].

قال لي: 'يا أنس، أنا أوّل من تنشقّ الأرض عنه يوم القيامة واُخرج، ويكسوني جبرئيل سبع حلل من حلل الجنّة، طول كلّ حلّة ما بين المشرق إلى المغرب، ويضع على رأسي تاج الكرامة ورداء الجمال، ويجلسني على البراق، ويعطيني لواء الحمد طوله مسيرة مائة عام، فيه ثلاثمائة وستّون حلّة من الحرير الأبيض مكتوب عليه: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ بن أبي طالب وليّ اللَّه، فآخذه بيدي وأنظر يمنة ويسرة فلا أرى أحداً فأبكي وأقول: يا جبرئيل، ما فعل أهل بيتي وأصحابي؟

فيقول: يا محمّد، إنّ اللَّه تعالى أوّل مَن أحيا اليوم من أهل الأرض أنت، فانظر كيف يحيي اللَّه بعدك أهل بيتك وأصحابك، فأوّل من يقوم من قبره أمير المؤمنين، ويكسوه جبرئيل حللاً من الجنّة، ويضع على رأسه تاج الوقار ورداء الكرامة، ويجلسه على ناقتي العضباء، واُعطيه لواء الحمد فيحمله بين يدي، ونأتي جميعاً ونقوم تحت العرش'.

ومنه: 'أنت أوّل من تنشقّ عنه الأرض بعدي'. [ المناقب لابن شهرآشوب 225:3].

وأنشأ في ذلك الحميري:

وإنّك خير أهل الأرض طُرّاً*** وأفضلهم معاً حسباً ودينا

وأوّل من يصافحني بكفّ*** إذا برز الخلائق ناشرينا

[ المصدر المتقدّم].

و روى الكليني في "روضة الكافي": عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال: 'يا جابر، إذا كان يوم القيامة جمع اللَّه عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين لفصل الخطاب، دعي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ودعي أمير المؤمنين عليه السلام، فيكسى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حلّة خضراء تضي ء ما بين المشرق والمغرب، ويكسى عليّ عليه السلام مثلها، ثمّ يصعدان عندها، ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب النّاس، فنحن واللَّه ندخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، ثمّ يدعى بالنبيّين عليهم السلام، فيقامون صفّين عند عرش اللَّه عزّ وجلّ حتّى نفرغ من حساب النّاس، فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، بعث ربّ العزّة عليّاً عليه السلام فأنزلهم من الجنّة وزوّجهم، فعليّ واللَّه الّذي يزوّج أهل الجنّة في الجنّة، وما ذاك إلى أحد غيره، كرامةً من اللَّه عزّ ذكره، وفضلاً فضّله اللَّه به وَمنّ به عليه، وهو واللَّه يدخل أهل النّار النّارَ، وهو الّذي يُغلق على أهل الجنّة ا ذا دخلوا فيها أبوابها لأنّ الجنّة إليه، وأبواب النّار إليه'. [ روضة الكافي: 140، ح 154].

و في "المناقب": قوله تعالى: 'إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً' [ سورة الدهر: 5 و 6].

وقوله تعالى: 'وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ... سَلْسَبِيلاً' [ سورة الدهر: 18 - 15].

عن النبيّ صلى الله عليه و آله في خبر: 'أنّ عليّاً أوّل من يشرب السلسبيل والزنجبيل، وأنّ لعليّ وشيعته من اللَّه مكاناً يغبطه الأوّلون والآخرون'. [ المناقب لابن شهرآشوب 232:3].

 

في كسوته يوم القيامة

روى ابن شهر آشوب في قوله تعالى: 'عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ' [ سورة الدهر: 21].

عن تاريخ الطبري، بإسناده عن ابن عبّاس، قال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'أوّل من يكسى يوم القيامة إبراهيم بخلّته، وأنا بصفوتي، وعليّ بن أبي طالب يزفّ بيني وبين إبراهيم زفّاً إلى الجنّة'. [ المناقب لابن شهرآشوب 227:3].

و رواه أيضاً: عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: أوّل مَن يكسى يوم القيامة إبراهيم بخلّته من اللَّه، ثمّ محمّد لأنّه صفوة اللَّه، ثمّ عليّ يزفّ بينهما إلى الجنّة، ثمّ قرأ ابن عبّاس: 'يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ' [ سورة التحريم: 8].

قال: عليّ عليه السلام وأصحابه. [ المناقب لابن شهرآشوب 227:3].

وعنه أيضاً: عن "شرف المصطفى" عن زاذان، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'أما ترضى أنّ إبراهيم خليل اللَّه يدعى يوم القيامة فيقام عن يمين العرش فيكسى، ثمّ اُدعى فاُكسى، ثمّ تُدعى فتُكسى'، ومنه الحديث: 'أنّه أوّل مَن يكسى معي'. [ المصدر المتقدّم].

وأنشا الحميري:

يدعى النبيّ فيكسوه ويكرمه*** ربّ العباد إذا ما أحضر الاُمما

ثمّ الوصيّ فيكسى مثل حلّته*** خضراء يرغم منها أنف من رغما

[ المصدر المتقدّم].

في لوائه ونوره يوم القيامة وحمايته لأوليائه

عن ابن المغازلي الشافعي: بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، أنّه سئل عن قول اللَّه عزّ وجلّ: 'وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ'. [ سورة المائدة: 9. سورة الفتح: 29].

قال: سأل قوم النبيّ صلى الله عليه و آله فقالوا: فيمن نزلت هذه الآية يا نبيّ اللَّه؟

قال: 'إذا كان يوم القيامة عقد لواء من نور أبيض فإذا مناد: ليقم سيّد المؤمنين ومعه الّذين آمنوا بعد بعث محمّد صلى الله عليه و آله، فيقوم عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فيعطى اللواء من النور الأبيض بيده، تحته جميع السابقين الأولّين من المهاجرين والأنصار لا يخالطهم غيرهم حتّى يجلس على منبر من نور ربّ العزّة، ويُعرض الجميع عليه رجلاً رجلاً فيُعطى أجره ونوره، فإذا أتى على آخرهم قيل لهم: قد عرفتم موضعكم ومنازلكم من الجنّة إنّ ربّكم يقول: عندي مغفرة وأجرٌ عظيم - يعني الجنّة - فيقوم عليّ والقوم تحت لوائه معهم حتّى يدخل بهم الجنّة. ثمّ يرجع إلى منبره فلا يزال يعرض عليه جميع المؤمنين، فيأخذ نصيبه منهم إلى الجنّة، وينزل أقواماً إلى النّار، فذلك قوله تعالى: 'وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ' [ سورة الحديد: 19].

يعني السابقين الأوّلين "من" المؤمنين وأهل الولاية: 'وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ' [ سورة الحديد: 19].

يعني بالولاية بحقّ عليّ، وحقّ عليّ عليه السلام الواجب على العالمين'. [ المناقب لابن المغازلي الشافعي: 322، ح 369].

و روى ابوالفرج و الصفوري الشافعي عن أنس، قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه و آله إلى أبي برزة الأسلمي فقال له وأنا أسمع: 'يا ا با برزة، إنّ ربّ العالمين عهد إليَّ عهداً في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: إنّه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، ونور جميع من أطاعني. يا أبا برزة، عليّ بن أبي طالب أميني غداً في القيامة وصاحب رايتي في القيامة على مفاتيح خزائن رحمة ربّي'. [ حلية الأولياء 66:1، نزهة المجالس 208:2].

و عن البرحاني عن "أمالي الشيخ الطوسي رحمه الله": بسنده عن أبان بن عثمان، عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد عليهماالسلام، قال: 'إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: أين خليفة اللَّه في أرضه؟ فيقوم داود النبيّ عليه السلام فيأتي النداء من عند اللَّه عزّ وجلّ: لسنا إيّاك أردنا، وإن كنت للَّه تعالى خليفة. ثمّ ينادي ثانية: أين خليفة اللَّه في أرضه، فيقوم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فيأتي النداء من قِبل اللَّه عزّ وجلّ: يا معشر الخلائق، هذا عليّ بن أبي طالب، خليفة اللَّه في أرضه، وحجّته على عباده، فمن تعلّق بحبله فى دار الدنيا فليتعلّق بحبله في هذا اليوم، يستضيئ بنوره، وليتّبعه إلى الدرجات العُلا من الجنّات، فيقوم النّاس الّذين تعلّقوا بحبله في الدنيا فيتّبعونه إلى الجنّة' الحديث. [ غاية المرام: 73، الباب 15 من المقصد الأوّل، ح 16].

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي رحمه الله، في قوله تعالى: 'وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً' [ سورة النحل: 91].

فإنّه حدّثني أبي، رفعه، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: 'لمّا نزلت الولاية، وكان من قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بغدير خمّ: سلّموا على عليّ عليه السلام بإمرة المؤمنين، فقالوا: من اللَّه ومن رسوله؟ فقال لهم: نعم حقّاً من اللَّه ومن رسوله، إنّه أمير المؤمنين، وإمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين، يقعده اللَّه يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنّة، ويدخل أعداءه النّار.

فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: 'وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ' [ سورة النحل: 91].

يعني قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من اللَّه ومن رسوله، ثمّ ضرب لهم مثلاً فقال: 'وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ'. [ سورة النحل: الآية 92].

[ تفسير عليّ بن إبارهيم 389:1، وتفسير نور الثقلين 82:3].

 

منزله في القيامة مقابل منزل رسول اللَّه

روى الجويني بسنده عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبداللَّه بن أبي أوفى، قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أصحابه أجمع ما كانوا، فقال: 'يا أصحاب محمّد، لقد رأيت الليلة منازلكم في الجنّة، وقرب منازلكم من منزلي'، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيد عليّ عليه السلام، فقال: 'يا عليّ، أما ترضى أن يكون منزلك في الجنّة مقابل منزلي؟'، فقال: 'بلى بأبي أنت واُمّي، يا رسول اللَّه'، قال: 'فإنّ منزلك في الجنّة مقابل منزلي'. [ فرائد السمطين 103:1، ح 73].

وعنه أيضاً: بسنده عن سالم، عن حذيفة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ اللَّه اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً، فقصري وقصر إبراهيم في الجنّة متقابلان، وقصر عليّ بن أبي طالب عليه السلام بين قصري وقصر إبراهيم، فيا له من حبيب بين خليلين'. [ المصدر المتقدّم: 102، ح 71].

وعنه أيضاً: بسنده عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إذا كان يوم القيامة ضربت لي قبّة حمراء عن يمين العرش، وضربت لإبراهيم قبّة من ياقوتة خضراء عن يسار العرش، وضربت فيما بيننا لعليّ بن أبي طالب قبّة من لؤلؤة بيضاء، فلما ظنّكم بحبيب بين خليلين'. [ المصدر المتقدّم: 104، ح 74، وروى الحديث محبّ الدين الطبري في الرياض النضرة 184: 3].

في مركبه يوم القيامة

روى الجويني بسنده عن عامر الطائي، عن عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ليس في القيامة راكب غيرنا نحن أربعة، فقام إليه رجل من الأنصار، فقال: فداك أبي واُمّي ومَن هم؟ قال: 'أنا على دابّة اللَّه البراق، وأخي صالح على ناقة اللَّه عزّ وجلّ الّتي عقرت، وعمّي حمزة على ناقتي العضباء، وأخي عليّ على ناقة من نوق الجنّة وبيده لواء الحمد ينادي: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، فيقول الآدميّون: ما هذا إلا ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو حامل عرش، فيجيبهم ملك من تحت بطنان العرش: يا معشر الآدميّين، ليس هذا ملكاً مقرّباً، ولا نبيّاً مرسلاً، ولا حامل عرش، هذا عليّ بن أبي طالب'. [ فرائد السمطين 87:1، ح 66].

وفي "الرياض النضرة": عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لعليّ يوم القيامة ناقة من نوق الجنّة فتركبها وركبتك مع ركبتي، وفخذك مع فخذي حتّى تدخل الجنّة'. [ الرياض النضرة 186:3].

 

في حمله مفاتيح الجنّة

روى الجويني بسنده عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'أعطاني ربّي عزّ وجلّ في عليّ خصالاً في الدنيا وخصالاً في الآخرة: أعطاني به في الدنيا أنّه صاحب لوائي عند كلّ شدة وكريهة، وأعطاني به في الدنيا أنّه غامضي وغاسلي ودافني، وأعطاني به في الدنيا أنّه لن يرجع بعدي كافراً.

وأعطاني به في الآخرة أنّه صاحب لواء الحمد يقدمني به، وأعطاني به في الآخرة أنّه متّكئ في طول الحشر يوم القيامة، وأعطاني به في الآخرة أنّه عون لي على حمل مفاتيح الجنّة'. [ فرائد السمطين 228:1، ح 178].

وعنه أيضاً: عن أنس بن مالك، قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه و آله إلى أبي برزة الأسلمي، فقال له وأنا أسمع: 'يا أبا برزة، إنّ ربّ العالمين عهد إليَّ عهداً في عليّ بن أبي طالب عليه السلام'، فقال: 'إنّه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، ونور جميع من أطاعني. يا أبا برزة: عليّ بن أبي طالب أميني غداً في القيامة على مفاتيح خزائن ربّي، وصاحب رايتي يوم القيامة'. [ المصدر المتقدّم: 144، ح 108، حلية الأولياء، 66: 1].

علي ميزان الأعمال

زيارة عليّ بن الحسين عليهماالسلام عند مضجع جدّه أمير المؤمنين عليه السلام: 'السلام على أبي الأئمّة، وخليلِ النبوّة، والمخصوص بالاخوّة، السلام على يعسوب الإيمان، و ميزان الأعمال'. مستدرك الوسائل 197:2

نظرة في لفظ الميزان و كيفية وزن الاعمال فى القيامة

يستفاد من الآيات القرآنيّة و روايات المعصومين عليهم السلام أنّ وزن الأعمال يوم القيامة أمر مسلّم به وحتميّ لا يمكن إنكاره: 'وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ'. [ سورة الأعراف: 8].

وموازين ذلك العالم متعدّدة ومختلفة، فإنّها وردت في القرآن الكريم بصيغة الجمع: 'فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ'. [ سورة الأعراف: 8 و 9].

ومن هذه الآيات نفهم أيضاً أنّ للأعمال الحسنة وزناً ثقيلاً يوم القيامة، أمّا الأعمال السيّئة القبيحة فهي خفيفة الوزن أو لا وزن لها، وهذا واضح؛ لأنّ الأعمال الصالحة باقية مستمرة، أمّا السيّئات فهي فانية زائلة.

وقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله: 'فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ'. [ سورة الرعد: 17].

وفي موضع آخر فسّر القرآن الكريم الميزان بالعدل والقسط. قال تعالى: 'وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ'. [ سورة الأنبياء: 47].

إذن فالميزان يوم القيامة هو العدل والقسط والحقّ، وكلّ إنسان سيرى نتيجة أعماله حسب ما قدّم، فالثواب للأعمال الصالحة والعقاب للأعمال الطالحة.

و بالجملة الآن يجب أن نرى كيف توزن أعمال الإنسان يوم القيامة؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين والمتكلّمين في كيفيّة وزن الأعمال في القيامة، فتصوّر البعض أنّ أعمال الإنسان تتجسّم كأجسام الدنيا، وعند ذلك يمكن أن توزن بموازينها، واعتقد آخرون بأنّ نفس العامل يوزن لا أعماله.

والقدر المتيقّن أنّ نفس الأعمال هي الّتي توزن - كما مرّت الإشارة اليه - ولا نحتاج إلى بحث تجسّم الأعمال، فإنّ معنى الميزان والوزن إذ اتّضح وعلم أنّ كلّ عمل سيقابله من الثواب والعقاب ما يعادله في الوزن، فلا حاجة إلى التوجيه والتأويل حينئذٍ.

ومن أجل أن يتّضح المطلب جيّداً فإنّي أنقل كلاماً جامعاً مفيداً للمرحوم ا ية اللَّه الفيض الكاشاني صاحب تفسير الصافي، والكلام مذكور في هامش "بحار الأنوار"، وبه سيتّضح جليّاً كيفيّة ميزان الأعمال في القيامة.

كلمة الفيض الكاشاني

قال الفيض الكاشاني رحمه الله في تفسيره "الصافي" ما ملخّصه: إنّ لكلّ معنى من المعاني حقيقة وروحاً وله صورة وقالب، وقد تتعدّد الصور والقوالب بحقيقة واحدة، وإنّما وضعت الألفاظ لاتّحاد ما بينهما، مثلاً: لفظ القلم إنّما وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك، بل ولا أن يكون جسماً، ولا كون النقش محسوساً أو معقولاً، ولا كون اللوح من قرطاس أو خشب، بل مجرّد كونه منقوشاً فيه.

وهذه حقيقة اللوح وحده وروحه، فإنّ اللَّه تعالى قال: 'عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ' [ سورة العلق: 4 و 5].

بل هو القلم الحقيقي، حيث وجد فيه روح القلم وحقيقته وحده من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه، وكذلك الميزان، فإنّه موضوع لمعيار تعرف به المقادير، وهذا معنى واحد هو حقيقته وروحه، وله قوالب مختلفة وصور شتّى بعضها جسماني وبعضها روحاني، فما تُوزن به الأجرام والأثقال مثل ذي الكفّتين والقبّان، وما تُوزن به المواقيت والارتفاعات كالاسطرلاب، وما تُوزن به الدوائر والقسي كالفرجال، وما تُوزن به الأعمدة كالشاقول، وما تُوزن به الفلسفة كالمنطق، وما يُوزن به الكلّ كالعقل الكامل.

وبالجملة فميزان كلّ شيء هو المعيار الّذي به يعرف قدر ذلك الشي ء، فميزان النّاس يوم القيامة ما يوزن به قدر كلّ إنسان وقيمته على حسب عقيدته وخلقه وعمله لتجزى كلّ نفس بما كسبت، وليس ذلك إلا الأنبياء والأوصياء؛ إذ بهم وباتّباع شرائعهم واقتفاء آثارهم وترك ذلك وبالقرب من سيرتهم والبعد عنها يعرف مقدار النّاس وقدر حسناتهم وسيّئاتهم.

فميزان كلّ اُمّة هو نبيّ تلك الاُمّة ووصيّ نبيّها والشريعة الّتي اُتي بها، فمن ثقلت حسناته وكثرت فاُولئك هم المفلحون، ومن خفّت وقلّت فاُولئك الّذين خسروا أنفسهم بظلمهم عليها من جهة تكذيبهم للأنبياء والأوصياء أو عدم اتّباعهم.

ففي "الكافي" و"المعاني": عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن قول اللَّه عزّو جلّ: 'وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ' [ سورة الأنبياء: 47].

قال: 'هم الأنبياء والأوصياء'، وفي رواية اُخرى: 'نحن الموازين القسط'. [ نقلناه عن هامش البحار 242:7، طبع دار الكتب الإسلاميّة، و عن تفسير الصافي 181:2].

 

في معنى كون عليّ ميزان الأعمال

قد اتّضح ممّا ذكرناه أنّ المراد من الميزان الّذي توزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ، فبقدر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مشتملة على الحقّ، فلها ثقل، كما أنّ السيّئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها، فإنّه تعالى يزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما ا شتمل عليه العمل من الحقّ فهو وزنه وثقله، فتبيّن أنّ المراد بالوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحقّ، وبقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب وإن لم تشتمل عليه فهو الهلاك، والحقّ هو العدل، فالمشركون ليس لهم وزن؛ لعدم الحقّ في أعمالهم، بل كانوا ضالّين مضلّين وذلك هو الخسران المبين.

والنبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام هم الموازين يوم القيامة؛ لأنّهم هم العدول ومصاديق العدالة ومظهر الحقّ والقسط، فتقاس أعمال النّاس عليهم، فإن تطابقت أعمالهم معهم فهم ممّن ثقلت موازينه، وإلا فهم ممّن خفّت موازينه.

ولا يخفى أنّ مقتضى جمع الميزان في الآية الشريفة، باعتبار أنّ موازين الأعمال متعدّدة وكثيرة يوم القيامة، وهم الأنبياء وأوصياؤهم، وكذلك الأئمّة المعصومون عليهم السلام، وأيضاً الصلحاء، فكلّ هؤلاء ميزان الأعمال يوم القيامة، وعليّ عليه السلام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أكمل مصاديق هذا العنوان؛ لأنّه فرد كامل في العدالة والحقّ، فمن كان عمله منطبقاً مع هذا الحقّ الكامل فهو من أهل الجنّة وجاوز الصراط، ومن خالف عمله هذا الحقّ الكامل أي خالف عليّاً عليه السلام فهو من أهل النّار، ولذا ورد في زيارته المطلقة: 'السلام على ميزان الأعمال'.

ونشير إلى نماذج من الأخبار الّتي تؤيّد ما ذكرناه:

1- في "معاني الأخبار": بإسناده عن المنقري، عن هشام بن سالم، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: 'وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً' [ سورة الأنبياء: 47].

قال: 'هم الأنبياء والأوصياء'. [ معاني الأخبار: 31، والبحار 249:7].

2- وفي "البحار" عن "بصائر الدرجات": عن الثمالي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: 'هَذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ' [ سورة الحجر: 41].

قال: 'هو واللَّه عليّ عليه السلام هو واللَّه الصراط والميزان'. [ بحار الأنوار 363:35].

جملة من الأخبار في معنى الميزان

1- روى السيوطي عن ابن مردويه، عن عائشة أنّها سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'خلق اللَّه كفّتي الميزان مثل السماء والأرض، فقالت الملائكة: يا ربّنا، مَن تزن بهذا؟ قال: أزن به من شئت، و خَلَقَ اللَّه الصراط كحدّ السيف، فقالت الملائكة: يا ربّنا، مَن تجيز على هذا؟ قال: اُجيز عليه من شئت'. [ تفسير الدرّ المنثور 70:3].

ظاهر هذا الحديث وأمثاله أنّ الميزان يوم القيامة على صفة الميزان الموجود في الدنيا المتداول في تعيين الأثقال، ولكنّها ترمي إلى تقريب المعنى إلى الأفهام الساذجة.

2- و في "البحار" عن "الاحتجاج": عن هشام بن الحكم، عن الصادق عليه السلام: أنّه سأل الزنديق أبا عبداللَّه عليه السلام فقال: أوَليس توزن الأعمال؟ قال: 'لا، إنّ الأعمال ليست بأجسام، وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى وزن الشي ء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفّتها، وإنّ اللَّه لا يخفى عليه شيء '. قال: فما معنى الميزان؟ قال: 'العدل'، قال: فما معناه في كتابه: 'فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ'؟ قال: 'فمن رجح عمله' الخبر. [ بحار الأنوار 248:7، ح 3].

قال العلامة الطباطبائي في توضيح الحديث: في الرواية تأييد ما قدّمناه في تفسير الوزن، ومن ألطف ما فيها قوله عليه السلام: 'وإنّما هي صفة ما عملوا' يشير إلى أن ليس المراد بالأعمال في هذه الأبواب هو الحركات الطبيعيّة الصادرة عن الإنسان لاشتراكها بين الطاعة والمعصية، بل الصفات الطارئة عليها الّتي تعتبر لها بالنظر إلى السنن والقوانين الاجتماعيّة أو الدينيّة، مثل الحركات الخاصّة الّتي تسمّى وقاعاً بالنظر إلى طبيعة نفسها، ثمّ تسمّى نكاحاً إذا واقعت السنّة الاجتماعيّة أو الإذن الشرعي، وتسمّى زناً إذا لم توافق ذلك، وطبيعة الحركات الصادرة واحدة، وقد استدلّ الإمام عليه السلام كما ذكره في طريقين:

أحدهما: أنّ الأعمال صفات لا وزن لها.

والثاني: أنّ اللَّه تعالى لا يحتاج إلى توزين الأشياء لعدم اتّصافه بالجهل تعالى شأنه. [ تفسير الميزان 13:8].

 

علي قسيم الجنّة و النّار

عن عليّ عليه السلام أنّه قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّك قسيم النّار، وإنّك تقرع باب الجنّة وتدخلها بغير حساب'.

المناقب لابن المغازلي: 67، الحديث 97

نظرة حول الحديث

ممّا لا شكّ فيه أنّ الجنّة والنّار في القيامة هي ثمرة أعمال الإنسان في مزرعة الدنيا، فكلّما كانت أعمالنا منسجمة مع مبادئ الإسلام ومنطبقة مع الموازين الشرعيّة الإلهيّة، فإنّها تقرّبنا إلى اللَّه جلّ وعلا، وإلى الجنّة زلفى، في نفس الوقت الّذي تبعدنا عن النّار، فأعمال الفرد هي الكفيلة بإيصاله إلى الجنّة أو النّار.

أنّ النبيّ ووصيّه عليّ عليهماالسلام يمثّلان نموذجين متكاملين لقوانين الإسلام، وكذا شأن الأئمة المعصومين عليهم السلام من بعدهم، فكلّما كانت أعمالنا إليهما أقرب فنحن إلى مبادئ الإسلام وإلى الجنّة أقرب، وإنّما نزداد قرباً من النّار كلّما ابتعدنا عنهما.

لقد جاء في بعض الأحاديث: 'حبُّ عليّ إيمان وبغضه كفر'، ونفهم منه أنّ حبّ عليّ عليه السلام ميزانٌ لمصير العباد إلى الجنّة، كما أنّ بُغضه سببٌ في المصير إلى النّار.

ولا يخفى أنّ الحبّ والبغض هنا ليسا أمراً ذهنيّاً فقط أو أمراً شعوريّاً كما يتوهّم، بل الحبّ والبغض لا يكون إلا بالعمل، ولذا ورد في الحديث 'هل الدين إلا الحبّ'؛ إذ مَن كان يبغض عليّاً فلا يسير على نهج عليّ عليه السلام، وبالنتيجة لا يكون عمله منطبقاً مع مبادئ الإسلام، ومن يحبّ عليّاً وكان عمله مطابقاً لعمل عليّ عليه السلام فهو يدخل الجنّة، فلعلّ المراد بكونه عليه السلام: 'قسيم الجنّة والنّار'، هو هذا المعنى، واللَّه العالم.

فعلى هذا، إنّ البعض ممّن يدّعي حبّ عليّ عليه السلام، كالدراويش أو بعض الشيعة الإماميّة، ولكن لا يعمل بمنهج عليّ عليه السلام، فلا يتوقّع أن يدخل الجنّة لمجرّد محبّته لعليّ عليه السلام بلا عمل، قال اللَّه تعالى: 'وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ'. [ سورة البقرة: 82].

وقال عليّ عليه السلام لعثمان بن حنيف عامله على البصرة: 'ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به، ويستضي ء بنور علمه'. [ شرح نهج البلاغة: 957، الكتاب 45].

وليس معنى الاقتداء بالإمام إلا العمل بطريقته.

روى ابن عساكر الشافعي، بإسناده عن محمّد بن منصور الطوسي، قال: سمعت أحمد بن حنبل وقد سأله رجل عن قول النبيّ صلى الله عليه و آله: 'عليّ قسيم النّار'. فقال: هذا حديث مضطرب طريقه عن الأعمش، ولكنّ الحديث الّذي ليس عليه لبس، هو قول النبيّ: 'يا عليّ، لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق'، وقال: اللَّه عزّ وجلّ: 'إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ' [ سورة النساء: 145].

فمن أبغض عليّاً فهو في الدرك الأسفل من النّار. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 253:2، ح 767].

وقال الكنجي الشافعي في آخر الباب الثالث من "كفاية الطالب": قال محمّد بن منصور الطوسي: كنّا عند أحمد بن حنبل، فقال له رجل: يا أبا عبداللَّه، ما تقول في هذا الحديث الّذي يروي أنّ عليّاً عليه السلام قال: 'أنا قسيم النّار؟'.

فقال أحمد: وما تنكرون من هذا الحديث، أليس روينا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لعليّ: 'لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق'! قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنّة. قال: فأين المنافق؟ قلنا: في النّار. قال: فعليّ قسيم النّار. [ كفاية الطالب: 72].

 

وإليك بعض الأخبار الّتي توضّح ما قلنا

و في "البحار" عن "علل الشرائع": بإسناده عن المفضّل بن عمر، قال: قلت لأبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام: لِمَ صار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قسيم الجنّة والنّار؟ قال: 'لأنّ حبّه إيمان، وبغضه كفر، وإنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان، وخلقت النّار لأهل الكفر، فهو قسيم الجنّة والنّار لهذه العلّة، فالجنّة لا يدخلها إلا أهل محبّته، والنّار لا يدخلها إلا أهل بغضه'.

قال المفضّل: فقلت: يابن رسول اللَّه، فالأنبياء والأوصياء عليهم السلام كانوا يحبّونه، وأعداؤه كانوا يبغضونه؟ قال: 'نعم'.

قلت: فكيف ذلك؟ قال: 'أما علمت أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال يوم خيبر: لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ اللَّه ورسوله، ويحبّه اللَّه ورسوله، ما يرجع حتّى يفتح اللَّه على يديه، فدفع الراية إلى عليّ عليه السلام، ففتح اللَّه عزّ وجلّ على يديه؟'. قلت: بلى.

قال: 'أما علمت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا اُتي بالطائر المشوي قال: اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليَّ يأكل معي من هذا الطائر، وعنى به عليّاً عليه السلام؟'. قلت: بلى.

قال: 'فهل يجوز أن لا يحبّ أنبياء اللَّه ورسله وأوصياؤهم رجلاً يحبّه اللَّه ورسوله، ويحبّ اللَّه ورسوله؟!'. فقلت له: لا.

قال: 'فهل يجوز أن يكون المؤمنون من اُممهم لا يحبّون حبيب اللَّه وحبيب رسوله وأنبيائه عليهم السلام؟'. قلت: لا.

قال: 'فقد ثبت أنّ جميع أنبياء اللَّه ورسوله وجميع الملائكة كانوا لعليّ بن أبي طالب عليه السلام محبّين، وثبت أنّ أعدائهم والمخالفين لهم كانوا ولجميع أهل محبّتهم مبغضين'. قلت: نعم.

قال: 'فلا يدخل الجنّة إلا مَن أحبّه من الأوّلين والآخرين، ولا يدخل النّار إلا مَن أبغضه من الأوّلين والآخرين، فهو إذن قسيم الجنّة والنّار'، الحديث. [ البحار 194:39].

وفيه أيضاً: عن "عيون أخبار الرضا عليه السلام": بإسناده عن أبي الصلت الهروي، قال: قال المأمون يوماً للرضا عليه السلام: يا أبا الحسن، أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بأيّ وجه هو قسيم الجنّة والنّار، وبأي معنى، فقد كثر فكري في ذلك؟

فقال له الرضا عليه السلام: 'يا أمير المؤمنين، ألم ترو عن أبيك، عن آبائه، عن عبداللَّه بن عبّاس أنّه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: حبّ عليّ إيمان، وبغضه كفر؟'. فقال: بلى. فقال الرضا عليه السلام: 'فقسمة الجنّة والنّار إذن كانت على حبّه وبغضه، فهو قسيم الجنّة والنّار'.

فقال المأمون: لا أبقاني اللَّه بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنّك وارث علم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

قال أبو الصلت الهروي: فلمّا انصرف الرضا عليه السلام إلى منزله أتيته، فقلت له: يابن رسول اللَّه، ما أحسن ما أجبت به أمير المؤمنين؟

فقال لي الرضا عليه السلام: 'إنّما كلّمته من حيث هو، ولقد سمعت أبي يحدّث عن آبائه، عن عليّ عليه السلام أنّه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا عليّ، أنت قسيم الجنّة والنّار يوم القيامة، تقول للنّار: هذا لي، وهذا لك'. [ المصدر المتقدّم 193:39، وروى القندوزي في "ينابيع المودّة" ص85 عن "العيون"، نحوه].

كلمة من ابن أبي الحديد في الحديث وتوضيحنا

قال ابن أبي الحديد: ومنها "يعني من غرائب كلام علي عليه السلام"، قوله عليه السلام: 'أنا قسيم النّار'. قال ابن قتيبة: أراد عليه السلام أنّ النّاس فريقان: فريق معي فهم على هُدىً، وفريقٌ علَيَّ، فهم على ضلالة، كالخوارج، ولم يجسر ابن قتيبة أن يقول: وكأهل الشام. يتورّع يزعم، ثمّ إنّ اللَّه أنطقه بما تورّع عن ذكره، فقال متمّماً للكلام بقوله: 'فأنا قسيم النّار' نصف في الجنّة معي ونصف في النّار، قال: وقسيم في معنى مقاسم مثل جليس وأكيل وشريب.

ثمّ قال ابن أبي الحديد: قلت: قد ذكر أبو عبيد الهروي هذه الكلمة في "الجمع بين الغريبين". قال: وقال قوم: إنّه لم يُرد ما ذكره، وإنّما أراد: هو قسيم النّار والجنّة يوم القيامة حقيقة، يقسم الاُمّة فيقول: هذا للجنّة وهذا للنّار. [ شرح ابن أبي الحديد 139:19].

أقول: وما قاله ابن أبي الحديد عن ابن قتيبة بحصر أهل النّار بالخوارج أو بأهل الشام غير صحيح؛ لأنّ أهل النّار لا يقصرون عليهم، بل النّار لمن لا يعمل صالحاً ولو كان مسلماً بالاسم؛ إذ من ترك طريق عليّ عليه السلام فهو من أهل النّار، إن كان من الخوارج وأهل الشام أو من غيرهم حتّى ولو كان من الشيعة في الظاهر، الا ان يراد بذلك المخلّدون في النار، فلا ينحصر أيضاً بالخوارج و أهل الشام كما لا يخفى.

نعم، إنّ محبّ عليّ عليه السلام إذا عمل بما قال النبيّ صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام وسار في طريقهما لكنّه ارتكب بعض الذنوب أو الأخطاء اليسيرة، فإنّ عليّاً عليه السلام سيكون شفيعاً له يوم القيامة، كما قال في كتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: 'فإنّكم لا تقدرون على ذلك، بل أعينُوني بورعٍ واجتهادٍ وعفّةٍ وسدادٍ'.

نبذة من الأخبار في المقام

في هذا المقام روايات من طرق العامّة والخاصّة، أرسلوها إرسال المسلّم، بل يمكن أن يدّعي أنّها من المتواترات الصادرة من النبيّ صلى الله عليه و آله، ونذكر بعضاً منها:

1- روى القندوزي الحنفي عن أحمد الخوارزمي المكّي، بسنده عن نافع بن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ: 'إذا كان يوم القيامة يؤتى بك - يا عليّ - بسرير من نور وعلى رأسك تاج قد أضاء نوره، وكاد يخطف أبصار أهل المواقف، فيأتي النداء من عند اللَّه جلّ جلاله: أين وصيّ محمّد رسول اللَّه، فتقول: ها أنا ذا، فينادي المنادي: أدخل مَن أحبّك الجنّة، وأدخل مَن عاداك في النّار، فأنت قسيم الجنّة والنّار'. [ ينابيع المودّة: 83].

2- و عنه أيضاً عن جعفر الصادق، عن آبائه، عن عليّ عليهم السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: 'إذا جمع النّاس في صعيد واحد كنتُ أنا وأنت - يا عليّ - يومئذٍ عن يمين العرش، ثمّ يقول ربّنا لي ولك: ألقيا في جهنّم مَن أبغضكما وكذّبكما'. [ المصدر المتقدّم: 85].

3- وعنه أيضاً: عن ابن المغازلي الشافعي، بسنده عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا عليّ، إنّك قسيم الجنّة والنّار، وأنت تقرع باب الجنّة وتدخلها أحبّاءك بغير حساب'. [ المصدر المتقدّم: 84].

4- و روى ابن عساكر الشافعي عن عباية بن ربعي، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أنّه قال: 'أنا قسيم النّار يوم القيامة، أقول: خذي ذا، وذري ذا'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 243:2، ح 753].

5- و عن المفيد في أماليه عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر، عن آبائه عليهم السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كيف بك يا عليّ إذا وقفت على شفير جهنّم، وقد مدّ الصراط وقيل للنّاس جوزوا، وقلت لجهنّم: هذا لي، وهذا لك؟ فقال عليّ عليه السلام: يا رسول اللَّه، ومَن اُولئك؟ قال: اُولئك شيعتك معك حيث كنت'. [ أمالي المفيد: 328، المجلس الثامن والثلاثون، ح 12، والبحار 198:39، و نحوه في ينابيع المودّة: 85].

6- و عن الجويني عن عبداللَّه بن أحمد بن عامر، عن سليمان، عن عليّ بن موسى الرضا، عن آبائه عليهم السلام، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: 'قال النبيّ صلى الله عليه و آله: يا عليّ، إنّك قسيم النّار، وإنّك تقرع باب الجنّة فتدخلها بلا حساب'. [ فرائد السمطين 325:1، ح 253].

7- وعنه أيضاً: بسنده عن عباية، عن عليّ عليه السلام، قال: 'أنا قسيم النّار، إذا كان يوم القيامة قلت: هذا لك، وهذا لي'.

عليّ حُبُّه جُنّة*** قسيم النّار والجَنّة

وصيّ المصطفى حقّاً*** إمام الإنس والجِنّة

[ المصدر المتقدم، ح 254].

8- وفي "أمالي الصدوق": بإسناده عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام، عن عليّ عليه السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إذا كان يوم القيامة يؤتى بك يا عليّ على عجلة من نور وعلى رأسك تاج له أربعة أركان، على كلّ ركن ثلاثة أسطر: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ وليّ اللَّه وتعطى مفاتيح الجنّة. ثمّ يوضع لك كرسيّ يعرف بكرسيّ الكرامة فتقعد عليه، ثمّ يجمع لك الأوّلون والآخرون في صعيد واحد، فتأمر بشيعتك إلى الجنّة، وبأعدائك إلى النّار، فأنت قسيم الجنّة، وأنت قسيم النّار، ولقد فاز من تولاك، وخسر من عاداك، فأنت في ذلك اليوم أمين اللَّه وحجّة اللَّه الواضحة'. [ أمالي الصدوق - المجلس الخامس والتسعون: ح 10، والبحار 193:39].

9- و عن القندوزي الحنفي عن المناقب، عن مقاتل بن سليمان، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، أنت منّي بمنزلة شيث من آدم، وبمنزلة سام من نوح، وبمنزلة إسحاق من إبراهيم... وأنت وصيّي ووارثي، وأنت أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأوفرهم حلماً، وأشجعهم قلباً، وأسخاهم كفّاً، وأنت إمام اُمّتي، وقسيم الجنّة والنّار، بمحبّتك يعرف الأبرار من الفجّار، ويميز بين المؤمنين والكفّار'. [ ينابيع المودّة: 68].

10- و عن الصدوق بسنده عن عبداللَّه بن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: 'إذا كان يوم القيامة يؤتى بك - يا عليّ - على نجيب من نور وعلى رأسك تاج قد أضاء نوره وكاد يخطف أبصار أهل الموقف، فيأتي النداء من عند اللَّه جلّ جلاله: أين خليفة محمّد رسول اللَّه؟ فتقول: أنا ذا. قال: فينادي المنادي: يا عليّ، أدخل مَن أحبّك الجنّة، ومَن عاداك النّار، فأنت قسيم الجنّة، وأنت قسيم النّار'. [ أمالي الصدوق - الملجس السابع والخمسون: ح 14].

11- وعنه أيضاً: بسنده عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمّد الباقر عليهماالسلام، عن آبائه، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ: يا عليّ، ما ثبت حبّك في قلب امرئ مؤمن فزلّت به قدمه على الصراط إلا ثبتت له قدم حتّى يدخله اللَّه عزّ وجلّ بحبّك الجنّة'. [ المصدر المتقدم - المجلس الخامس والثمانون: ح 28].

12- وفي "البحار": عن الباقر عليه السلام: 'سئل النبيّ صلى الله عليه و آله عن قوله تعالى: 'أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ'. [ سورة ق: 24].

فقال: يا عليّ، إنّ اللَّه تعالى إذا جمع النّاس يوم القيامة في صعيد واحد، كنت أنا وأنت عن يمين العرش، ويقول اللَّه: يا محمّد، و يا عليّ، قوما وألقيا مَن أبغضكما وخالفكما وكذّبكما في النّار'. [ البحار 203: 39].

13- وفيه أيضاً: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'إذا كان يوم القيامة يأمر اللَّه عزّ وجلّ، فأقعد أنا وعليّ على الصراط، ويقال لنا: ادخلا الجنّة مَن آمن بي وأحبّكما، وأدخلا النّار من كفر بي وأبغضكما'. [ المصدر المتقدّم: 203].

14- وفيه أيضاً: عن جابر الجعفي، قال: أخبرني وصيّ الأوصياء، قال: 'دخل عليّ عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه و آله وعنده عائشة، فجلس قريباً منها، فقالت: ما وجدت - يابن أبي طالب - مقعداً إلا فخذي، فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على ظهرها، فقال: يا عائشة، لا تؤذيني في أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وأمير الغرّ المحجّلين، يقعده اللَّه غداً يوم القيامة على الصراط، فيدخل أولياءه الجنّة وأعداءه النّار'. [ المصدر المتقدّم: 201].

15- وفيه أيضاً: عن الصدوق، بإسناده عن سليمان بن خالد، عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ: يا عليّ، أنت منّي وأنا منك، وليّك وليّي ووليّي وليّ اللَّه، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ اللَّه. يا عليّ، أنا حرب لمن حاربك، وسلم لمن سالمك. يا عليّ، لك كنز في الجنّة وأنت ذو قرنيها. يا عليّ، أنت قسيم الجنّة والنّار لا يدخل الجنّة إلا مَن عرفك وعرفته، ولا يدخل النّار إلا من أنكرك وأنكرته. يا عليّ، أنت والأئمّة من ولدك على الأعراف يوم القيامة تعرف المجرين بسيماهم والمؤمنين بعلاماتهم. يا عليّ، لولاك لم يعرف المؤمنون بعدي'. [ المصدر المتقدم: 207].

16- وفي "المناقب للخوارزمي": عن عليّ بن موسى الرضا، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، إنّك قسيم الجنّة والنّار، وإنّك تنقر باب الجنّة فتدخلها بلا حساب'. [ المناقب لأخطب خوارزم: 209].

احتجاج عليّ يوم الشورى بهذ الفضيلة

في "صواعق ابن حجر"، وأخرج الدارقطني: أنّ عليّاً عليه السلام قال للستّة الّذين جعل عمر الأمر شورى بينهم كلاماً طويلاً من جملته: 'اُنشدكم باللَّه، هل فيكم أحدٌ قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا عليّ، أنت قسيم الجنّة والنّار يوم القيامة، غيري؟'، قالوا: اللّهمّ لا.

ثمّ قال ابن حجر: ومعناه ما رواه عنترة عن عليّ الرضا، أنّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ: 'أنت قسيم الجنّة والنّار، فيوم القيامة تقول للنّار هذا لي، وهذا لك'. [ الصواعق المحرقة: 126].

 

ذكر عليّ و النظر إليه عبادة

عن النبيّ صلى الله عليه و آله: 'النظر إلى عليّ بن أبي طالب عبادة، وذكره عبادة'. البحار 196:38

في معنى الذِّكر

الذِّكر ربّما قابل الغفلة، وربّما قابل النسيان [ الغفلة: هي انتفاء العلم بالعلم مع وجود أصل العلم، والذِّكر خلافه وهو العلم بالعلم، ومنه قوله تعالى: 'و لا تُطِع من أَغفلنا قَلبه عن ذِكرَنا' الكهف: 28. و النسيان: هو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن فالذكر خلافه، و منه قوله تعالى: 'وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ' سورة الكهف: 24، الميزان 343: 1].

وللذكر خواصّ وآثار تترتّب عليه، ومن الآثار المترتّبة على الذِّكر هو التذكّر بالقول واللسان، يعني أنّ من يذكر شيئاً بلسانه فهو من آثار الذِّكر القلبي وعدم الغفلة، وعدم نسيانه، فإطلاق الذِّكر على التذكّر بالقول واللسان من باب استعمال اللفظ في فوائد المعنى، ثمّ كثر استعماله في التذكّر بالقول واللسان حتّى صار هو السابق إلى الفهم.

ولا يخفى أنّ للذكر مراتب عالية ودانية، فقوله تعالى: 'أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ' [ سورة الرعد: 28].

المرتبة العالية للذكر في القلب، ومن مراتب الذِّكر قوله تعالى: 'فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً' [ سورة البقرة: 200].

وقوله تعالى: 'وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ...'. [ سورة الكهف: 24].

وعلى هذا فقوله صلى الله عليه و آله: 'ذكر عليّ عبادة' [ البحار 199:38].

وهو توجّه القلب إلى عليّ عليه السلام وعدم الغفلة عن صراطه وطريقه؛ لأنّ صراطه هو صراط اللَّه، وصراط اللَّه هو الصراط المستقيم، ومن تنبّه وتوجّه إلى صراطه دائماً سار بسيرته، وصار من شيعته، فهذا الذِّكر عبادة حقّاً، كما ورد في بعض الأخبار 'ذكر فضائله عبادة'. [ البحار 196:38].

وقول من قال: ذكر عليّ عليه السلام باللسان عبادة، ولو مع خلوّ القلب عنه؛ لأنّه يمنعه من التكلّم باللغو، ويجعل لسانه معتاداً بالخير، وهو إذا كان مجرّد لقلقة لسان بلا توجّه القلب فلا ثمرة له، بل هو نوع من الاستهزاء والسخرية، فيكون هذا الذاكر كاللاهي، ولا أثر في ذكره عليّاً عليه السلام ما لم يَسِر على صراطه عليه السلام.

نعم، لو كان ذكره عليه السلام باللسان ابتداءً، ثمّ صار سبباً لتوجّه القلب وحضور النفس والتنبّه إلى صراطه، وبعدها يصبح دافعاً للالتزام بسيرته فهو عبادة قطعاً ولا نزاع في ذلك؛ ولذا ورد في بعض الأخبار أنّ ذكر اللَّه ولاية عليّ عليه السلام [ تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 390:2].

وفي بعض الأخبار قرن ذكر عليّ عليه السلام بذكر اللَّه وذكر الرسول وذكر القرآن وذكر سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام. [ البحار 371:36].

 

نبذة من أخبار الذِّكر

1- في "تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي رحمه الله": عن ابن عبّاس في قوله تعالى: 'وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ' [ سورة الجنّ: 17].

قال: ذكر ربّه ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام. [ تفسير القمّي 390:2، وكذا عنه في البحار 395:35].

2- وفي "البحار" عن "كنز الفوائد": عن جابر الجعفي، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: 'وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً'، قال: 'مَن أعرض عن عليّ يسلكه العذاب الصعد، وهو أشدّ العذاب'. [ البحار 395:35].

3- و فيه أيضاً عن "أمالي الصدوق": عن ابن عمارة، عن أبيه، عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ اللَّه تعالى جعل لأخي عليّ بن أبي طالب عليه السلام فضائل لا يحصي عددها غيره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّاً بها غفر اللَّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، ولو وافى القيامة بذنوب الثقلين. ومن كتب فضيلة من فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر اللَّه له الذنوب الّتي اكتسبها بالاستماع، ومَن نظر إلى كتابة في فضائله غفر اللَّه له الذنوب الّتي اكتسبها بالنظر، ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: النظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه'. [ المصدر المتقدّم 196:38].

4- فيه أيضاً عن اُمّ سلمة زوجة النبي صلى الله عليه و آله، أنّها قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'ما قوم اجتمعوا يذكرون فضل عليّ بن أبي طالب إلا هبطت عليهم ملائكة السماء حتّى تحفّ بهم، فإذا تفرّقوا عرجت الملائكة إلى السماء، فتقول لهم الملائكة: إنّا نشمّ من رائحتكم ما لا نشمّه من الملائكة، فلم نرَ رائحة أطيب منها، فيقولون: كنّا عند قوم يذكرون محمّداً وأهل بيته، فعلق فينا من ريحهم فتعطّرنا، فيقولون: اهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرّقوا، ومضى كلّ واحد منهم إلى منزله. فيقولون: اهبطوا بنا حتّى نتعطّر بذلك المكان'. [ المصدر المتقدم: 199].

5- وفيه أيضاً: عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام، عن جابر بن عبداللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'زيّنوا مجالسكم بذكر عليّ بن أبي طالب'. [ المصدر المتقدّم].

6- وفيه أيضاً: عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'ذكر عليّ عبادة'. [ المصدر المتقدم، والمناقب للخوارزمي: 261].

7- و عن المفيد عن الأصبغ بن نباتة، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'ذكر اللَّه عزّ وجلّ عبادة، وذكري عبادة، وذكر عليّ عبادة، وذكر الأئمّة من ولده عبادة، والّذي بعثني بالنبوّة، وجعلني خير البريّة إنّ وصيّي لأفضل الأوصياء، وإنّه لحجّة اللَّه على عباده، وخليفته على خلقه، ومن ولده الأئمّة الهداة بعدي، بهم يحبس اللَّه العذاب عن أهل الأرض، وبهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبهم يمسك الجبال أن تميد بهم، وبهم يسقي خلقه الغيث، وبهم يخرج النبات، اُولئك أولياء اللَّه حقّاً، وخلفائي صدقاً عدّتهم عدّة الشهور وهي اثنا عشر شهراً، وعدّتهم عدّة النقباء من موسى بن عمران'، ثمّ تلا هذه الآية: 'وَالسَّماءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ'. [ سورة البروج: 1].

ثمّ قال: 'أتقدر يابن عبّاس أنّ اللَّه يقسم بالسماء ذات البروج ويعني به السماء وبروجها؟'، قلت: يا رسول اللَّه، فما ذاك؟ قال: 'أمّا السماء فأنا، وأمّا البروج فالأئمّة بعدي، أوّلهم عليّ وآخرهم المهدي'. [ الاختصاص للمفيد: 223، و البحار 371:36].

في معنى النظر في قوله: 'النظر إلى وجه عليّ عبادة'

النظر إلى الشي ء: مشاهدته. [ مجمع البحرين 498:3].

فمعنى قوله صلى الله عليه و آله: 'النظر إلى وجه عليّ عليه السلام عبادة'، أي أنّ مشاهدته والنظر إليه بنفسه عبادة، لا أنّه يحمل الناظر على العبادة، كما يرى ابن الأعرابي في شرح الحديث حيث قال: معناه: أنّ عليّاً عليه السلام كان إذا برز قال النّاس: لا إله إلا اللَّه، ما أشرف هذا الفتى! لا إله إلا اللَّه، ما أعلم هذا الفتى! لا إله إلا اللَّه، ما أكرم هذا الفتى، أي ما اتّقى! لا إله إلا اللَّه، ما أشجع هذا الفتى! فكانت رؤيته تحملهم على كلمة التقوى. [ نهاية ابن الأثير 77:5].

وهو كما ترى، فإنّه أراد أن ينفي عنه عليه السلام منقبة فأثبت له مناقب، ولا ندري ما الباعث على ذلك؟ وأيّ استبعاد في أن يكون محض النظر إليه عليه السلام عبادة؟ وأي استبعاد في أن يكون النظر إلى ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وزوج فاطمة الزهراء، وأبي السبطين، وأخي الرسول ووصيّه وباب علمه، والذابّ عنه بين يديه، وكاشف الكرب عن وجهه، والباذل نفسه للَّه ولرسوله ليلة المبيت، وهادي الاُمّة، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، عبادة؟!

ويؤيّد ما ذكرناه ما ور في الحديث: 'النظر إلى وجه العالم عبادة، وإلى وجه الوالدين عبادة، وإلى الكعبة عبادة'. ويؤيّده أيضاً أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدعو اللَّه تعالى أن لا يموت حتّى يرى عليّاً عليه السلام.

و عن الترمذي عن اُمّ عطية، قالت: بعث النبيّ صلى الله عليه و آله جيشاً فيهم عليّ عليه السلام، قالت: فسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو رافع يديه يقول: 'اللّهمّ لا تُمتني حتّى تُرِيَني عليّاً'. [ سنن الترمذي 601:5، ح 3737، ينابيع المودّة: 90].

و عن الكنجي الشافعي عن عبداللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'النظر إلى وجه عليّ عبادة'. ثمّ قال الكنجي: الحديث عال حسن السياق، 'وأمّا النظر إلى وجه عليّ فإنّه عبادة' من حيث أنّه ابن عمّ الرسول وزوج البتول وأبو السبطين الحسن والحسين وأخو الرسول ووصيّه. [ كفاية الطالب: 157].

 

نبذة من أخبار النظر

1- في "البحار" عن "أمالي الشيخ": عن حجر المذري، قال: قدمت مكّة وبها أبو ذرّ جندب بن جنادة، وقدم في ذلك العام عمر بن الخطّاب حاجّاً ومعه طائفة من المهاجرين والأنصار، فيهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فبينا أنا في المسجد مع أبي ذرّ جالس إذ مرّ بنا عليّ عليه السلام ووقف يصلّي بإزائنا، فرماه أبو ذرّ ببصره فقلت: رحمك اللَّه يا أبا ذرّ، إنّك لتنظر إلى عليّ عليه السلام فما تقلع عنه؟ قال: إنّي أفعل ذلك، فقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'النظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام عبادة، والنظر إلى الوالدين برأفة ورحمة عبادة، والنظر في الصحيفة - يعني صحيفة القرآن - عبادة، والنظر إلى الكعبة عبادة'. [ البحار 196:38].

2- وفيه أيضاً: عن "الإبانة لابن بطة": عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: رأيت معاذاً يديم النظر إلى وجه عليّ عليه السلام فقلت له: إنّك تديم النظر إليه كأنّك لم تره؟! فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'النظر إلى وجه عليّ بن أبي طالب عبادة'.

3- وفيه أيضاً عن عمّار ومعاذ وعائشة عن النبيّ صلى الله عليه و آله انّه قال: 'النظر إلى عليّ بن أبي طالب عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه'. [ المصدر المتقدّم: 198].

4- و عن أخطب الخوارزم عن عائشة، قالت: كان أبو بكر يُديم النظر إلى عليّ عليه السلام فقيل له في ذلك؟ فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'النظر إلى عليّ عبادة'. [ المناقب للخوارزمي: 261].

5- وفي "البحار": عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جاءه رجل، فقال: يا رسول اللَّه، أما رأيت فلاناً ركب البحر [ أي سافر من طريق البحر للتجارة] ببضاعة يسيرة وخرج إلى الصين فأسرع الكرّة [ الكرّة: الرجعة].

وأعظم الغنيمة حتّى قد حسده أهل ودّه وأوسع قراباته وجيرانه؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ مال الدنيا كلّما ازداد كثرة وعظماً ازداد صاحبه بلاءً، فلا تغتبطوا أصحاب الأموال إلا بمن جاد بماله في سبيل اللَّه، ولكن ألا اُخبركم بمن هو أقلّ من صاحبكم بضاعة، وأسرع منه كرّة، وأعظم منه غنيمة، وما اُعدّ له من الخيرات محفوظ له في خزائن عرش الرحمن؟'. قالوا: بلى، يا رسول اللَّه. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'انظروا إلى هذا المقبل إليكم'، فنظرنا فإذا رجل من الأنصار رثّ الهيئة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ هذا لقد صعد له في هذا اليوم إلى العلوّ من الخيرات والطاعات ما لو قسّم على جميع أهل السماوات والأرض لكان نصيب أقلّهم منه غفران ذنوبه ووجوب الجنّة له'.

قالوا: بماذا، يا رسول اللَّه؟ فقال: 'سلوه يخبركم عمّا صنع في هذا اليوم'. فأقبل عليه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقالوا: له هنيئاً لك ما بشّرك به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فماذا صنعت في يومك هذا حتّى كتب لك ما كتب؟

فقال الرجل: ما أعلم أنّي صنعت شيئاً غير أنّي خرجت من بيتي وأردت حاجة كنت أبطأت عنها، فخشيت أن تكون فاتتني، فقلت في نفسي: لاعتاضنّ منها النظر إلى وجه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'النظر إلى وجه عليّ عبادة'.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إي واللَّه عبادة، وأيّ عبادة، إنّك يا عبد اللَّه ذهبت تبتغي أن تكتسب ديناراً لقوت عيالك، ففاتك ذلك فاعتضت منه النظر إلى وجه عليّ، وأنت له محبّ، ولفضله معتقد، وذلك خير لك من أن لو كانت الدنيا كلّها لك ذهبة حمراء فأنفقتها في سبيل اللَّه، ولتشفعنّ بعدد كلّ نفس تنفّسته في مصيرك إليه في ألف رقبة يعتقهم اللَّه من النّار بشفاعتك'. [ البحار 197:38].

ولا يخفى أنّنا نحن في وقتنا هذا محرومون من هذا الفيض العظيم، أعني النظر إلى وجهه الشريف المبارك، بل نصيبنا اليوم زيارة مضجعه المقدّس في النجف الأشرف: 'اللّهمّ ارزقنا في الدنيا زيارتهم، وفي الآخرة شفاعتهم'، ولكنّ هذه الأخبار المأثورة تنبّهنا إلى أنّ مَثَلَ عليّ بن أبي طالب عليه السلام مَثَلُ القرآن والكعبة؛ إذ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'النظر إلى عليّ بن أبي طالب عبادة، والنظر في القرآن عبادة، والنظر إلى الكعبة عبادة'. [ المصدر المتقدّم: 196].

ولا يصل إلى هذا المقام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غير عليّ عليه السلام، فهل يجوز أن يكون وصيّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وخليفته ووارثه غير عليّ عليه السلام؟!

في فضائله و مناقبه "2"

علي و المسابقة إلى الهجرة

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، أنت أوّل هذه الاُمّة إيماناً باللَّه ورسوله، وأوّلهم هجرة إلى اللَّه ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يُحبّك - والّذي نفسي بيده - إلا مؤمن قد امتحن اللَّه قلبه بالإيمان، ولا يبغضك إلا منافق أو كافر'.

مناقب ابن شهرآشوب 184:1

في مفهوم الهجرة

ليس المقصود من الهجرة هو انتقال من بلد إلى بلد وحسب، ولا يعدّ هذا فضيلة، بل المقصود من الهجرة الممدوحة في القرآن والسنّة هو ترك الوطن وكلّ ما فيه للَّه وفي اللَّه، كما قال اللَّه تعالى: 'وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ'. [ سورة النساء: 100].

[ والهجرة الممدوحة على أقسام، وعلى مراتب في الفضل والأجر، في النهاية لابن الأثير 244:5: والهجرة هجرتان؛ إحداهما الّتي وعد اللَّه الجنّة في قوله تعالى: 'إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ'، فكان الرجل يأتي النبيّ صلى الله عليه و آله ويدع أهله وماله لا يرجع في شيء منه وينقطع بنفسه إلى مهاجره، والهجرة الثانية: من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الاُولى فهو مهاجر، وليس بداخل في فضل من هاجر تلك الهجرة.

وفي مجمع البحرين "514:3": قوله تعالى: 'وَالَّذِينَ هاجَرُوا' أي تركوا بلادهم، ومنه 'المهاجرون'؛ لأنّهم هاجروا بلادهم وتركوها وصاروا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكلّ من هجر بلده لغرض ديني من طلب علم أو حجّ أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعةً أو زهداً في الدنيا، فهي هجرة إلى اللَّه ورسوله].

واللَّه تعالى يفضّل المهاجرين على غيرهم بالأجر والثواب؛ لأنّهم تركوا كلّ ما كانوا يملكون من المال والولد والأهل من أجل المحافظة على دينهم، والتخلّص من المشركين الّذين كانوا يحاربون المسلمين أشدّ محاربة، وعليّ عليه السلام سبق في هذه الفضيلة - كسائر الفضائل - سائر الصحابة.

كلمة حول هجرة أمير المؤمنين

كان عليّ عليه السلام أسبق إلى الهجرة من سائر الصحابة وأهل البيت، وأكثرهم هجرة، فإنّه هاجر مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مراراً في صدر الإسلام عندما آمن قليل من المسلمين في مكّة، ونشير إلى هجراته إجمالاً:

الاُولى: الهجرة الشِّعب - أعني شعب أبي طالب - وكان المهاجرون إليه من بني هاشم، وعليّ عليه السلام منهم، وامتاز فيها بأنّه نام في مضجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لحفظ نفسه صلى الله عليه و آله بأمر والده أبي طالب، ونزل في شأنهم: 'وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ'. [ سورة التوبة: 100، وقد مرّ البحث فيه في فصل: "عليّ عليه السلام وأبوه"].

الثانية: الهجرة إلى الطائف بعد وفاة أبيه أبي طالب وخديجة الكبرى وقبل الهجرة إلى المدينة، وكان المهاجرون إليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعليّاً عليه السلام، وزيداً، وأقاموا عشرة أيّام، وقيل: شهر، فدعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الإسلام، ثمّ رجعوا إلى مكّة. [ شرح ابن أبي الحديد، نقلاً عن أعيان الشيعة 373:1].

الثالثة: الهجرة إلى المدينة، وهي أهمّها، وصارت مبدأ تاريخ الإسلام، ومنشأ قدرته، وتشكيل حكومته الحقّة، فإنّ عليّاً عليه السلام وإن لم يكن في جوار رسول اللَّه لحظة الهجرة، ولكنّه نام في فراشه ليلة المبيت، ونزلت في شأنه: 'وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ' [ سورة البقرة: 207].

وبعد أن أدّى ديون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأماناته وعمل بعهوده هاجر مع الفواطم ماشياً، وتوقّف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مسجد قبا حتّى لحق به عليّ عليه السلام، ثمّ دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة مع عليّ عليه السلام. [ فقد مرّ بنا مفصّلاً في فصل: "عليّ عليه السلام ليلة المبيت"، فلاحظ].

فهذه هجرة عليّ عليه السلام، ومنها يتبيّن أنّه كان أكثر هجرة من غيره وأسبق إليها، وكانت هجرته حقّاً هجرةً إلى اللَّه ورسوله، وكانت أسمى هجرة بعد هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، واختصّ عليّ عليه السلام بهذه المنقبة العالية، وكان هو عليه السلام أحسن وأفضل مصاديق آيات الهجرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: 'إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ' [ سورة البقرة: 218].

وقوله: 'فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي...وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ' [ سورة آل عمران: 195].

وقوله: 'وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُم فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ'. [ سورة النحل: 41].

عن ابن عبّاس - في قوله تعالى: 'وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ' [ سورة الأنفال: 74].

- قال: ذكر المؤمنين، ثمّ المهاجرين، ثمّ المجاهدين، وفضّل عليّاً عليهم كلّهم، فقال: 'وأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ' [ سورة الأنفال: 75].

فعليّ عليه السلام سبقهم بالإيمان ثمّ بالهجرة إلى الشعب، ثمّ بالجهاد، ثمّ سبقهم بعد هذه المراتب الثلاث بكونه من ذوي الأرحام. [ ومن هجرته عليه السلام إلى الطائف مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كما سنذكرها عاجلاً، ولم يذكرها في المناقب].

فأمّا أبو بكر فقد هاجر إلى المدينة إلا أنّ لعليّ عليه السلام مزايا فيها عليه؛ وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخرجه مع نفسه، أو خرج هو لعلّةٍ وترك عليّاً عليه السلام للمبيت باذلاً مهجته، فبذل النفس أعظم من الاتّقاء على النفس في الهرب إلى الغار. [ المناقب لابن شهرآشوب 57:2].

بيان قوله عليه السلام: 'سبقت إلى الإيمان والهجرة'

قول ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السلام: 'سبقتُ إلى الإيمان والهجرة'. [ نهج البلاغة: 137، الخطبة 56، والبحار 292:38].

إن يقال: كيف قال عليه السلام: إنّه سبق إلى الهجرة، ومعلوم أنّ جماعة من المسلمين هاجروا قبله، منهم عثمان بن مظعون وغيره، وقد هاجر أبو بكر قبله؛ لأنّه هاجر في صحبة النبيّ صلى الله عليه و آله وتخلّف عليّ عليه السلام عنها، فبات على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومكث أيّاماً يردّ الودائع الّتي كانت عنده، ثمّ هاجر بعد ذلك؟

والجواب: أنّه عليه السلام لم يقل: 'وسبقتُ كلّ النّاس إلى الهجرة"، وإنّما قال: 'سبقت' فقط، ولا يدلّ ذلك على سبقه للنّاس كافّة، ولا شبهة أنّه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة، ولم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جدّاً.

وأيضاً فقد قلنا إنّه علّل أفضليّته وتحريم البراءة منه مع الإكراه بمجموع اُمور، منها: ولادته على الفطرة، ومنها سبقه إلى الإيمان، ومنها سبقه إلى الهجرة بقوله: 'فإنّي وُلِدْتُ على الفطرة، وسَبَقْتُ إلى الإيمان والهجرة'، وهذه الاُمور الثلاثة لم تجتمع لأحد غيره، فكان بمجموعها متميّزاً عن كلّ أحد من النّاس.

وأيضاً فإنّ اللام في 'الهجرة' يجوز ألا تكون للمعهود السابق، بل تكون للجنس، وأمير المؤمنين عليه السلام سبق أبا بكر وغيره إلى الهجرة الّتي قبل هجرة المدينة، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله هاجر عن مكّة مراراً، يطوف على أحياء العرب، وينتقل من أرض قوم إلى غيرها، وكان عليّ عليه السلام معه دون غيره.

أمّا هجرته إلى بني شيبان، فما اختلف أحد من أهل السيرة أنّ عليّاً عليه السلام كان معه هو وأبو بكر، وأنّهم غابوا عن مكّة ثلاثة عشر يوماً وعادوا إليها، لمّا لم يجدوا عند بني شيبان ما أرادوه من النصرة.

ثمّ قال: وروى المدائني في كتاب 'الأمثال' عن المفضّل الضبي: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا خرج عن مكّة يعرض نفسه على قبائل العرب، فتقدّم أبو بكر - وكان نسّابة - فسلّم فردّوا عليه السلام، فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أمن هامتها أم من لهازمها؟ [ أي من أشرافها أنتم، أم من أوساطها].

قالوا: من هامتها العظمى، فقال: من أيّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذُهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الّذي يقال له: لا حرّ بوادي عوف؟ قالوا: لا.

إلى أن قال: وأمّا هجرته صلى الله عليه و آله إلى الطائف، فكان معه عليّ عليه السلام وزيد بن حارثة في رواية أبي الحسن المدائني، ولم يكن معهم أبو بكر، وأمّا رواية محمّد بن إسحاق فإنّه قال: كان معه زيد بن حارثة وحده، وغاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن مكّة في هذه الهجرة أربعين يوماً، ودخل إليها في جوار مطعم بن عدي.

وأمّا هجرته صلى الله عليه و آله إلى بني عامر بن صعصعة وإخوانهم من قيس عيلان، فإنّه لم يكن معه إلا عليّ عليه السلام وحده؛ وذلك عقيب وفاة أبي طالب، أوحى إليه صلى الله عليه و آله: 'افخرج منها، فقد مات ناصرك'، فخرج إلى بني عامر بن صعصعة ومعه عليّ عليه السلام وحده، فعرض نفسه عليهم، وسألهم النصر، وتلا عليهم القرآن فلم يجيبوه، فعاد صلى الله عليه و آله إلى مكّة، وكانت مدّة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيّام، وهي أوّل هجرة هاجرها صلى الله عليه و آله بنفسه.

فأمّا أوّل هجرة هاجرها أصحابه ولم يهاجر بنفسه صلى الله عليه و آله فهجرة الحبشة، هاجر فيها كثير من أصحابه صلى الله عليه و آله إلى بلاد الحبشة في البحر، منهم جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فغابوا عنه سنين، ثمّ قدم عليه منهم من سلم وطالت أيّامه. وكان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر، فقال صلى الله عليه و آله: 'ما أدري بأيّهما أنا أسرّ؛ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر'. [ شرح ابن أبي الحديد 125:4]