هجرته إلى الطائف مع رسول اللَّه
في "أعيان الشيعة" عن الطبراني: أنّه لمّا مات أبو طالب عليه السلام طمعت قريش في رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب، فخرج من مكّة إلى الطائف، وذلك في شوّال من سنة عشر من البعثة، فأقام بالطائف عشرة أيّام، وقيل شهراً، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، وأغروا به سفهاءهم، وكان معه زيد بن حارثة.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: والشيعة تروي أنّه كان معه عليّ بن أبي طالب عليه السلام أيضاً، أقول: وهو الصواب، فإنّ عليّاً عليه السلام لم يكن ليفارقه في مثل هذه الحال، كما لم يفارقه في غيرها ولم يكن ليرغب بنفسه عنه. [ راجع أعيان الشيعة 375:1].
لا يخفى أنّ ابن أبي الحديد أيضاً اعترف بأنّ عليّاً عليه السلام هاجر مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الطائف، كما تقدّم فيما نقله عن أبي الحسن المدائني، فليست الشيعة وحدها تروي ذلك.
هجرته إلى المدينة ولحاقه برسول اللَّه
اتّفق المؤرّخون وأجمعوا على أنّ عليّاً عليه السلام هو أوّل من التحق بالرسول وهو صلى الله عليه و آله في المدينة، وذلك بعد ردّ الودائع والأمانات إلى أهلها، ثمّ عزم على الخروج من مكّة إلى المدينة، ونومه عليه السلام على فراش الرسول لحفظ نفس الرسول صلى الله عليه و آله، اُولى من هجرة أبي بكر معه قطعاً.
عن "المناقب": روى أبو الفضل الشيباني بإسناده عن مجاهد، قال: فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الغار، فقال عبداللَّه بن شدّاد بن الهاد: فأين أنت من عليّ بن أبي طالب حيث نام في مكانه وهو يرى أنّه يقتل، فسكتت ولم تحر جواباً؟ وشتّان بين قوله: 'وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ' [ سورة البقرة: 207].
وبين قوله: 'لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا' [ سورة التوبة: 40].
وكان النبيّ صلى الله عليه و آله معه يقوّي قلبه، ولم يكن مع عليّ عليه السلام، وهو لم يصبه وجع وعليّ يرمى بالحجارة، وهو مختف في الغار وعليّ ظاهر للكفّار، ثمّ قال: واستخلفه الرسول صلى الله عليه و آله لردّ الودائع؛ لأنّه كان أميناً، فلمّا أدّى الأمانة، قام على الكعبة فنادى بصوت رفيع: 'يا أيّها الناس، هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من صاحب عِدة له قِبَل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟'، فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبيّ صلى الله عليه و آله، وكان في ذلك دلالة على خلافته وأمانته وشجاعته، وحمل نساء الرسول خلفه بعد ثلاثة أيّام وفيهنّ عائشة، فله المنّة على أبي بكر بحفظ ولده - أي عائشة -؟! ولعليّ عليه السلام المنّة عليه في هجرته، وعليّ عليه السلام ذو الهجرتين، والشجاع البائت بين أربعمائة سيف، وإنّما أباته على فراشه ثقة بنجدته [ النجدة: الشجاعة].
فكانوا محدقين به إلى طلوع الفجر ليقتلوه ظاهراً، فيذهب دمه بمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل. [ المناقب لابن شهرآشوب 57:2].
وفيه أيضاً: لمّا ورد النبيّ صلى الله عليه و آله المدينة، نزل في بني عمرو بن عوف بقبا ترصّداً لعليّ عليه السلام، وكتب إليه يأمره المسير إليه على يدي أبي واقد الليثي، فتهيّأ للهجرة، وأمر ضعفاء المؤمنين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا إذا ملأ الليل بطن كلّ واد. وخرج عليّ عليه السلام إلى ذي طوى بالفواطم [ الفواطم: سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليهاالسلام، وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ بن أبي طالب، وفاطمة بنت حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله].
وأيمن بن اُمّ أيمن مولاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وغير ذلك، وأبو واقد يسوق الرواحل فأعنف بهم فقال: 'ارفق بالنسوة أبا واقد، إنّهنّ من الضعائف'.
قال: إنّي أخاف أن يدركنا الطلب، فقال: أربع عليك [ أي تمكّث وانتظر].
إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لي: يا عليّ، إنّهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه'، ثمّ جعل عليّ عليه السلام يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً ويرتجز:
وليس إلا اللَّه فارفع ظنّكا*** يكفيك ربّ النّاس ما أهمّكا
فلمّا شارف ضجنان [ ضجنان: كسكران: جبل قرب مكّة].
أدركه الطلب بثمانية فوارس، فأنزل النسوة واستقبلهم منتضياً [ انتضى السيف: سلّه].
فأقبلوا عليه، فقالوا: أظننت - يا غدّار - أنّك ناج بالنسوة؟ ارجع لا أباً لك، فقال: 'فإن لم أفعل أترجعون راغمين'، ودنوا من النسوة، فحال عليّ عليه السلام بينهم وبينها وقتل جناحاً، وكان يشدّ على قومه شدّ الأسد على فريسته، وهو يقول:
خلّوا سبيل الجاهد المجاهد*** آليت لا أعبد غير الواحد
فانتشروا عنه، فسار ظاهراً قاهراً حتّى نزل ضجنان، فتلوّم [ أي تمكّث وانتظر].
بها قدر يومه وليلته، ويروى أنّه لحق به نفر من المستضعفين، فصلّى ليلته تلك هو والفواطم يذكرون اللَّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، حتّى طلع الفجر فصلّى بهم صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه حتّى قدم المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم: 'الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً' إلى قوله: 'لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُم مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى'، فالذَّكر عليّ عليه السلام، والاُنثى فاطمة عليهاالسلام، 'بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ' يقول: عليّ من الفواطم، وهنّ من عليّ، 'فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ' إلى قوله: 'حُسْنُ الثَّوَابِ'. [ سورة آل عمران: 195 - 191].
وتلا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ' الآية [ سورة التوبة: 112].
ثمّ قال: 'يا عليّ، أنت أوّل هذه الاُمّة إيماناً باللَّه ورسوله، وأوّلهم هجرة إلى اللَّه ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبّك - والّذي نفسي بيده - إلا مؤمن قد امتحن اللَّه قلبه بالإيمان، ولا يبغضك إلا منافق أو كافر'. [ المناقب لابن شهرآشوب 183:1].
وفي "البحار": عن الزهري في حديث، قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين أقبل إلى المدينة وقدم إلى قبا ونزل بهم ينتظر قدوم عليّ عليه السلام، فجاء أبو بكر من المدينة [ لمّا أمسى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقبا فارقه أبو بكر ودخل المدينة، ونزل على بعض الأنصار، وبقي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم].
فقال: يا رسول اللَّه، تدخل المدينة فإنّ القوم متشوّقون إلى نزولك عليهم، فقال صلى الله عليه و آله: 'لا اُريم من هذا المكان حتّى يوافي أخي عليّ'.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد بعث إليه أن احمل العيال وأقدم، فقال أبو بكر: ما أحسب عليّاً يوافي، قال صلى الله عليه و آله: 'بلى، ما أسرعه إن شاء اللَّه'. فبقي خمسة عشر يوماً، فوافى عليّ عليه السلام بعياله، إلى أن قال: وبقي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد قدوم عليّ عليه السلام يوماً أو يومين، ثمّ ركب راحلته، إلى آخره. [ البحار 106:19].
وعن "امتاع الأسماع": وقدم عليّ عليه السلام من مكّة للنصف من ربيع الأوّل ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقبا ولم يرم بعد، وقدم معه صهيب، وذلك بعد ما أدّى عليّ عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الودائع الّتي كانت عنده، وبعد ما كان يسير الليل ويكمن النهار حتّى تقطّرت قدماه، فاعتنقه النبيّ صلى الله عليه و آله وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه، فلم يشتكهما بعد ذلك حتّى قُتل عليه السلام، ونزل على كلثوم بن الهدم، وقيل: على امرأة، والراجح أنّه نزل مع النبيّ صلى الله عليه و آله. [ راجع هامش البحار 106:19، طبع دار الكتب الإسلاميّة، طهران - ايران].
قال عليّ عليه السلام: 'إنّ أكرم الموت القتل، والّذي نفس ابنُ أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على الفراش'. نهج البلاغة: الخطبة 123
الجهاد لغةً إمّا مأخوذ من الجُهد - بالضمّ - بمعنى الوسعة والطاقة والمشقّة، وإمّا من الجَهد - بالفتح - بمعنى المشقّة.
وفي "مجمع البحرين": قرئ بفتح الجيم وضمّها، أي وسعهم وطاقتهم، وقيل: المضمون الطاقة، والمفتوح المشقّة. [ مجمع البحرين 30:3 و 31].
وفيه أيضاً: الجهاد - بكسر الجيم -: مصدر جاهد يجاهد جهاداً، أو مجاهدة، وبفتح الجيم: الأرض الصُّلبة. [ المصدر المتقدّم].
وفي "المفردات": الجَهد والجُهد: الطاقة والمشقّة، وقيل: الجَهد بالفتح: المشقّة والجُهد الواسع، وقيل: الجهد للإنسان. [ مفردات الراغب: 101، مادة 'الجهد'].
وفي "جواهر الكلام": الجهاد من الجهد بالفتح لغة التعب والمشقّة، أو منه بالضمّ كذلك الوسع والطاقة. [ جواهر الكلام في الفقه 3:21، طبع جديد].
وأمّا شرعاً كما في "الجواهر": هو بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص، أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان. [ المصدر المتقدّم].
وفي "مجمع البحرين": الجهاد شرعاً بذل المال والنفس لإعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان. [ مجمع البحرين 31:6].
وكيف كان الجهاد فهو من أهمّ واجبات الإسلام، وقد ورد في فضله والاهتمام به آيات وروايات كثيرة، وحثّ النبيّ صلى الله عليه و آله المسلمين على جهاد الكفر والنفاق، ونحن نشير إلى بعضها رعاية للاختصار:
1- 'فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ'. [ سورة التوبة: 5].
2- 'يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ'. [ سورة التوبة: 73].
3- 'فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ' [ سورة الأنفال: 12].
4- 'يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ'. [ سورة الأنفال: 65].
5- 'وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِن هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً' [ سورة النساء: 75].
وغيرها من الآيات الكريمة في القرآن الكريم.
1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله - في حديث -: 'فوق كلّ ذي برّ برّ حتّى يقتل في سبيل اللَّه، فإذا قتل في سبيل اللَّه فليس فوقه برّ'. [ وسائل الشيعة 10:11].
2- وعنه أيضاً: 'اُغزوا تُورِثوا أبناءَكم مجداً'. [ المصدر المتقدّم: 9].
3- وعنه أيضاً: 'للجنّة باب يقال له باب المجاهدين، يمضون إليه، فإذا هو مفتوح وهم متقلّدون بسيوفهم، والجمع في الموقف، والملائكة ترحّب بهم'
قال: 'فمن ترك الجهاد ألبسه اللَّه ذلا وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه، إنّ اللَّه أغنى اُمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها'. [ المصدر المتقدّم: 5].
4- وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: 'إنّ اللَّه فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره، واللَّه ما صلحت دنيا ولا دين إلا به'. [ المصدر المتقدّم: 9].
5- عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، قال: 'الخير كلّه في السيف، وتحت السيف، وفي ظلّ السيف، وإنّ الخير كلّ الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة'. [ المصدر المتقدّم: 9].
لا شكّ أنّ قيمة أي عمل إنّما يقوم بإخلاص صاحبه، وظروف الزمان والمكان الّذي وقع فيه، فكلّما كان العمل خالصاً للَّه كان ذا قيمة لا تحدّ، وممّا لا يقبل التردّد فيه أنّ سيف عليّ عليه السلام وجهاده ما كان إلا في سبيل اللَّه ولأجل تقوية الإسلام ونشر دين الحقّ، ولم يكن لديه أيّ هدف عدا ما ذكرناه، وممّا يجب ملاحظته أنّ جهاد عليّ عليه السلام وقع في وقت كان الإسلام فيه غريباً على قلّة في العدد والعدّة إلى الحدّ الّذي كان المسلمون يعانون من تهيئة متطلّبات العيش اليوميّة.
في الوقت الّذي كان مشركو مكّة واليهود والنصارى يسخّرون كلّ ما لديهم من إمكانيات في سبيل تحطيم الإسلام وقتل النبيّ صلى الله عليه و آله... في مثل هذه الظروف تكون للجهاد قيمة خاصّة سامية وعالية، وقد جاهد عليّ عليه السلام في مثل هذه الظروف من أجل تقوية شوكة الإسلام وحفظه وبقائه، كان عليّ عليه السلام حامياً للمسلمين، ذابّاً عنهم، وأينما وُجد عليّ عليه السلام ارتجف منه العدوّ، وانتعش المسلمون.
وإذا قلنا: إنّ الإسلام إنّما استقام بسيف عليّ عليه السلام، ولولا عليّ عليه السلام لم يكن الإسلام، بل لم يكن ثمّة اسم للقرآن أو التوحيد، لم نكن مبالغين أو مجانبين للحقّ، ولعلّ النماذج الحيّة لجهاد أمير المؤمنين عليه السلام بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله خير شواهد على ما نقول، وبحثنا ذلك في فصول من الكتاب [ راجع فصول حروبه عليه السلام].
وسنشير هنا بشكل إجمالي إلى بعضها.
ففي غزوة بدر، وعلى الرغم من أنّه عليه السلام لم يتجاوز العشرين من العمر فقد قتل ثلاثين من المشركين، وبذلك نفخ في الإسلام روحاً جديدة، وفي هذه الحرب قويت شوكة الإسلام، واُلقي الرعب في قلوب المشركين.
أمّا غزوة اُحد، فقد فرّ المسلمون ولم يبق مع الرسول إلا أربعة: عليّ عليه السلام، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة [ شرح ابن أبي الحديد 293:13].
وفي نظرنا أنّه لم يبق معه صلى الله عليه و آله إلا عليّ عليه السلام يدافع ويذبّ عنه بذي الفقار لكسر سيف البغي، وحفظ حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، ومن ثمّ عاد المسلمون رويداً رويداً، وهناك نادى منادٍ من السماء:
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ
وقال صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: 'يا أبا الحسن، لو وضع إيمان الخلائق وأعمالهم في كفّة، ووضع عملك يوم اُحد على كفّة اُخرى، لرجح عملك على جميع الخلائق، وإنّ اللَّه تعالى باهى بك يوم اُحد ملائكته المقرّبين، ورفع الحجب من السموات السبع، وأشرفت إليك الجنّة وما فيها، وابتهج بفعلك ربّ العالمين، وأنّ اللَّه تعالى يعوّضك ذلك اليوم ما يغبط كلّ نبيٍّ ورسولٍ وصدّيقٍ وشهيدٍ'. [ ينابيع المودّة: 64].
وفي غزوة الخندق طلب رأس الشرك عمرو بن عبد ودّ المبارزة ثلاث مرّات، فلم يبرز إليه أحد، وكان عليّ عليه السلام السبّاق إلى الميدان ليرسل ابن عبد ودّ إلى قعر جهنّم، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم برز عليّ عليه السلام في الخندق: 'برز الإيمانكلّه إلى الشرك كلّه'. [ شرح ابن أبي الحديد 285:13].
وفي حنين فرّ المسلمون كلّهم إلا تسعة رهط من أهله، وكان عليّ عليه السلام بين يديه مصلتاً سيفه، وهكذا كان عليّ عليه السلام يسجّل حضوراً دائماً حيثما كان الجهاد في طريق الإسلام وزلزلة مواقع الكفر والشرك، وقتل صناديدهم، فكان مصداق الآية: 'إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ' [ سورة الصفّ: 4].
وهو عليه السلام أحبّ المسلمين إلى اللَّه تعالى؛ لأنّه أثبتهم قدماً في الصفّ المرصوص.
قال الشيخ المفيد رحمه الله في ثمرة جهاده: فأمّا الجهاد الّذي ثبتت به قواعد الإسلام، واستقرت بثبوتها شرائع الملّة والأحكام، فقد تخصّص منه أمير المؤمنين عليه السلام بما اشتهر ذكره في الأنام، واستفاض الخبرُ به بين الخاصّ والعامّ، ولم يختلف فيه العلماء ولا تنازع في صحّته الفهماء، ولا شكّ فيه إلا غُفلٌ لم يتأمّل الأخبار، ولا دفعه أحدٌ ممّن نظر في الآثار إلا معاند بهّات لا يستحيي من العار. [ إرشاد المفيد 67:1].
وقال الشارح المعتزلي وقد علمنا ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه و آله تعظيمه لعليّ عليه السلام تعظيماً دينيّاً لأجل جهاده ونصرته، فالطاعن فيه طاعن في رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، الحديث. [ شرح ابن أبي الحديد 285:13].
ذكر صاحب المناقب تحقيقاً في جهاد عليّ عليه السلام جدير أن يذكر هنا، قال: اجتمعت الاُمّة ووافق الكتاب والسنّة أنّ للَّه خيرة من خلقه، وأنّ خيرته من خلقه، المتّقون، قوله تعالى: 'إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ' [ سورة الحجرات: 13].
وأنّ خيرته من المتّقين المجاهدون، قوله: 'فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً' [ سورة النساء: 95].
وأنّ خيرته من المجاهدين السابقون إلى الجهاد، قوله: 'لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ' [ سورة الحديد: 10].
وأنّ خيرته من المجاهدين أكثرهم عملاً في الجهاد.
واجتمعت الاُمّة على أنّ السابقين إلى الجهاد هم البدريّون، وأنّ خيرة البدريّين عليّ عليه السلام، فلم يزل القرآن يصدّق بعضه بعضاً بإجماعهم حتّى دلّوا بأنّ عليّاً عليه السلام خيرة هذه الاُمّة بعد نبيّها، قال العلوي البصري في أشعاره:
ولو يستوي بالنهوض الجلوس*** لما بيّن اللَّه فضل الجهاد
[ المناقب لابن شهرآشوب 65:2].
ثمّ قال: المعروفون بالجهاد: عليّ، وحمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، وسعد بن أبي وقّاص، والبراء بن عازب، وسعد بن معاذ، ومحمّد بن مسلمة، وقد اجتمعت الاُمّة على أنّ هؤلاء لا يقاس [ كذا في المصدر، والصحيح: 'لا يقاسون'].
بعليّ في شوكته وكثرة جهاده، فأمّا أبو بكر وعمر فقد تصفّحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثر البتّة. [ المناقب لابن شهرآشوب 66:2].
ممّا لا شكّ فيه أنّ جهاد عليّ عليه السلام كان يهدف إلى تقوية دين اللَّه ورفع كلمة الإسلام، وتتّضح هذه الحقيقة جليّة في جملة الحروب الّتي خاضها دون أدنى وازع من خوف ودون أدنى تردّد أو انسحاب، فما عرف غير الإقدام قطّ، وهذا خير دليل على إخلاص نيّته عليه السلام للَّه جلّ وعلا، فنلاحظ حتّى في وقت المحنة لا ينفكّ مخلصاً للَّه، ففي حرب الأحزاب وحين أراد أن يحزّ رأس النفاق والشرك "عمرو بن عبد ودّ" بصق اللعين بوجهه المقدّس، وإذا بالإمام عليه السلام يمتنع هنيئة عن قتله حتّى يخمد غضبه ثمّ يقتله، وعندما سئل عن ذلك أجاب: ما أردت أن أقتله غضباً لنفسي، إنّما أردت أن أقتله غضباً للَّه.
ومن ذلك يتّضح أنّه عليه السلام لم يقم بأيّ عمل إلا أن يكون للَّه فيه رضى.
قال ابن شهرآشوب: وقد اجتمعت الاُمّة على أنّ عليّاً كان المجاهد في سبيل اللَّه وكاشف الكروب عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، المقدّم في سائر الغزوات إذا لم يحضر النبيّ صلى الله عليه و آله، وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً، وما كان قطّ تحت لواء جماعة أحدٍ ولا فرّ من زحف. [ المناقب لابن شهرآشوب 66:2].
1- في "المناقب لابن شهرآشوب" عن "فضائل الصحابة للعكبري": عن ابن عبّاس، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة متعلّقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: 'اللهمّ ابعث إليَّ من بني عمّي مَن يعضدني'، فهبط عليه جبرئيل كالمغضب، فقال: يا محمّد، قد أيّدك اللَّه بسيف من سيوف اللَّه، مجرّد على أعداء اللَّه - يعني بذلك عليّ بن أبي طالب عليه السلام -. [ المصدر المتقدّم: 67].
فعليّ سيف من سيوف اللَّه، ولا شكّ أنّه لا يتّصف أحدٌ بهذه الصفة إلا إذا كان جهاده في سبيل اللَّه.
2- قال سفيان الثوري: كان عليّ بن أبي طالب كالجبل بين المسلمين والمشركين، أعزّ اللَّه به المسلمين، وأذلّ به المشركين. [ المصدر المتقدّم: 68].
3- وفي "شرح نهج البلاغة": قال الحسن بن عليّ عليه السلام في خطبة له لمّا قبض أبوه: 'لقد فارقكم في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون، ولا يدركه الآخرون، كان يبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للحرب وجبرئيل على يمينه وميكائيل عن يساره'. [ شرح ابن أبي الحديد 219:7].
كلمة حول قوله: 'إنّ أكرم الموت القتل'
وقوله عليه السلام: 'إنّ أكرم الموت القتل' [ نهج البلاغة: الخطبة 123].
حيث إنّ القتل في سبيل اللَّه موجب للذكر الجميل في الدنيا، والأجر الجزيل في العقبى، فلا يجوز للبصير بالاُمور تفويت هذا النفع الكثير على نفسه، والإقدام على الموت حتف أنفه، كما قال الشاعر:
وإن تكن الأبدان للموت اُنشئت*** فقتل امرئ واللَّه بالسيف أفضل
ولذا قال عليه السلام: 'والّذي نفسُ ابن أبي طالب بيده، لألف ضربةٍ بالسيفِ أهونُ عَلَيَّ مِن ميتةٍ على الفراشِ في غيرِ طاعةِ اللَّه'. [ نهج البلاغة: الخطبة 123].
ولا شكّ أنّ حلفه على ذلك لفرط محبّته في اللَّه، ومنتهى شوقه إلى اللَّه تعالى، وغاية رغبته في ابتغاء مرضاة اللَّه، وهو في أعلى مراتب الفناء في اللَّه، والبقاء باللَّه، فارغاً عن نفسه في جنب مولاه، ومع ذلك الحال لا تأثير فيه لضربات السيوف وطعنات الرماح أبداً، كما سئل أبوالحسن الرضا عن قول عليّ عليه السلام: 'لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على الفراش'، فقال عليه السلام: 'في سبيل اللَّه'. [ وسائل الشيعة 11:11].
والشاهد على ذلك ما رواه غير واحد من أنّه عليه السلام قد أصابت رجله الشريفة نشابة في غزوة صفّين، ولم يطق الجرّاحون إخراجها من رجله لاستحكامها فيها، فلمّا قام إلى الصلاة أخرجوها حين كونه في السجدة، فلمّا فرغ من الصلاة علم عليه السلام بإخراجها وحلف عليه السلام أنّه لم يحسّ ذلك أصلاً. [ شرح نهج البلاغة للعلامة الخوئي 152:8].
والعجب من الشارح المعتزلي أنّه حمل قوله عليه السلام: 'لألف ضربة بالسيف أهون علَيّ من ميتة على الفراش' على المبالغة والتجوّز ترغيباً لأصحابه في الجهاد، وفيه ما فيه، فكما ذكرنا أنّ حلفه على الحقيقة البتّة؛ إذ الضربة في سبيل اللَّه لمثل عليّ بن أبي طالب عليه السلام العالم بالاُمور أسهل وأهون له من ميتة على الفراش، وعلى هذا: لمّا جرح في غزوة اُحد وعاده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بكى عليه السلام لأنّه لم يستشهد في اُحد وعاش بعدها [ انظر الاختصاص: 158، والبحار 26:36].
وحين ضربه ابن ملجم، قال: 'فزت وربّ الكعبة' [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 303:3، ح 1402].
وبذلك اندفع إيراد ابن أبي الحديد المعتزلي قطعاً.
في الآيات الّتي نزلت في فضل جهاد عليّ
فقد ذكر ابن شهرآشوب الآيات الّتي نزلت في جهاد عليّ عليه السلام نذكر هنا بعين لفظه، فقال:
قوله تعالى: 'يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ' [ سورة التوبة: 73].
فجاهد النبيّ صلى الله عليه و آله الكفّار في حياته، وأمر عليّاً عليه السلام بجهاد المنافقين، قوله: 'تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين'، وحديث خاصف النعل، وحديث كلاب الحوأب، وحديث تقتلك الفئة الباغية يا عمّار، وحديث ذي الثدية وغير ذلك، وهذا من صفات الخلفاء، ولا يعارض ذلك بقتال أهل الردّة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان أمر عليّاً بقتال هؤلاء بإجماع أهل الأثر، وحكم المسمّين أهل الردّة لا يخفى على منصف.
واستدلّ أصحابنا بقوله تعالى: 'لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوْا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ'. [ سورة البقرة: 177]
إنّ المعنيّ بها أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّه كان جامعاً لهذه الخصال بالاتّفاق، ولا قطع على كون غيره جامعاً لها، ولهذا قال الزجّاج والفرّاء: كأنّها مخصوصة بالأنبياء والمرسلين.
و عن ابن عبّاس في قوله تعالى: 'وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ' [ آل عمران: 83].
قال: أسلمت الملائكة في السماوات والمؤمنون في الأرض، وأوّلهم عليّ عليه السلام إسلاماً، ومع المشركين قتالاً، وقاتل من بعده المقاتلين، ومن أسلم كرهاً.
و في تفسير عطاء الخراساني: عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: 'وَوَضَعْنَا عَنكَ وَزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ' [ سورة الشرح: 2 و 3].
أي قوّى ظهرك بعليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن مجاهد، في قوله تعالى: 'هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ' [ سورة الأنفال: 62].
أي قوّاك بأمير المؤمنين، وجعفر، وحمزة، وعقيل، وقد روينا نحو ذلك عن الكلبي، عن أبي صال، عن أبي هريرة.
و كتاب أبي بكر الشيرازي، قال ابن عبّاس: 'وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً' [ سورة الإسراء: 80].
قال: لقد استجاب اللَّه لنبيّه صلى الله عليه و آله دعاءه وأعطاه عليّ بن أبي طالب عليه السلام سلطاناً ينصره على أعدائه.
و أبو المضاء صبيح مولى الرضا عليه السلام، عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام في قوله: 'إنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا' [ سورة غافر: 51].
قال: منهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و قوله تعالى: 'إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ' [ سورة الصفّ: 4].
وكان عليّ عليه السلام إذا صفّ في القتال كأنّه بنيان مرصوص، وما قتل المشركين قتلَه أحد.
و قال سفيان الثوري: كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام كالجبل بين المسلمين والمشركين، أعزّ اللَّه به المسلمين، وأذلّ به المشركين.
قال العوني في عليّ عليه السلام:
فلك النجاة وباب للجنان غدا*** وملتجى وصراط غير ذي جنف
[ الجنف: الميل والعدول عن الشي ء].
جنب عزيز يلوذ اللائذون به*** حبل متين قويّ محكم الطرف
ويقال: إنّه نزل فيه: 'وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ'. [ سورة الحجّ: 78].
و قال أبو جعفر وأبو عبداللَّه رحمه الله: 'نزل قوله: 'وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ' [ سورة يونس: 26].
في أمير المؤمنين عليه السلام'.
وفي حديث جبير خطاباً لعليّ عليه السلام: 'أنت أوّل مَن آمن بي، وأوّل مَن جاهد معي، وأوّل مَن ينشقّ عنه القبر'، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله إذا خرج من بيته تبعه أحداث المشركين يرمونه بالحجارة حتّى أدموا كعبه وعرقوبيه، وكان عليّ عليه السلام يحمل عليهم فينهزمون، فنزل: 'كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ' [ سورة المدّثّر: 50 و 51].
إلى أن قال: وآية 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ' [ سورة التوبة: 19، وقد ذكرنا هذه الآية في فصل: "عليّ وآية 'أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ' الآية].
إلى آخره. [ راجع: المناقب لابن شهرآشوب 96 - 66 :2].
وهنا أحاديث حول الآيات نذكرها تتميماً للفائدة
وفي "البحار" عن "تفسير العيّاشي" عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: 'لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ' [ سورة الكهف: 2].
قال: 'البأس الشديد عليّ عليه السلام، وهو لدن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قاتل معه عدوّه، فذلك قوله: 'لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ''. [ بحار الأنوار 21:36].
وفيه أيضاً: عن "كشف الغمّة": عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: 'يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ' [ سورة التحريم: 8].
قال: أوّل من يكسى من حلل الجنّة إبراهيم لخلّته من اللَّه عزّ وجلّ، ثمّ محمّد صلى الله عليه و آله؛ لأنّه صفوة اللَّه، ثمّ عليّ عليه السلام يزفّ إلى الجنان، ثمّ قرا ابن عبّاس الآية وقال: عليّ عليه السلام وأصحابه. [ بحار الأنوار 22:36].
وفيه أيضاً: عن الثعلبي، في تفسيره قوله تعالى: 'وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنْظُرُونَ' [ سورة آل عمران: 143].
قال: نزلت في يوم اُحد، قال: فقتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام طلحة، وهو يحمل لواء قريش، فأنزل اللَّه تعالى نصره على المؤمنين.
قال الزبير بن العوّام: فرأيت هنداً وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خرامهنّ [ والظاهر أنّه مصحف "حرامهنّ" استعير به من العورة، أي كنّ يبيدين عوراتهنّ لينصرف أمير المؤمنين عليه السلام عن تعقيبهم].
فكانوا يتمنّون الموت من قبل أن يلقوا عليّ بن أبي طالب عليه السلام. [ بحار الأنوار 26:36].
ما قال بعض العلماء في جهاده عليه السلام:
قال السيّد محسن الأمين في جهاد عليّ عليه السلام، هكذا: الجهاد في سبيل اللَّه وتفوّقه فيه على كافّة الخلق ملحق بالضروريّات، والاستدلال عليه يُعَدّ من العبث، فهو كالاستدلال على وجود الشمس في رابعة النهار، والنور على المنار، فقد شهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مشاهده كلّها غير تبوك، وفي جميعها يكون النصر والفتح له وعلى يده، وقد قتل اللَّه بسيفه صناديد المشركين وجبابرة قريش وطواغيت العرب، وفي جميع الوقائع تكون قتلاه أزيد ممّن قتله باقي الجيش حتّى أنّه في يوم بدر زادت قتلاه على قتلى الجيش وهو شاب لم يتجاوز العشرين أو خمسة والعشرين، ومثله في هذا السنّ يكون قليل البصيرة بالحرب، ناقص الخبرة بالطعن والضرب، وهذا داخل في المعجزات، خارج عن مجرى العادات، ولو عدّ في عِداد معجزات النبيّ صلى الله عليه و آله لكان صواباً، بل إذا عدّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام إحدى معجزات النبىّ صلى الله عليه و آله كان عين الصواب. [ أعيان الشيعة 340:1].
وقال ابن أبي الحديد: وأمّا الجهاد في سبيل اللَّه من عليّ عليه السلام فمعلوم عند صديقه وعدوّه أنّ عليّاً سيّد المجاهدين، وهل الجهاد لأحد من النّاس إلا له! وقد عرفتَ أنّ أعظم غزاة غزاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأشدّها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قتل فيها سبعون من المشركين، قتل عليّ عليه السلام نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر، دع مَن قتله في غيرها كاُحد والخندق.
ثمّ قال: وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه؛ لأنّه من المعلومات الضروريّة كالعلم بوجود مكّة ومصر ونحوهما. [ شرح ابن أبي الحديد 24:1].
احتجاج المأمون على فضله بجهاده
ما وقع من الاحتجاج للمأمون على الفقهاء: قال المأمون: يا إسحاق، ثمّ أي الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟ قال إسحاق: قلت: الجهاد في سبيل اللَّه. قال: صدقت، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما تجد لعليّ عليه السلام في الجهاد؟ قلت: في أيّ وقت؟ قال: في أيّ الأوقات شئت. قلت: بدر. قال المأمون: لا اُريد غيرها، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر؟ أخبرني كم قتلى بدر؟ قلت: نيّف وستّون رجلاً من المشركين. قال: فكم قتلى عليّ وحده؟ قلت: لا أدري. قال: ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين، والأربعون لسائر النّاس.
قلت: يا أمير المؤمنين، كان أبوبكر مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في عريشه. قال: يصنع ماذا؟ قلت: يدبّر. قال: ويحك يدبّر دون رسول اللَّه، أو كان معه شريكاً، أم افتقاراً من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى رأيه، أيّ الثلاث أحبّ إليك؟
قلت: أعوذ باللَّه أن يدبّر أبو بكر دون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، أو يكون معه شريكاً، أو أن يكون برسول اللَّه افتقار إلى رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش، إذا كان الأمر كذلك، أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول اللَّه أفضل ممّن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كلّ الجيش كان مجاهداً. قال: صدقت، كلٌّ مجاهدٌ، ولكنّ الضارب بالسيف، المحامي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعن الجالس أفضل، أما قرأت كتاب اللَّه: 'لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عَظِيماً'. [ سورة النساء: 95].
قلت: وكان أبو بكر وعمر مجاهدين. قال: فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على مَن لم يشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال: فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر؟! قلت: أجل. [ العقد الفريد 95:5].
قال عليه السلام: 'إنّ أكرم الموت القتل، والّذي نفسُ ابن أبي طالب بيده لألف ضربةٍ بالسيف أهْوَنُ عَلَيَّ مِن ميتةٍ على الفراش في غير طاعة اللَّه'.
نهج البلاغة: الخطبة 123
إنّ إحدى الفروق بين دين الإسلام السماويّ، دين التوحيد، وبين المذاهب الاُخرى أنّ معتنقيه يعتبرون الشهادة والقتل في سبيله فوزاً عظيماً خالداً، وهم يأملون تحقّق هذا الأمر دائماً 'يا ليتَني كنتُ مَعهُم فأفوز فوزاً عظيماً'، فالذين يؤمنون بالإسلام لا يخافون الشهادة، بل يهبّون لاستقبالها؛ لأنّهم يعتقدون أنّ عالم ما بعد الموت أسمى من هذا العالم وأكثر نورانيّة منه، ويعتبر المؤمنون هذا العالم المادّي سجناً ضيّقاً مظلماً 'الدُّنيا سجنُ المؤمن'، ولذلك فإنّهم يعدّون الخلاص من هذا العالم عن طريق الشهادة ألذّ سعادة.
بعد هذه الكلمة المختصرة اُشير إلى عدّة آيات وروايات في فضيلة الشهادة والشهيد:
1- 'إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ'. [ سورة الصفّ: 4].
2- 'وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً'. [ سورة النساء: 74].
3- 'الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ'. [ سورة التوبة: 20 و 21].
1- في "نهج البلاغة": قال عليه السلام: 'أمّا بعد، فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة فتحَهُ اللَّه لخاصّة أوليائه، وهو لباسُ التقوى، درعُ اللَّه الحصينة، وجنّتهُ الوثيقة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسهُ اللَّه ثوبَ الذُّلِّ، وشمله البلاء، ودُيِّثَ بالصغار والقماءة...' [ نهج البلاغة: الخطبة 27].
الحديث.
2- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'فوق كلّ ذي بِرٍّ بِرٌّ حتّى يقتل في سبيل اللَّه، فإذا قتل في سبيل اللَّه فليس فوقه برّ، وفوق كلّ ذي عقوق عقوق، حتّى يقتل أحد والديه، فإذا قتل أحد والديه فليس فوقه عقوق'. [ وسائل الشيعة 10:11].
3- عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: للشهيد سبع خصال من اللَّه: الأوّل: أوّل قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب. الثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما. والثالثة: يكسى من كسوة الجنّة. والرابعة: تبتدره خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه. والخامسة: أن يرى منزله. والسادسة: يقال لروحه: اسرح في الجنّة حيث شئت. والسابعة: أن ينظر في وجه اللَّه، وإنّها لراحة لكلّ نبيّ وشهيد'. [ المصدر المتقدّم: 10].
كلمة في اشتياق عليّ إلى الشهادة
كما أنّ عليّاً عليه السلام كان نموذجاً ومظهراً للكمالات الإنسانيّة والإلهيّة في جميع الفضائل والمناقب، فإنّ حاله في الشوق إلى الشهادة لا يختلف عن بقيّة حالاته، ولذلك نرى شوقه المتحرّق إلى الشهادة واضحاً في كلماته، فقد ذكره مرّات ومرّات في كتبه ورسائله، وهذا في الواقع نوع من القيادة العلميّة السامية استعمله لتعليم أصحابه وشيعته التفاني والتلهّف إلى الشهادة في محاربة أعداء اللَّه، ومن جملة تلك الكلمات ما قاله في يوم من أيّام صفّين حين ظنّ بعض جنوده خطأ أنّه يتباطأ في حرب أهل الشام، بل أخطأ البعض حين ظنّ أنّ تأخّر صدور أمر البدء بالقتال ناشئ عن خوف أمير المؤمنين عليه السلام من الموت والقتل، فأجابهم عليه السلام: 'أمّا قولكم: أكلّ ذلك كراهية الموت؟ فواللَّه، ما اُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليَّ'. [ نهج البلاغة: الخطبة 54].
ويقول عليه السلام قُبيل موته على سبيل الوصيّة لمّا ضربه ابن ملجم "لعنه اللَّه": 'واللَّهِ، ما فَجَأَني مِنَ الْموتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلَا طالعٌ انكرتُهُ، وما كُنْتُ إلا كقارِبٍ وَرَدَ وطالِبٍ وَجَدَ'. [ نهج البلاغة: الكتاب 23].
ويكتب عليه السلام حول أمله في نيل الشهادة: 'فَوَاللَّهِ، لولا طَمَعي عِنْدَ لِقائي عَدُوّي في الشّهادَةِ، وَتَوْطِيني نَفْسِي عَلى الْمَنِيّةِ لأحْبَبْتُ أنْ لَا أبقى مَعَ هؤلاءِ يوماً واحِداً، ولا ألتقي بِهِمْ أبَداً'. [ المصدر المتقدّم: الكتاب 35].
وفي "اختصاص المفيد رحمه الله": عن ابن دأب، وفي "البحار" عن "سعد السعود" للسيّد ابن طاووس، عن الشعبي، قال: إنّ عليّاً عليه السلام انصرف من اُحد وبه ثمانون جراحة يدخل الفتائل من موضع ويخرج من موضع، فدخل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عائداً وهو مثل المضغة على نِطع [ النطع - بالكسر -: بساط من الجلد].
فلمّا رآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بكى فقال له: 'إنّ رجلاً يصيبه هذا في اللَّه لحقّ على اللَّه أن يفعل به ويفعل'، فقال مجيباً له وبكى: 'بأبي واُمّي الحمد للَّه الّذي لم يرني ولّيت عنك ولا فررتُ، بأبي واُمّي كيف حُرمتُ الشهادة؟'. قال صلى الله عليه و آله: 'إنّها من ورائك إن شاء اللَّه'.
نبذة من الأخبار الواردة في شهادته
بشارة رسول اللَّه إيّاه بشهادته
1- عن ابن المغازلي الشافعي بسنده عن عبداللَّه بن سبع، قال: سمعت عليّاً عليه السلام على المنبر، وهو يقول: 'ما ينتظر أشقاها، عهد إلَيَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لتخضبنّ هذه من هذه'، وأشار ابن داود إلى لحيته ورأسه. فقال: يا أمير المؤمنين، مَن هو حتّى نبتدره؟ قال: 'اُنشد اللَّه عزّ وجلّ رجلاً قتل بي غير قاتلي'. [ المناقب لابن شهرآشوب: 205، ح 242].
2- وروى ابن عساكر الشافعي: بسنده عن عبداللَّه بن سبع، قال: خطبنا عليّ بن أبى طالب عليه السلام، فقال: 'والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لتخضبنّ هذه من هذه'، يعني لحيته من دم رأسه. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 273:3، ح 1354].
3- وعنه أيضاً: عن زيد بن أسلم: أنّ أبا سنان الدؤلي حدّثه أنّه عاد عليّاً عليه السلام في شكوىً اشتكاها، قال: فقلت له: لقد تخوّفنا عليك - يا أمير المؤمنين - في شكواك هذه. فقال: 'ولكنّي - واللَّه - ما تخوّفت على نفسي منه؛ لأنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الصادق المصدوق يقول: 'إنّك ستضرب ضربةً هاهنا - وأشار إلى صدغه - فيسيل دمها حتّى تخضب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود'. [ المصدر المتقدّم: 276، ح 1361، و راجع فرائد السمطين 387:1، ح 320].
4- و عنه أيضاً: عن زيد بن وهب، قال: قدم عليّ عليه السلام على قوم من أهل البصرة من الخوارج فيهم رجل يقال له: الجعد بن بعجة، فقال له: اتّق اللَّه - يا عليّ - فإنّك ميّت. فقال عليّ عليه السلام: 'بل مقتول ضربة على هذا يخضب هذه - يعني لحيته من رأسه - عهد معهود، وقضاء مقضي، وقد خاب من افترى'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 278:3، ح 1364].
5- وعنه أيضاً: عن أبي الطفيل: أنّ عليّاً عليه السلام لمّا جمع النّاس للبيعة، جاء عبدالرحمن بن ملجم فردّه مرّتين، ثمّ قال عليّ عليه السلام: 'ما يحبس أشقاها، فواللَّه لتخضبنّ هذه من هذا'، ثمّ تَمثّل:
اُشدد حيازيمك للموت*** فإنّ الموت لاقيك
ولا تجزع من القتل*** إذا حلّ بواديك
[ المصدر المتقدّم: 279، ح 1365].
6- وعنه أيضاً: عن فضالة بن فضالة الأنصاري - وكان أبو فضالة من أهل بدر - قال: خرجت مع أبي عائداً لعليّ عليه السلام من مرض [ مرض عليّ عليه السلام بينبع في أطراف المدينة].
أصابه ثقل منه، قال: فقال له أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا؟ لو أصابك أجلك لم يلك إلا أعراب جهينة، تحمّل إلى المدينة، فإنّ أصابك أجلك وليك أصحابك وصلّوا عليك. فقال عليّ عليه السلام: 'إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عهد إليَّ أن لا أموت حتّى اُؤمّر، ثمّ تخضب هذه، يعني لحيته، من دم هذه، يعني هامته'، فقتل عليّ عليه السلام، وقتل أبو فضالة مع عليّ عليه السلام يوم صفّين. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 283:3، ح 1372، وروى نحوه في ص284، ح 1374، وفي فرائد السمطين 390:1، ح 327].
7- وعنه أيضاً: عن أبي حرب بن أبي الأسود يحدّث عن أبيه، قال: سمعت عليّاً عليه السلام يقول: 'أتاني عبداللَّه بن سلام وقد أدخلت رجلي في الغرز، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: العراق، فقال: أما إنّك إن جئتها ليصيبك بها ذباب السيف! ثمّ قال: وأيم اللَّه، لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مثله يقوله'. قال أبو حرب: فسمعت أبي يقول: فتعجّبت منه وقلت: رجل محارب يحدّث بهذا عن نفسه؟! [ المصدر المتقدّم: 280، ح 1367].
في "تاريخ دمشق": بسنده عن معاوية، عن جوين الحضرمي، قال: عرض عليّ عليه السلام على الخيل فمرّ عليه ابن ملجم فسأله عن اسمه - أو قال عن نسبه - فانتهى إلى غير أبيه، فقال له: 'كذبت'، حتّى انتسب إلى أبيه، فقال: 'صدقت، أما إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حدّثني أنّ قاتلي شبه اليهود!! هو يهودي فامضه'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 293:3، ح 1391].
عيادته إيّاه فقال له: 'لا تموت إلا مقتولاً'
1- عن ابن عساكر الشافعي بسنده عن أنس بن مالك، قال: مرض عليّ بن أبي طالب عليه السلام فدخل عليه النبيّ صلى الله عليه و آله فتحوّلتُ عن مجلسي، فجلس النبيّ صلى الله عليه و آله، حيث كنت جالساً وذكر كلاماً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ هذا لا يموت حتّى يملأ غيظاً، ولن يموت إلا مقتولاً'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 266:3، ح 1343].
2- وعنه أيضاً عن أنس بن مالك، قال: كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام مريضاً، فدخلت عليه وعنده أبو بكر وعمر جالسان، قال: فجلست عنده، فما كان إلا ساعة حتّى دخل نبيّ اللَّه صلى الله عليه و آله فتحوّلتُ عن مجلسي، فجاء النبيّ صلى الله عليه و آله حتّى جلس في مكاني، وجعل ينظر في وجهي، فقال أبو بكر أو عمر: يا نبيّ اللَّه، لا نراه إلا لما به. فقال صلى الله عليه و آله: 'لن يموت هذا الآن، ولن يموت إلا مقتولاً'. [ المصدر المتقدّم: 267، ح 1344].
أقول: قول أبي بكر أو عمر: يا نبيّ اللَّه، لا نراه إلا لما به، يعني رأيناه يُخاف عليه ممّا به.
قوله لعليّ: 'أنت تُقتل على سنّتي'
عن ابن عساكر الشافعي عن أبي رافع: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ عليه السلام: 'أنت تقتل على سنّتي'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 269:3، ح 1347].
قوله له: 'قاتلك أشقى الأوّلين والآخرين'
1- روى ابن عساكر الشافعي عن عثمان بن صهيب، عن أبيه: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: 'مَن أشقى الأوّلين؟'. قال: 'عاقر الناقة'. قال: 'فمن أشقى الآخرين؟'. قال: 'لا أدري'. قال: 'الّذي يضربك على هذا'، وأشار إلى رأسه. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 281:3، ح 1368].
2- وعنه أيضاً: عن عمّار بن ياسر، قال: كنت أنا وعليّ بن أبي طالب عليه السلام رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلمّا نزلها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقام بها شهراً، فصالح بها بني مدلج، وكان رجال منهم يعملون في عين لهم، فقال لى عليّ عليه السلام: 'يا أبا يقظان، هل لك أن نأتي هؤلاء وننظر كيف يعملون؟'، قال: فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثمّ غشينا النوم، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه، فواللَّه، ما أهبنا إلا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقدمه، فجلسنا وقد تترّبنا من تلك الدقعاء، فيومئذٍ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: 'يا أبا تراب' لما عليه من التراب، فأخبرناه بما كان من أمرنا، فقال: 'ألا اُخبركما بأشقى النّاس رجلين؟'، قلنا: بلى يا رسول اللَّه. فقال: 'أحيمر ثمود الّذي عقر الناقة، والّذي يضربك يا عليّ على هذه، فوضع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يده على رأسه، حتّى يبلّ منها هذه، ووضع يده على لحيته'. [ المصدر المتقدّم: 285، ح 1377].
وروى الحمويني في "فرائد السمطين"، نحوه، مع تفاوت يسير في بعض ألفاظه. [ فرائد السمطين 384:1، ح 316].
تقبيل النبيّ إيّاه وقوله: 'بأبي الوحيد الشهيد'
و روى ابن عساكر الشافعي عن ابن ميثا، عن أبيه، عن عائشة، قالت: رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله: التزم عليّاً عليه السلام وقبّله وهو يقول: 'بأبي الوحيد الشهيد، بأبي الوحيد الشهيد'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 284:3، ح 1376].
خطبته المعروفة بالشعبانيّة، وإخباره عن شهادة عليّ
روى الصدوق في أماليه عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، عن الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة النبيّ صلى الله عليه و آله في فضل شهر رمضان، فقال عليه السلام: 'فقمت فقلت: يا رسول اللَّه، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم اللَّه عزّ وجلّ، ثمّ بكى، فقلت: يا رسول اللَّه، ما يبكيك؟
فقال: يا عليّ، أبكي لما يستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك'.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقلت: 'يا رسول اللَّه، وذلك في سلامة من ديني؟'، فقال صلى الله عليه و آله: 'في سلامة من دينك'.
ثمّ قال صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، مَن قتلك فقد قتلني، ومَن أبغضك فقد أبغضني، ومَن سبّك فقد سبّني؛ لأنّك منّي كنفسي، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، إنّ اللَّه تبارك وتعالى خلقني وإيّاك، واصطفاني وإيّاك، واختارني للنبوّة، واختارك للإمامة، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوّتي.
يا عليّ، أنت وصيّي وأبو ولدي، وزوج ابنتي، وخليفتي على اُمّتي في حياتي وبعد موتي، أمرك أمري، ونهيك نهيي، اُقسم بالذي بعثني بالنبوّة وجعلني خير البريّة، إنّك لحجّة اللَّه على خلقه، وأمينه على سرّه، وخليفته على عباده'. [ أمالي الصدوق - المجلس العشرون: ح 4، والبحار 190:42، عن عيون أخبار الرضا عليه السلام].
وأخبار اُخر في إخباره عليه السلام عن شهادته:
بكاء رأس اليهود عند سماعه خبر شهادته، وإسلامه
روى الصدوق بسنده عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام - في حديث طويل - ذكر فيه اليهودي الّذي سأل أمير المؤمنين عليه السلام عمّا فيه من خصال الأوصياء، وكان منها أنّه عليه السلام أخبره بمحضر أصحابه عن قرب شهادته -: فبكى أصحاب عليّ عليه السلام وبكى رأس اليهود، وقالوا: يا أمير المؤمنين، أخبرنا بالاُخرى. فقال: 'الاُخرى أن تخضب هذه، وأومأ بيده إلى لحيته، من هذه؟ وأومأ بيده إلى هامته'.
قال: وارتفعت أصوات النّاس في المسجد الجامع بالضجّة والبكاء حتّى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً، وأسلم رأس اليهود على يدي عليّ عليه السلام من ساعته، ولم يزل مقيماً حتّى قُتل أمير المؤمنين عليه السلام واُخذ ابن ملجم "لعنه اللَّه"، فأقبل رأس اليهود حتّى وقف على الحسن عليه السلام والنّاس حوله وابن ملجم "لعنه اللَّه" بين يديه، فقال له: يا أبا محمّد، اقتله قتله اللَّه، فإنّي رأيت في الكتب الّتي اُنزلت على موسى عليه السلام أنّ هذا أعظم عند اللَّه عزّ وجلّ جرماً من ابن آدم قاتل أخيه، ومن القدّار عاقر ناقة ثمود. [ خصال الصدوق 382 - 364:2].
بيعة ابن ملجم وتأكيده في ميثاقه
وفي "إرشاد المفيد": عن الأصبغ بن نباتة، قال: أتى ابن ملجم أمير المؤمنين فبايعه عليه السلام فيمن بايع، ثمّ أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين عليه السلام، فتوثّق منه وتوكّد عليه ألا يغدر ولا ينكث، ففعل، ثمّ أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين عليه السلام الثانية فتوثّق منه وتوكّد عليه ألا يغدر ولا ينكث ففعل، ثمّ أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين الثالثة، فتوثّق منه وتوكّد عليه ألا يغدر ولا ينكث، فقال ابن ملجم "لعنه اللَّه": واللَّه - يا أمير المؤمنين - ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
'اُريد حياته ويريد قتلي*** عذيرك من خليلك من مرادِ'
امض يابن ملجم، فواللَّه، ما أرى تفي بما قلت'. [ إرشاد المفيد 12:1].
يعنى لا تفى بميثاقك و عهدك.
لكن هذه العناية والتوجّه لا يؤثّر في قلبه الخبيث ونفسه الرذيلة وفعل ما فعل؟! ومضى مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان شهيداً حال الصلاة في محراب مسجد الكوفة بيد أشقى الأوّلين والآخرين عبدالرحمن بن ملجم المرادي "لعنه اللَّه".
في كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف: 'وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا'.
وقيل له: يا أمير المؤمنين، ألا تعدّ فرساً للفرّ والكرّ؟ فقال عليه السلام: 'أمّا أنا لا أفرّ، ومَنّ فرّ منّي فلا أطلبه'.
نهج البلاغة: الكتاب 45
في مفهوم الشجاعة والجبن والتهوّر
الشجاعة تتعلّق بالقوّة الغضبيّة، وهي من الفضائل، وضدّها التهوّر والجبن، ولا بدّ أن نشير إلى التهوّر والجبن حتّى تتّضح الشجاعة، أمّا التهوّر فهو الإقدام على ما لا ينبغي، والخوض فيما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف، ولا ريب في أنّه من المهلكات في الدنيا والآخرة، ويدلّ على ذمّه قوله تعالى: 'وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ' [ سورة البقرة: 195].
إذ من ألقى نفسه من الجبال الشاهقة، أو السطح العالي ولم يبال بالسيوف المصلتة، أو ألقى نفسه في البحار الغامرة الجارية ولم يحذر من الحيتان الخطرة و... فهلك، كان قاتلاً لنفسه بحكم الشريعة، وهو حرام محرّم، ويوجب الشقاء السرمدي، والعذاب الأبدي.
أمّا الجبن فهو سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره مع كونها أوْلى، ويلزم من الجبن مهانة النفس والذلّة وسوء العيش وطمع النّاس فيما يملكه، وقلّة ثباته في الاُمور، والكسل وحبّ الراحة، وهو يوجب الحرمان عن السعادات وتمكين الظالمين من الظلم عليه، واستماع القبائح من الشتم والقذف، ولذا ورد في الخبر: 'لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً'. [ جامع السعادات 194:1].
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'اللّهمّ إنّي أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أردّ إلى أرذل العمر'. [ جامع السعادات 194:1].
أمّا الشجاعة فهي ضدّ هذين الجنسين، وهي طاعة قوّة الغضب للعاقلة في الإقدام على الاُمور الهائلة، وعدم اضطرابها بالخوض فيما يقتضيه رأيها، ولا ريب في أنّها أشرف الملكات النفسيّة، وأفضل الصفات الكماليّة، والفاقد لها بري ءٌ عن الفحليّة والرجوليّة، ولذا ورد في الأخبار المأثورة أنّ المؤمنين يتّصفون بها، قال عليّ عليه السلام في وصف المؤمن: 'نفسه أصلب من الصلد'. [ جامع السعادات 194:1].
كلمة في شجاعة مولانا الإمام عليّ
اتّفق الصديق والعدوّ، والمحبّ والمبغض على شجاعة مولانا الإمام عليّ عليه السلام، وأنّه شجاع في جميع حالاته وأوضاعه، بحيث كانت شجاعته متداولة على الألسن.
قال ابن أبي الحديد: وما أقول في رجل... تصوّر ملوك الفرنج والروم صورته في بِيعها وبيوت عباداتها، حاملاً سيفه، مشمّراً لحربه، وتصوّر ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها! كان على سيف عضد الدولة ابن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكانت على سيف آلب أرسلان وابنه ملك شاه صورته، كأنّهم يتفاءلون به النصر والظفر. [ شرح ابن أبي الحديد 29 - 28:1].
و عنه أيضاً في كلام له: ولأنّ عليّاً عليه السلام كانت هيبته قد تمكّنت في صدور النّاس، فلم يكن يظنّ أنّ أحداً يقدم عليه غيلة أو مبارزة في حرب، فقد كان بلغ من الذكر بالشجاعة مبلغاً عظيماً لم يبلغه أحد من النّاس، لا مَن تقدّم ولا مَن تأخّر، حتّى كانت أبطال العرب تفزع باسمه.
ألا ترى إلى عمرو بن معدي كرب وهو شجاع العرب الّذي تضرب به الأمثال، كتب إلى عمر بن الخطّاب في أمرٍ أنكره عليه وغدر تخوّفه منه: أمّا واللَّه لئن أقمت على ما أنت عليه، لأبعثنّ إليك رجلاً تستصغر معه نفسك، يضع سيفه على هامتك فيخرجه من بين فخذيك! فقال عمرو بن معديكرب: لمّا وقف على الكتاب: هدّدني بعليّ واللَّه! [ شرح ابن أبي الحديد 259:10].
وقال المحبّ الطبري: وحديث شجاعته عليه السلام مشهور الآفاق. [ ذخائر العقبى: 98].
وقال ابن الأثير: وفي الحديث: 'كانت ضربات عليّ عليه السلام مبتكرات لا عُوناً'، أي أنّ ضربته كانت بكراً، يقتل بواحدة منها لا يحتاج أن يعيد الضربة ثانياً، يقال: ضربه بكر، إذا كانت قاطعة لا تُثنّى. والعون جمع عوان، وهي في الأصل الكهلة من النساء، ويريد بها هاهنا المثنّاة. [ النهاية في اللغة 149:1، باب الياء مع الكاف].
و عن ابن المغازلي قال رجل لابن عبّاس: أكان عليّ بن أبي طالب عليه السلام يباشر القتال بنفسه؟ قال: إي واللَّه، ما رأيت رجلاً أطرح لنفسه في متلفٍ من عليّ عليه السلام، فلربما رأيته يخرج حاسراً بيده السيفُ إلى الرجل الدرّاع فيقتله. [ المناقب لابن المغازلي: 71، ح 103].
وقال سفيان الثوري: كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام كالجبل بين المسلمين والمشركين، أعزّ اللَّه به المسلمين، وأذلّ به المشركين. [ المناقب لابن شهرآشوب 68:2].
ولهذا قال شبيب بن بجرة لابن ملجم لمّا رآه يشدّ الحرير على بطنه وصدره: ويلك، ما تريد أن تصنع؟ قال: أقتل عليّاً. قال: هبلتك الهُبول، لقد جئت شيئاً إدّاً، كيف تقدر على ذلك؟ فاستبعد أن يتمّ لابن ملجم ما عزم عليه ورآه مراماً وعراً. [ شرح ابن أبى الحديد 259: 10].
قول اكثر الشارح المعتزلي في شجاعته
وقال ابن أبي الحديد مضافاً إلى ما مضى آنفاً عنه في شجاعة أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام فقال: فإنّ عليّاً عليه السلام أنسى النّاس فيها "فى الشجاعة" ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة تُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الّذي ما فرّ قطّ، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربةً قطّ فاحتاجت الاُولى إلى ثانية، وفي الحديث: 'كانت ضرباته وتراً'.
ولمّا دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح النّاس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم! أتاُمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرِق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي.
وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر؛ قالت اُخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله*** بكيتُه أبداً ما دُمتُ في الأبد
لكنّ قاتلَه من لا نظير له*** وكان يُدعى أبوه بيضةَ البلد
[ بيضة البلد، تعني أبا طالب؛ إذ لم يكن أحد مثله في الشرف. كذا فسّر في "لسان العرب"].
وانتبه يوماً معاوية، فرأى عبداللَّه بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره، فقعد، فقال له عبداللَّه يُداعبه: يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك بفعلت. فقال: لقد شَجُعت بعدنا، يا أبا بكر.
قال: وما الّذي تنكره من شجاعتي، وقد وقفتُ في الصفّ إزاء عليّ بن أبي طالب! قال: لا جَرم! إنّه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.
ثمّ قال: وجملة الأمر أنّ كلّ شجاع في الدنيا إليه ينتهى، وباسمه ينادي في مشارق الأرض ومغاربها. [ شرح ابن أبي الحديد 21:1].
وقد ذكر الشارح المعتزلي في خاتمة من كلامه، فصل طويل في شجاعة عليّ عليه السلام تحت عنوان: "مُثُلٌ من شجاعة عليّ عليه السلام"، فراجعه. [ انظر: المصدر المتقدم 60:19].
لا شكّ أنّ شجاعته عليه السلام من آيات اللَّه تعالى، كما ذكر الشيخ المفيد هذه الحقيقة في فصول من كتابه، وقال في ذلك:
ومن آيات اللَّه تعالى الخارقة للعادة في أمير المؤمنين عليه السلام: أنّه لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران، مثل ما عُرِف له من كثرة ذلك على مرّ الزمان، ثمّ إنّه لم يوجد في ممارسي الحروب إلا من عرته "أي أصابته" بشرّ، ونِيلَ منه بجراحٍ أو شَينٍ إلا أمير المؤمنين عليه السلام.
فإنّه لم يَنَلْه مع طول زمان حربه جراحٌ من عدوٍّ ولا شينٌ، ولا وصل إليه أحدٌ منهم بسوء حتّى كان من أمره مع ابن ملجم لعنه اللَّه على اغتياله إيّاه ما كان، وهذه اُعجوبة أفرده اللَّه بالآية فيها، وخصّه بالعلم الباهر في معناها، فدلّ بذلك على مكانه منه وتخصّصه بكرامته الّتي بان بفضلها من كافّة الأنام.
ثمّ قال في فصل آخر: ومن آيات اللَّه تعالى فيه عليه السلام: أنّه لا يذكر ممارس للحروب لقي فيها عدوّاً إلا وهو ظافرٌ به حيناً وغير ظافر به حيناً، ولا نال أحدٌ منهم خصمه بجراح إلا وقضى منها وقتاً وعوفي منها زماناً، ولم يعهد من لم يفلت منه قرن في حرب ولا نجا من ضربته أحدٌ، فصلح منها إلا أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه لا مرية في ظفره بكلّ قرن بارزه، وإهلاكه كلّ بطل نازله، وهذا أيضاً ممّا انفرد به عليه السلام من كافّة الأنام، وخرق اللَّه جلّ وعزّ به العادة في كلّ حين وزمان، وهو من دلائله الواضحة.
ثمّ قال أيضاً في فصل ثالث: ومن آيات اللَّه تعالى أيضاً فيه أنّه مع طول ملاقاته للحروب وملابسته إيّاها، وكثرة من مُني به فيها من شُجعان الأعداء وصناديدهم وتجمُّعِهم عليه، واحتيالهم في الفَتك به، وبَذلِ الجهد في ذلك، ما وَلّى قطّ عن أحد منهم ظهره، ولا انهزم عن أحدٍ منهم، ولا تَزحزح عن مكانه، ولا هابَ أحداً من أقرانه، ولم يلق أحدٌ سواه خصماً له في حرب إلا وثبت له حيناً، وانحرف عنه حيناً، وأقدم عليه وقتاً، وأحجم عنه زماناً.
و إذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت ما ذكرناه من انفراده بالآية الباهرة، والمعجزة الظاهرة، وخرق العادة فيه بما دلّ اللَّه به على إمامته، وكشف به فرض طاعته، وأبانه بذلك عن كافّة خليقته. [ إرشاد المفيد 309 - 307:1].
قوله: 'إنّ أكرم الموت القتل...'
قوله عليه السلام: 'إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ! وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ، لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاش ِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ!'. [ نهج البلاغة، الخطبة: 133].
قال ابن أبي الحديد: واعلم أنّ عليّاً عليه السلام أقسم أنّ القتل أهون من حتف الأنف، وذلك على مقتضى ما منحه اللَّه تعالى من الشجاعة الخارقة لعادة البشر، وهو عليه السلام يحاول أن يحضّ أصحابه ويحرّضهم ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه، وإقدامهم على الحرب مماثلاً لإقدامه، على عادة الاُمراء في تحريض جندهم وعسكرهم، وهيهات إنّما هو كما قال أبو الطيّب:
يكلّف سيف الدولة الجيش هَمّه*** وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
[ الخضارم: جمع الخضرم - بالكسر -: وهو الكبير العظيم].
ويطلب عند النّاس ما عند نفسه*** وذلك ما لا تدّعيه الضراغم
[ الضراغم: جمع ضرغام، وهو الأسد].
ليست النفوس كلّها من جوهر واحد، و لا الطباع و الامزجة كلها من نوع واحد و هذه خاصية توجد لمن يصطفيه اللَّه تعالى من عباده في الأوقات المتطاولة والدهور المتباعدة، وما اتّصل بنا نحن من بعد الطوفان - فإنّ التواريخ من قبل الطوفان مجهولة عندنا - إنّ أحداً اُعطي من الشجاعة والأقدام ما اُعطيه هذا الرجل "يعني عليّاً عليه السلام" من جميع فِرق العالم على اختلافها من الترك والفرس والعرب والروم وغيرهم.
والمعلوم من حاله أنّه كان يؤثر الحرب على السلم "فى سبيل اللَّه تعالى"، والموت على الحياة، والموت الّذي كان يطلبه ويؤثره إنّما هو القتل بالسيف، لا الموت على الفراش، كما قال الشاعر:
لو لم يمت بين أطراف الرماح إذن*** لمات إذ لم يمت من شدّة الحزن
إلى آخر كلامه. [ شرح ابن أبي الحديد 301:7].