جملة من الأخبار الواردة في شجاعته

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، أنت فارس العرب، وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، وأنت أخي ومولى كلّ مؤمن، وسيف اللَّه الّذي لا يخطئ، وأنت رفيقي في الجنّة'. [ صحيفة الإمام الرضا عليه السلام: 275، ح 14].

2- قال الحسن بن عليّ عليهماالسلام في خطبته بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: 'لقد فارقكم رجلٌ بالأمس لم يَسبقه الأوّلون بعلم، ولم يُدركه الآخرون بعمل، كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يبعثه بالراية؛ جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، لا ينصرف حتّى يفتح له'. [ كشف الغمّة - باب المناقب 238:1].

3- وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يهدّد الكفّار بشجاعة عليّ عليه السلام، فقد قال صلى الله عليه و آله لوفد ثقيف حين جاء: 'والّذي نفسي بيده، لتقيمنّ الصلاة، ولتؤتنّ الزكاة، أو لأبعثنّ إليكم رجلاً منّي أو كنفسي، فليضربنّ أعناق مقاتليهم، وليسبيّن ذراريهم'، قال: فرأى النّاس أنّه عنى أبا بكر وعمر، فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: هذا. [ المناقب لابن شهرآشوب 85:2].

وفي الحديث الّذي رواه ابن عبدالبرّ في "الاستيعاب" بعد قوله صلى الله عليه و آله: 'وليسبينّ ذراريكم'، قال: 'وليأخذنّ أموالكم'. قال عمر: فواللَّه، ما تمنّيتُ الإمارة إلا يومئذٍ، وجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول: هو هذا، قال: فالتفت إلى عليّ عليه السلام فأخذ بيده، ثمّ قال: 'هو هذا'. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 46:3].

وروى أحمد بن حنبل في "الفضائل" عن شدّاد بن الهاد، قال: لمّا قدم على رسول اللَّه وفد من اليمن ليشرح، فقال رسول اللَّه: 'اللّهمّ لتقيمنّ الصلاة، أو لأبعثنّ إليكم رجلاً يقتل المقاتلة، ويسبيّ الذرّيّة، قال: ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اللّهمّ أنا أو هذا'، وانتشل [ انتشل: أي أخرج] بيد عليّ عليه السلام. [ فضائل الصحابة 600:2، ح 1024].

4- وبالجملة نشير إلى جمل من الأخبار الواردة في شجاعته عليه السلام من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تكميلاً للبحث وتوضيحاً له: 'عليّ مثل موسى في بطشه'. 'عليّ مثل إسرائيل في هيبته'. 'عليّ مثل موسى في مناجاته وشجاعته'. 'عليّ مثل موسى في شدّته'. 'عليّ مثل موسى في شوكته وشجاعته'. 'عليّ قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين'، 'عليّ أشجع النّاس قلباً'. 'عليّ أسد اللَّه في أرضه'. 'عليّ سيف اللَّه في أرضه' 'عليّ قاتل الكفرة'. 'عليّ صاحب لواء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الدنيا والآخرة'. 'عليّ أسد اللَّه الغالب'. 'عليّ قاتل الفجرة'. 'عليّ يقاتل على التأويل'. 'عليّ أشجع العرب'. 'ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين'. 'إنّ اللَّه أيّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعليّ'. 'إنّ لعليّ الشجاعة والخلافة كما أنّ للنبيّ صلى الله عليه و آله الرسالة والنبوة'. ودعاء النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: 'قَوّي اللَّه عضدك'. وقتل عليّ أصحاب الألوية يوم الخندق. ورجحان عمل عليّ يوم اُحد على عمل جميع الخلائق، وإنّ اللَّه باهى به الملائكة. وقول النبيّ صلى الله عليه و آله: 'لاُقاتلنّ العمالقة بيد عليّ بإملاء جبرئيل'. [ وغير ذلك من الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله الدالّة على شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام، ومن أراد مصادر هذه الروايات بتمامها وتفصيلها فليراجع الإحقاق مع ملحقاته الّتي أوردها العلامة الحجّة آية اللَّه المرعشي: الأجزاء 4 و 5 و 6 و 8].

مثل من شجاعته في الغزوات والحروب

قال عباس محمود العقّاد في شجاعته عليه السلام في غزوة الخندق: وكان إلى قوّته البالغة شجاعاً لا ينهض له أحد في ميدان مناجزة، فكان لجرأته على الموت لا يهاب قرناً من الأقران بالغاً ما بلغ من الصولة ورهبة الصيت، واجترأ وهو فتى ناشئ على عمرو بن عبد ودّ فارس الجزيرة العربيّة الّذي كان يقوم بألف رجل عند أصحابه وعند أعدائه، وكانت وقعة الخندق، فخرج عمرو في الحديد ينادي جيش المسلمين: مَن يبارز؟ فصاح عليّ عليه السلام: 'أنا له يا بنيّ اللَّه...'، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان به إشفاق عليه: 'إنّه عمرو، اجلس'.

ثمّ عاد عمرو ينادي: ألا رجلٌ يبرز؟ وجعل يؤنّبهم قائلاً: أين جنّتكم الّتي زعمتم أنّكم داخلوها إن قُتلتم؟... أفلا تُبرزون إليَّ رجلاً؟ فقام عليّ مرّة بعد مرّة وهو يقول: 'أنا له يا رسول اللَّه'، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول له مرّة بعد مرّة: 'اجلس، إنّه عمرو'، وهو يجيبه: 'وإن كان عمراً'.. حتّى أذن له، فمشى إليه فرحاً بهذا الإذن الممنوع كأنّه الإذن بالخلاص.

ثمّ نظر إليه عمرو، فاستصغره وأنف أن يناجزه وأقبلَ يسأله: مَن أنت؟...

قال: ولم يزد: 'أنا عليّ'. قال: ابن عبدمناف؟ قال: 'ابن أبي طالب'، فأقبل عمرو عليه يقول: يابن أخي... مِن أعمامك من هو أسنّ، وانّي أكره أن اُهريق دمك.

فقال له عليّ عليه السلام: 'ولكنّي - واللَّه - لا أكره أن اُهريق دمك'، فغضب عمرو، وأهوى إليه بسيف كان كما قال واصفوه، كأنّه شعلة نار، واستقبل عليّ الضربة بدرقته فقدّها السيف، وأصاب رأسه، ثمّ ضربه عليّ على حبل عاتقه فسقط ونهض، وسقط ونهض، وثار الغبار، فما انجلى إلا عن عمرو صريعاً وعليّ يجأر بالتكبير، وكأنّما كانت شجاعته هذه القضاء الّذي لا يؤسى على مصابه؛ لأنّه أحجى المصائب وأقلّها معابة ألا يُدفع، فكانت اُخت عمرو بن عبدودّ تقول على سبيل التأسّي بعد موته:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله*** بكيتُه أبداً ما دُمتُ في الأبد

لكنّ قاتلَه من لا نظير له*** وكان يُدعى أبوه بيضةَ البلد

فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة الّتي يُشرّف بها مَن يُصيب بها ومَن يُصاب، إلى آخر كلامه. [ عبقرية الإمام عليّ عليه السلام للعقاد: 17].

وقال العلامة الإحسائي في شجاعته عليه السلام يوم الجمل: روى جابر الأنصاري، قال: شهدت البصرة مع أمير المؤمنين عليه السلام والقوم قد جمعوا مع المرأة سبعين ألفاً، فما رأيت منهزماً إلا وهو يقول: هزمني عليّ، ولا مجروحاً إلا يقول: جرحني عليّ، ولا مَن يجود بنفسه إلا وهو يقول: قتلني عليٌّ، ولا كنت في الميمنة إلا سمعت صوت عليّ عليه السلام، ولا في الميسرة إلا سمعت صوت عليّ عليه السلام.

ولقد مررتُ بطلحة وهو يجود بنفسه وفي صدره نَبلة، وقلت له: مَن رماك بهذه النبلة؟ فقال: عليّ بن أبي طالب. فقلت: يا حزب بلقيس، ويا حزب إبليس، إنّ عليّاً لم يرم بالنبل وما بيده إلا سيفه؟ فقال: يا جابر، أما تنظر إليه كيف يصعد في الهواء مرّة وينزل في الأرض اُخرى، وينزل مرّة من قِبل المشرق ومرّة من قِبل المغرب، وجعل المشارق والمغارب بين يديه شيئاً واحداً، فلا يمرّ بفارس إلا طعنه، ولا يلقى أحداً إلا قتله أو ضربه أو كبّه بوجهه، أو قال: 'مُتْ يا عدوّ اللَّه'، فيموت فلا يفلت منه أحد. [ المحلّى: 410، نقلاً عن كتاب الإمام عليّ: 451].

وبالجملة من مُثل شجاعته، مبيته على الفراش ليلة الغار معرّضاً نفسه للأخطار لم يخف ولم يحزن، فوقى النبيّ صلى الله عليه و آله بنفسه وفداه بمهجته غير هيّاب ولا متردّد ولا حزين. وخروجه بالفواطم جهاراً من مكّة ولحوق الفوارس الثمانية به لمّا علموا بخروجه حنقين عليه عازمين على قتله إن لم يرجع راغماً.

وما كان منه في وقعة بدر الّتي بها تمهّدت قواعد الدين وأذلّ اللَّه جبابرة المشركين وقتل فيها رؤساءهم، وقعت الهيبة من المسلمين في قلوب العرب واليهود وغيرهم، وقد كان عليه السلام في هذه الوقعة قطب رحاها وليث وغاها، بارز الوليد بن عتبة أوّل نشوب الحرب فلم يلبث حتّى قتله، وشارك عمّه حمزة في قتل عتبة، واشترك هو وحمزة وعبيدة في قتل شيبة فأجهزوا عليه، وغير هؤلاء كما أوضحنا في فصل "عليّ يوم بدر"، وما كان من مثل شجاعته في وقعة اُحد أوضحناها في فصل "عليّ عليه السلام في غزوة اُحُد".

ومبارزته مرحباً يوم خيبر وقتله وفتح الحصن ودحو الباب، وخروجه بالراية بعد ما رجع غيره منهزماً يجبّن أصحابه ويجبّونه، أو منهزماً يؤنّب قومه ويؤنّبونه، كما أوضحنا في فصل "عليّ عليه السلام يوم خيبر".

وثباته يوم حنين مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد هرب عنه النّاس غير عشرة، تسعة من بني هاشم والعاشر أيمن بن اُمّ أيمن وقتله أبا جرول. وغير ذلك من فتوحات النبيّ صلى الله عليه و آله.

وكذلك ما وقع بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الجمل وصفّين والنهروان، فاشتهار شجاعته العظيمة فيها قد زاد عن حدّ التصوّر. [ مستفاد من أعيان الشيعة 339:1].

 

علي في القوّة و الأيد

قال الشارح المعتزلي: أمّا القوّة والأيد فبه يُضرب المثل فيهما، هو الّذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من النّاس ليقلبوه فلم يقلبوه. شرح ابن أبي الحديد 21:1

حسبك في ذلك قلعه باب خيبر

حسبك في ذلك قعله باب خيبر، وجعله جسراً على الخندق، وكان يغلقه عشرون رجلاً، وتترّسه يومئذٍ بباب لم يستطع قلبه ثمانية نفر. [ أعيان الشيعة 339:1].

قال الشيخ المفيد رحمه الله: وقد روى أصحاب الآثار عن الحسن بن صالح، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن ابن أبي عبداللَّه الجدلي، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: 'لمّا عالجتُ بابَ خيبر، جعلتُه مِجَنّاً لي وقاتلت القومَ، فلمّا أخزاهم اللَّهَ وضعتُ البابَ على حِصنهم طريقاً، ثمّ رميتُ به في خندقهم'. فقال له رجل: لقد حَمَلتَ منه ثقلاً؟ فقال عليه السلام: 'ما كان إلا مثل جُنّتي الّتي في يدي في غير ذلك المقام'.

ثم قال: و ذكر أصحاب السِّير: أنّ المسلمين لمّا انصرفوا من خيبر راموا حمل الباب فلم يُقِلَّه "أي يحمله" منهم إلا سبعون رجلاً، وفي حمل أمير المؤمنين عليه السلام الباب يقول الشاعر:

إنّ امرءاً حَمَل الرِّتاج بخيبر*** يوم اليهود بقدرةٍ لَمؤيّدُ

حمل الرِّتاج، رِتاج باب قَمُوصها *** والمسلمون وأهل خيبر شُهَّدُ

فَرَمى به ولقد تَكَلَّف رَدَّهُ*** سبعون شخصاً كُلُّهم له مَتَشَدِّدُ

رَدُّوه بعدَ مشقّةٍ وَتَكَلُّفٍ*** ومَقال بَعضِهِم لبعضٍ إردُدوا

[الرتاج: الباب العظيم]

[ قموص: جبل بخيبر عليه حصن أبي الحقيق اليهودي].

[ الإرشاد 128:1].

وفي "البحار": عن أحمد بن حنبل، عن مشيخته، عن جابر الأنصاري: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دفع الراية إلى عليّ عليه السلام في يوم خيبر بعد أن دعا له، فجعل يسرع السير وأصحابه يقولون له: ارفق حتّى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الأرض، ثمّ اجتمع منّا سبعون رجلاً، وكان جهدهم أن أعادوا الباب. [ البحار 279:41].

وفيه أيضاً عن "روض الجنان": قال بعض الصحابة: ما عجبنا - يا رسول اللَّه - من قوّته "عليّ عليه السلام" في حمله ورميه وإتراسه، وإنّما عجبنا من إجساره وإحدى طرفيه على يده، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله كلاماً معناه: 'يا هذا، نظرت إلى يده فانظر إلى رجليه؟!'. قال: فنظرت إلى رجليه فوجدتهما معلّقين، فقلت: هذا أعجب، رجلاه على الهواء، فقال صلى الله عليه و آله: 'ليستا على الهواء، وإنّما هما على جناحي جبرئيل'. [ المصدر المتقدّم: 281].

 

قول من الفخر الرازي في قوّته

قال الفخر الرازي في "تفسيره": إنّ كلّ من كان أكثر علماً بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلباً وأقلّ ضعفاً، ولهذا قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: 'واللَّهِ، ما قَلعتُ باب خيبر بقوّة جسمانيّة ولكن بقوّة ربّانيّة'؛ وذلك لأنّ عليّاً عليه السلام في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء، فتقوّى روحه وتشبّه بجواهر الأرواح الملكيّة، وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة، فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره، وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الّذي يقول اللَّه: كُنتُ لَهُ سَمعاً وبَصَراً، فإذا صار نور جلال اللَّه سمعاً له سمع القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور بصراً له رأى القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور يداً له قدر على التصرّف في الصعب والسهل، والبعيد والقريب. [ التفسير الكبير 91:21].

قول ابن أبي الحديد في قوّته

وقال ابن ابن أبي الحديد في شرحه: أمّا القوّة والأيد فبه يُضرب المثل فيهما، قال ابن قتيبة في "المعارف": ما صارع أحداً قطّ إلا صرعه، وهو الّذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من النّاس ليقلبوه فلم يقلبوه، وهو الّذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة - وكان عظيماً جدّاً - وألقاه إلى الأرض، وهو الّذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيّام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كلّه عنها، وانبطّ الماء من تحتها. [ شرح ابن أبي الحديد 21:1].

 

كان ذا قوّة وأيد منذ صغره

في "البحار": عن أنس، عن عمر بن الخطّاب: أنّ عليّاً عليه السلام رأى حيّة تقصده وهو في مهده، وقد شدّت يداه في حال صغره، فحوّل نفسه فأخرج يده وأخذ بيمينه عنقها وغمزها غمزة [ غمزه: حبسه، وكبسه باليد، أي شدّه وضغطه].

حتّى أدخل أصابعه فيها وأمسكها حتّى ماتت، فلمّا رأت ذلك اُمّه نادت واستغاثت فاجتمع الحشم، ثمّ قالت: كأنّك حيدرة. [ البحار 274:41، وحيدرة يعني الأسد، وقيل: الحيدرةفي الأسد مثل الملك في النّاس، وفي البحار: الحيدرة: اللبوة إذا غضبت من قبل أذى أولادها].

وفي "البحار": عن الصادق عليه السلام في خبر: قالت فاطمة بنت أسد "اُمّ عليّ عليه السلام": فشددته تعني عليّاً عليه السلام وقمّطته بقماط [ القماط - بالكسر -: خرقة عظيمة تلفّ على الصغير إذا شدّ في المهد].

فنتر [ نترها: شقّها بالأصابع أو الأضراس].

القماط، ثمّ جعلته قماطين فنترهما، ثمّ جعلته ثلاثة وأربعة وخمسة وستّة منها أديم [ الأديم: الجلد ما كان].

وحرير فجعل ينترها، ثمّ قال: 'يا اُمّاه، لا تشدّي يديّ، فإنّي احتاج أن أبصبص [ البصبصة: تحريك الظباء أذنابها، والمراد هنا: تحريك الأصابع بالذِّكر].

لربّي بإصبعي'. [ البحار 274:41].

وحضوره عليه السلام في الغزوات والحروب وقتل المشركين والمنافقين أقوى شاهدٍ على قوّة أيده وثبات قلبه.

علي في قوّة إيمانه و ترك المداهنة في دين اللَّه

قال عليّ عليه السلام: 'وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أَ نِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ'.

نهج البلاغة: الخطبة 197

كلمة في قوّة إيمانه

لقد ملأ الإيمان باللَّه كلّ وجود عليّ بن أبي طالب، ولم يكن يقارنه أحد في قوّة الإيمان إلا رسول اللَّه، فقد بلغ مرحلة اليقين حتّى قال: 'لو كُشِفَ الغِطاء ما ازددت يقيناً'. [ ينابيع المودّة: 65].

لم يغفل عليّ عن اللَّه طرفة عين أبداً، فكان المصداق الكامل لقوله تعالى: 'أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ' [ سورة الرعد: 28].

وكان يذوب في ذات اللَّه حتّى ينسى في صلاته كلّ المصاعب والمعضلات، واستخراج النشّابة من رجله مثال لذلك. [ شرح النهج للخوئي 152:8].

بل هو الّذي يجيب ذلك الحبر الّذي سأله: هل رأيت ربّك؟ بقوله: 'ويلك، ما كنت أعبدُ ربّاً لم أره'.

ولم يخش عليّ إلا اللَّه، وكان مؤمناً بأن لا مؤثّر ولا مدبّر إلا هو، فكان لذلك لا يخاف أيّة قدرة ولا يهاب أيّة دسيسة ومؤامرة، وربّما صرّح بهذه العقيدة كما في محادثته مع قنبر. [ في ينابيع المودّة: 64، عن جعفر الصادق عليه السلام، قال: 'كان قنبر يحبّ عليّاً حبّاً شديداً، فإذا خرج عليّ عليه السلام خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر، ما لك؟ قال: جئت لأمشي خلفك، قال: من أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض، وإنّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلا بإذن اللَّه من السماء، فارجع، فرجع'، ومن كلامه عليه السلام: 'لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً'].

لقد كانت قوّة الإيمان هذه ميهمنة على عليّ في جميع مراحل حياته وظروفها المختلفة، فلم تتغيّر أيّام ضعفه حين تخاذل النّاس فأصبح جليس الدار، ولم تتغيّر أيّام قوّته وتسنّمه السلطة، ولم يضطرب ولم يتضجّر أيّام عزلته ووحدته، ولم تسكره نشوة الغرور أيّام حكومته، بل كان يئنّ أيّام قوّته آناء الليل أنيناً، يعجب منه مَن يسمعه ويراه بتلك الحالة، وقد ذكرنا ما رآه نوف البكالي وحبّة العرني في بحث "عليّ والعبادة".

بقي جليس الدار خمساً وعشرين سنة فصبر للَّه، وتحمّل المصاعب والشدائد لأجل بقاء دين اللَّه، وقد نفث بهذا الهمّ حين قال: 'فَصَبَرتُ وُفي العَيْنِ قَذىً'.

وبلغ إيمان عليّ حدّاً أنّه لم يكن للفرار إلى نفسه سبيلاً، وكان يرعب العدوّ في ميدان القتال، ويمنح المؤمنين قوّة واطمئناناً، ومع ذلك فإنّه ينهار أمام أنين اليتيم فلا يملك دموعه.

إنّ عليّاً عليه السلام نصير المظلوم وخصم الظالم، وكلّ ذلك ينبع من عين إيمانه العظيم، وعليّ عليه السلام تلميذ الرسول المطيع، فقد عرف قائده رسول اللَّه جيّداً، فكان مطيعاً له في الحرب والصلح [ ففي روضة الكافي: 217، ح 375، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: 'كنت اُبايع لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله على العسر واليسر، والبسط والكره إلى أن كثر الإسلام، وكثف' الحديث].

فهو يبيت على فراش رسول اللَّه ليلة الهجرة، ويفدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بنفسه في ساحة الحرب... لم يعترض يوماً على رسول اللَّه، بل لم يسأله في أمر يقرّره قطّ، وقد أشار عليه السلام إلى هذه الحقيقة بقوله: 'وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أَ نِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ'.

وهذا الإيمان القويّ والقلب المنير الّذي كان لعليّ هو الّذي جعله ثابتاً ومصرّاً على إقامة أحكام اللَّه وحدوده، فلم يُلحظ عن عليّ أنّه انحرف عن أحكام اللَّه أدنى انحراف، وقد وضع الجميع أمام القانون موضع المساواة، عدوّه وصديقه، القريب والبعيد، وحتّى أولاده وإخوته، ولم يداهن في دين اللَّه قطّ، حتّى وإن أدّى ذلك إلى أن يعاتبه الأقربون والمحبّون، بل كان صارماً في إقامة الدين، وعلى حدّ تعبير ابن أبي الحديد: كان خَشِناً في ذات اللَّه، لم يراقب ابن عمّه في عملٍ كان ولاه إيّاه، ولا راقب أخاه عقيلاً في كلام جبهه به... [ شرح ابن أبي الحديد 28:1].

نعم، لقد ذاب عليّ عليه السلام في ذات اللَّه، وآمن أنّ كلّ شيء لا يكون إلا بإذنه، فكان يريد ما أراد اللَّه، ويطلب منه تعالى أن يجري طلبه بإذنه، وعلم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد صحّح وأيّد هذه الفكرة، ونشير إلى موارد تبيّن قوّة عمل المقرّبين والأقرباء في فترة حكومته، ليكون القارئ على بيّنة أكبر من أمر عليّ، وليكون منهجه أمام أعين جميع شيعته ليقتدوا به.

ويظهر من الحديث التالي مراتب إيمانه وكماله ومعرفته باللَّه تعالى، فروى المجلسي عن "توحيد الصدوق" عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'جاء حبرٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيتَ ربّك حين عبدته؟ فقال عليه السلام: 'ويلك، ما كنتُ أعبُدُ ربّاً لم أره'. قال: وكيف رأيته؟ قال عليه السلام: 'ويلك، لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان'. [ البحار 16:41].

قول رسول اللَّه في قوّة إيمانه وتنمّره في ذات اللَّه

1- روى القندوزي الحنفي عن موفّق بن أحمد، بسنده عن عليّ عليه السلام، قال: 'قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم فتحت خيبر: لولا أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك اليوم مقالاً بحيث لا تمرّ على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون منّي وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي.

يا عليّ، أنت تؤدّي ديني، وتقاتل على سُنّتي، وأنت في الآخرة أقرب النّاس منّي، وإنّك على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين، وأنت أوّل من يرد علَيّ الحوض، وأنت أوّل داخل في الجنّة من اُمّتي، وإنّ شيعتك على منابر من نور رواء مرويّين مبيضّة وجوههم حولي، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنّة جيراني، وإنّ أعداءك غداً ظماء مظمئين مسودّة وجوههم، مقمحون ومقمعون، يضربون بالمقامع - وهي سياط من نار - مقتحمين، حربك حربي، وسلمك سلمي' إلى أن قال: 'والإيمان مخالطٌ لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي' إلى آخره. [ ينابيع المودّة: 63].

2- و روى ابن الجوزي الحنفي عن ربعي بن خراش: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام خطب بالرُّحبة، فقال: 'لمّا كان يوم الحديبيّة خرج إلينا سهيل بن عمرو في جماعة من رؤساء الكفّار، فقال: يا محمّد، خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعتنا فارددهم إلينا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: سنفقّههم في الدين إن لم يكن لهم فقه. ثمّ قال: يا معاشر قريش، لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللَّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين. فقالوا: ومَن ذلك؟ فقال: مَن امتحن اللَّه قلبه للإيمان، وهو خاصف النعل' و أشار الى عليّ عليه السلام. [ تذكرة الخواصّ: 45].

وروى الترمذي في سننه نحوه، وزاد في ذيله: 'وكان أعطى عليّاً نعله يخصفها، ثمّ التفت إلينا عليّ عليه السلام فقال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: مَن كذب علَيّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار'. [ سنن الترمذي 592:5، ح 3715].

3- و عن القندوزي الحنفي عن ابن المغازلي الشافعي، وصاحب المناقب، بسنديهما عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين عليهم السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ بن أبي طالب: يا أبا الحسن، لو وضع إيمان الخلائق وأعمالهم في كفّة ميزان، ووضع عملك يوم اُحد على كفّة اُخرى لرجح عملك على جميع ما عمل الخلائق. وإنّ اللَّه باهى بك يوم اُحد ملائكته المقرّبين، ورفع الحُجب عن السموات السبع، وأشرفت إليك الجنّة وما فيها، وابتهج بفعلك ربّ العالمين. وإنّ اللَّه تعالى يعوّضك ذلك اليوم ما يغبط كلّ نبيّ ورسول وصدّيق وشهيد'. [ ينابيع المودّة: 64].

4- وروى ابن المغازلي: عن رقبة بن مصقلة بن عبداللَّه، عن أبيه، عن جدّه، قال: أتى عمر رجلان فسألاه عن طلاق العبد، فانتهى إلى حلقة فيها رجل أصلع، فقال: يا أصلع، كم طلاق العبد؟ فقال: باصبع هكذا، فحرّك السبابة والّتي تليها، فالتفت إليهما، فقال: 'اثنتين'، فقال أحدهما: سبحان اللَّه، جئناك وأنت أمير المؤمنين فسألناك، فجئت إلى رجل واللَّه ما علّمك! فقال: ويلك وتدري مَن هذا، هذا عليّ بن أبي طالب. سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'لو أنّ السموات والأرض وضعتا في كفّة ووضع إيمان عليّ في كفّة، لرجح إيمان عليّ'. [ المناقب "مخطوط"، نقلاً عن الإحقاق 614:5، وروى نحوه أخطب خوارزم في المناقب: 87، ومحبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى: 100، وغيرهم].

5- روى العلامة الصفوري البغدادي، عن عمر بن الخطّاب، أنّه قال: أشهد على النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: 'لو وضعت السماوات السبع والأرضون السبع في كفّة، ووضع إيمان عليّ في كفّة لرجح إيمان عليّ'. [ نزهة المجالس 207:2].

 

قوله: 'إنّ عليّاً أخشن في سبيل اللَّه'

1- روى ابن عساكر الشافعي كذا ابن كثير عن أبي سعيد الخدري، قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمن، قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه، فلمّا أحضر إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا، وكنّا قد رأينا في إبلنا خللاً، فأبى علينا، وقال: 'إنّما لكم منها سهم كما للمسلمين'.

قال: فلمّا فرغ عليّ عليه السلام وانصرف من اليمن راجعاً أمّر علينا إنساناً فأسرع هو فأدرك الحجّ، فلمّا قضى حجّته قال له النبيّ صلى الله عليه و آله: 'ارجع إلى أصحابك حتّى تقدم عليهم'.

قال أبو سعيد: وقد كنّا سألنا الّذي استخلفه علينا ما كان عليّ عليه السلام منعنا إيّاه ففعل، فلمّا جاء عرف في إبل الصدقة أنّها قد ركبت، رأى أثر المراكب، فذمّ الّذي أمّر واللَّه، فقلت أنا: إنّ للَّه علَيَّ لئن قدمتُ المدينة لأذكرنّ لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولاُخبرنّه ما لقينا من الغلظة والتضييق. قال: فلمّا قدمنا المدينة غدوت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اُريد أن أفعل ما كنت حَلفتُ عليه، فلقيت أبا بكر خارجاً من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا رآني وقف معي ورحّب بي وساءلني وساءلته، قال: متى قدمت؟ قلت: قدمتُ البارحة، فرجع معي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدخل وقال: هذا سعد بن مالك ابن الشهيد، قال: ائذن له، فدخلتُ فحيّيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحيّاني وسلّم علَيَّ وساءلني عن نفسي وعن أهلي فأحفى المسألة.

فقلت: يا رسول اللَّه، ما لقينا من عليّ عليه السلام من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق، فاتّأد رسول اللَّه، وجعلت أنا اُعدّد ما لقينا منه حتّى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على فخذي - وكنت قريباً منه - وقال: 'سعد بن مالك ابن الشهيد، مه بعض قولك لأخيك عليّ، فواللَّه لقد علمتُ أنّه أخشن في سبيل اللَّه'. قال: فقلت في نفسي: ثكلتك اُمّك سعد بن مالك، ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري، لا جرم واللَّه لا أذكره بسوء أبداً سِرّاً ولا علانيةً. [ تاريخ دمشق، ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 387:1، ح 493، البداية والنهاية 95:5 و 359:7].

2- وفي تاريخ الطبري: بسنده عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، قال: لمّا أقبل عليّ عليه السلام من اليمن ليلقى رسول اللَّه بمكّة تعجّل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واستخلف على جنده الّذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حُللاً من البزّ، الّذي كان مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلمّا دنا جيشه خرج عليّ عليه السلام ليلقاهم، فإذا هم عليهم الحلل، فقال: 'ويحك ما هذا؟'. قال: كسوتُ القومَ ليتجمّلوا به إذا قدموا في النّاس. قال: 'ويلك، انزع من قبل أن تنتهي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. قال: فانتزع الحلل من النّاس، وردّها في البزّ، وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم. [ تاريخ الطبري 401:2].

وبسند آخر عن أبي سعيد، قال: شكا النّاس عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فينا خطيباً فسمعته يقول: 'يا أيّها النّاس، لا تشكوا عليّاً، فواللَّه إنّه لأخشن في ذات اللَّه - أو في سبيل اللَّه -'. [ تاريخ الطبري 402:2، وتاريخ دمشق لابن عساكر - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 386:1، ح 492، ومسند أحمد بن حنبل 86:3].

وفي بعض النسخ: 'فواللَّه، إنّه لاُخيشن [ قوله: 'اُخيشن' هو أفعل تفضيل من خشن خشونة: ضدّ لان، والتصغير هنا للتعظيم. رياض السالكين: 1].

في ذات اللَّه - أو في سبيل اللَّه. [ تاريخ دمشق لابن عساكر - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 386:1، ح 492].

شدّته مع مرسلة كتاب ابن أبي بلتعة إلى كفّار مكّة

قال ابن شهرآشوب: في الصحيحين والتاريخين والمسندين وأكثر التفاسير: أنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت النبيّ صلى الله عليه و آله من مكّة مسترفدة، فأمر صلى الله عليه و آله بني عبدالمطّلب بإسدانها [ سدن: خدم].

فأعطاها حاطب بن أبي بلتعة عشرة دنانير على أن تحمل كتاباً بخبر وفود النبيّ صلى الله عليه و آله إلى مكّة، وكان صلى الله عليه و آله أسرّ ذلك ليدخل عليهم بغتةً، فأخذت الكتاب وأخفته في شعرها، وذهبت فأتى جبرئيل وقصّ القصّة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأنفذ عليّاً عليه السلام والزبير، والمقداد، وعمّاراً، وعمر، وطلحة، وأبا مرثد خلفها، فأدركوها بروضة خاخ "موضع بين مكة و مدينه" يطلبوها بالكتاب فأنكرت وما وجدوا معها كتاباً، فهمّوا بالرجوع. فقال عليّ عليه السلام: 'واللَّه ما كذَبنا ولا كُذِّبنا' وسلّ سيفه وقال: 'أخرجي الكتاب وإلا واللَّه لأضربنّ عنقك؟'، فأخرجته من عقيصتها [ العقيصة: ضفيرة الشعر].

فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام الكتاب وجاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فدعا بحاطب بن أبي بلتعة، وقال له: 'ما حملك على ما فعلت؟'، قال: كنت رجلاً عزيزاً في أهل مكّة - أي غريباً ساكناً بجوارهم - فأحببت أن أتّخذ عندهم بكتابي إليهم مودّة ليدفعوا عن أهلي بذلك، فنزل قوله تعالى: 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ'. [ الممتحنة: 1].

[ المناقب لابن شهرآشوب 143:2، وقد ذكرنا تفصيل القصّة في فصل عليّ وغزوة مكّة"، فلاحظها].

 

شدّته مع اُخته في فتح مكّة

وفي "الإرشاد": لمّا بلغه "يعني عليّاً عليه السلام": أنّ اُخته اُمّ هاني قد آوت اُناساً من بني مخزوم، منهم: الحارث بن هشام، وقيس بن السائب، فقصد عليه السلام نحو دارها مقّنعاً بالحديد، قال: 'اخرجوا من آويتم؟'، قال: فجعلوا يذرقون - واللَّه - كما تذرق الحبارى خوفاً منه، فخرجت إليه اُمّ هاني وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبد اللَّه، أنا اُمّ هاني ابنة عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واُخت عليّ بن أبي طالب عليه السلام انصرف عن داري. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'أخرجوهم!'، فقالت: واللَّه لأشكونّك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فنزع المغفر عن رأسه فعرفته، فجاءت تشتدّ حتّى التزمته، وقالت: فديتك، حلفت لأشكونّك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فقال لها: 'اذهبي فأبرِّيّ قسمك، فإنّه بأعلى الوادي'.

فقالت اُمّ هاني: فجئت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وهو في قبّة يغتسل وفاطمة عليهاالسلام تستره، فلمّا سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كلامي، قال: 'مرحباً باُمّ هاني وأهلاً'. قلت: بأبي أنت واُمّي، أشكو إليك اليوم ما لقيت من عليّ بن أبي طالب. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'قد أجرتُ من أجرتِ'. فقالت فاطمة عليهاالسلام: 'إنّما جئت - يا اُمّ هاني - تشكين عليّاً عليه السلام في أنّه أخاف أعداء اللَّه وأعداء رسوله؟'. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لقد شكر اللَّه تعالى لعليّ سعيه، وأجرتُ من أجارت اُمّ هاني لمكانها من عليّ بن أبي طالب'. [ إرشاد المفيد: 123، الفصل 35 من الباب 2، وبحار الأنوار 10:41].

اقامته الحدّ على إبن عمر

في "المناقب": عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: 'اُقيم عبيداللَّه بن عمر وقد شرب الخمر، فأمر به عمر أن يُضرب، فلم يتقدّم إليه أحد يضربه حتّى قام عليّ عليه السلام بنسعة مثنية فضربه بها أربعين. [ المناقب لابن شهرآشوب 147:2].

 

اقامة الحدّ في حكومة عثمان

عن ابن شهر آشوب عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: 'إنّ الوليد بن عقبة حين شهد عليه شرب الخمر، قال عثمان لعليّ عليه السلام: اقض بيني وبين هؤلاء الّذين يزعمون أنّه شرب الخمر، فأمر عليّ عليه السلام أن يضرب بسوط له شعبتان أربعين جلدة'. [ المناقب لابن شهرآشوب 147:2].

وفيه أيضاً: عن مطر الورّاق، وابن شهاب الزهري في خبر: أنّه لمّا شهد أبو زينب الأسدي وأبو مزرع وسعيد بن مالك الأشعري وعبداللَّه بن خنيس الأزدي وعلقمة بن زيد البكري على الوليد بن عقبة أنّه شرب الخمر، أمر عثمان بإقامة الحدّ عليه جهراً ونهى سرّاً، فرأى أمير المؤمنين عليه السلام أنّه يدرأ عنه الحدّ، قام والحسن معه ليضربه، فقال: نشدتك اللَّه والقرابة. فقال عليه السلام: 'اسكت أبا وهب، فإنّما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود'، فضربه وقال: 'لتدعوني قريش بعد هذا جلادها'. [ المناقب 148:2].

اذا رأى جوازاً لترك الحدّ تركه ولا يخاف لومة لائم

عن ابن شهر آشوب: روى أنّه خيّر لرجل فسق بغلام إمّا ضربه بالسيف، أو هدم حائط عليه، أو الحرق بالنّار، فاختار النّار لشدّة عقوبتها، وسأل النظرة لركعتين، فلمّا صلّى رفع رأسه إلى السماء، وقال: ربّ، إنّي أتيت بفاحشة وأتيت إلى وليّك تائباً، واخترت الإحراق لأتخلّص من نار يوم القيامة. فبكى عليّ عليه السلام وبكى مَن حوله، فقال عليّ عليه السلام: 'ذاهب، فقد غفر اللَّه لك'. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، تعطّل حدّاً من حدود اللَّه. فقال: 'ويلك، إنّ الإمام إذا كان من قِبل اللَّه ثمّ تاب العبد من ذنب بينه وبين اللَّه، فله أن يغفر له'. [ المناقب 148:2].

 

اقامة الحدّ، وقوله: 'لَستُ أملك العفو'

وفي "المناقب": وأخذ رجلاً من بني أسد في حدّ، فاجتمع قومه ليكلّموا فيه وطلبوا إلى الحسن عليه السلام أن يصحبهم، فقال: 'ائتوه فهو أعلى بكم عيناً، فدخلوا عليه وسألوه، فقال عليه السلام: لا تسألوني شيئاً أملك إلا أعطيتكم'، فخرجوا يرون أنّهم قد أنجحوا، فسألهم الحسن عليه السلام؟ فقال: أتينا خير مأتى، وحكوا له قوله، فقال: 'ما كنتم فاعلين إذا جلد صاحبكم فاصنعوه'، فأخرجه عليّ عليه السلام فحدّه، ثمّ قال: 'هذا واللَّهِ لَستُ أملكه'. [ المناقب 148:2].

اقامته الحدّ على شاعره النجاشي

في "الغارات" عن ابن حجر في "الإصابة": كان النجاشي الشاعر في عسكر عليّ عليه السلام بصفّين، ووفد على عمر بن الخطّاب، ولازم عليّ بن أبي طالب، وكان يمدحه عليه السلام. قال ابن قتيبة في "المعارف": كان النجاشى فاسقاً رقيق الإسلام، وخرج في شهر رمضان على فرس له بالكوفة يريد الكناسة، فمرّ بأبي سمّال الأسدي فوقف عليه، فقال: هل لك في رؤوس حُملان في كرشٍ في تنّورٍ من أوّل الليل إلى آخره، قد أينعت وتهرّأت؟ فقال له: ويحك، أفي شهر رمضان تقول هذا؟ قال: ما شهر رمضان وشوّال إلا واحد. قال: فما تسقيني عليها؟ قال: شراباً كالورس، يطيّب النفس، ويجري في العرق، ويكثر الطرق، ويشدّ العظام، ويسهّل للفدم الكلام، فثنى رجله فنزل فأكلا وشربا، فلمّا أخذ فيهما الشراب، تفاخرا، فعلت أصواتهما، فسمع ذلك جارٌ لهما، فأتى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأخبره، فبعث في طلبهما، فأمّا أبو سمّال فشقّ الخصّ ونفذ إلى جيرانه فهرب، فاُخذ النجاشي فاُتي به عليّ بن أبي طالب، فقال له: 'ويحك ولداننا صيامُ وأنت مفطرٌ؟!'، فضربه ثمانين سوطاً و زاده عشرين سوطاً، فقال له: ما هذه العلاوة يا أبا الحسن؟ فقال: 'هذه لجرأتك على اللَّه في شهر رمضان'، ثمّ وقفه للنّاس ليروه في تبّان فهجا أهل الكوفة فقال:

إذا سقى اللَّه قوماً صوب غادية*** فلا سقى اللَّه أهل الكوفة المطرا

التاركين على طهرٍ نساءَهم*** والناكحين بشطّي دجلة البقرا

والسارقين إذا ما جنّ ليلهم*** والطالبين إذا ما أصبحوا السورا

وقال:

ضربوني ثمّ قالوا: قدرٌ*** قدّر اللَّه لهم شرّ القدر

[ الغارات 901:2 و 902].

وعن أبي الزناد: لمّا حدّ عليّ عليه السلام النجاشي، غضب لذلك من كان مع عليّ "من اليمانيّة" وكان أخصّهم به طارق بن عبداللَّه بن كعب بن اُسامة النهدي، فدخل على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء، حتّى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا، وشتّت اُمورنا، وحملتنا على الجادّة الّتي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النّار.

فقال عليّ عليه السلام: ''وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ' [ سورة البقرة: 45].

يا أخا بني نهد، وهل هو إلا رجلٌ من المسلمين انتهك حرمة من حرم اللَّه، فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارته، إنّ اللَّه تعالى يقول: 'وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى'. [ سورة المائدة: 8].

قال: فخرج طارق من عند عليّ عليه السلام وهو مظهر بعذره قابل له، فلقيه الأشتر النخعي رحمه الله فقال له: يا طارق، أنت القائل لأمير المؤمنين: إنّك أوغرت صدورنا، وشتّت اُمورنا؟ قال: طارق: نعم، أنا قائلها. قال له الأشتر: واللَّه، ما ذاك كما قلت، وإنّ صدورنا له لسامعة، وإنّ اُمورنا له لجامعة. قال: فغضب طارق، وقال: ستعلم يا أشتر إنّه غير ما قلت، فلمّا جنّه الليل همس هو والنجاشي إلى معاوية... الحديث. [ الغارات 540:2، وشرح ابن أبي الحديد 89:4، وروي في البحار 91:41، عنه ملخّصاً، وقد ذكرنا قصّة النجاشي في فصل "عليّ إمام القانون"].

 

ردّه هديّة الأشعث لأنّها رشوة

كان عليّ عليه السلام قويّاً في دينه، لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، لم يداهن ولم يصانع طرفة عين، وإلى القدر الّذي يردّ هديّةً قُدّمت له من أحد عمّاله بقوّة وجرأة ودون أدنى تردّد، ولم يكتفِ بردّ الهديّة إذا شمّ فيها رائحة الرشوة، بل ويعنّف مُهديها ويذمّه.

ففي أحد الخطب الطويلة في "نهج البلاغة" يقول عليه السلام: 'وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ [ الحسك: الشوك. السعدان: نبت ترعاه الإبل له شوك] مُسَهَّداً [ المسهّد: من سهّده: أي أسهره] أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً [ المصفّد: المقيّد].

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْض ِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ...'.

ويشير في أثنائها إلى هذا الموضوع، حيث يقول عليه السلام: 'وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفَوفَةٍ [ الملفوفة: نوع من الحلواء أهداها الأشعث بن قيس إلى عليّ عليه السلام]  فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا [ شنئتها: كرهتها].

كَأَ نَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ [ الصلة: العطيّة].

أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذلِكَ مُحْرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، وَلكِنَّهَا هَدِيَّةٌ.

فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ! [ هبلتك: ثكلتك. الهبول: المرأة الّتي لا يعيش لها ولد].

أَعَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟ أَمُخْتَبِطٌ أَ نْتَ أَمْ ذُو جِنَّةٍ، أَمْ تَهْجُرُ. [ امختبط:أي أمختلّ أنت؟ ذوجنّة: أي أصابه مسّ من الشيطان.تهجر:أي تهذي بماليس به معنى في غير مرض]. [ نهج البلاغة: الخطبة 224].

وقال الشارح المعتزلي: كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعاً من الحلواء تأنّق فيه، وكان عليه السلام يبغض الأشعث؛ لأنّ الأشعث كان يُبغضه، وظنّ أنّه يستميله بالمهاداة لغرض دنيويّ كان في نفس الأشعث. وكان أمير المؤمنين عليه السلام يفطن لذلك ويعلمه، ولذلك ردّ هدية الأشعث، ولولا ذلك لقبلها؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قَبل الهدية، وقد قبل عليّ عليه السلام هدايا جماعة من أصحابه. ودعاه بعضُ مَن كان يأنسُ إليه إلى حلواء عملها يوم نوروز فأكل وقال: 'لِمَ عَمِلْتَ هذا؟'، فقال: لأنّه يوم نوروز، فضحك، وقال: 'نَوْرُزوا لنا في كلّ يومٍ إن استطعتم'.

ثمّ قال ابن أبي الحديد: وكان عليه السلام من لطافة الأخلاق، وسجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة، ولكنّه كان ينفر عن قومٍ كان يعلم من حالهم الشنآن له، وعمّن يحاول أن يصانعه بذلك عن مال المسلمين، وهيهات حتّى يلين لضرس الماضغ الحجر. [ شرح ابن أبي الحديد 247:11].

وغير ذلك ممّا يظهر التزامه عليه السلام بأحكام الإسلام وحدوده، و سيأتي بعض أمثلته في فصل "عليّ عليه السلام أمام القانون" و"العدل"، و...، فلاحظها.

علي والإخلاص في العمل

قال عليّ عليه السلام: 'إلهي، ما عبدتُك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك'.

بحار الأنوار 14:41

حول مفهومي الرياء والإخلاص

الرياء: هو طلب المنزلة في قلوب الناس بخصال الخير أو ما يدلّ عليها من الآثار. والإخلاص: هو تجريد القصد عن الشوائب كلّها، كثيرها وقليلها، والمخلص من يكون عمله لمحض التقرّب إلى اللَّه من دون قصد شيء آخر أصلاً.

وأعلى مراتب الإخلاص هو الإخلاص المطلق، وإخلاص الصدّيقين، وهو إرادة محض اللَّه تعالى من العمل دون توقّع غرض في الدارين. وأدنى مراتب الإخلاص هو قصد الثواب والاستخلاص من العذاب.

وجاء في الحديث الكثير من الثناء والمدح للإخلاص وللمخلصين، ومنه:

قال عليّ عليه السلام: 'طوبى لمن أخلص للَّه العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر اللَّه بما تسمع اُذناه، ولم يحزن صدره بما اُعطي غيره'. [ جامع السعادات 313:2].

وقال أيضاً: 'إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجِّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ'. [ نهج البلاغة: الحكمة 229].

وقال أيضاً عليه السلام: 'الدنيا كلّها جهل إلا مواضع العلم، والعلم كلّه حجّة إلا ما عمل به، والعمل كلّه رياء إلا ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يختم له'. [ سفينة البحار 401:1].

نبذة ممّا برز من إخلاص عليّ في العمل

لا يمكن لهذا الوجود أن ينجب شخصاً كعليّ عليه السلام في إخلاصه للَّه جلّ وعلا بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، فعليّ عليه السلام خير نموذج وأصدق معبّر عن كلّ القيم المعنوية السامية، حتّى أنّ غير المسلمين يجعلونه في إخلاصه نقطة تأمّل ومحطّ إعجاب وتقدير.

ولقد برهن إخلاصه للَّه تعالى عمليّاً في جهاده وذوده عن حياض الإسلام وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وعبادته، وغيرها ممّا لا يحصر له، فكلّ أعماله يكلها اللَّه تعالى خالصة لا يطلب بها غير وجهه، ولا يهمّه إلا مرضاته دون أدنى ريب، وكان بذلك مناراً للأجيال تحتذي به على طول التاريخ، وفيما يلي نشير إلى نماذج من إخلاصه:

1- في "البحار" وكذا في "مستدرك الوسائل": عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: لمّا أدرك عمرو بن عبد ودّ لم يضربه، فوقعوا في عليّ عليه السلام فردّ عنه حذيفة. فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'مَه يا حذيفة، فإنّ عليّاً عليه السلام سيذكر سبب وقفته'، ثمّ إنّه ضربه، فلمّا جاء سأله النبيّ صلى الله عليه و آله عن ذلك؟ فقال: 'قد كان شتم اُمّي وتفل في وجهي فخشيتُ أن أضربه لحظّ نفسي فتركته حتّى سكن ما بي ثمّ قتلته في اللَّه'. [ البحار 50:41، ومستدرك الوسائل 220:3].

2- وفي التفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السلام، قال: 'أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً وقدغصّ مجلسه بأهله، فقال: أيّكم أنفق اليوم من ماله ابتغاء وجه اللَّه؟ فسكتوا. فقال عليّ عليه السلام: أنا خرجت ومعي دينار اُريد أشتري به دقيقاً، فرأيت المقدادَ بن الأسود وتبيّنت في وجهه أثر الجوع، فناولته الدينار. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وجبت.

ثمّ قام آخر فقال: يا رسول اللَّه، قد أنفقتُ اليوم أكثر ممّا أنفق عليّ، جهّزتُ رجلاً وامرأة يُريدان طريقاً ولا نفقة لهما، فأعطيتهما ألفي درهم، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فقالوا: يا رسول اللَّه، ما لك قلتَ لعليّ عليه السلام: وجبت، ولم تقل لهذا وهو أكثر صدقة؟! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أما رأيتم ملكاً يهدي خادمه إليه هدية خفيفة، فيُحسن موقعها عنده، ويرفع محلّ صاحبها، ويحمل إليه من عند خادم آخر هدية عظيمة فيردّها، ويستخفّ بباعثها؟ قالوا: بلى. قال: فكذلك صاحبكم عليّ عليه السلام دفع ديناراً منقاداً للَّه سادّاً خلّة فقير مؤمن، وصاحبكم الآخر أعطى ما أعطى رسول اللَّه، يريد به العلوّ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأحبط اللَّه عمله، وصيّره وبالاً عليه. أمَا لو تصدّق بهذه النيّة من الثرى إلى العرش ذهباً ولؤلؤاً لم يزدد بذلك من رحمة اللَّه إلا بُعداً، وإلى سخط اللَّه تعالى إلا قرباً، وفيه ولوجاً واقتحاماً' الحديث. [ تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: 83، والبحار 18:41].

3- وروى ابن شهر آشوب عن أبي بكر الشيرازي في كتابه، بإسناده عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: 'رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ' إلى قوله: 'بِغَيْرِ حِسَابٍ'. [ سورة النور: 37 و 38].

قال: هو واللَّه أمير المؤمنين، ثمّ قال بعد كلام له: وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أعطى عليّاً يوماً ثلاثمائة دينار اُهديت إليه، فقال عليّ عليه السلام: 'فأخذتها وقلت: واللَّه لأتصدّقنّ الليلة من هذه الدنانير صدقة يقبلها منّي، فلمّا صلّيتُ العشاء الآخرة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذت مائة دينار، وخرجت من المسجد فاستقبلتني امرأة فأعطيتُها الدنانير، فأصبح النّاس يالغد يقولون: تصدّق عليّ عليه السلام الليلة بمائة دينار على امرأة فاجرة، فاغتممتُ غمّاً شديداً. فلمّا صلّيتُ الليلة القابلة صلاة العتمة أخذتُ مائة دينار وخرجت من المسجد، وقلت: واللَّه، لأتصدّقنّ الليلة بصدقة يتقبّلها ربّي منّي، فلقيتُ رجلاً فتصدّقت عليه بالدنانير، فأصبح أهل المدينة يقولون: تصدّق عليّ عليه السلام البارحة بمائة دينار على رجلٍ سارقٍ، فاغتممتُ غمّاً شديداً وقلت: واللَّه لأتصدّقنّ الليلة صدقة يتقبّلها اللَّه منّي، فصلّيتُ العشاء الآخرة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثمّ خرجتُ من المسجد ومعي مائة دينار، فلقيتُ رجلاً فأعطيته إيّاها، فلمّا أصبحتُ قال أهل المدينة: تصدّق عليّ عليه السلام البارحة بمائة دينار على رجلٍ غنيّ، فاغتممت غمّاً شديداً.

فأتيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فخبّرته فقال لي: يا عليّ، هذا جبرئيل يقول لك: إنّ اللَّه عزّ وجلّ قد قبل صدقاتك، وزكّى عملك، إنّ المائة دينار الّتي تصدّقت بها أوّل ليلة وقعت في يدي امرأة فاسدة، فرجعتْ إلى منزلها وتابت إلى اللَّه عزّ وجلّ من الفساد، وجعلت تلك الدنانير رأس مالها، وهي في طلب بعل تتزوّج به. وإنّ الصدقة الثانية وقعت في يدي سارق، فرجع إلى منزله وتاب إلى اللَّه من سرقته، وجعل الدنانير رأس ماله يتّجر بها. وإنّ الصدقة الثالثة وقعت في يدي رجلٍ غني لم يزكّ ماله منذ سنين، فرجع إلى منزله ووبّخ نفسه وقال: شحّاً عليكِ يا نفس، هذا عليّ بن أبي طالب عليه السلام تصدّق علَيَّ بمائة دينار ولا مال له، وأنا فقد أوجب اللَّه على مالي الزكاة لأعوام كثيرة لم اُزكّه، فحَسَبَ ماله وزكّاه، وأخرج زكاةماله كذا وكذا ديناراً، فأنزل اللَّه فيك 'رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ' الآية. [ المناقب لابن شهر آشوب 74: 2، البحار 28:41].

وفي إنفاقه للَّه أيضاً نزلت آيات كما في سورة هل أتى وآية: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ' [ سورة الحشر: 9].

وغير ذلك. وقد ذكرنا في فصول مختلفة لم نكرّرها رعاية للاختصار، بل جميع أعماله عليه السلام من العبادة، والحكومة، وجهاده، وإعانة الملهوفين، و... كلّها يأتيها عليه السلام خالصة لوجه اللَّه تعالى، رزقنا اللَّه تعالى تاسياً به في الإخلاص في العمل.

علي و العبادة

قال الشارح المعتزلي: فكان عليّ عليه السلام أعبد النّاس، وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم النّاس صلاة الليل....

شرح ابن أبي الحديد 27:1

كلمة في عبادته

إنّ عليّاً عليه السلام قد بلغ في العبادة غايتها، ويشهد لذلك أنّ السهام كانت تؤخذ جسده عند الصلاة وهو غير شاعر بها [ شرح نهج البلاغة للخوئي 152:8].

لاستغراقه في مشاهدة جمال الحقّ وفنائه في اللَّه وانقطاعه بالكلّيّة عمّن سواه.

وكان عليّ بن الحسين السجّاد عليهماالسلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، ثمّ يأخذ صحف عبادات أمير المؤمنين عليه السلام وينظر ما فيها يسيراً ثمّ يتركها من يده كالمتضجّر المتأسّف على تقصير نفسه، ويقول: 'مَن يقدر على عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام؟!'. [ المصدر المتقدّم 409:2].

 

نبذة ممّا ورد في عبادته وما قيل فيها

في "تفسير نور الثقلين": عن ثقة الإسلام الكليني عن عمّار الساباطي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: 'أنّ قوله تعالى: 'أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ' [ سورة الزمر: 9].

نزلت في عليّ عليه السلام يخبر بحاله وفضله عند اللَّه تعالى'. [ تفسير نور الثقلين 478:4].

وفيه أيضاً: عن السيّد ابن طاووس عن أبي إسحاق السبيعي، عن محمّد بن عليّ عليهماالسلام بعد السؤال عن قوله تعالى: 'وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ'. [ سورة فاطر: 32].

قال: 'يا أبا إسحاق، أمّا السابق بالخيرات فعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين والشهيد منّا، والمقتصد فصائم بالنهار، وقائم بالليل، وأمّا الظالم لنفسه ففيه ما في النّاس، وهو مغفور له'. [ المصدر السابق 362:4].

و روى المجلسي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى: 'إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ'. [ سورة التين: 6].

قال: 'ذاك أمير المؤمنين عليه السلام وشيعته، فلهم أجر غير ممنون'. [ البحار 16:41].

و روى الكليني عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'كان عليّ بن الحسين عليهماالسلام إذا أخذ كتاب عليّ عليه السلام فنظر فيه قال: مَن يطيق هذا، مَن يطيق ذا؟'. قال: 'ثمّ يعمل به، وكان إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه حتّى يعرف ذلك في وجهه، وما أطاق أحد عمل عليّ عليه السلام من ولده من بعده إلا عليّ بن الحسين عليهماالسلام'. [ روضة الكافي: 143، ح 172].

و عن ابن شهر آشوب عن ابن عبّاس في قوله تعالى: 'إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ' [ سورة فاطر: 28].

قال: كان عليّ عليه السلام يخشى اللَّه ويراقبه، ويعمل بفرائضه، ويجاهد في سبيله. [ المناقب لابن شهرآشوب 28:2].

وبالجملة فعليّ عليه السلام ملأ قلبه من محبّة اللَّه تعالى وتعلّق بمرضاته، وأفرغه عن غيرها من أغراض البشر بحذافيرها، ولذا قال عليه السلام: 'إلهي ما عبدتُكَ خَوفاً من عِقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتُكَ أهلاً للعبادة فعبدتُكَ'. [ البحار 14:41].

والحقّ إنّ الجنّة مشتاقة إلى عليّ عليه السلام وزفّت له، وعليّ اشتاق إلى وجه اللَّه الكريم، ووجه اللَّه ورضاه أعلى وأجل من الجنّة ونعيمها بأجمعها، ولم يعبد اللَّه إلا عبادة خالصة لوجهه.

و عنه أيضاً عن سليمان بن المغيرة، عن اُمّه، قالت: سألت اُمّ سعيد سريّة عليّ عليه السلام عن صلاة عليّ عليه السلام في شهر رمضان؟ فقالت: رمضان وشوّال سواء يحيي الليل كلّه. [ المناقب لابن شهرآشوب 123:2، والبحار 17:41].

و عنه أيضاً عن أبي يعلى في "المسند": أنّ عليّاً عليه السلام، قال: 'ما تركت صلاة الليل منذ سمعتُ قول النبيّ صلى الله عليه و آله: صلاة الليل نور'. فقال ابن الكوّاء: ولا ليلة الهرير؟ قال عليه السلام: 'ولا ليلة الهرير'. [ المصدر المتقدّم 123:2].

و عنه أيضاً: وكان عليّ عليه السلام يصوم النهار ويصلّي الليل ألف ركعة، وعمّر طريق مكّة، وصام مع النبيّ سبع سنين وبعده ثلاثين سنة، وحجّ مع النبيّ صلى الله عليه و آله عشر حجج، وجاهد في أيّامه الكفّار، وبعد وفاته البغاة وبسط الفتاوى، وأنشأ العلوم، وأحيا السُّنّة وأمات البدع. ولبعض السادة:

مفرّق الأحزاب ضرّاب الطلى*** مكسّر الأصنام كشّاف الغمم

الزاهد العابد في محرابه*** الساجد الراكع في جنح الظلم

صام هجيراً وعلى سائله*** جاد بإفطار الصيام ثمّ تمّ

وقال العبدي:

وكم غمرة للموت في اللَّه خاضها*** ولجّة بحر في الحكوم أقامها

وكم ليلة ليلاء للَّه قامها*** وكم صيحة مسجورة الحرّ صامها

[ المناقب لابن شهرآشوب 123:2].

وقال ابن أبي الحديد: وأمّا العبادة فكان عليّ عليه السلام أعبد النّاس، وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم النّاس صلاة الليل، وملازمة الأوراد، وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يُبْسَطُ له نطعٌ بين الصفّين ليلة الهرير، فيصلّي عليه وِرْدَه والسهام تقع بين يديه، وتمرّ على صماخيهِ يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته! وما ظنّك برجلٍ كانت جبهته كثفنَةِ [ الثفنة - بكسر بعد فتح -: ما يمسّ الأرض من البعير بعد البروك ويكون فيه غلظ من ملاطمة الأرض، وكذلك كان في جبين أمير المؤمنين عليه السلام من كثرة السجود].

البعير لطول سجوده. وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفتَ على ما فيها من تعظيم اللَّه سبحانه وإجلاله، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته، والاستحذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلبٍ خرجت، وعلى أيّ لسان جرت.

وقيل لعليّ بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة -: أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال: 'عبادتي عند عبادة جدّي، كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'. [ شرح النهج لابن أبي الحديد 27:1].

حكاية حبّة العرني عن عبادة عليّ في آخر الليل

وروى العلامة المجلسي عن صاحب كتاب "زهد مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام" عن حبّة العرني، قال: بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقيّة الليل، واضعاً يده على الحائط شبيه الواله وهو يقول: 'إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لَأُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ...'. [ سورة آل عمران: 194 - 190].

قال: ثمّ جعل يقرأ هذه الآيات، ويمرّ شبه الطائر عقله، فقال لي: أراقد أنتَ يا حبّة أم رامق؟'. قال: قلت: رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل، فكيف نحن! فأرخى عينيه فبكى، ثمّ قال لي: 'يا حبّة، إنّ للَّه موقفاً، ولنا بين يديه موقفاً، لا يخفى عليه شيء من أعمالنا. يا حبّة، إنّ اللَّه أقرب إليَّ وإليك من حبل الوريد. يا حبّة، إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن اللَّه شيء '. ثمّ قال: 'أراقد أنت، يا نوف؟'. قال: لا يا أمير المؤمنين، ما أنا براقد، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة، فقال: 'يا نوف، إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من اللَّه تعالى، قرّت عيناك غداً بين يدي اللَّه عزّ وجلّ. يا نوف، إنّه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية اللَّه إلا أطفأت بحاراً من النيران. يا نوف، إنّه ليس من رجل أعظم منزلة عند اللَّه من رجل بكى من خشية اللَّه، وأحبّ في اللَّه، وأبغض في اللَّه. يا نوف، إنّه مَن أحبّ في اللَّه لم يستأثر على محبّته، ومَن أبغض في اللَّه لم ينل ببغضه خيراً، عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان'.

ثمّ وعظهما وذكّرهما، وقال في أواخره: 'فكونوا من اللَّه على حذر، فقد أنذرتكما'، ثمّ جعل يمرّ وهو يقول: 'ليت شعري في غفلاني أمعرض أنت عنّي أم ناظر إلَيَّ؟ وليت شعري في طول منامي وقلّة شكري في نعمك علَيَّ ما حالي؟'. قال: فواللَّه، ما زال في هذا الحال حتّى طلع الفجر. [ البحار 22:41، والكنى والألقاب ذيل كلمة نوف، والقطعة الأخيرة مذكورة في النهج مع اختلاف].

 

صوته الحزين في مغيلات النخل

في "المناقب لابن شهرآشوب"، وفي "البحار" عن "أمالي الصدوق": عن عروة بن الزبير، قال: كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم، ألا اُخبركم بأقلّ القوم مالاً، وأكثرهم ورعاً، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة؟ قالوا: مَن؟ قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: فواللَّه، إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرض عنه بوجهه، ثمّ انتدب [ انتدب له: أي أجابه].

له رجل من الأنصار، فقال له: يا عويمر، لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها.

فقال أبو الدرداء: يا قوم، إنّي قائل ما رأيتُ، وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا، شهدت عليّ بن أبي طالب عليه السلام بشويحطات [ شويحطات: أشجار تتّخذ منها القسيّ].

النجّار، وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه، واستتر بمغيلات [ أي الملتفّ الكثير].

النخل، فافتقدته وبَعُدَ علَيّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي، وهو يقول: 'إلهي، كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك. إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك'، فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثمّ فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبثّ والشكوى، فكان ممّا ناجى اللَّه به أن قال: 'إلهي، اُفكِّر في عفوك فتهون عَليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم علَيَّ بليّتي'.

ثمّ قال: 'آه، إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا اُذن فيه بالنداء'. ثمّ قال: 'آه، من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى'.

قال: ثمّ أنعم [ أنعم: زاد وبالغ، وفي الأمالي: 'انغمر'].

في البكاء، فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، اوقظه لصلاة الفجر. فأتيتهُ فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، مات واللَّه عليّ بن أبي طالب.

قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة عليهاالسلام: 'يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه وقصّته؟'، فأخبرتها الخبر، فقالت: 'هي - واللَّه، يا أبا الدرداء - الغشية الّتي تأخذه من خشية اللَّه'.

ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، ونظر إلَيّ وأنا أبكي، فقال: ممّا بكاؤك يا أبا الدرداء؟'. فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك. فقال: 'يا أبا الدرداء، فكيف ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ، وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي مَن لا تخفى عليه خافية'.

فقال أبو الدرداء: فواللَّه، ما رأيتُ ذلك لأحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. [ البحار 11:41، وفي المناقب لابن شهرآشوب 124:2، ملخّصاً].

علي و الخشوع في صلاته

قال ابن شهرآشوب: ونزل في عليّ عليه السلام قوله تعالى: 'قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ'.

المناقب لابن شهرآشوب 20:2

و الآيتان من سورة المؤمنون: 1 و 2

في لفظ الخشوع، والخشوع في الصلاة

الخشوع: الخضوع. [ مجمع البحرين 321:4، مادة 'خشع'].

وقال شيخ الطائفة: الخشوع والخضوع والتذلّل والإخبات نظائر، وضدّ الخضوع الاستكبار. [ تفسير التبيان 204:1].

وقيل: الفرق بين الخشوع والخضوع هو: أنّ الخشوع في البدن والبصر والصوت، والخضوع في البدن. [ المصدران السابقان].

والخشوع في الصلاة: قيل: خشية القلب والتواضع. وقيل: هو أن ينظر إلى موضع سجوده، بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يرفع بصره إلى السماء، فلمّا نزلت هذه الآية: 'الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ' [ سورة المؤمنون: 2].

طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض. [ تفسير مجمع البيان 99:7، والبحار 228:84].

وقيل: هو الإقبال بالقلب وبالجوارح، بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال صلى الله عليه و آله: 'أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه'. [ تفسير مجمع البيان 99:7، والبحار 228:84].

قال الشيخ الطبرسي: هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون بالقلب والجوارح، فأمّا بالقلب فهو أن يفزع قلبه بجمع الهمّة لها والإعراض عمّا سواها، فلا يكون في غير العبادة والمعبود، وأمّا في الجوارح فهو غضّ البصر والإقبال عليها وترك الالتفات والعبث. [ المصدر المتقدّم 99:7، والبحار 228:84].

وبالجملة ما يمكن أن يقال في الخشوع هو حالة التواضع والأدب الجسمي والروحي الّذي يعتري الإنسان عندما يواجه شخصيّة كبيرة أو حقيقة مهمّة، وتظهر آثاره على البدن، فلم يعتبر القرآن الكريم إقامة الصلاة لوحدها من علامات المؤمنين، بل إنّه يعدّ الخشوع في الصلاة من العلامات الخاصّة بالمؤمنين: 'الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ'.

تشير هذه الآية إلى أنّ صلاة المؤمنين ليست صلاة تردّد فيها الألفاظ وتؤدّي حركات لا روح فيها، فإنّ هذه الصلاة لا معنى لها، وإنّما صلاتهم صلاة تسودها حالة التوجّه إلى اللَّه، والانقطاع عمّا سواه، فيتّصلون باللَّه ويذوبون في التفكّر والحضور بين يدي اللَّه ومناجاته حتّى تستولي هذه الحالة على كلّ ذرّات كيانهم، فيرون أنفسهم ذرات أمام هذا الوجود اللامتناهي، وقطرات أمام البحر المحيط.

امّا خشوع عليّ في الصلاة

لقد كان أئمّة الإسلام من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله ومن بعده أمير المؤمنين وسائر الأئمّة عليهم السلام أمثلة صادقة ومصاديق ناطقة بالخشوع في الصلاة، فتراهم ينقطعون فيها عمّا سوى اللَّه، ويفنون في ذات اللَّه، ولمّا كان بحثنا حول خشوع عليّ عليه السلام فإنّنا نخصّص الكلام فيه.

عندما كان يقف عليّ عليه السلام في الصلاة فإنّ بدنه كان في المحراب، أمّا قلبه وروحه فإنّها عند الملك الوهّاب، فلم يدر ما يدور حوله، فالخشوع عند عليّ عليه السلام هو: أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ولا يعرف مَن على يمينه وشماله. [ مجمع البحرين 321:4، مادة 'خشع'].

وقد بلغ خشوع عليّ في الصلاة الذروة القصوى حتّى نزلت في شأنه هذه الآية. قال ابن شهرآشوب: 'قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ' نزلت في عليّ عليه السلام. [ المناقب لابن شهرآشوب 20:2].

وفي "تفسير البرهان": نزل في خشوعه في الصلاة قوله تعالى: 'وَاسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ'. [ سورة البقرة: 45].

قال: الخاشع: الذليل في صلاته، المقبل عليها، يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام. [ تفسير البرهان 94:1].

و عن ابن شهر آشوب عن ابن عبّاس و محمّد الباقر عليه السلام في قوله تعالى: 'وَاسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَ إنّها لَكَبيرةٌ الا عَلَى الْخاشِعين' الآية، والخاشع: الذليل في صلاته، المقبل عليها، يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام. [ المناقب لابن شهرآشوب 20:2].

وكان خشوعه في حدّ تكون جميع حواسّه وقواه متوجّهة شطر الحقّ حتّى إذا اُريد إخراج السهام والنصول الواقعة في بدنه وقت الحرب، تركوه إلى وقت صلاته فيخرجونها منه وهو لا يحسّ بذلك لاستغراق نفسه وتوجّهها نحو الحقّ.

وفي شرح نهج البلاغة للخوئي روى غير واحد من أنّ عليّاً عليه السلام قد أصابت رجله الشريفة نشّابة في غزوة صفّين، ولم يطق الجرّاحون إخراجها من رجله لاستحكامها فيه، فلمّا قام إلى الصلاة أخرجوها حين كونه في السجدة، فلمّا فرغ من الصلاة علم بإخراجه وحلف أنّه لم يحسّ ذلك أصلاً. [ شرح نهج البلاغة للخوئي 152:8].

 

في أخبار الباب

لا يخفى أنّ الخشوع في الصلاة أمر قلبي، ولا يطّلع أحد عادة على خشوع إنسان أو عدم خشوعه، ولذلك فإنّ كيفيّة خشوع عليّ عليه السلام في الصلاة لم يكن أمراً يدركه النّاس ليستطيعوا روايته ونقله، ولهذا قلّت الروايات الّتي تحكي خشوع عليّ عليه السلام في الصلاة، ونحن نورد هنا هذه الطائفة اليسيرة الّتي عثرنا عليها:

1- روى ابن شهر آشوب عن "تفسير القشيري"، قال: انّ عليّاً عليه السلام كان إذا حضره وقت الصلاة تلوّن وتزلزل فقيل له: ما لك؟ فيقول عليه السلام: 'جاء وقت أمانة عرضها اللَّه تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها 'وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ' [ سورة الأحزاب: 72].

في ضعفي [ كذا في المناقب، ولعلّ السياق: 'في ضعفه'].

فلا أدري أحسن إذا ما حملت أم لا'؟ [ المناقب لابن شهرآشوب 124:2].

2- و عنه أيضاً عن تفسير وكيع السدّي وعطاء: عن ابن عبّاس أنّه قال: اُهدي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ناقتان عظيمتان سمينتان، فقال للصحابة: 'هل فيكم أحد يصلّي ركعتين بقيامهما وركوعهما وسجودهما ووضوئهما وخشوعهما، لا يهتمّ فيهما من أمر الدنيا بشي ء، ولا يحدّث قلبه بفكر الدنيا، اُهدي إليه إحدى هاتين الناقتين؟'.

فقالها مرّة ومرّتين وثلاثة لم يجبه أحد من أصحابه، فقام أمير المؤنين عليه السلام فقال: 'أنا - يا رسول اللَّه - اُصلّي ركعتين اُكبّر التكبيرة الاُولى إلى أن اُسلّم منهما لا اُحدّث نفسي بشي ء من أمر الدنيا'. فقال: 'يا عليّ، صلّ، صلّى اللَّه عليك'. فكبّر أمير المؤمنين عليه السلام ودخل في الصلاة، فلمّا سلّم من الركعتين هبط جبرئيل على النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه يقرئك السلام ويقول لك: أعطه إحدى الناقتين.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّي شارطته أن يصلّي ركعتين لا يحدّث فيهما بشي ء من الدنيا أن أعطيه إحدى الناقتين، وإنّه جلس في التشهّد فتفكّر في نفسه أيّهما يأخذ'.

فقال جبرئيل: يا محمّد، إنّ اللَّه يقرئك السلام، ويقول لك: تفكّر أيّهما يأخذها أسمنهما وأعظمهما، فينحرها ويتصدّق بها لوجه اللَّه، فكان تفكّره للَّه عزّ وجلّ لا لنفسه ولا للدنيا، فبكى رسول اللَّه وأعطاه كليهما، وأنزل اللَّه فيه: 'إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى' لعظة لمن له قلب وعقل: 'أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ' يعني يستمع أمير المؤمنين عليه السلام باُذنيه إلى من تلاه بلسانه من كلام اللَّه 'وَهُوَ شَهِيدٌ' [ سورة ق: 37].

يعني وأمير المؤمنين شاهد القلب للَّه في صلاته، لا يتفكّر فيها بشي ء من أمر الدنيا. [ المناقب لابن شهرآشوب 20:2، والبحار 161:36، ح 142].

علي و الزهد في الدنيا

قال الشارح المعتزلي: وأمّا الزهد في الدنيا فعليّ عليه السلام سيّد الزهّاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرحال، وعنده تنقض الأحلاس، ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً.

شرح ابن أبي الحديد 26:1

كلمة في مفهوم الزهد و ترغيب الاسلام فيه

لا يخفى أنّ الزهد ممدوح؛ لأنّه أحد منازل الدين، وأعلى مقامات السالكين، وهو ضدّ الدنيا، والرغبة عنها، والزاهد لا يريد الدنيا بقلبه ويتركها بجوارحه، إلا بقدر ضرورة بدنه، وإنّما يعرف زهد الزاهد فيها إذا كانت في يده ويزهد فيها، وأعلى مراتب الزهد - وهي الدرجة العليا - أن يرغب عن الدنيا عدولاً إلى الآخرة، أو عن غير اللَّه تعالى، فمن رغب عن كلّ ما سوى اللَّه حتّى الفردوس ولم يحبّ إلا اللَّه تعالى فهو الزاهد المطلق.

نعم، مَن رغب عن حُظوظ الدُّنيا خوفاً من النّار أو طمعاً في نعيم الجنّة من الحور والفواكه والأنهار وسائر نِعم اللَّه في الجنّة، فهو أيضاً زاهد ولكنّه دون الأوّل، أمّا من ترك بعض حُظوظ الدنيا دون بعض، كالذي يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسّع في المعاش دون التجمّل في الزينة لا يستحقّ أن يسمّيه زاهداً، وورد في المسألة أخبار كثيرة نذكر بعضها:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'مَن أصبح وهمّه الدنيا شتّت اللَّه عليه أمره، وفرّق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يؤته من الدنيا إلا كتب له. ومَن أصبح وهمّه الآخرة جمع اللَّه له همّه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة'. [ جامع السعادات 44:2].

2- وعنه صلى الله عليه و آله أيضاً: قال لأمير المؤمنين عليه السلام: 'يا عليّ، مَن عرضت له دنياه وآخرته، فاختار الآخرة وترك الدنيا فله الجنّة، ومَن اختار الدنيا استخفافاً بآخرته فله النّار'. [ جامع السعادات 44:2].

3- وعن الصادق عليه السلام: 'جعل الخير كلّه في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا'. [ قصار الجمل 286:1].

4- وبيّن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام مراتب الزهد وأعلى درجاته حيث قال: 'إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجِّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ'. [ شرح نهج البلاغة: 1182، الحكمة 229، والبحار 14:41].

5- عن النبيّ صلى الله عليه و آله: 'ليس الزهد في الدنيا لبس الخشن، وأكل الجشب، ولكنّ الزهد في الدنيا قصر الأمل'. [ قصار الجمل 284:1].

6- وقال عليّ عليه السلام: 'الزهد تقصير الآمال، وإخلاص الأعمال'. [ الغرر والدرر 63:2، ح 1844].

7- وعن أبي الطفيل، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: 'الزهد في الدنيا قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة، والورع عن كلّ ما حرّم اللَّه عزّ وجلّ'. [ اُصول الكافي 71:5].

8- قال أبو عبداللَّه عليه السلام: 'ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال، ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند اللَّه'. [ المصدر المتقدّم: 70].

9- وعن عليّ عليه السلام: 'الزهد بين كلمتين من القرآن: 'لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ' [ سورة الحديد: 23].

ومَن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه'. [ قصار الجمل 284:1].

10- وعن الصادق عليه السلام: 'مَن اشتاق إلى الجنّة سارع إلى الخيرات، ومَن خاف من النّار لهى عن الشهوات، ومَن ترقّب الموت ترك اللذّات، ومَن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات'. [ جامع السعادات 46:2].

نظرة في زهد عليّ

اعلم أنّ زهد عليّ عليه السلام بلغ حدّاً بحيث كان يتداول على ألسن المُحبّ والمُبغض، فإنّ أكابر الصحابة في عصر خلافة عثمان وقبله قد درّت عليهم الدنيا من الفتوحات والعطاء من بيت المال، المال الكثير، فبنوا الدور، وجمعوا الأموال الكثيرة، وشيّدوا القصور وخلّفوها بعدهم.

قال المسعودي في "مروج الذهب" ما ملخّصه: في أيّام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور، منهم الزبير بن العوّام، بنى داره بالبصرة، وهي المعروفة، وداراً بمصر والكوفة والاسكندريّة، وبلغ ماله بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلّف ألف فرس وألف أمة وألف عبد وأمة. وكذلك طلحة بن عبيداللَّه التميمي: كانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار، وشيّد داره بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج. وكذلك عبدالرحمن بن عوف الزهري: ابتنى داره ووسّعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف "شاة" من الغنم، وبلغ بعد وفاته رُبعُ ثمن مالِهِ أربعةً وثمانين ألفاً. وابتنى سعد بن أبي وقّاص داره بالعقيق، فرفَع سمكها، ووسّع فضاءها، وجعل أعلاها شُرُفات.

وقد ذكر سعيد بن المسيّب أنّ زيد بن ثابت حين مات خلّف من الذهب والفضّة ما كان يكسّر بالفؤوس، غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار.

ومات يعلى بن مُنبه وخلّف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على النّاس، وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار، وهذا باب يتّسع ذكره ويكثر وصفه فيمن تملّك من الأموال في أيّام عثمان.

أمّا عثمان فقد بنى داره في المدينة، وشيّدها بالحجر والكِلْس، وجعل أبوابها من الساج والعَرْعَر، واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة [ تاريخ مروج الذهب 342:2].

وذكر عبداللَّه بن عتبة أنّ عثمان يوم قُتل كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بواد القُرى وحُنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً. [ المصدر المتقدّم: 341].

أمّا عليّ عليه السلام فلم يكن له أدنى نصيب منها في عطاء وغيره، ثمّ جاءته الخلافة وصارت بلاد الإسلام كلّها في يده عدا الشام، ومع ذلك لم يخلّف عند موته إلا ثلاثمائة درهم، لم يكن اختزنها، وإنّما أعدّها لخادمة يشتريها لأهله، فمات قبل شرائها، فأين ذهبت الأموال الّتي وصلت إلى يده، وهو لم يصرفها في مأكل ولا ملبس ولا مركوب ولا شراء عبيد ولا إماء ولا بناء دار ولا اقتناء عقار؟! لقد كان عليه السلام يقسّمها بين رعيّته بالتساوي حتّى الرغيف والخيط، ولا يفرّق بينهم في العطاء، ولا يدّخر في بيت المال شيئاً، بل كان يكنسه حين يفرغ من القسمة ويصلّي فيه ركعتين، بل مات عليّ عليه السلام ولم يضع لبنة على لبنة، ولا تنعّم بشي ءٍ من لذّات الدنيا، بل كان يلبس الخشن، ويأكل الجشب، ويعمل في أرضه فيستنبط منها العيون، ثمّ يوقفها في سبيل اللَّه، ويصرف ما يصل إلى يده من مال على الفقراء والمساكين وفي سبيل اللَّه.

و زاد المسعودي في آخر كلامه و قال: لم يلبس عليّ عليه السلام في أيّامه ثوباً جديداً، ولا اقتنى ضيعةً ولا ربعاً إلا شيئاً كان له بينبع ممّا تصدّق به وحبسه. [ المصدر المتقدّم: 341].