1- في "اُسد الغابة وغيره": عن عمّار بن ياسر رضى الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لعليّ بن أبي طالب: 'يا عليّ، إنّ اللَّه عزّ وجلّ قد زيّنك بزينة لم يتزيّن العباد بزينة أحبّ إليه منها؛ الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً، ولا تنال الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حبّ المساكين، ورضوا بك إماماً، ورضيت بهم أتباعاً، فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك، وويلٌ لمن أبغضك وكذب عليك، فأمّا الّذين أحبّوك وصدقوا فيك فهم جيرانك في دارك، ورفقاؤك في قصرك، وأمّا الّذين أبغضوك وكذّبوا عليك فحقّ على اللَّه أن يوقفهم موقف الكذّابين يوم القيامة'. [ وفي اُسد الغاية 43:4: 'عمّار بن ياسر هو من السابقين الأوّلين إلى الإسلام، واُمّه سميّة، وهي أوّل مَن استشهد في سبيل اللَّه، وهو وأبوه واُمّه من السابقين، وفي كشف الغمّة - باب المناقب 218:1، وكفاية الطالب: 191].
2- وفي "فرائد السمطين": بإسناده عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت عمّار بن ياسر يقول: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، إنّ اللَّه قد زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إلى اللَّه منها، هي زينة الأبرار عند اللَّه تعالى، وهي الزهد في الدنيا، فجعلك لا تزرأ من الدنيا شيئاً، ولا تزرأ الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حبّ المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً'. [ فرائد السمطين 136:1، ح 100، و نحوه في شرح نهج البلاغة للخوئي 408:2، وكفاية الطالب: 66].
ما قاله الأئمّة المعصومون في زهده
و روى الكليني عن زيد بن الحسن، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: 'كان عليّ عليه السلام أشبه النّاس طعمة وسيرة برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان يأكل الخبز والزيت ويطعم النّاس الخبز واللحم'. قال: 'وكان عليّ عليه السلام يستقي ويحتطب، وكانت فاطمة عليهاالسلام تطحن وتعجن وتخبز وترقع، وكانت من أحسن النّاس وجهاً، كأنّ وجنتيها وردتان'. [ روضة الكافي: 145، ح 176].
و في "الوسائل": بسند صحيح عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام، أنّه قال: 'واللَّه ان كان عليّ عليه السلام ليأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد، وإن كان ليشتري القميصين السبيلانيّين، فيخيّر غلامه خيرهما ثمّ يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، وإذا جاز كعبه حذفه، ولقد ولّى خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعاً، ولا أورث بيضاء ولا حمراء. وإن كان ليطعم النّاس خبز البرّ واللحم، وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخلّ، وما ورد عليه أمران كلاهما للَّه رضىً إلا أخذ بأشدّهما على بدنه، ولقد أعتق ألف مملوك من كدّ يده، وتربت فيه يداه، وعرق فيه وجهه، وما أطاق عمله أحد من النّاس، وإن كان ليصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وإن كان أقرب النّاس شبهاً به عليّ بن الحسين عليهماالسلام، وما أطاق عمله أحدٌ من النّاس بعده' - الحديث. [ وسائل الشيعة 66:1، ومجمع البيان 88:9].
وفي "روضة الكافي": عن الحسن الصيقل، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: 'إنّ وليّ عليّ عليه السلام لا يأكل إلا الحلال؛ لأنّ صاحبه كان كذلك، وإنّ وَليّ عثمان لا يُبالي أحلالاً أكل أم حراماً؛ لأنّ صاحبه كذلك'.
قال الراوي: ثمّ عاد الإمام عليه السلام إلى ذكر عليّ عليه السلام، فقال: 'أما والّذي ذهب بنفسه ما أكل من الدنيا حراماً قليلاً ولا كثيراً، حتّى فارقها، ولا عرض له أمران كلاهما للَّه طاعة إلا أخذ بأشدّهما على بدنه، ولا نزلت برسول اللَّه صلى الله عليه و آله شديدة قطّ إلا وجّهه فيها ثقة به، ولا أطاق أحدٌ من هذه الاُمّة عمل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعده غيره، ولقد كان يعمل عمل رجل كأنّه ينظر إلى الجنّة والنّار، ولقد أعتق ألف مملوك من صلب ماله كلّ ذلك تحفى فيه يداه ويعرق جبينه التماس وجه اللَّه عزّ وجلّ، والخلاص من النّار، وما كان قوته إلا الخلّ والزيت، وحلواه التمر إذا وجده، وملبوسه الكرابيس، فإذا فضل عن ثيابه شيء دعا بالجلم [ الجلم: مقصّ الصوف].
فجزّه'. [ روضة الكافي: 144، ح 173، وروى في الغارات "81:1" عن أبي عبداللَّه عليه السلام، نحوه].
ما قاله الاصحاب و غيره في زهده
1- عن "الغارات" عن مجمع التيمي: أنّ عليّاً عليه السلام كان يكنس بيت المال كلّ يوم جعة، ثمّ ينضحه بالماء، ثمّ يصلّي فيه ركعتين، ثمّ يقول: 'تشهدان لي يوم القيامة'. [ وسائل الشيعة 83:11، وتذكرة الخواصّ: 105].
2- وفي قول آخر: قال: 'اشهد لي يوم القيامة أنّي لم أحبس فيك المال على المسلمين'. [ وسائل الشيعة 83:11، وتذكرة الخواصّ: 105].
3- و عن عمر بن عبدالعزيز، يقول: ما علمنا أنّ أحداً من هذه الاُمّة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أزهد من عليّ بن أبي طالب، ما وضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة. [ تذكرة الخواص: 105].
4- و قال ابن أبي الحديد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام: وأمّا الزهد في الدنيا: فهو سيّد الزهّاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشن النّاس مأكلاً وملبساً.
ثمّ روى عن عبداللَّه بن أبي رافع و قال: دخلت عليه يوم عيد فقدّم جراباً مختوماً فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدّم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ قال: 'خفت هذين الولدين أن يُلتّاه بسمن أو زيت'.
مّ زاد ابن أبي الحديد في زهده عليه السلام و قال: وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارةً، وليف اُخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس [ الكرباس - بالكسر - ثوب من القطن الأبيض، معرّب].
الغليظ، فإذا وجد كُمّه طويلاً قطعه بشفرة، ولم يَخِطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه حتّى يبقى سدىً لا لحمة له. وكان يأتدم إذا ائتدم بخلٍ أو بملحٍ، فإن ترقّى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً. ويقول: 'لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان'، وكان مع ذلك أشدّ النّاس قوّة، وأعظمهم أيداً، لا ينقض الجوع قوّته، ولا يُخون [ في نسخة: 'يخور'، يعني يضعف].
الإقلال مُنته. [ مُنته: قوّته].
وهو الّذي طلّق الدنيا وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام، فكان يفرّقها ويمزّقها، ثمّ يقول:
هذا جناي وخياره فيه*** إذ كلّ جانٍ يده إلى فيه
[ شرح ابن أبي الحديد 26:1].
5- و روى العلامة الاربلي عن الخوارزمي و "تذكرة الخواصّ": عن أبي شهاب، قال: قال عمر بن عبدالعزيز: ما علمنا أحداً كان في هذه الاُمّة أزهد من عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد النبيّ صلى الله عليه و آله. [ كشف الغمّة - باب المناقب 217:1، وتذكرة الخواصّ لابن الجوزي: 105].
6- و عن ابن عساكر الشافعي بإسناده عن حسن بن صالح، قال: تذاكروا الزهّاد عند عمر بن عبدالعزيز، فقال قائلون: فلان، وقال قائلون: فلان، فقال عمر بن عبدالعزيز: أزهد النّاس في الدنيا عليّ بن أبي طالب عليه السلام. [ تاريخ دمشق لابن عساكر - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 202:2، ح 1254].
7- قال العقّاد: وصدق في تقواه وإيمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه، فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذّة دنيا أو سبب دولة، وكان وهو أمير المؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الّذي فيه دقيق الشعير، فيقول: 'لا اُحبّ أن يدخل بطني ما لا أعلم'. و قال عمر بن عبدالعزيز: 'أزهد النّاس في الدنيا عليّ بن أبي طالب عليه السلام'. و قال سفيان: إنّ عليّاً لم يبنِ آجرةً على آجرةٍ، ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، قد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثاراً للخصاص الّتي يسكنها الفقراء، وربّما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام. [ عبقرية الإمام: 29].
انظروا - أيّها الإخوة والأخوات الكرام هداكم اللَّه وإيّاي - إلى شدّة زهد عليّ عليه السلام وقناعته، فإنّه عليه السلام منع نفسه من طعام يشتهيه، ومن ثياب يحبّها، وما ذاك إلا لأنّه اقتدى بسيرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ووطّن نفسه الشريفة على الصبر على جشوبة المأكل وخشونة الملبس رجاءً لما عند اللَّه، وتأسّياً برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فصار ذلك له ملكة وطبيعة، ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ويشير إلى ذلك ما في "اُصول الكافي": عن حميد وجابر العبدي، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: 'إنّ اللَّه جعلني إماماً لخلقه، ففرض علَيَّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسى كضعفاء النّاس، كي يقتدي الفقير بفقري، ولا يُطغي الغَنّي غناه'. [ اُصول الكافي 410:1].
وقوله عليه السلام: 'ففرض علَيَّ التقدير'، إشارة إلى أنّه يضيّق على نفسه في أكله وطعامه وغير ذلك حتّى لا يكون كالمتكبّرين المترفين الّذين تخدمهم الخدَمَة في كلّ اُمورهم، بل يكون كضعفاء النّاس الّذين لا مال لهم، فيسلك مسلك الفقراء كي يتأسّوا به.
والحاصل: أنّ الفقير لمّا رأى إمامه قد رضي باليسير من المعيشة رضي بفقره، وكذا الغنيّ إذا رآه فقيراً لم يطغه غناه، وعلم أنّه لو كان في الغنى خير لكان الإمام أوْلى به.
نشير هنا إلى نبذة ممّا ظهر من زهده في أيّام خلافته على الممالك الإسلاميّة إلا الشام [ أشرنا في فصل "عليّ عليه السلام والعدل" ما يدلّ على زهده أيضاً، فلاحظ].
حتّى تكون اُسوة ومقتدىً لحكّام البلاد الإسلاميّة في عصرنا هذا:
في "الغارات": عن عبداللَّه بن الحسن عن الحسن بن عليّ عليه السلام، قال: 'أعتق عليّ عليه السلام ألف مملوك بما مجلت [ مجلت يداه: ثخن جلدها، ومنه حديث فاطمة عليهاالسلام: 'أنّها شكت إلى عليّ عليه السلام مجل يديها من الطحن'].
يداه وعرق جبينه عليه السلام. [ الغارات 91:1].
وفيه أيضاً: عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام، قال: 'أعتق عليّ عليه السلام ألف مملوك ممّا عملت يداه، وإن كان عندكم إنّما حلواه التمر واللبن، وثيابه الكرابيس، وتزوّج عليه السلام ليلى [ وهي ليلى بنت مسعود النهشليّة].
فجعل له حجلة، فهتكها، وقال عليه السلام: حسب أهل عليّ ما هم فيه'. [ الغارات 92:1].
و عن ابن أبي الحديد عن عنبسة العابد، عن عبداللَّه بن الحسين بن الحسن، قال: أعتق عليّ عليه السلام في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ألف مملوك ممّا مجلت يداه وعرق جبينه، ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال، فما كان حلواه إلا التمر، ولا ثيابه إلا الكرابيس. [ شرح ابن أبي الحديد 202:2].
اكله من لبن حازر ورغيف من شعير
روى الجويني عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه السلام القصر "قصر الإمارة بالكوفة" فوجدته جالساً "و" بين يديه صحفة فيها لبن حازر أجد ريحه من شدّة حموضته، وفي يديه رغيف أرى قشار الشعير في وجهه، وهو يكسّره بيده أحياناً، فإذا أعيى عليه كسَره بركبتيه وطرحه في اللبن، فقال: 'ادن فأصب من طعامنا هذا؟'. فقلت: إنّي صائم. فقال: 'سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: مَن منعه الصيام من طعام يشتهيه، كان حقّاً على اللَّه أن يطعمه من طعام الجنّة ويسقيه من شرابها'.
قال فقلت لجاريته - وهي قائمة |بقرب| منه -: ويحك يا فضّة، ألا تتّقين اللَّه في هذا الشيخ؟ ألا تنخلون له طعاماً ممّا أرى فيه من النخالة؟ فقالت: لقد تقدّم إلينا أن لا ننخل له طعاماً. قال: فقال لي عليّ عليه السلام: 'ما قلت لها؟'، فأخبرته. فقال: 'بأبي واُمّي، مَن لم ينخل له طعام، ولم يشبع من خبز البرّ ثلاثة أيّام حتّى قبضه اللَّه تعالى'. [ فرائد السمطين 352:1، ح 278، وروي نحوه في البحار 138:41، والغارات 80:1، والمناقب لابن شهرآشوب 98:2، وكشف الغمّة 218:1، وتذكرة الخواصّ لابن الجوزي: 107].
وفي "الغارات": بسنده عن عقبة بن علقمة، قال: دخلت على عليّ عليه السلام فإذا بين يديه لبن حامض آذتني [ في البحار: 'آذاني'].
حموضته وكسر يابسة. فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: 'يا أبا الجنوب، رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإن أنا لم آخذ بما أخذ به، خفتُ أن لا ألحق به'. [ الغارات 84:1].
عن السبط ابن الجوزي عن سويد بن غفلة، قال: دخلتُ على عليّ عليه السلام يوماً وليس في داره سوى حصير رثّ وهو جالس عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت ملك المسلمين والحاكم عليهم وعلى بيت المال، وتأتيك الوفود وليس في بيتك سوى هذا الحصير شيء ؟ فقال عليه السلام: 'يا سويد، إنّ اللبيب لا يتأثّث في دار النقلة، وأمامنا دار المقامة قد نَقلنا إليها متاعنا، ونحن منقلِبون إليها عن قريب'. قال: فأبكاني واللَّه كلامه. [ تذكرة الخواصّ: 110].
حكاية الأحنف عند معاوية عن إفطاره
روى السبط ابن الجوزي، عن وكيع، عن الأحنف بن قيس، قال: دخلتُ على معاوية فقدّم إليَّ من الحلو والحامض ما كثر تعجّبي منه، ثمّ قال: قدّموا ذاك اللون، فقدّموا لوناً ما أدري ما هو. فقلت: ما هذا؟ فقال: مصارين البطّ محشوة بالمخّ ودهن الفستق قد ذرّ عليه السكّر. قال: فبكتُ، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: للَّه درّ ابن أبي طالب، لقد جاد من نفسه بما لم تسمح به أنت ولا غيرك. فقال معاوية: وكيف؟ قلت: دخلت عليه ليلة عند إفطاره، فقال لي: 'قم فتعشّ مع الحسن والحسين'، ثمّ قام إلى الصلاة، فلمّا فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه، فأخرج منه شعيراً مطحوناً ثمّ ختمه. فقلت: يا أمير المؤمنين، لم أعهدك بخيلاً، فكيف ختمتَ على هذا الشعير؟ فقال عليه السلام: 'لم أختمه بُخلاً، ولكن خفتُ أن يبسّه [ بسّ السويق: خلطه بسمن أو زيت].
الحسن والحسين بسمن أو إهالةٍ'. [ الإهالة - بالكسر -: الشحم المذاب أو الزيت، وكلّ ما ائتدم به].
فقلت: أحرام هو؟ قال: 'لا، ولكن على أئمّة الحقّ أن يتأسّوا بأضعف رعيّتهم حالاً في الأكل واللباس، ولا يتميّزوا عليهم بشي ء لا يقدمون عليه؛ ليراهم الفقير فيرضى عن اللَّه تعالى بما هو فيه، ويراهم الغني فيزداد شكراً وتواضعاً'. [ تذكرة الخواصّ: 106، وروى في نهج السعادة مستدرك نهج البلاغة 48:2، ما ملخّصه].
و عنه أيضاً عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، قال: سمعت عبدالملك بن عمر يقول: حدّثني رجل من ثقيف، قال: استعملني عليّ عليه السلام على عكبرا، وقال لي: 'إذا كان الظهر فأتني'. قال: فأتيته فلم أجد أحداً يحجبني عنه، ووجدته جالساً وحده وبين يديه قدح من خشب وكوز من ماء، فدعا بجراب مختوم، فقلت: لقد ائتمنني حيث يخرج إلَيّ جوهراً، ولا أعلم ما قيمته، فكسر الخاتم فإذا فيه سويق، فأخرج منه وصبّ في القدح ماء وذرّه عليه، ثمّ شرب وسقاني، فلم أصبر، وقلت: يا أمير المؤمنين، قد وسّع اللَّه عليك، والطعام بالعراق كثير، فقال: 'واللَّه، ما ختمت عليه بخلاً، وإنّما ابتاع قدر كفايتي، وأخاف أن يفنى فيوضع فيه من غيره، وإنّما أفعل هذا لئلا يدخل بطني غير طيّب'. [ تذكرة الخواصّ: 107، وكشف الغمّة - باب المناقب 233:1، نحوه].
روى المحدّث القمّي عن "مصباح الأنوار"، قال: بلغنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اشتهى كبداً مشويّة على خبزة ليّنة، فأقام حولاً يشتهيها، ثمّ ذكر ذلك للحسن عليه السلام وهو صائم يومٌ من الأيّام فصنعها له، فلمّا أراد أن يفطر قرّبها إليه فوقف سائل بالباب، فقال: يا بُنيَّ، احملها إليه، لا نقرأ في صحيفتنا غداً: 'أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا' [ سورة الأحقاف: 20].
بها'. [ سفينة البحار 458:2، مادة 'كبد'].
في "اُسد الغابة": عن محمّد بن كعب القرظي، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: 'لقد رأيتني وإنّي لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإنّ صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار'. [ اُسد الغابة في معرفة الصحابة 23:4].
وفي "الغارات": عن عديّ بن ثابت، قال: اُتي عليّ عليه السلام بفالوذج فأبى أن يأكله. [ الغارات 88:1].
وزاد في "كشف الغمّة" في ذيل الحديث: وقال عليّ عليه السلام: 'شي ء لم يأكل منه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا اُحبّ أن آكل منه'. [ كشف الغمّة - باب المناقب 219:1].
و عن السبط ابن الجوزي عن ابن عبّاس قال: أقام أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة مدّة خمس سنين لم يأكل من طعامهم، وما كان يأكل إلا من شيء يأتيه من المدينة، قال: وقدم إليه فالوذة، فلم يأكله، فقلت: أحرام هو؟ قال: 'لا ولكنّي أكره أن اُعوّد نفسي ما لم تعتدّ، وما أكل منه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'، ثمّ أنشد:
'جسمك بالحميّة أقنيته*** من ضرر البارد والحارّ'
ويروى:
جسمك بالحميّة أنضيته*** مخافة البارد والحارّ
قد كان أولى أن تحتمي*** من المعاصي حذر النّار
[ تذكرة الخواصّ: 110].
وأنشأ الحميري:
وكان طعامه خبزاً وزيتاً*** ويؤثر باللحوم الطارقينا
[ المناقب لابن شهرآشوب 99:2].
في "نهج البلاغة وغيره": عن عبداللَّه بن عبّاس، قال: دخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار [ ذي قار: موضع قريب من البصرة، وهي اليوم أحد محافظات العراق الجنوبيّة، وتُعرف بالناصريّة].
وهو يخصف [ يخصف نعله: أى يخرّزها].
نعله، فقال لي: 'ما قيمة هذا النعل؟'. فقلت: لا قيمة لها. فقال عليه السلام: 'واللَّه، لهي أحبّ إلَيَّ من إمرتكم، إلا أن اُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً'. [ نهج البلاغة: الخطبة 33، ونحوه في تذكرة الخواصّ: 110].
وفى الغارات: عن أبي الأشعث العنزي، عن أبيه، قال: رأيت عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقد اغتسل في الفرات يوم الجمعة، ثمّ ابتاع قميص كرابيس بثلاثة دراهم، فصلّى بالنّاس فيه الجمعة وما خيط جربانه [ الجربان - بالكسر والضمّ - جيب القميص]
بعدُ [ الغارات 97:1].و روى ابن شهر آشوب عن فضائل أحمد بن حنبل، بسنده عن أبي مسعدة والباقر عليه السلام، قال: إنّه - أمير المؤمنين عليه السلام - أتى البزّازين فقال لرجل: 'بعني ثوبين'. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، عندي حاجتك، فلمّا عرفه مضى عنه، فوقف على غلام فأخذ ثوبين: أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين، فقال: 'يا قنبر، خذ الّذي بثلاثة'. فقال: أنت أوْلى به، تصعد المنبر وتخطب النّاس. قال عليه السلام: 'أنت شابّ ولك شره الشباب، وأنا أستحيي من ربّي أن أتفضّل عليك، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون وأطعموهم ممّا تأكلون'. فلمّا لبس القميص مدَّ كمَّ القميص فأمر بقطعه، واتّخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلمّ اكفّه، قال: دعه كما هو، فإنّ الأمر [ قوله: 'فإنّ الأمر أسرع'، يعني به أمر اللَّه تعالى والأجل].
أسرع من ذلك'. فجاء أبو الغلام، فقال: إنّ ابني لم يعرفك، وهذان درهان ربحهما. فقال عليه السلام: 'ما كنت لأفعل، ماكست وماكسني، واتّفقنا على رضىً'. [ المناقب لابن شهرآشوب 97:2].
علي يأمر عمّاله وأصحابه بالزهد
إنّ عليّاً عليه السلام لم يكتف بكونه زاهداً في نفسه، بل كان يأمر عمّاله بالزهد وترك الدنيا وزينتها، ويريد من عمّاله في الأمصار أن يكونوا مثله أو متشبّهين به على الأقلّ، ويتابع أوضاعهم وسيرتهم، فيبلغه عن عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري أنّه دعي إلى مأدبة فذهب إليها، فيكتب إليه: 'بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَ نَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ'. [ شرح نهج البلاغة: 956، الكتاب 45].
ومعنى هذا الكلام أنّه كان على ابن حنيف أن لا يجيب دعوة أحد من وجوه البصرة، فإنّ من يدعو الوالي إلى مأدبته لا يدعو معه إلا الأغنياء، ولا يدعو أحداً من الفقراء، وكيف يفعلون ذلك وثياب الفقراء بالية، وهيئاتهم رثّة ينفرون منها ومن رؤيتها، وإذا أرادوا أن يعطفوا على فقير منهم أرسلوا إليه شيئاً من الزاد، أو المال إلى بيته، ولم تسمح لهم أنفسهم أن يجالسوهم على مائدتهم.
ثمّ يريد من ابن حنيف أن يقتدي به في زهده، فيقول له: 'أَ لَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ؛ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ'. [ شرح نهج البلاغة: 956، الكتاب 45].
ثمّ يرى أنّ ذلك غير ممكن فيقول له: 'أَ لَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ'. [ شرح نهج البلاغة: 956، الكتاب 45].
ثمّ يحلف باللَّه مؤكّداً فيقول: 'فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً'. [ شرح نهج البلاغة: 956، الكتاب 45].
ثمّ يسوقه الألم والحزن من أمر فدك إلى ذكرها هنا، فيذكر أنّه مع كونه قادراً على التنعّم بملاذالدنيا فهو يتركها زهداً فيها، مواساةً للفقراء، فيقول: 'وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ. وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ - وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ الَْيمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْص ِ، وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ'. [ شرح نهج البلاغة: 956، الكتاب 45].
وروى السيّد الرضي رحمه الله في "نهج البلاغة"، قال: ومن كلام له عليه السلام بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي - وهو من أصحابه - يعوده، فلمّا رأى سعة داره، قال: 'مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وَأَ نْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ؛ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإذَن أَ نْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ'. [ نهج البلاغة: 653، الخطبة 200].
قد يظنّ بعض العوامّ ممّن لا يعرف حقيقة الزهد في الإسلام أنّ الزهد ترك الدنيا بالمرّة، واختيار العزلة والانزواء دائماً، لكن ليس هذا العمل ممدوحاً فى الإسلام بل مذمومٌ ومرغوبٌ عنه، وقد يميل إلى هذا المفهوم بعض زهّاد النصارى وهو أمر لا يقرّه الإسلام، بل الزهد في درجة عالية من تهذيب النفس وقصر الأمل، قال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'ليس الزهد في الدنيا لبس الخشن، وأكل الجشب، ولكنّ الزهد في الدنيا قصر الأمل'. [ قصار الجمل: 284].
وقال جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام: 'الزاهد في الدنيا الّذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه'. [ قصار الجمل 285:1، وجامع السعادات 52:2].
وإلى هذا المعنى يرجع مفهوم الزهد عند أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يقول: 'الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن. قال اللَّه سبحانه: 'لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ'. [ سورة الحديد: 23].
فمن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه'. [ قصار الجمل 284:1، وجامع السعادات 52:2، وقد مرّ في مفهوم الزهد وترغيب الإسلام فيه في أوّل الفصل روايات تناسب هذا المعنى، فلاحظها].
لو رأى أمير المؤمنين عليه السلام بعض أصحابه يترك الدنيا والملأ ويلبس العباء يذمّه ويرشده إلى حقيقة الحال، كما نرى ذلك في عاصم بن زياد وأخوه ونشير إلى قصّتهما فيما يلي.
روى الكليني عن أحمد بن محمّد، بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على عاصم بن زياد حين لبس العباء وترك الملأ، وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قد غمّ أهله وأحزن ولده بذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'عَلَيَّ بعاصم بن زياد'، فجيئ به، فلمّا رآه عبس في وجهه فقال له: 'أما استحييت من أهلك؟ أما رحمتَ ولدك؟ أترى اللَّه أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت أهون على اللَّه من ذلك، أوَليس اللَّه يقول: 'وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ'؟ [ سورة الرحمن: 10 و 11].
أوَليس اللَّه يقول: 'مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ' إلى قوله تعالى: 'يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ' [ سورة الرحمن: 22 - 19].
فباللَّهِ لابتذال نِعم اللَّه بالفعال أحبّ إليه من ابتذاله لها بالمقال، وقد قال اللَّه تعالى: 'وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ'. [ سورة الضحى: 11].
فقال عاصم: يا أمير المؤمنين، فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة [ طعام جشب: غليظ].
وفي مَلبسك على الخشونة؟ فقال: 'ويحك، انّ اللَّه عزّ وجلّ فرضَ على أئمّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أنفُسَهُم بِضَعَفةِ النّاس كَيلا يَتَبَيَّغَ [ تبيّغ به: هاج به].
بالفَقيرِ فَقْرُهُ'.
فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس المُلاء. [ اُصول الكافي 410:1، ونحوه السيّد الرضي في نهج البلاغة الخطبة: 209، وابن الجوزي في التذكرة: 106].
وقال ابن أبي الحديد في الشرح: اعلم إنّ الّذي رويته عن الشيوخ، ورأيته بخطّ عبداللَّه بن أحمد الخشّاب أنّ الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه، فكانت تنتقض عليه في كلّ عام فأتاه عليّ عليه السلام عائداً، فقال: 'كيف تجدك أبا عبدالرحمن؟'.
قال: أجدني - يا أمير المؤمنين - لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب بصري لتمنّيت ذهابه.
قال: 'وما قيمة بصرك عندك؟'.
قال: لو كانت لي الدنيا لفديته بها.
قال: 'لا جرم: ليعطينّك اللَّه على قدر ذلك، إنّ اللَّه تعالى يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده تضعيف كثير'.
قال الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي؟
قال: 'ماله؟'.
قال: لبس العباء [ العباء: الكساء من الصوف، وهو لباس خشن].
وترك المُلاء [ المُلاء - بالضمّ -: الثوب الليّن الرقيق].
وغمّ أهله وجَزَن ولده.
فقال عليّ عليه السلام: 'ادعوا لي عاصماً'، فلمّا أتاه عبّس وجهه عليه السلام، وقال: 'ويحك - يا عاصم - أترى اللَّه أباح لك اللذّات وهو يكره ما أخذت منها؟! لأنت أهون على اللَّه من ذلك، أو ما سمعته يقول: 'مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ' [ سورة الرحمن: 19].
ثمّ يقول: 'يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ'. [ سورة الرحمن: 22].
وقال: 'وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلَيَةً تَلْبَسُونَهَا' [ سورة فاطر: 12].
أما واللَّه إنّ ابتذال نعم اللَّه بالفعال أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال؟ وقد سمعتم اللَّه يقول: 'وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ' [ سورة الضحى: 11].
وقوله: 'قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ'. [ سورة الأعراف: 32].
إنّ اللَّه خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين، فقال: 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ'. [ سورة البقرة: 172].
وقال: 'يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً'. [ سورة المؤمنون: 51].
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لبعض نسائه: ما لي أراكِ شعثاء، مَرهاء سلتاء؟!. [ قوله: 'شعثاء' الّتي اغبرّ رأسها، وتلبّد شعرها، وانتشر لقلّة تعهّده بالدهن. المرهاء: الّتي لا تكتحل. السلتاء: الّتي لا تختضب].
قال عاصم: فلو اقتصرت - يا أمير المؤمنين - على لبس الخشن وأكل الجشب؟
قال: 'إنّ اللَّه تعالى افترض على أئمّة العدل أن يُقدّروا لأنفسهم بالقوام، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره'. [ قوله: 'أن يُقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس'، أي يُشبّهوا ويُمثّلوا.
ومعنى قوله: 'يجب على الإمام العادل أن يُشبّه نفسه ولباسه وطعامه بضعفة النّاس كيلا يهلك الفقراء من النّاس'، فإنّهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة وذلك المطعم كان أدعى لهم إلى سلوان لذّات الدنيا، وأبصر عن شهواتها].
فما قام عليّ عليه السلام حتّى نزع عاصم العباء ولبس مُلاءة. [ شرح ابن أبي الحديد 35:11،قد مرّ في ص 91 عن الكليني، نحوه].
قال عليّ عليه السلام: 'فَصَبَرتُ وُفي العَيْنِ قَذىً. وَفي الحَلْقِ شَجاً، أَرى تُرَاثي نَهْباً'.
نهج البلاغة: الخطبة 3، المعروفة بالشقشقيّة
الصبر: ضدّ الجزع. وهو ثبات النفس وعدم اضطرابها في الشدائد والمصائب، بأن تقاوم معها بحيث لا تخرجها عن سعة الصدر وما كانت عليه قبل ذلك من السرور والطمأنينة، فيحبس لسانه عن الشكوى وأعضاءه عن الحركات غير المتعارفة، وهذا هو الصبر على المكروه وضدّ الجزع. [ راجع جامع السعادات 225:3].
في "مستدرك السفينة" عن "المجمع": الصبر هو حبس النفس عن إظهار الجزع، وعن بعض الأعلام: الصبر حبس النفس على المكروه امتثالاً لأمر اللَّه، ويؤيّده قوله تعالى: 'وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ' [ سورة المدّثّر: 7].
وهو من أفضل الأعمال حتّى قال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'الإيمان شطران: شطر صبر، وشطر شكر'. [ مستدرك السفينة 144:6].
وقال المحقّق الطوسي: الصبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه، وهو يمنع الباطن عن الاضطراب، واللسان عن الشكاية، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة. [ المصدر المتقدّم: 146، والبحار 68:70].
وقد وردت في القرآن الكريم في نيّف وسبعين موضعاً آيات في فضيلة الصبر، والأخبار المادحة له أكثر من أن تحصى، وأعرضنا عن ذكرها للاختصار، فمن أرادها فليطلبها في مظانّها. [ انظر: كتاب "مسكن الفؤاد" للشهيد - باب الصبر وما يلحق به: 45].
الصبر على المكروه ومشاقّ العبادات وعلى ترك الشهوات إن كان بيسر وسهولة فهو الصبر حقيقة، وإن كان بتكلّف وتعب فهو التصبّر مجازاً، وإذا أدام التقوى وقوى التصديق بما في العاقبة من الحسنى تيسّر الصبر ولم يكن له تعب ومشقّة، كما قال تعالى: 'فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى'. [ سورة الليل: 7 - 5].
ومتى تيسّر الصبر وصار ملكة راسخة أورث مقام الرضى، وإذا أدام مقام الرضى أورث مقام المحبّة، ولذا قال بعض العارفين: أهل الصبر على ثلاث مقامات: الأوّل: ترك الشكوى، وهذه درجة التائبين. الثاني: الرضى بالمقدّر وهذه درجة الزاهدين. الثالث: المحبّة لما يصنع به مولاه، وهذه درجة الصدّيقين. [ جامع السعادات 227:3].
ولا يخفى أنّ هذه الدرجة لا يبلغها إلا من كان عارفاً باللَّه وبأسرار حكمته وقضائه وقدره، بأن يعلم أنّ كلّ أمر صدر من اللَّه وابتلى به عباده من ضيق أو سعة، وكلّ أمر مرغوب أو مرهوب على وفق الحكمة والمصلحة بالذات، فإذا صار بهذه المرتبة استعدّت نفسه للصبر ومقاومة الهوى في الغمّ والحزن، وطابت بقضائه وقدره، وتوّسع صدره بمواقع حكمه، وأيقن بأنّ قضاءه لم يجر إلا بالخيرة.
وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: 'اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، وحسن اليقين'، وإن بلغ بهذه الدرجة يتلذّذ بكلّ ما يرد عليه، ومثله يتمتّع بثروة لا تنفد، ويتأيّد بعزّ لا يفقد، فيسرح في ملك الأبد، ويعرج إلى قضاء السرمد. [ السرمد: ما لا بداية له ولا نهاية له، والحديث من جامع السعادات 241:3].
وهذه الدرجة من الصبر كانت لعليّ بن أبي طالب عليه السلام على مدى عمره الشريف، فقد صبر في جميع النوائب والمصائب، وكان صابراً بوجه أعداء اللَّه، وأمام المشاكل الاقتصاديّة وجميع الحوادث، لقد كان جليس داره 25 سنة واغتصب حقّه المسلّم به، لكنّه صبر ولم يشتك ولو لمرّة واحدة، ولم يكن يعترض أو يتمنّى على اللَّه في كلّ ما جرى عليه، لقد كان مثال الصبر ومظهر صفة الصابرين و'إِنَّمَا يُوَفَّي الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ'. [ سورة الزُّمر: 10].
1- في "المناقب": عن سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبداللَّه بن مسعود، في قوله تعالى: 'إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا' [ سورة المؤمنون: 111].
يعني صبر عليّ بن أبي طالب عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في الدنيا على الطاعات، وعلى الجوع، وعلى الفقر، وصبروا على البلاء للَّه في الدنيا، إنّهم هم الفائزون. [ المناقب لابن شهرآشوب 120:2].
2- و فيه أيضاً: قال عليّ بن عبداللَّه بن عبّاس: قوله تعالى: 'وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ' [ سورة البلد: 17. سورة العصر: 3].
عليّ بن أبي طالب. [ المناقب لابن شهرآشوب 120:2، البحار 3:41].
3- و فيه أيضاً: و من صبره عليه السلام ما قال اللَّه تعالى فيه: 'الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ' [ سورة آل عمران: 17].
والدليل على أنّها نزلت فيه: أنّه قام الإجماع على صبره مع النبيّ في شدائد من صغره إلى كبره وبعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله، وقد ذكر اللَّه تعالى صفة الصابرين في قوله: 'وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوْا' [ سورة البقرة: 177].
وهذا صفته بلا شكّ. [ المناقب لابن شهرآشوب 119:2، والبحار 3:41].
تاكيد رسول اللَّه على عليّ بالصبر
في المناقب عن "مسند أبي يعلى" و "اعتقاد الأشنهي" و "مجموع أبي العلاء الهمداني": عن أنس وأبي رفع، وفي "إبانة ابن بطة" من ثلاثة طرق: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خرج يمشي إلى قبا، فمرّ بحديقة، فقال عليّ عليه السلام: 'ما أحسن هذه الحديقة؟'، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'حديقتك - يا علي - في الجنّة أحسن منها'، حتّى مرّ بسبع حدائق على ذلك، ثمّ أهوى إليه فاعتنقه فبكى صلى الله عليه و آله وبكى عليّ عليه السلام، ثمّ قال عليّ: 'ما الّذي أبكاك يا رسول اللَّه؟'. قال: 'أبكي لضغائن في صدور قوم لن تبدو لك إلا من بعدي'. قال: 'يا رسول اللَّه، كيف أصنع؟'. قال صلى الله عليه و آله: 'تصبر، فإن لم تصبر تلق جهداً وشدّةً'. قال: 'يا رسول اللَّه، أتخاف فيها هلاك ديني؟'. قال: 'بل فيها حياة دينك'. [ المناقب لابن شهرآشوب 121:2].
قال الحميري:
قد كان في يوم الحدائق عبرة*** وقول رسول اللَّه والعين تدمع
فقال عليّ: ممّ تبكي؟ فقال: من*** ضغائن قوم شرّهم أتوقّع
عليك، وقد يبدونها بعد منيّتي*** فماذا هديت اللَّه في ذاك يصنع
[ المناقب لابن شهرآشوب 121:2].
1- روى ابن شهر آشوب عن "تفسير المجمع" و "تفسير عليّ بن إبراهيم" أنّه أصاب عليّاً عليه السلام يوم اُحد ستّون جراحة. [ المصدر المتقدّم: 119].
2- و عنه أيضاً عن "تفسير القشيري": قال أنس بن مالك: أنّه اُتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعليّ عليه السلام وعليه نيّف وستّون جراحة. [ المصدر المتقدّم: 119].
3- و عنه أيضاً عن ابان: أمر النبيّ صلى الله عليه و آله اُمّ سليم واُمّ عطية أن تداويا فقالتا: قد خفنا عليه، فدخل النبيّ صلى الله عليه و آله والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة، وجعل النبيّ صلى الله عليه و آله يمسحه بيده وهو يقول: 'إنّ رجلاً لقي هذا في اللَّه لقد أبلى وأعذر'، فكان يلتئم.
فقال عليّ عليه السلام: 'الحمد للَّه الّذي لم أفرّ، ولم اُولِّ الدبر'، فشكر اللَّه تعالى له ذلك في موضعين من القرآن، وهو قوله تعالى: 'وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ' [ سورة آل عمران: 145].
'وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ'. [ مناقب ابن شهرآشوب 119:2، وفي البحار 3:41، والآية 144 من سورة آل عمران].
و صبر عليّ عليه السلام على هذه الجراحات، ولم يشتك عند أحد لتيقّنه أنّها خير له، وهذا أعلى مراتب الصبر.
روى القندوزي الحنفي عن عليّ عليه السلام مرفوعاً: 'يا عليّ، كيف أنت إذا زهد النّاس في الآخرة، ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلاً لمّاً، وأحبّوا المال حبّاً جمّاً، واتّخذوا دين اللَّه دغلاً، ومال اللَّه دولاً؟'. قال: 'قلت: يا رسول اللَّه، أتركهم وأترك ما فعلوه، وإنّي اختار اللَّه ورسوله والدار الآخرة، واصبر على مصائب الدنيا وهواها حتّى ألحق بك بمشيّة اللَّه'. قال: 'صدقت يا عليّ، اللّهمّ افعل ذلك به'. [ ينابيع المودّة: 217].
فى الاحقاق عن "ذخائر العقبى" لمحبّ الدين الطبري و "أرجح المطالب" لعبيداللَّه الحنفي الأمرتسري، بالاسناد عن أسماء بنت عميس، عن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتاها يوماً فقال: 'أين ابناي' - يعني الحسن والحسين -؟ قالت: 'أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق'. فقال عليّ عليه السلام: 'أذهب بهما، فإنّي أتخوّف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء '، فذهب بهما إلى فلان اليهودي، فوجّه إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فوجدهما يلعبان في مشربةٍ بين أيديهما فضل من تمر، فقال صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، ألا تقلب ابنيّ قبل أن يشتدّ الحرّ عليهما'.
فقال: فقال عليّ عليه السلام: 'أصبحنا وليس في بيتنا شيء ، فلو جلست - يا رسول اللَّه - حتّى أجمع لفاطمة تمرات'، فجلس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام ينزح لليهودي كلّ دلو بتمرة حتّى اجتمع له شيء من تمر، فجعله في حجزته، ثمّ أقبل فحمل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أحدهما وحمل عليّ عليه السلام الآخر. [ الإحقاق 616:8].
و روى العلامة محبّ الدين الطبري، عن سهل بن سعد: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام دخل على فاطمة وحسن وحسين يبكيان، فقال: 'ما يبكيكما؟'. قالت: 'الجوع'، فخرج عليّ عليه السلام فوجد ديناراً في السوق فجاء إلى فاطمة فأخبرها، فقالت: 'اذهب إلى فلان اليهودي، فخذ لنا به دقيقاً'، فجاء إلى اليهودي فاشترى به دقيقاً. فقال اليهودي: أنت ختن [ الختن: الصهر].
هذا الّذي يزعم أنّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قال: 'نعم'، قال: 'فخذ دينارك وخذ الدقيق'.
فخرج عليّ عليه السلام حتّى جاء فاطمة فأخبرها، فقالت: 'اذهب إلى فلان الجزّار، فخذ لنا بدرهم لحماً'، فذهب فرهن الدينار بدرهم في لحم فجاء به، فعجنت وخبزت وطبخت، وأرسلت إلى أبيها صلى الله عليه و آله فجاءهم وقالت: 'يا رسول اللَّه، أذكر لك فإن رأيته حلالاً أكلنا وأكلت: من شأنه كذا وكذا'.
فقال صلى الله عليه و آله: 'كلوا باسم اللَّه'، فأكلوا، فبينما هم بمكانهم وإذا بغلام ينشد اللَّه والإسلام الدينار، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً: 'يا عليّ، اذهب إلى الجزّار فقل له: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لك: أرسل إليَّ بالدينار ودرهمك علَيَّ'، فأرسل به فدفعه إليه. [ ذخائر العقبى: 105].
احتجاجه يوم الشورى بالصبر على ضياع حقّه
في "فرائد السمطين": بسنده عن الحارث بن محمّد، عن أبي الطفيل عامر بن واثله، قال: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليّاً عليه السلام يقول: 'بايع النّاس أبا بكر، وأنا واللَّه أوْلى بالأمر منه، وأحقّ به منه، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف. ثمّ بايع النّاس عمر، وأنا واللَّه أوْلى بالأمر منه، وأحقّ به منه، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف.
ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان؟! إذن لا أسمع ولا أطيع، وانّ عمر جعلني من خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلاً عليهم في الصلاح ولا يعرفونه لي، كلّنا فيه شرع سواء، وأيم اللَّه، لو أشاء أن أتكلّم ثمّ لا يستطيع عربيّهم ولا عجميّهم ولا معاهد منهم، ولا المشرك ردّ خصلة منها، لفعلت'.
ثمّ قال: 'اُنشدكم اللَّه - أيّها الخمسة - أفيكم أحد هو أخو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غيري؟' قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد له عمّ مثل عمّي حمزة بن عبدالمطّلب، أسد اللَّه وأسد رسوله غيري؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد له ابن عمّ مثل ابن عمّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد له أخ مثل أخي جعفر المزيّن بالجناحين يطير مع الملائكة في الجنّة؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سيّدة نساء هذه الاُمّة؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد له سبطان مثل الحسن والحسين سبطا هذه الاُمّة ابنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غيري؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد قتل مشركي قريش قبلي؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد وحّد اللَّه قبلي؟. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد غسّل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبلي؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد سكن المسجد يمرّ فيه جنباً غيري؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد ردّت عليه الشمس بعد غروبها حتّى صلّى العصر غيري؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين قرب إليه الطير فأعجبه: اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير، فجئت أنا لا أعلم ما كان من قوله، فدخلت عليه قال: وإلَي يا ربّ، وإلَيَّ يا ربّ، غيري؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد كان أقتل للمشركين عند كلّ شديدة تنزل برسول اللَّه صلى الله عليه و آله منّي؟'. قالوا: لا. قال: 'أمنكم أحد كان أعظم غناءً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين اضطجعت على فراشه ووفيته بنفسي وبذلت له مهجتي غيري؟'.... قال: 'أفيكم أحد يطهّره كتاب اللَّه غيري، حتّى سدّ النبيّ صلى الله عليه و آله أبواب المهاجرين جميعاً وفتح بابي إليه، حتّى قام إليه عمّاه حمزة والعبّاس، وقالا يا رسول اللَّه، سددت أبوابنا وفتحت باب عليّ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: ما أنا فتحت بابه، ولا سددتُ أبوابكم، بل اللَّه فتح بابه وسدّ أبوابكم؟'. قالوا: لا. قال: 'أفيكم أحد تمّم اللَّه نوره من السماء حتّى قال: 'فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ'؟ [ سورة الروم: 38].
قالوا: اللّهمّ لا. قال: 'أفيكم أحد ناجى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستّ عشرة مرّة غيري حين نزل: 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً'. [ سورة المجادلة: 12].
قالوا: اللّهمّ لا. قال: 'أفيكم أحد ولي غمض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غيري؟. قالوا: لا. قال: 'أفيكم أحد كان آخر عهده برسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتّى وضعه في حفرته غيري؟'. قالوا: لا. [ فرائد السمطين 319:1، ح 251].
ومع وجود هذه الفضائل والمناقب فيه عليه السلام صبر للَّه وفي اللَّه حتّى لا يتشتّت أمر المسلمين، ولم يرجع النّاس كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، وهذا الصبر من أحسن الصبر، وله أجر غير ممنون.
لم يكن عليّ عليه السلام يصبر بذاته حين روّض نفسه على الصبر، بل إنّه عليه السلام وبمقتضى الآية الكريمة: 'وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ' كان يوصي من ابُتلي بالمصائب والمشاكل بالصبر.
ففي "الكافي": عن عبداللَّه بن ميمون، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'دخل أمير المؤمنين عليه السلام المسجد، فإذا هو برجل على باب المسجد كئيب حزين، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: 'ما لك؟'. قالوا: يا أمير المؤمنين، اُصبت بأبي وأخي، وأخشى أن أكون قد وجلت. [ الوجل: استشعار الخوف، وكأنّ المعنى: أخشى أن يكون حزني بلغ حدّاً مذموماً شرعاً فعبّر عنه بالوجل، أو أخشى أن تنشقّ مرارتي من شدّة الألم أو أخشى الوجل الّذي يوجب الجنون].
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: عليك بتقوى اللَّه، والصبر تقدّم عليه غداً [ الضمير في 'عليه' راجع الى الصبر، و 'غداً' أي في القيامة، أو عند الموت. و معنى العبارة كذا: جزاء الصبر يردك عند الموت أو يوم القيامة].
والصبر في الاُمور بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد، وإذا فارق الصبر الاُمور فسدت الاُمور'. [ اُصول الكافي 90:2، والبحار 73:71].
اللّهمّ اجعلنا من الصابرين، ومن الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، اُولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة واُولئك هم المهتدون.
عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لو كان الحلم رجلاً لكان عليّاً'.
فرائد السمطين 68:2، الرقم 392
في مفهوم الحلم وبعض ما ورد في أهمّيته
الحلم: هو طمأنينة النفس بحيث لا يحرّكها الغضب بسهولة، ولا يزعجها المكروه بسرعة، فهو الضدّ الحقيقي للغضب؛ لأنّه المانع من حدوثه.
قال الراغب: الحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام.. وقوله تعالى: 'وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ' [ سورة النور: 59].
أي زمان البلوغ، وسمّي الحُلم لكون صاحبه جديراً بالحلم. [ مفردات الراغب: 129، حرف الحاء].
والحلم هو أشرف الكمالات النفسيّة بعد العلم. قال عليّ عليه السلام: 'لا شرف كالعلم، ولا عزّ كالحلم' [ نهج البلاغة: قصار الحكم، 113].
بل لا ينفع العلم بدون الحلم أصلاً، ولذا كثيراً ما يقترن العلم بالحلم في الروايات.
قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'اللّهمّ أغنني بالعلم، وزيّني بالحلم'. [ جامع السعادات 263:1].
قال عليّ عليه السلام في أوصاف المتّقين: 'يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل'. [ نهج البلاغة: الخطبة 193].
وسئل عليّ عليه السلام عن الخير ما هو؟ فقال: 'لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ، وَلكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ. وَأَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ'. [ نهج البلاغة، قصار الحكم: 94].
عن الربيع صاحب المنصور "الدوانيقي"، قال المنصور للصادق عليه السلام: حدّثني عن نفسك بحديث أتّعظ به، ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات؟ فقال الصادق عليه السلام: 'عليك بالحلم، فإنّه ركن العلم، وأملك نفسك عند أسباب القدرة، فإنّك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً وتداوى حقداً، أو يحبّ أن يذكر بالصولة، واعلم بأنّك إن عاقبت مستحقّاً لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل، ولا أعرف حالاً أفضل من حال العدل، والحال الّتي توجب الشكر أفضل من الحال الّتي توجب الصبر'.
فقال المنصور: وعظت فأحسنت، وقلت فأوجزت، الحديث. [ البحار 414:71].
الحلم من شروط قبول العبادة وكمالها
يستفاد من بعض الأحاديث أنّ شرط قبول العبادة وكمالها الحلم؛ لأنّ السفيه يبادر باُمور قبيحة من الفحش والبذاء والضرب والإيذاء، بل الجراحة والقتل، وكلّ ذلك يفسد العبادة، فإنّ اللَّه إنّما يتقبّلها من المتّقين.
ففي "الكافي": عن محمّد بن عبيداللَّه [ في نسخة: محمّد بن عبداللَّه].
قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: 'لا يكون الرجل عابداً حتّى يكون حليماً، وإنّ الرجل كان إذا تعبّد في بني إسرائيل لم يعدّ عابداً حتّى يصمت قبل ذلك عشر سنين'. [ الكافي 111:2، والبحار 400:71].
وفيه أيضاً: عن أبي حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام، سمعته يقول: 'إذا كان يوم القيامة جمع اللَّه عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثمّ ينادي منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عنق [ العنق: جماعة من النّاس والرؤساء].
من النّاس فتلقّاهم الملائكة فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنّا نَصِلُ مَن قَطَعنا، ونُعطي مَن حَرمنا، ونَعفو عَمّ ظَلَمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة'. [ اُصول الكافي 107:2، والبحار 400:71].
كثيراً ما ورد عن المعصومين عليهم السلام قولهم: 'إن لم تَكُنْ حليماً فتحلّم'، منها: قال عليّ عليه السلام: 'إن لم تكن حليماً فتحلّم، فإنّه قَلَّ مَن تَشَبَّه بقوم إلا أوشَك أن يكون منهم'. [ نهج البلاغة: 207، قصار الحكم].
وقال أبو عبداللَّه عليه السلام: 'كفى بالحلم ناصراً'، وقال: 'إذا لم تكن حليماً فتحلّم'. [ اُصول الكافي 112:2، والبحار 404:71].
بيان الحديث: 'كفى بالحلم ناصراً'؛ لأنّه بالحلم تندفع الخصومة، بل يصير الخصم محبّاً له، وهذا أحسن النصر، مع أنّ الحليم يصير محبوباً عند النّاس، فالنّاس ينصرونه على الخصوم ويعينونه في المكاره. ولذا قال عليّ عليه السلام: 'أوّل عوض الحليم من حلمه، أنّ النّاسَ أنصارُهُ عَلى الجاهل'. [ نهج البلاغة: 206، قصار الحكم].
'وإذا لم تكن حليماً فتحلّم'، أي إذا لم تكن حليماً بحسب الخلقة والطبع فتحلّم، أي أظهر الحلم تكلّفاً، وجاهد نفسك في ذلك حتّى يصير خُلقاً لك ويسهل عليك، مع أنّ تكلّفه بمشقّة أكثر ثواباً.
هذه كلمة في الحلم وأهمّيته، وننتقل بعد هذا إلى حلم أمير المؤمنين عليه السلام، وهو مثال ونموذج الحلم، وهو عليه السلام اُسوة الحليم.
كان عليّ عليه السلام أحلم النّاس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيئ، يحلم عند جهل النّاس، وهو مثال للحلم، صدق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث قال في خبر: 'لو كان الحلم رجلاً لكان عليّاً عليه السلام'. [ فرائد السمطين 68:2، ح 392].
وفي "المناقب لابن شهرآشوب": 'أنّه عليه السلام دعا غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت'، فقال عليه السلام: 'ما حملك على ترك إجابتي؟'. قال: كسلت إجابتك، وأمنت عقوبتك. فقال عليه السلام: 'الحمد للَّه الّذي جعلني ممّن تأمنه خلقه، امض فأنت حرّ لوجه اللَّه'.
وأنشد الأشجع:
ولست بخائف لأبي حسين*** ومن خاف الإله فلن يخافا
[ المناقب لابن شهرآشوب 113:2، والبحار 48:41].
قال ابن أبي الحديد في شرحه: وأمّا الحلم والصفح فكان عليّ عليه السلام أحلم النّاس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيئٍ، وقد ظهر صحّة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم - وكان أعدى النّاس له وأشدّهم بغضاً - فصفح عنه. وكان عبداللَّه بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب!! وكان عليّ عليه السلام يقول: 'ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتّى شبَّ عبداللَّه'، فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيراً فصفح عنه، وقال: 'اذهب فلا أرَينّكَ' لم يزده على ذلك. وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة، وكان له عدوّاً، فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.
وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلمّا ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبدالقيس، عَمّمهنّ بالعمائم، وقَلَّدهنّ بالسيوف، فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأفّفت وقال: هتك ستري برجاله وجنده الّذين وكّلهم بي، فلمّا وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهُنّ، وقلن لها: إنّما نحن نسوة.
ثمّ قال ابن أبي الحديد: وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: 'ألا لا يُتبع مُولٍّ، ولا يُجهَز على جريح، ولا يُقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ من أثقالهم ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم'، ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل، ولكنّه أبى إلا الصفح والعفو، وتقيّل سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة، فإنّه عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تُنس.
ثمّ قال: ولمّا ملك عسكر معاوية عليه الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم عليّ عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا [ وفي نسخة: 'يسوّغوا'].
لهم شرب الماء، فقالوا: لا واللَّه ولا قطرة حتّى تموت ظمأً كما مات ابن عفّان، فلمّا رأى عليه السلام أنّه الموت لا محالة، تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملاتٍ كثيفة حتّى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء - يا أمير المؤمنين - كما منعوك، ولا تَسقهم منه قطرة واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي، فلا حاجة لك إلى الحرب.
فقال: 'لا واللَّه، لا اُكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك'، فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام. [ شرح ابن أبي الحديد 22:1].
بعض الوقائع الّتي تدلّ على حلمه
فنذكر ذيلاً بعض الواقع المهمة الّتي تدلّ على حلمه عليه السلام مضافاً الى ما مرّ آنفاً:
قصة المرأة الّتي لجأت إلى أمير المؤمنين
روى العلامة المجلسي عن محمّد بن عليّ الباقر عليهماالسلام في خبر: 'أنّه رجع عليّ عليه السلام إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إنّ زوجي ظلمني وأخافني وتعدّى علَيَّ وحلف ليضربني، فقال عليه السلام: يا أمة اللَّه اصبري حتّى يبرد النهار، ثمّ أذهبُ معك إن شاء اللَّه؟ فقالت: يشتدّ غضبه وحرده علَيَّ. فطأطأ رأسه ثمّ رفعه وهو يقول: لا واللَّه أويؤخذ للمظلوم حقّه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه فوقف فقال: السلام عليكم. فخرج شابٌّ فقال عليّ عليه السلام: يا عبدَ اللَّه، اتّق اللَّه، فإنّك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك؟ واللَّه لأحرقنّها لكلامك. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف؟ قال: فأقبل النّاس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، أقلني عثرتي، فواللَّه، لأكوننّ لها أرضاً تطؤني، فأغمدَ عليّ عليه السلام سيفه، فقال: يا أمة اللَّه، ادخلي منزلك، ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه'. [ البحار 57:41].
روى ابن شهرآشوب، عن أبي مطر البصري قال: انّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي، فقال: 'يا جارية، ما يبكيك؟'. فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً، فأتيتهم به فلم يرضوه، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله. قال: 'يا عبدَ اللَّه، إنّها خادمة، وليس لها أمر، فاردد إليها درهمها وخذ التمر'، فقام إليه الرجل فلكزه [ لكزه: ضربه بجمع كفّه في صدره].
فقال النّاس: هذا أمير المؤمنين، فربا الرجل [ الربو: علّة تحدث في الرئة فيصير النفس صعباً].
واصفرّ، وأخذ التمر وردّ إليها درهمها. ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، ارض عنّي، فقال: 'ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك'. وفي "فضائل أحمد"، قال عليه السلام: 'إذا وفيت النّاس حقوقهم'. [ المناقب لابن شهرآشوب 112:2، والبحار 48:41].
تاخيرُ قتل عمرو بن عبد ودّ لمّا تفل في وجهه
ولمّا أدرك عمرو بن عبد ودّ لم يضربه، فوقعوا في عليّ عليه السلام، فردّ عنه حذيفة، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'مه يا حذيفة، فإنّ عليّاً عليه السلام سيذكر سبب وقفته'، ثمّ إنّه ضربه، فلمّا جاء سأله النبيّ صلى الله عليه و آله عن ذلك فقال: 'قد كان شتم اُمّي وتفل في وجهي، فخشيتُ أن أضربه لحظّ نفسي، فتركته حتّى سكن ما بى ثمّ قتلته في اللَّه'. [ مستدرك الوسائل 220:3، والبحار 51:41].
فإنّه لعنة اللَّه عليه حين شتم عليّاً عليه السلام وتفل في وجهه، لم يدفع ذلك عليّاً عليه السلام إلى أن يضرب أنفه أو اُذنيه انتقاماً لنفسه، بل تركه ثمّ قتله، وفي ذلك غاية الحلم والصفح وإتيان العمل خالصاً للَّه تعالى.
في خبر عن جابر، قال: سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يردّ عليه فناداه أمير المؤمنين عليه السلام: 'مهلاً يا قنبر، دفع شاتمك مهاناً ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوّك، فوالّذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت'. [ مستدرك سفينة البحار 68:3].
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: كان عليّ عليه السلام أسخى النّاس، كان على الخُلِقِ الّذي يحبّه اللَّه: السخاء والجود، ما قال: لا لسائل قطّ. شرح ابن أبي الحديد 21:1
البخل: هو الإمساك فيما ينبغي البذل، كما أنّ الإسراف هو البذل فيما ينبغي الإمساك، وكلاهما مذمومان، والمحمود هو الوسط، وهو الجود والسخاء؛ إذ لم يؤمر المسلم إلا بالسخاء كما خاطب القرآن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ'. [ سورة الإسراء: 29].
وقوله تعالى: 'وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً'. [ سورة الفرقان: 67].
وفي "البحار": عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'ليس السخيُّ المبذّر الّذي يُنفق مالَه في غير حقّهِ، ولكنّه يؤدّي إلى اللَّه عزّ وجلّ ما فَرضَ عَليه في ماله من الزكاة وغيرها، والبخيل: الّذي لا يؤدّي حقّ اللَّه عزّ جلّ في ماله. [ البحار 352:71].
وفي القرآن والسنّة ذمّ البخل؛ لأنّه من ثمرات حبّ الدنيا، ومن خبائث الصفات ورذائل الأخلاق. قال اللَّه تعالى: 'وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ'. [ سورة آل عمران: 180].
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'ولا يدخل الجنّة بخيل، ولا خب، ولا خائن، ولا سيئ الملكة'. [ جامع السعادات 85:2].
وقال أيضاً: 'البخيل بعيد من اللَّه، بعيد من النّاس، بعيد من الجنّة، قريب من النّار، وجاهل سخيّ أحبّ إلى اللَّه من عابد بخيل، وأدوى الداء البخل'. [ جامع السعادات 85:2].
وأمّا السخاء فهو وسط بين الإقتار والإسراف، وبين البسط والقبض، وهو ضدّ البخل، ومن ثمرة الزهد، كما أنّ البخل من ثمرة حبِّ الدنيا، فينبغي لكلّ سالكٍ لطريق الآخرة أن تكون له حالة القناعة إن لم يكن له مال، ولا ريب في أنّه من شرائف الصفات ومعالي الأخلاق، وهو من أشرف أوصاف النبيّين والمرسلين، وما ورد في مدحه أكثر أن يُحصى:
قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'السخاء شجرة من شجرة الجنّة، أغصانها متدلّية إلى الأرض، فمن أخذ منها غُصناً قادَه ذلك الغُصنُ إلى الجنّة'. [ جامع السعادات 87:2].
وقال أيضاً: 'ما جعل اللَّه أولياءه إلا على السخاء وحُسنِ الخُلق'. [ جامع السعادات 87:2].
وقال أيضاً: 'إنّ السخيّ قريبٌ من اللَّه، قريبٌ من النّاس، قريبٌ من الجنّة، بعيد عن النّار'. [ المصدر المتقدّم 87:2].
وقال أيضاً: 'طعام الجوادِ دواءٌ، وطعام البخيلِ داءٌ'. [ جامع السعادات 87:2].
وقال عليّ عليه السلام: 'سادة النّاس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء'. [ البحار 450:71، والغرر والدرر للآمدي 138:4، ح 5602].
وقال أيضاً: 'كثرة السخاء تكثر الأولياء وتستصلح الأعداء'. [ الغرر والدرر للآمدي 597:4، ح 7106].
وقال أيضاً: 'مَن لم يكن له سخاءٌ ولا حياءٌ، فالموت خيرٌ له من الحياة'. [ المصدر المتقدّم 410:5، ح 8969].
إنّ عليّاً عليه السلام نموذج الإنسانيّة العالي الّذي يُحتذى به في كلّ خلقٍ حسنٍ وسجيّة تثير الإعجاب، فهو مَظهرُ ومُظهرُ الصفات الكماليّة للحقّ تعالى ذكره.
وعليّ عليه السلام نموذج الإنسانيّة الرائع، والاُسوة الحسنة الّتي تستحقّ الاقتداء من قِبَلِ كلِّ أتباعه في مجال الجود والسخاء، سيّما اُولئك الّذين قطعوا أنفسهم عن التعلّق بزخارف الدنيا وأموالها.
فإذا لم يكن بالإمكان أن نصبح كعليّ عليه السلام في فضائله المتألّقة الكاملة، فإنّنا نستطيع التحلّي بصفات الفضيلة الّتي تحلّى بها الإمام عليه السلام أو أكّد عليها كما قال عليه السلام: 'لا تقدرون على ذلك، بل أعينوني بورعٍ واجتهاد'. [ نهج البلاغة: الكتاب 45].
لا شكّ أنّكم كثيراً ما سمعتم عن كرم حاتم الطائي وجوده الّذي أصبح مضرباً للأمثال في كلّ الأعصار، إلا أنّه بالمقارنة مع سخاء عليّ عليه السلام وجوده فهو ذرّة غير قابلة للقياس.
وإذا قلنا: إنّه لا يمكن لأيّ مخلوق بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يصل إلى مقام عليّ عليه السلام في الجود والسخاء، فإنّنا لم نكن مبالغين، ولن نعدو الصواب والحقّ.
ولم يكن قولنا جزافاً بقدر ما هو حقّ؛ لأنّ عليّاً عليه السلام كان سخيّاً في كلّ أحواله، في السعة وضيق ذات اليد، في العلن وفي الخفاء، وفي توزيع المال وبذل الطعام.
وفي مطالعاتنا للأحاديث الّتي تحكي جوده وكرمه، نجده عليه السلام في كثير من الأحيان يبذل ما في يده - وإن كان محتاجاً إليه حاجة ماسّة - للفقراء والمساكين، ولا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل إنّه يعطي أحياناً قوت عائلته الّذي لا يملكون سواه، ويطوي الليل معهم جائعاً، ولا يمكن لشخص غير عليّ عليه السلام أن يُعطي قوت عياله الوحيد إلى الفقير، وقد عمله عليه السلام انطلاقاً من نور الإمامة والولاية وعلى أساس التسديد الإلهي.
كلّ هذا يجعل الإنسان الّذي ينظر بعين الإنصاف والحقّ غارقاً بالدهشة والتعجّب، ولعلّ القرآن الكريم خير شاهد ودليل على ما نقول، فهم عليهم السلام الّذين نزل فيهم قوله تعالى: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً' [ سورة الإنسان: 8].
وقوله تعالى: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ' [ سورة الحشر: 9].
وغيرهما من الآيات الّتي سنشير إلى نماذج منها.
وأيضاً جوده عليه السلام وسخاؤه كسائر فضائله ومناقبه عليه السلام؛ إذ نلاحظ أنّ العدوّ والصديق وقف أمامها وقفة تجليل وتثمين، ولا شكّ أنّ تعظيم الأعداء قد تأتّى دون اختيارهم؛ إذ أنّ بلوغه عليه السلام الدرجات الرفيعة في الفضائل جعلهم مضطرّين لتبجيلها وتجليلها، ولأجل توضيح هذه الحقيقة للقرّاء الأعزاء نشير إلى ما أورده الشارح المعتزلي وابن عساكر الشافعي، مراعين الاختصار.
1- قال ابن أبي الحديد: وأمّا السخاء والجود، فحاله فيه ظاهرة، كان يصوم ويطوي، يؤثر بزاده، وفيه اُنزل: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً'. [ سورة الإنسان 8 و 9].
وروى المفسّرون أنّه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانية، فاُنزل فيه: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ'. [ سورة البقرة: 274].
وفي الحديث: 'أنّه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتّى مجلت [ مجلت يده: ثخن جلدها وظهر فيها ما يُشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، ومنه حديث فاطمة عليهاالسلام: إنّها شكت إلى عليّ عليه السلام مَجل يديها من الطحن. النهاية لابن الأثير 300:4]
يده، ويتصدّق بالاُجرة، ويشدّ على بطنه حجراً'.ثمّ قال ابن أبي الحديد: وقال الشعبي، وقد ذكره عليه السلام: كان أسخى النّاس، كان على الخُلق الّذي يحبّه اللَّه: السخاء والجود، ما قال: لا لسائل قطّ، وقال عدوّه ومبغضه الّذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان، لمحفن بن أبي محفن الضبّي، لمّا قال له: جئتك من عند أبخل النّاس!! فقال "معاوية": ويحك! كيف تقول: إنّه أبخل النّاس؟! لو ملك بيتاً من تبر [ التبر: ذهب غير مسكوك]
وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه.ثمّ ذكر عن الشعبي أنّه قال: وهو الّذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلّي فيها، وهو الّذي قال: 'يا صفراء ويا بيضاء [ الصفراء والبيضاء: كنايتان عن الدينار والدرهم "الذهب والفضّة"]
غُرِّي غيري'، وهو الّذي لم يخلّف ميراثاً، وكانت الدنيا كلّها بيده إلا ما كان من الشام. [ شرح ابن أبي الحديد 21:1].وهذا معاوية أعدى عدوّه اعترف بسخائه عليه السلام وجوده والفضل ما شهدت به الأعداء.
2- وقال ابن عساكر الشافعي بسنده عن عطاء بن مسلم، عن رجل، عن أبي إسحاق: جاء ابن أجور التميمي إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، جئتُك من عند ألأم الناس، وأخبل النّاس، وأعيا النّاس، وأجبن النّاس!!
فقال له معاوية: ويلك، وأنّى أتاه اللؤم؟! ولكنّا نتحدّث أن لو كان لعليّ بيتٌ من تبنٍ وآخر من تبرٍ لأنفد التبر قبل التبن.
وأنّى أتاه العيّ! وإن كنّا لنتحدّث أنّه ما جرت المواسي على رأس رجل من قريش أفصح من عليّ!
ويلك، وأنّى أتاه الجبن؟! وما برز له رجل قطّ إلا صرعه، واللَّه - يابن أجور - لولا أنّ الحرب خدعة لضربت عنقك، اُخرج فلا تقيمنّ في بلدي.
قال عطاء: وإن كان معاوية يقاتله فإنّه كان يعرف فضله. [ تاريخ دمشق لابن عساكر - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 58:3، ح 1100].