في الفرق بين سياسة عليّ وسياسة معاوية وأتباعه

قال الدكتور طه حسين المصري: إنّ الفرق بين عليّ عليه السلام ومعاوية في السيرة والسياسة كان عظيماً بعيد المدى، عرفت أنّ معاوية كان ينتظر عليّاً في ثبات وثقة واطمئنان، كان الفرق بين الرجلين عظيماً في السيرة والسياسة، فقد كان عليّ مؤمناً بالخلافة.. يرى أنّ من الحقّ عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين النّاس، لا يؤثر منهم أحداً على أحد، ويرى أنّ من الحقّ عليه أن يحفظ على المسلمين مالهم لا ينفقه إلا بحقّه، فهو لا يستبيح لنفسه أن يصل النّاس من بيت المال، بل هو لا يستبيح لنفسه أن يأخذ من بيت المال لنفسه وأهله إلا ما يقيم الأود لا يزيد عليه، فأمّا معاوية.. لا يجد في ذلك بأساً ولا جناحاً، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند عليّ عليه السلام ما يحبّون.

وما رأيك في رجل جاء أخوه عقيل مسترفداً، فقال لابنه الحسن: 'إذا خرج عطائي فسر مع عمّك إلى السوق فاشتر له ثوباً جديداً، ونعلين جديدتين'، ثمّ لم يزد ذلك شيئاً، وما رأيك في رجل آخر - يعني معاوية - يأتيه عقيل هذا نفسه بعد أن لم يرضَ صلة أخيه فيعطيه من بيت المال مائة ألف؟

وعليّ عليه السلام لا يداهن في الدين، ولم يكن يبغض شيئاً كما يبغض وضع درهم من بيت مال المسلمين في غير موضعه أو إنفاقه في غير حقّه، كما كان يبغض المكر والكيد، وكلّ ما يتّصل بسبب من أسباب الجاهليّة الاُولى. [ عليّ وبنوه للدكتور طه حسين: 59].

وقال أبو عثمان الجاحظ ما ملخّصه: وربّما رأيت بعض من يظنّ بنفسه العقل والعلم ويظنّ أنّه من الخواصّ - وهو من العوامّ - يزعم أنّ معاوية كان أبعد غوراً، وأصحّ فكراً، وأجود مسلكاً من عليّ عليه السلام!! وليس الأمر كذلك، وسأرمي إليك بجملة تعرف موضع غلطه؛ وذلك أنّ عليّاً عليه السلام كان لا يستعمل في حروبه إلا ما يوافق الكتاب والسنّة، وكان معاوية يستعمل ما يخالفهما كاستعماله ما يوافقهما، ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى رُتبيل.

وكان عليّ عليه السلام يقول لأصحابه: 'لا تبدأوهم بالقتال حتّى يبدأوكم، ولا تتبعوا مدبراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تفتحوا باباً مغلقاً'، هذه سيرته في ذي الكلاع، وفي أبي الأعور السُّلمي، وفي عمرو بن العاص، وفي حبيب بن مَسلمة، وفي جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية والأتباع، ولكنّ أصحاب الحروب إنّما يقصدون الوجه الّذي به هلاك الخصم، وينتظرون وجه الفرصة، سواء كان مخالفاً للشريعة، كالحريق والغريق ودسّ السموم والتضريب بين النّاس بالكذب وإلقاء الكتب في العسكر بالسعاية أو موافقاً للشريعة، فعليّ عليه السلام كان ملجماً بالورع عن جميع القول إلا ما هو للَّه رضا، وممنوع اليدين من كلّ بطش إلا ما هو للَّه رضا، ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه اللَّه ويحبّه، ولا يرى الرضا إلا فيما دلّ عليه الكتاب والسنّة دون أصحاب الدهاء والنكراء والمكائد، فلمّا رأت العوامّ نوادر معاوية في المكائد، وكثرة غرائبه في الخداع، وما اتّفق له، وتهيّأ على يده، ولم يروا ذلك من عليّ عليه السلام ظنّوا بِقِصَرِ عقوله، وقلّة علومهم أنّ ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند عليّ عليه السلام.

ثمّ انظر بعد ذلك كلّه، هل يعدّ لمعاوية من الخُدع إلا رفع المصاحف في صفّين، ثمّ انظر هل خدع بها إلا من عصى رأي عليّ عليه السلام وخالف أمره عن أصحابه؟!

فإن زعمت أنّه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت، وليس في هذا اختلفنا، ولا عن غرارة أصحاب عليّ عليه السلام وعجلتهم وتسرّعهم وتنازعهم دفعنا، وإنّما كان البحث في التمييز بينه وبين معاوية في الدهاء والمكر وصحّة العقل والرأي إلى آخره. [ شرح ابن أبي الحديد 228:10].

قال الشارح المعتزلي: ومن تأمّل هذا الكلام بعين الإنصاف، ولم يتّبع الهوى علم صحّة جميع ما ذكره، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام دُفع - من اختلاف أصحابه وسوء طاعتهم له ولزومه سنن الشريعة ومنهج العدل، وخروج معاوية وعمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة النّاس إليهم بالرغبة والرهبة - إلى ما يُدفع إليه غيره، فلولا أنّه عليه السلام كان عارفاً بوجوه السياسة وتدبير أمر السلطان والخلافة وحاذقاً في ذلك، لم يجتمع عليه إلا القليل من النّاس، وهم أهل الآخرة خاصّة، الّذين لا ميل لهم إلى الدنيا، فلمّا وجدناه دَبّر الأمر حين وليه، واجتمع عليه من العساكر والأتباع ما يتجاوز العدّ والحصر، وقاتل بهم أعداءه الّذين حالهم حالهم، فظفر في أكثر حروبه، ووقف الأمر بينه وبين معاوية على سواء، وكان هو الأظهر والأقرب إلى الانتصار، علمنا أنّه من معرفة تدبير الدول والسلطان بمكان مكين. [ المصدرالسابق 231:10، من أراد الاطّلاع على حيل معاوية وبعض حالاته يراجع المصدر السابق 334:1].

 

موارد ممّا طعن على سياسة عليّ والجواب عنها

قال عبّاس محمود العقّاد ما محصّله: تسري في صفحات التأريخ أحكام مرتجلة يتلقّفها فم من فم، ويتوارثها جيل عن جيل، ويتّخذها السامعون قضيّة مسلّمة، مفروغاً عن بحثها والاستدلال عليها، ومن تلك الأحكام المرتجلة قولهم: إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام رجلٌ شجاع، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة.

وقد شاع هذا الرأي في عصر عليّ عليه السلام بين أصحابه كما شاع بين أعدائه، وعزّر القول به أنّه خالف الدهاة من العرب فيما أشاروا به عليه، وأنّه لم ينجح بعد هذه المخالفة في معظم مساعيه، ولذا صار فشلاً في علمه وحكومته.

ثمّ قال: وهذه الأحكام الّتي خالفه فيها الدهاة أو خالفه فيها نقدة التاريخ الّذين نظروا إليها من الشاطئ ولم ينظروا إليها نظرة الربّان في غمرة العواصف والأمواج يمكن أن تنحصر في المسائل التالية. إلى آخر كلامه الّذي ذكر فيه عدّة اُمور، منها: عزل معاوية، وقبول التحكيم، وعزل قيس بن سعد عن ولاية مصر، تم أجاب عن جميعها. [ عبقرية الإمام عليّ عليه السلام: 119].

أقول: كلمة حقّ وقعت في محلّها؛ إذ مَن لم ينظر إلى أحكام عليّ عليه السلام نظرة الربّان في غمرة العواصف والأمواج، يرى أنّ أحكامه عليه السلام ليست عن حسن الرأي والتدبير وجودة السياسة، ولذا لا بدّ أن ينظر إليها مع الدقّة في ظروف تلك الأعصار وإمكاناتها ثمّ أظهر النظر في أحكامه عليه السلام.

وفيما يلي نذكر موارد ممّا طعن به على عليّ عليه السلام مع جوابه:

الطعن الأوّل من مطاعنهم: قالوا: إنّه قصّر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بكر، وقد كان اجتمع له من بني هاشم وبني اُميّة وغيرهم من أفناء الناس من يتمكّن بهم من المنازعة وطلب الخلافة فقصّر عن ذلك، لا جُبناً؛ لأنّه كان أشجع البشر، ولكن قصور تدبير، وضعف رأي؟!

والجواب: ما أشار عليه السلام إليه في مواضع مختلفة، فقال في خطبته بمكّة في أوّل إمارته: 'وإيمُ اللَّه! ولا مخافة الفُرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه، فَوَليَ الأمرَ ولاة لم يألوا النّاس خيراً'. [ راجع: شرح ابن أبي الحديد 307:1].

وقال عليه السلام في خطبته عند مسيره للبصرة: 'فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفكِ دمائهم، والنّاس حديثُو عهد بالإسلام، والدينُ يُمخَضُ مَخْضَ الوَطْب، يُفِسُده أدنى وَهَن، ويعكسه أقلّ خُلْف، فوليَ الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهاداً ثمّ انتقلوا إلى دار الجزاء' الحديث. [ المصدر المتقدّم 308:1].

وفي موضع ثالث: قال في جواب فاطمة عليهاالسلام حين حرّضته يوماً على النهوض والوثوب، فسمع صوت المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه'، فقال لها: 'أيسرّك زوال هذا النداء من الأرض؟'، قالت: 'لا'، قال: 'فإنّه ما أقول لك'. [ المصدر المتقدّم 113:11].

الثاني من مطاعنهم: قالوا: لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقرّ معاوية على الشام إلى أن يستقرّ الأمر له ويتوطّد ويبايعه معاوية وأهل الشام، ثمّ يعزله بعد ذلك لكان قد كفى ما جرى بينهما من الحرب.

والجواب: قال العقّاد في مقام الجواب: وعندنا أنّ الإمام عليه السلام لم يكن مستطيعاً أن يقرّ معاوية في عمله لسببين:

أوّلهما: أنّه أشار على عثمان بعزله أكثر من مرّة، وكان إقراره وإقرار أمثاله من الولاة المستغلّين أهمّ المآخذ على حكومة عثمان في رأي عليّ عليه السلام وذوي الصلاح والاستقامة بين الصحابة، وكثيراً ما اعتذر عثمان من إقرار معاوية بأنّه من ولاة عمر بن الخطّاب... فكان عليّ عليه السلام لا يقبل هذا العذر ولا يزال يقول له: إنّه كان أخوف لعمر بن الخطّاب من غلامه - يرفأ - ولكنّه بعد موت عمر لا يخاف، فإذا أقرّه وقد وَلي الخلافة، فكيف يقع هذا الإقرار عند أشياعه؟ ألا يقولون: إنّه طالب حكم لا يعنيه إذا وصل إلى بغيته ما كان يقول وما سيقوله النّاس.

وثانياً: وإذا هو أعرض عن رأيه الأوّل، فهل في وسعه أن يُعرض عن آراء الثائرين الّذين بايعوه بالخلافة لتغيّر الحال والخروج من حكم عثمان إلى حكم جديد... الخ. [ عبقرية الإمام عليّ عليه السلام: 124].

وقال ابن أبي الحديد في الجواب عن هذا الايراد: انّ قرائن الأحوال حينئذٍ قد كان علم أمير المؤمنين عليه السلام منها أنّ معاوية لا يبايع له وإن أقرّه على ولاية الشام، بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية، وآكد في الامتناع من البيعة، إلى آخره. [ شرح ابن أبي الحديد 232:10].

الثالث من مطاعنهم: قالوا: إنّه ترك طلحة والزبير حتّى خرجا إلى مكّة وأذن لهما في العمرة، وذهب عنه الرأي في ارتباطهما قبله ومنعهما من البعد عنه.

وأجاب عن ذلك الشارح المعتزلي بقوله: إنّه قد اختلفت الرواة في خروج طلحة والزبير من المدينة، هل كان بإذن عليّ عليه السلام أم لا، فمن قال: إنّهما خرجا بغير إذنه عليه السلام فسؤاله ساقط، ومَن قال: إنّهما استأذناه في العمرة، وأذن لهما، فقد روى أنّه قال: 'واللَّه! ما تريدان العمرة، وإنّما تريدان الغَدرة'، وخوّفهما باللَّه من التسرّع إلى الفتنة، وما كان يجوز له في الشرع أن يحبسهما، ولا في السياسة.

أمّا في الشرع: فلأنّه عليه السلام محظور أن يعاقب الإنسان بما لم يفعل، وعلى ما يُظنّ منه، ويجوز ألا يقع، وأمّا في السياسة، فلأنّه لو أظهر التهمة لهما، وهما من أفاضل السابقين وجلّة المهاجرين لكان في ذلك من التنفير عنه ما لا يخفى، ومن الطعن عليه ما هو معلوم بأن يقال: إنّه ليس من إمامته على ثقة، فلذلك يتّهم الرؤساء، ولا يأمن الفضلاء، ولا سيّما طلحة كان أوّل من بايعه، والزبير لم يزل مشتهراً بنصرته، فلو حبسهما وأظهر الشكّ فيهما لم يسكن أحدٌ إلى جهته ولَنَفر كلُّهم عن طاعته.

فإن قالوا: فهلا استصلحهما وولاهما، وارتبطهما بالإجابة إلى أغراضهما؟ |وكان عبداللَّه بن عبّاس على هذا الرأي، فأنكره الإمام عليه السلام|. [ المصدر المتقدّم 248:10، وبين المعقوفتين من كتاب عبقرية الإمام عليّ عليه السلام: 127].

قلنا في الجواب: أوّلاً: أنّهما إذا تملّكا رقاب النّاس يستعملان السفيه بالطمع، ويضربان لاضعيف بالبلاء، ويقويان على القويّ بالسلطان، ثمّ ينقلبان عليه أقوى ما كانا بغير ولاية، وقد استفادا من إقامة الإمام لهما في الولاية تزكية يلزمانه بها الحجّة، ويثيران بها أنصاره عليه. [ عبقرية الإمام عليّ عليه السلام: 127].

وثانياً: فحوى هذا الكلام أنّكم تطلبون من أمير المؤمنين عليه السلام أن يكون في الإمامة مغلوباً على رأيه، مفتاتاً عليه في تدبيره، فيقرّ معاوية على ولاية الشام غصباً، ويولّي طلحة والزبير مصر والعراق كَرهاً، وهذا شيء ما دخل تحته أحد ممّن قبله، ولا رضوا أن يكون لهم من الإمامة الاسم، ومن الخلافة اللفظ، ولقد حورب عثمان وحصر على أن يعزل بعض ولاته فلم يجب على ذلك، فكيف تسومون عليّاً عليه السلام أن يفتتح أمره بهذه الدنيّة ويرضى بالدخول تحت هذه الخطّة! وهذا ظاهر. [ شرح ابن أبي الحديد 248:10].

الرابع من مطاعنهم: قالوا: تولية أمير المؤمنين عليه السلام محمّد بن أبي بكر مصر، وعزله قيس بن سعد عنها، حتّى قتل بها، واستولى معاوية عليها.

والجواب: أنّه ليس بالإمكان أن يقال: إنّ محمّد بن أبي بكر لم يكن بأهلٍ لولاية مصر؛ لأنّه كان شجاعاً زاهداً فاضلاً، صحيح العقل والرأي، وكان مع ذلك من المخلصين في محبّة أمير المؤمنين عليه السلام والمجتهدين في طاعته، وممّن لا يتّهم عليه، ولا يُرتاب بنصحه، وهو ربيبهُ وخرِّيجه، ويجري مجرى أحدِ أولاده عليه السلام، لتربيته له وإشفاقه عليه.

ثمّ كان المصريّون على غاية المحبّة له، والإيثار لولايته، و لذا لمّا حاصروا عثمان وطالبوه بعزل عبداللَّه بن سعد بن أبي سرح عنهم، اقترحوا تأميرَ محمّد بن أبي بكر عليهم، فكتب له عثمان بالعهد على مصر وصار مع المصريّين حتّى تعقّبه كتاب عثمان إلى عبداللَّه بن سعد في أمره وأمر المصريّين بما هو معروف، فعادوا جميعاً، وكان من قتل عثمان ما كان، فلم يكن ظاهر الرأي ووجه التدبير إلا تولية محمّد بن أبي بكر على مصر لما ظهر من ميل المصريّين إليه وإيثارهم له...

فكان من فساد الأمر واضطرابه عليه حتّى كان ما كان، وليس ذلك بعيب على أميرالمؤمنين عليه السلام، فإنّ الاُمور إنّما يعتمدها الإمام عليه السلام على حسب ما يظنّ فيها من المصلحة، ولا يعلم الغيب إلا اللَّه تعالى. [ قوله: 'ولا يعلم الغيب الا اللَّه' صحيح ولكن علم اللَّه تعالى بالغيب بالذات، و لا ينافى أن يكون صلى الله عليه و آله و الامام المعصوم مثل عليّ بن أبي طالب عليه السلام يعلم الغيب باذن اللَّه، كما هو اعتقادنا الامامية على ذلك، و لذا فقد يكون لدى علي عليه السلام من العلم بالحوادث الّذي اختصّه به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وراجع تفصيل ذلك في فصل: "عليّ عليه السلام والمعجزات والإخبار بالمغيبات"].

وقد ولّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مؤتة جعفراً فقتل، وولّى زيداً فقتل، وولّى عبداللَّه بن رواحة فقتل وهزم الجيش، وعاد مَن عاد منهم إلى المدينة بأسوأ حال، فهل لأحدٍ أن يعيب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهذا ويطعن في تدبيره؟! [ شرح ابن أبي الحديد 249:10].

الخامس من مطاعنهم: وقالوا: هلا إذ ملك شريعة الفرات على معاوية، بعد أن كان معاوية ملكها عليه، ومنعه وأهل العراق منها منع معاوية وأهل الشام منها، فكان يأخذهم قبضاً بالأيدي؟ فإنّه لم يصبر على منعهم على الماء، بل فسح لهم في الورود، وهذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب.

والجواب: أنّه عليه السلام لم يكن يستحلّ ما استحلّه معاوية من تعذيب البشر بالعطش، فإنّ اللَّه تعالى ما أمر في أحد من العصاة الّذين أباح دماءهم بذلك، ولا فسح فيه في نحو القصاص أو حدّ الزاني المحصَن أو قتل قاطع الطريق أو قتال البغاة والخوارج، وما كان أمير المؤمنين عليه السلام ممّن يترك حكم اللَّه وشريعته، ويعتمد ما هو محرّم فيها لأجل الغلبة والقهر والظفر بالعدوّ، ولذلك لم يكن يستحلّ البَيات [ يقال: بيت العدوّ، إذا أوقع به ليلاً].

ولا الغَدر ولا النكث، إلى آخره... [ شرح ابن أبي الحديد 257:10].

السادس من مطاعنهم: وقالوا: إنّ جماعة من أصحابه عليه السلام فارقوه وصاروا إلى معاوية كعقيل بن أبي طالب أخيه، والنجاشي شاعره، ورقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه وغيرهم، ولولا أنّه كان يوحشهم ولا يستميلهم لم يفارقوه ويصيروا إلى عدوّه، وهذا يخالف حكمَ السيّاسة، وما يجب من تألّف قلوب الأصحاب والرعيّة.

والجواب: لا ننكر أن يكون كلّ مَن رغب في حطام الدنيا وزخرفها يميل إلى معاوية الّذي يبذل منها كلّ مطلوب، ويسمحُ بكلّ مأمول، ويطعم خراج مصر عمرو بن العاص، ويضمن لذي الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء والاقتراح، وعليّ عليه السلام لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملّة، حتّى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلباء بن الهيثم - وهو يحمله على مفارقة عليّ عليه السلام واللحاق بمعاوية - اتّق اللَّه يا علباء في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا تأمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهماتٍ يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما، فأبى وغضب فلم يفعل، هذا أوّلاً.

فأمّا عقيل، فالصحيح الّذي اجتمع ثقاتُ الرواة عليه أنّه لم يجتمع مع معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام، وثانياً: لم يتوجّه إلى معاوية، بل ذهب إليه ليأخذ مالاً. [ شرح ابن أبي الحديد 250:10، انظر قصّة عقيل في فصل: "عليّ عليه السلام والعدل"].

وأمّا النجاشي فإنّه شرب الخمر في شهر رمضان، فأقام عليّ عليه السلام عليه الحدّ، وزاده عشرين جلدة، فقال النجاشي: ما هذه العلاوة؟ قال: 'لجرأتك على اللَّه في شهر رمضان'، فهرب النجاشي إلى معاوية. [ المصدر المتقدّم. وراجع لتوضيح قصّة النجاشي فصل: "عليّ عليه السلام والمساواة أمام القانون"].

وأمّا رقبة بن مصقلة، فإنّه ابتاع سبي بني ناجية وأعتقهم وألطّ بالمال [ ألطّ بالمال: أي أخذه وجحده].

وهرب إلى معاوية، فقال عليه السلام: 'فَعَل فِعْلَ السادة، وأبق إباق العبيد'، وعلى هذا فليس تعطيل الحدود وإباحة حكم الدين، وإضاعة مال المسلمين من التألف والسياسة لمن يريد وجه اللَّه تعالى، والتلزّم بالدين، ولا يُظنّ بعليّ عليه السلام التساهل والتسامح في صغير من ذلك ولا كبير. [ شرح ابن أبي الحديد 251:10].

السابع من مطاعنهم: وقالوا: إنّه غير مصيب في ترك الاحتراس، فقد كان يعلم كثرة أعدائه ولم يكن يحترس منهم، وكان يخرج ليلاً في قميص ورداء وحده حتّى كمن له ابن ملجم في المسجد فقتله، ولو كان احترس وحفظ نفسه لم يوصل إليه.

والجواب: أنّ هذا إن كان قادحاً في السياسة وصحّة التدبير فليكن قادحاً في صحّة تدبير عمر بن الخطّاب وسياسته، وهو عند النّاس معروف بالسياسة والتدبير، وليكن قادحاً في تدبير معاوية، فقد ضربه الخارجي بالسيف ليلة ضرب أمير المؤمنين عليه السلام، فجرحه، ولم يأت على نفسه، وليكن قادحاً في صحّة تدبير رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقد كان يخرج وحده في المدينة ليلاً ونهاراً مع كثرة أعدائه، وقد كان يأكل ما دعي إليه ولا يحترس، حتّى أكل من يهوديّة شاة مشويّة قد سمّته فيها فمرض وخيف عليه التلف، ولمّا برئ لم تزل تنتفض عليه حتّى مات منها، ولم تكن العرب في ذلك الزمان تحترس، وكان ذلك عندهم قبيحاً يعيّر به فاعله؛ ولأنّ عليّاً عليه السلام كان هيبته قد تمكّنت في صدور النّاس، فلم يكن يظنّ أنّ أحداً يقدم غيلة...! [ شرح ابن أبي الحديد 260:10].

فاعتبر أيّها القارئ واعلم أنّ جميع الإيرادات والطعن على سياسة عليّ عليه السلام وتدبيره تنمّ عن عدم الاطّلاع على وقائع عصره وحوادثه، ومن العناد على أمير المؤمنين عليه السلام، وإلا لا يرد على سياسته طعن، بل هو أسدّ رأياً وتدبيراً في عصره.

وقال الشارح المعتزلي: مَن قال: إنّ تدبيره عليه السلام وسياسته لم تكن صالحة، واضح الفساد، وبان أنّه أصحّ النّاس تدبيراً وأحسنهم سياسة، وإنّما الهوى والعصبيّة لا حيلة فيهما. [ شرح ابن أبي الحديد 260:10].

نبذة ممّا كان من جودة رأيه وسياسته

قال ابن أبي الحديد: وأمّا الرأي والتدبير فكان عليّ عليه السلام من أسدّ النّاس رأياً، وأصحّهم تدبيراً، وهو الّذي أشار على عمر بن الخطّاب لمّا عزم أن يتوجّه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار، وهو الّذي أشار على عثمان باُمور كان صلاحه فيها، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث، إلى أن قال:

وأمّا السياسة: فإنّه كان شديد السياسة، خشناً في ذات اللَّه، لم يراقب ابن عمّه في عمل كان ولاه إيّاه، ولا راقب أخاه عقيلاً في كلام جبهه به، وأحرق قوماً بالنّار و... [ المصدر المتقدّم 28:1].

قال العلامة السيّد محسن الأمين في سياسته: وهو الّذي أشار على المسلمين بأن يدفن النبيّ صلى الله عليه و آله في موضع وفاته، وأن يصلّي عليه المسلمون فرادى بدون إمام، جماعةً بعد جماعة، وإن شئت أن تجعل هذا من العلم والفقه فلك ذلك، وهو الّذي أشار إلى عمر بوضع التاريخ للهجرة. [ أعيان الشيعة 349:1].

وفي "المناقب": قال الطبري ومجاهد في تأريخيهما: جمع عمر بن الخطّاب النّاس يسألهم من أيّ يوم نكتب، فقال عليّ عليه السلام: 'من يوم هاجر رسول اللَّه وترك أرض الشرك'، ففعله عمر، فكأنّه أشار أن لا تبتدعوا بدعة وأرّخوا كما كانوا يكتبون في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأنّه قدم النبيّ المدينة في شهر ربيع الأوّل، فأمر بالتاريخ، فكان يؤرّخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمّت له سنة. [ المناقب لابن شهرآشوب 144:2. تاريخ الطبري 144:3].

وذكر ابن الأثير في "تاريخه" والحاكم في "المستدرك": عن سعيد بن المسيّب: جمع عمر النّاس فقال: من أيّ يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ عليه السلام: 'من مهاجرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفراقه أرض الشرك'، ففعله عمر. [ الكامل في التاريخ 36:1، مستدرك الحاكم 14:3].

ومن أخباره في جودة الرأي والتدبير ما رواه المفيد في "الإرشاد": عن شبابة بن سوّار، عن أبي بكر الهذلي، قال: سمعت رجالاً من علمائنا يقولون: تكاتبت الأعاجم من أهل همدان وأهل الريّ واصبهان وقومس ونهاوند وأرسل بعضهم إلى بعض: أنّ ملك العرب الّذي جاءهم بدينهم وأخرج كتابهم قد هلك - يعنون النبيّ صلى الله عليه و آله - وأنّه ملكهم من بعده رجل ملكاً يسيراً ثمّ هلك - يعنون أبا بكر - وقام من بعده آخر، قد طال عمره حتّى تناولكم فى بلادكم وأغزاكم جنوده - يعنون عمر بن الخطّاب - وأنّه غير منتهٍ عنكم حتّى تخرجوا من في بلادكم من جنوده وتخرجوا إليه فتغزوه في بلاده، فتعاقدوا على هذا وتعاهدوا عليه، فلمّا انتهى الخبر إلى مَن بالكوفة من المسلمين أنهوه إلى عمر بن الخطّاب، فلمّا انتهى إليه الخبر فزع لذلك فزعاً شديداً، ثمّ أتى مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: معاشر المهاجرين والأنصار، إنّ الشيطان قد جمع لكم جموعاً وأقبل بها ليطفئ بها نور اللَّه، ألا انّ أهل همدان وأهل اصبهان وأهل الريّ وقومس ونهاوند مختلفة ألسنتها وألوانها وأديانها، قد تعاهدوا وتعاقدوا أن يخرجوا من بلادهم إخوانكم من المسلمين ويخرجوا إليكم فيغزوكم في بلادكم، فأشيروا علَيَّ وأوجزوا ولا تطنبوا في القول، فإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام فتكلّموا.

فقام طلحة بن عبيداللَّه، وكان من خطباء قريش، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، قد حنّكتك الاُمور، وجرّستك الدهور، وعجمتك البلايا، وأحكمتك التجارب، وأنت مبارك الأمر، ميمون النقيبة، وقد ولّيت فخبرت، واختبرت وخبّرت، فلم تنكشف من عواقب قضاء اللَّه إلا عن خيار، فاحضر هذا الأمر برأيك فلا تغب عنه، ثمّ جلس، فقال عمر: تكلّموا.

فقام عثمان بن عفّان، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد - يا أمير المؤمنين - فإنّي أرى أن تشخص أهل الشام من شامهم، وأهل اليمن من يمنهم، وتسير أنت في أهل هذين الحرمين، وأهل المصرين الكوفة والبصرة، فتلقي جميع المشركين بجميع المؤمنين، فإنّك - يا أمير المؤمنين - لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقية، ولا تمتّع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، فاحضره برأيك ولا تغب عنه، ثمّ جلس.

فقال عمر: تكلّموا.

فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: 'الحمد للَّه'، حتّى أتمّ التحميد والثناء على اللَّه، والصلاة على رسوله صلى الله عليه و آله، ثمّ قال: 'أمّا بعد، فإنّك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإن أشخصت من هذين الحرمين انتقضت عليك العرب من أطرافها وأكنافها، حتّى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهمّ إليك ممّا بين يديك.

فأمّا ذكرك كثرة العجم ورهبتك من جموعهم، فإنّا لم نكن نقاتل على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالكثرة، وإنّما كنّا نقاتل بالنصر.

وأمّا ما بلغك من اجتماعهم على المسير إلى المسلمين، فإنّ اللَّه لمسيرهم أكره منك لذلك، وهو أوْلى بتغيير ما يكره، وإنّ الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا: هذا رجل العرب، فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب، وكان أشدّ لكلبهم، وكنت قد ألّبتهم على نفسك، وأمدّهم من لم يكن يمدّهم، ولكنّي أرى أن تقرّ هؤلاء في أمصارهم، وتكتب إلى أهل البصرة فليتفرّقوا على ثلاث فرق، فلتقم فرقة منهم على ذراريهم حَرَساً لهم، ولتقم فرقة على أهل عهدهم لئلا ينتقضوا، ولتسر فرقة منهم إلى إخوانهم مدداً لهم'.

فقال عمر: أجل هذا الرأي، وقد كنت اُحبّ أن اُتابع عليه، وجعل يكرّر قول أمير المؤمنين عليه السلام وينسقه إعجاباً به واختياراً له.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: فانظروا أيّدكم اللَّه إلى هذا الموقف الّذي ينبئ بفضل الرأي؛ إذ تنازعه اُولو الألباب والعلم، وتأمّلوا التوفيق الّذي قرن اللَّه به أميرالمؤمنين عليه السلام في الأحوال كلّها، وفزع القوم إليه في المعضل من الاُمور، وأضيفوا ذلك إلى ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين الّذي أعجز متقدّمي القوم حتّى اضطرّوا في علمه إليه. [ إرشاد المفيد ج 195: 1 و راجع المناقب لابن شهرآشوب نقلاً عن الطبري].

 

علي و العدل

قال أبو بكر: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليلة الهجرة ونحن خارجون من مكّة إلى المدينة يقول: 'يا أبا بكر، كفّي وكفّ عليّ في العدل سواء'.

المناقب لابن المغازلي الشافعي: 129، الحديث 170

علي وجوهرة العدالة

لقد لازمت شخصيّة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام السامية جوهرة العدالة الثمينة، واقترن اسمه المقدّس بالعدالة، فقد كان عادلاً يأنس بالعدالة ويهتمّ بها.

إنّ كلّ مجتمع أو جماعة أو فرد منادٍ بالعدالة، ويأمل في تكوين مجتمع يقوم على أساس القسط والعدل، يضع عدل عليّ عليه السلام نصب عينه، ويتّخذ اُسلوب عليّ عليه السلام في تطبيق العدالة ونظامه العادل قدوة له في برنامجه الّذي يسعى إلى تطبيقه.

حقّاً لم يعرف تأريخ الإنسانيّة شخصاً كعليّ عليه السلام خُلِّد اسمه إلى الأبد، وارتسمت صورة عدالته في أذهان البشر، فقد كان عاشقاً للعدالة مولعاً بها إلى غايتها القصوى.

ما هي العدالة الّتي ذاب فيها أميرالمؤمنين وملأت وجوده وكيانه

ما هي العدالة الّتي عشقها مثل مولى المتّقين عليّ عليه السلام حيث هام فيها وذاب، وملأت وجوده وكيانه؟ فحينما تتجلّى حقيقة العدالة ويتذوّق الجميع حلاوتها، فعند ذلك تعرف عظمة عليّ عليه السلام الّذي رضي أن يقدّم نفسه الشريفة قرباناً لهذه العدالة.

العدالة: هي ذلك المفهوم الجميل العزيز الّذي يحبّه جميع البشر وخاصّة الضعفاء والبؤساء والمكبّلين في الأصفاد كحبّهم أنفسهم.

العدالة: هي تلك الثمرة المجهولة الّتي يأمل كلّ بني آدم أن تشفي أمراضهم وتسكّن آلامهم، فهم يبحثون عنها في كلّ زاوية من زوايا العالم.

العدالة: عينٌ صفا ماؤها و عذب، تنتظر الشفاه الذابلات من الظمأ أن ترتوي بشربةٍ منها.

العدالة: هي الشجرة المخضرّة الوحيدة في بستان آمال الإنسان المحترقة أشجاره، تلك الشجرة الّتي يهفو إليها قلب كلّ آدمي، ويطمح أن يستظلّ بظلّها، وتحمّل من أجل هذا الأمل المسير الطويل الصعب، وتحمّل أثقال وآلام سنين الهمّ والعذاب والألم بكلّ صبر وجلد.

العدالة: تلك الجوهرة الثمينة الّتي ضاعت في صحراء الجور وعدم المساواة والنفاق اللامتناهية، ودون العثور عليها خرط القتاد، وضاعت في دنيا اليوم بين أكداس الظلم والخدعة والتفرقة واحتجبت شكلها المحبوب عن أنظار طلاب العدالة في العالم.

وبالجملة: العدالة هي الكلمة الّتي تتلهّف إليها النفوس وعليها أساس الملك وبها نظام المجتمع واعتدال العالم، ففي "الكافي": عن الصادق عليه السلام: 'العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك'. [ اُصول الكافي 147:2].

ولذا كان العدل أفضل وأشرف من الجود والإحسان في منظار عليّ عليه السلام، كما يأتي فيما يلي:

العدل أفضل وأشرف من الجود والإحسان في منظار عليّ

من وجهة نظر الإمام عليّ عليه السلام أنّ الأصل الّذي يستطيع أن يحافظ على التعادل الاجتماعي، ويرضي الجميع، ويؤمّن السلامة لهيكل المجتمع، ويمنح الطمأنينة لأرواح البشر هو العدالة [ في رحاب نهج البلاغة للشهيدآية اللَّه مرتضى المطهّري "قدّس اللَّه روحه": 112].

إذ بالإمكان التوصّل إلى وجهة النظر هذه بسهولة من خلال المقارنة الّتي أجراها بين العدل والجود، والأهمّية والقيمة الّتي أعطاها في مقابل الجود مع أنّ الجود في نظر العرف والجميع عمل مرضي وعمل أخلاقي قيّم. ولكن أنّ الإمام عليّ عليه السلام يرى أنّ العدل أسمى من الجود لدليلين:

أحدهما: أنّ العدل يضع الاُمور في مواضعها، ويجعلها تجري في مجاريها الطبيعيّة، أمّا الجود فإنّه يخرج الاُمور عن مجاريها الطبيعيّة.

والآخر: أنّ العدالة قانون كلّي شامل يضمّ الجميع تحت لوائه ويمرّون عبره دون أي مشكلة؛ لأنّه يحدّد المسير العامّ، أمّا الجود والكرم فإنّه حالة استثنائيّة خاصّة، فتكون النتيجة أنّ العدل أفضل وأشرف من الجود، قال عليه السلام: 'الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا، والْجُودُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ، وَالْجُودُ عَارضٌ خَاصٌّ، فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَأَفْضَلُهُمَا'. [ شرح نهج البلاغة: 1280، الحكمة 429].

 

علي مصداق بارز لآية: 'إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ'

نعم، لقد كانت هذه العدالة ضالّة عليّ عليه السلام، فهو كالظامئ الّذي يبحث عن عين ماء تروي ظمأه، وكان عليّ عليه السلام يسعى إلى معين العدالة العذب.

كان عليّ عليه السلام مظهر العدالة وجوهرتها حقّاً، فقد بَعُد عن كلّ ظلم وجور، وفي فكر عليّ عليه السلام السامي لم يكن ممكناً أن تقاس العدالة بأيّ أمر آخر، وكان لا يعبأ حتّى بأعزّ إنسان عليه من أجل الحقّ؛ وذلك أنّ ربّه قد أمره بذلك فكيف يعصي مولاه؟ 'إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ'. [ سورة النحل: 90].

لم يكن عليّ عليه السلام يرضى بالكفّ عن تطبيق العدالة والتراجع عنها مهما كلّف الثمن، ولم يرض أن يتخطّى العدالة خطوة حتّى من أجل تثبيت أركان حكومته الفتية، وأبى أن يساوم أو يتّبع المصالح السياسيّة مهما عظم الثمن، كما أنّه لم يرض أن يضحّي بالعدالة ويقع تحت تأثير الرحمة والتحرّق شفقة، فيعرّض بذلك هذا الركن المقدّس للتزلزل والانهيار، فقد كان مصداقاً ومظهراً بارزاً للآية الشريفة: 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ'. [ سورة النساء: 135].

القسط هو العدل، والقيام بالقسط العمل به والتحفّظ له، فالمراد بالقوّامين بالقسط القائمون به أتمّ قيام وأكمله، من غير انعطاف وعدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى وعاطفة، أو خوف، أو طمع، أو غير ذلك، وهل توجد هذه الصفة بتمامها وكمالها في غير عليّ بن أبي طالب عليه السلام؟! فإنّه مصداق بارز وكامل لهذه الصفة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كما سيظهر ذلك من المباحث الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

ما قاله النبيّ في عدل عليّ

في "المناقب" عن الطبري، بإسناده عن ابن مردويه: أنّ عليّاً عليه السلام لمّا أقبل من اليمن تعجّل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله واستخلف على جنده الّذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حلّة من البزّ [ البز - بتشديد الزاء المعجمة -: الثياب من الكتّان أو القطن].

الّذي كان مع عليّ عليه السلام، فلمّا دنا جيشه خرج عليّ عليه السلام ليتلقّاهم فإذا هم عليهم الحلل، فقال: 'ويلك، ما هذا؟'. قال: كسوتهم ليتجمّلوا "ليجملوا" به إذا قدموا في النّاس. قال عليه السلام: 'ويلك من قبل أن تنتهي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'. قال: فانتزع الحلل من النّاس وردّها في البزّ، وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم.

ثمّ روى الخدري أنّه قال: شكا النّاس عليّاً عليه السلام فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خطيباً، فقال: 'أيّها النّاس، لا تشكوا عليّاً، فواللَّه! إنّه لخشن في ذات اللَّه'. [ المناقب لابن شهرآشوب 110:2].

روى السيوطي والحافظ الكنجي، بإسنادهما عن أبي هريرة، قال: جئت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وبين يديه تمر، فسلّمت عليه، فردّ علَيَّ، وناولني من التمر مل ء كفّه، فعددته ثلاثاً وسبعين تمرة.

ثمّ مضيت من عنده إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وبين يديه تمر، فسلّمت عليه، فردّ علَيَّ، وضحك إليَّ وناولني من التمر مل ء كفّه، فعددته فإذا هو ثلاث وسبعون تمرة، فكثر تعجّبي من ذلك، فرجعتُ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقلت: يا رسول اللَّه، جئتك وبين يديك تمرٌ، فناولتني مل ء كفّك، فعددته ثلاثاً وسبعين تمرة، ثمّ مضيت إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وبين يديه تمر، فناولني مل ء كفّه، فعددته ثلاثاً وسبعين تمرة، فعجبت من ذلك، فتبسّم النبيّ صلى الله عليه و آله وقال: 'يا أبا هريرة، أما علمت أنّ يدي ويد عليّ بن أي طالب في العدل سواء'. [ أخرجه السيوطي في ذيل اللآلئ: 54، والحافظ الكنجي في الباب 62، ص256].

وروى ابن المغازلي والجويني، بإسنادهما إلى حُبشي بن جُنادة، قال: كنت جالساً عند أبي بكر، فأتاه رجل، فقال: يا خليفة رسول اللَّه، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعدني أن يحثو لي ثلاث حثيات من تمر؟ قال أبو بكر: ادعوا لي عليّاً. فجاء عليّ عليه السلام فقال أبو بكر: يا أبا الحسن، إنّ هذا يزعم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعده أن يحثو له ثلاث حثيات من تمر، فأحثّها له. فَحثا له ثلاث حَثَيات. ثمّ قال: 'عدّوها'، فعدُّوها فوجدوا في كلّ حثوةٍ ستّين تمرة لا تزيد واحدة على الاُخرى.

فقال أبو بكر: صدق اللَّه ورسوله، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليلة الهجرة ونحن خارجون من مكّة إلى المدينة يقول: 'يا أبا بكر، كفّي وكفّ عليّ بن أبي طالب سواء'. [ المناقب لابن المغازلي الشافعي: 129، ح 170، و في فرائد السمطين للجويني 50:1، ح 15، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه بلا تفاوت في المعنى. وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 37:5، والخوارزمي في المناقب: 235، والقندوزي في ينابيع المودّة 233:1، والديلمي في الفردوس 305:5، ح8265].

 

قيام اُسس حكومة عليّ على العدل

لقد بنى الإمام عليّ عليه السلام أساس حكومته على العدالة، وكان يرى أنّ أهمّية الحكومة وقيمتها تكمن في تطبيق العدالة بها، فإنّها تكون ذات أهمّية حينما يقام حقّ ويرفع باطل، وحينما يؤخذ حقّ المظلوم من يد الظالم ويرد إلى المظلوم، وإلا فإنّ الحكومة عنده أهون من عفطة عنز أو من النعل، ولذا رفض قبول الخلافة لأنّه يعلم أنّ ذلك المجتمع لا يتحمّل تطبيق عدالته.

عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'لمّا ولي عليّ عليه السلام صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّي واللَّه! لا أرزؤكم من فيئكم درهماً ما قام لي عذق بيثرب فليصدّقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟

قال: فقام عقيل رضى الله عنه فقال له: واللَّه! لتجعلني وأسود بالمدينة سواءاً، فقال: اجلس أما كان هاهنا أحد يتكلّم غيرك، وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى'. [ روضة الكافي: 158، ح 204].

كان عليّ رفض قبول الخلافة لأنّه يعلم أنّ ذلك المجتمع لا يتحمّل عدالته

لقد كان عليّ عليه السلام يعلم أنّ ذلك المجتمع لا يتحمّل تطبيق العدالة الّتي يريد الإمام تطبيقها، ولمّا كان عليه السلام لا يتّبع إلا الحقّ وإقامة العدل، فإنّه رفض قبول الخلافة بالرغم من ضغط النّاس عليه وتسابقهم بالبيعة له؛ لأنّه كان يعلم أنّ الانحرافات والتفاوت الطبقي، وعدم المساواة الّذي عمّ المجتمع لا يمكن أن يدعه يطبّق العدالة دون إثارة العراقيل والمشاكل في وجهه ووضع الصعوبات في طريقه، ولذلك قال عليه السلام: 'دَعُوني وَالَْتمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ؛ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ. وَإِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالَْمحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَ نِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَ نَا كَأَحَدِكُمْ؛ وَلَعَلَّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَ نَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!'. [ نهج البلاغة، الخطبة 91].

عند ذلك اضطرّ عليّ عليه السلام أن يقبل الخلافة وأن يسير على كتاب اللَّه وسنّة رسوله واجتهاده ورأيه، يسعى إلى إقامة العدل في المجتمع الإسلامي بالرغم من غضب أصحاب الثروات غير المشروعة والمتساهلين في أمر الدين ورفضهم لاُسلوب عليّ عليه السلام وطريقته في إقامة العدل، وهي طريقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولذلك ثارت ثائرة الحقد في صدورهم، فشهروا السيوف في وجه عليّ عليه السلام، وكانت الجمل وصفّين والنهروان.

شهد بعدالته العدوّ والصديق

لقد كان عليّ عليه السلام مثالاً للعدل والمساواة وعاشقاً للحقّ والإنصاف، وكان نموذجاً متكاملاً لمحبّة النّاس والرحمة والرأفة والإحسان، وكانت عدالته عليه السلام ذكراً يلهج به لسان الخاصّ والعامّ، والعدوّ والصديق، وممّا قيل في ذلك:

يقول شبلي شميل - وهو من الماديّين - في عليّ عليه السلام: إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام إمام بني الإنسان ومقتداهم، ولم يرَ الشرق والغرب نموذجاً يطابقه أبداً لا في الغابر ولا في الحاضر. [ انظر: الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة 7:1].

يقول الكاتب المسيحي جبران خليل جبران: قتل عليّ في محراب عبادته لشدّة عدالته. [ ملحمة الشمس لهادي دستباز: 329].

قال ابن الأثير في "اُسد الغاية": إنّ زهده وعدله لا يمكن استقصاؤهما. [ اُسد الغابة في معرفة الصحابة 25:4].

وقال ابن عبدالبرّ في "الاستيعاب": كان عليّ عليه السلام إذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئاً إلا قسّمه، ولا يترك في بيت المال منه إلا ما يعجز عن قسمته في يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غرّي غيري، ولم يكن يستأثر من الفي ء بشي ءٍ، ولا يخصّ به حميماً ولا قريباً، ولا يخصّ بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات، وإذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه: 'قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ' [ سورة يونس: 57].

'فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ' [ اقتباس من سورة الأنعام: 152].

وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ' [ سورة الأعراف: 85].

'بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ' [ سورة هود: 85 و 86].

إذا أتاك كتابي هذا فاحفظ بما في يديك من عملنا حتّى نبعث إليك من يتسلّمه منك'، ثمّ يرفع طرفه إلى السماء فيقول: 'اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك ولا يترك حقّك'. [ الاستيعاب بهامش الاصابة 48:3].

روى ابن أبي الحديد، عن عليّ بن محمّد بن أبي يوسف المدائني، عن فضيل بن الجعد، قال: آكدُ الأسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين عليه السلام أمر المال، فإنّه لم يكن يُفضّل شريفاً على مشروف ولا عربيّاً على عجميّ، ولا يُصانع الرؤساء واُمراء القبائل كما يصنع الملوك، ولا يستميل أحداً إلى نفسه، وكان معاوية بخلاف ذلك، فترك النّاس عليّاً والتحقوا بمعاوية. [ شرح ابن أبي الحديد 197:2].

قال سيّد قطب: لقد جاء عليّ عليه السلام ليدخل نظرية الإسلام في الحكم في قلوب القادة والنّاس من جديد وليطبّقها عمليّاً... جاء ليأكل خبز الشعير الّذي طحنته زوجته بيديها، ويختم على جرابه ويقول: 'لا اُحبّ أن آكل ما لا أعلم'... وربّما باع سيفه ليشتري بثمنه غذاءً ولباساً وأبى أن يسكن القصور الزاهية الفخمة. [ العدالة الاجتماعيّة في الإسلام لسيّد قطب].

قال الشهيد المطهّري: وقد كان عليه السلام مصرّاً على أنّ العدالة الاجتماعيّة في الإسلام والفلسفة الاجتماعيّة الإسلاميّة تقتضي ذلك، فلم يكن عليه السلام عادلاً وحسب، بل كان مريداً للعدالة وطالباً لها، وفرق بين العادل وطالب العدالة. [ بيست گفتار: 5 - 4].

أقول: حقيق أن يقال: إنّ عليّاً عليه السلام ليس إمام زمانه فقط، بل هو مقتدى الأجيال والقرون، وهو التلميذ الأوّل لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمعلّم الثاني للاُمم طول التاريخ.

ولو كان عليّ عليه السلام يمشي وراء السياسة لعرفه التأريخ رجلاً سياسيّاً فحسب، وما كانت الملوك والعظماء يطأطئون هاماتهم أمام عدالته وعظمته، وينظرون إليه نظرة التقدير والتقديس، كما أنشأت سودة بنت همامة عند معاوية أعدى عدوّه:

صلّى الإله على روح تضمّنها*** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلاً*** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا

صور من عدله على مدى حكومته

ومن أجل أن نتعرّف أكثر على عدل الإمام عليّ عليه السلام ولترسم هذه الحقيقة بأجلى صورها نشير إلى موارد توضّح صورة تلك العدالة:

مصادرة الأموال الموهوبة بغير حقّ

عندما تسلّم عليّ عليه السلام زمان حكومة المسلمين بعد عثمان صادر كلّ الأموال الموهوبة بغير حقّ إلى طبقة الأشراف، وقد بيّن سياسته للنّاس عبر خطبته الّتي يقول فيها "فيما ردّه على المسلمين من قطائع": 'وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً. وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!'. [ شرح نهج البلاغة لفيض الإسلام: 57، الخطبة 15].

روى ابن أبي الحديد المعتزلي في ذيل هذه الخطبة، عن ابن عبّاس: أنّ عليّاً عليه السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: 'ألا إنّ كلّ قطيعة [ القطائع: ما يقطعه الإمام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج ويُسقط عنه خراجه ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضاً عن الخراج، وقد كان عثمان أقطع كثيراً من بني اُميّة وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة. سرح ابن أبي الحديد 269:1].

أقطعها عثمان وكلّ مالٍ أعطاه من مالِ اللَّه، فهو مردودٌ في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يُبطله شيء ، ولو وجدتُه قد تزوّج به النساء وُفرّق فى البلدان لرددتُه إلى حاله، فإنّ في العدل سعة و من ضاف عليه الحق، فالجور عليه أضيق'. [ تفسير هذا الكلام: أنّ الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات اُموره في العدل فهي في الجور أضيق عليه؛ لأنّ الجائر في مظنّة أن يُمنع ويُصدّ عن جوره. شرح ابن أبي الحديد 270:1].

ثم قال ابن أبى الحديد عن الكلبي أنّه قال: ثمّ أمر عليه السلام بكلّ سلاح وجد لعثمان في داره، ممّا تقوّى به على المسلمين فقبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر ألا يعرض لسلاح وُجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكفّ عن جميع أمواله الّتي وجدت في داره وفي غير داره [ عدم قبضه عليه السلام اموال عثمان، هي الاموال التي خاصته لعثمان و لم تكن من بيت المال].

وأمر أن تُرتجع الأموال الّتي أجاز بها عثمان حيث اُصيب أو اُصيب أصحابها.

فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بأيلَة من أرض الشام، أتاها حيث وثب النّاس على عثمان، فنزلها فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع؛ إذ قَشَركَ ابن أبي طالب من كلّ مالٍ تملّكه كما يُقشّر عن العصا لحاها. [ شرح ابن أبي الحديد 269:1].

أقول: والمقصود من قوله عليه السلام: 'إنّ في العدل سعة'، أي: سعة الإمام والاُمّة معاً؛ إذ الاُمّة تطمئنّ نفوسها تحت لواء العدل فتنقاد قهراً للحكومة العادلة الحافظة لحقوقها، وبذلك يرى الحاكم أيضاً سعة وراحة، وأمّا جور الحاكم فيوجب في المآل مخالفة الاُمّة له وثورتها عليه، فيضيق الأمر على الإمام والاُمّة معاً. [ راجع في هذا المجال: دراسات في ولاية الفقيه 687:2].

وفي "دعائم الإسلام": روينا عن عليّ عليه السلام: 'أنّه لمّا بايعه النّاس أمر بكلّ ما كان في دار عثمان من مال وسلاح، وكلّ ما كان من أموال المسلمين فقبضه، وترك ما كان لعثمان ميراثاً لورثته'. [ دعائم الإسلام 366:1].

وفي "مروج الذهب": قال: وانتزع عليّ عليه السلام أملاكاً كان عثمان أقطعها جماعةً من المسلمين، وقسّم ما في بيت المال على النّاس، ولم يفضّل أحداً على أحد. [ مروج الذهب 362:2].

في تقسيم بيت المال لا يميّز احداً على أحد

في "البحار": عن أبي الهيثم وعبداللَّه بن أبي رافع: أنّ طلحة والزبير جاءا إلى أمير المؤمنين ءعليه السلام وقالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر؟ قال عليه السلام: 'فما كان يعطيكما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟' فسكتا، قال: 'أليس كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقسّم بالسويّة بين المسلمين؟'، قالا: نعم، قال: 'فسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أوْلى بالاتّباع عندكم أم سنّة عمر؟'، قالا: سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. يا أمير المؤمنين، لنا سابقة وعناء وقرابة، قال: 'سابقتكما أسبق أم سابقتي؟'، قالا: سابقتك، قال: 'فقرابتكما أم قرابتي؟'، قالا: قرابتك، قال: فعناؤكما أعظم أم عنائي؟'، قالا: عناؤك، قال: 'فواللَّه! ما أنا وأجيري هذا إلا بمنزلة واحدة'، وأومأ بيده إلى الأجير. [ البحار 116:41].

في "البحار": عن أبي إسحاق الهمداني: أنّ امرأتين أتتا عليّاً عليه السلام؛ إحداهما من العرب، والاُخرى من الموالي، فسألتاه، فدفع إليهما دراهم وطعاماً بالسواء، فقالت إحداهما: إنّي امرأة من العرب وهذه من العجم، فقال عليه السلام: 'إنّي واللَّه لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلاً على بني إسحاق'. [ البحار 137:41، وفي الغارات 69:1، رواه عن أبي إسحاق الهمداني، بعينه].

 

اطفاء السراج لأنّ زيته من بيت المال

قال الكشفي الحنفي في المناقب المرتضويّة: كان أمير المؤمنين عليه السلام دخل ليلة في بيت المال يكتب قسمة الأموال، فورد عليه طلحة والزبير، فأطفأ عليه السلام السراج الّذي بين يديه وأمر بإحضار سراج آخر من بيته، فسألاه عن ذلك؟ فقال عليه السلام: 'كان زيته من بيت المال، لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه'. [ المناقب المرتضويّة للكشفي الحنفي: 365].

روى ابن شهر آشوب عن الطبري، قال: سمعت مذاكرةً: أنّه دخل عليه عمرو بن العاصّ ليلة وهو في بيت المال، فأطفأ السراج وجلس في ضوء القمر، ولم يستحلّ أن يجلس في الضوء من غير استحقاق'. [ المناقب لابن شهرآشوب 110:2، والبحار 116:41].

عدله في تقسيم بيت المال سبّب فرار أصحابه إلى معاوية

في "الغارات" بإسناده إلى ربيعة وعمارة، وهكذا في "البحار" عن المفيد والشيخ، بإسنادهما عن ربيعة وعمارة: أنّ طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مشوا إليه - عند تفرّق النّاس عنه عليه السلام، وفرار كثير منهم إلى معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا - فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف خلافه من النّاس وفراره إلى معاوية. قال: وانّما قالوا له ذلك للذي كان معاوية يصنع مع مَن أتاه.

فقال لهم عليّ عليه السلام: 'أتامروني أن أطلب النصر بالجور؟ واللَّه! لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم، واللَّه! لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، فكيف وإنّما هي أموالهم'.

قال: ثمّ ازمّ [ أزمّ القوم: أمسكوا عن الكلام كما يمسك الصائم عن الطعام].

طويلاً ساكتاً. ثمّ قال: 'مَن كان له مالٌ فإيّاه والفساد، فإنّ إعطاء المال في غير حقّه تذبير وإسراف، وهو ذكر لصاحبه في النّاس [ وفي أمالي المفيد: 'وهو وإن كان ذكراً لصاحبه في الدنيا فهو يضعه عند اللَّه عزّ وجلّ'].

ويضعه عند اللَّه عزّ وجلّ، ولم يضع رجل ماله في غير حقّه وعند غير أهله إلا حرمه اللَّه شكرهم، وكان لغيره ودّهم، فإن بقي معهم مَن يودّهم ويظهر لهم الشكر فإنّما هو ملق وكذب، وإنّما ينوي أن ينال من صاحبه مثل الّذي كان يأتي إليه من قبل، فإن زلّت بصاحبه النعل

[ زلّت به نعله: يضرب لمن نكب وزالت نعمته].

فاحتاج إلى معونته ومكافأته فشرّ خليل وألأم خدين، ومن صنع المعروف فيما آتاه اللَّه فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفكّ به العاني، وليعن به الغارم وابن السبيل والفقراء والمهاجرين، وليصبر نفسه على النوائب والخطوب، فإنّ الفوز بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا ودرك فضائل الآخرة'. [ الغارات 74:1، والبحار 108:41].

وفي "الغارات" أيضاً: بإسناده عن فضيل بن الجعد، عن مولى الأشتر، قال: شكا عليّ عليه السلام إلى الأشتر فرار النّاس إلى معاوية؟

فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة، والرأي واحد، وقد اختلفوا بعد وتعادوا وضعفت النيّة، وقلّ العدل، وأنت تأخذهم بالعدل، وتعمل فيهم بالحقّ، وتنصف الوضيع من الشريف، وليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجّت طائفة ممّن معك على الحقّ إذ عمّوا به، واغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه، وصارت صنائع معاوية عند أهل الغنى والشرف، فتاقت أنفس النّاس إلى الدنيا، وقلّ من النّاس من ليس للدنيا بصاحب، وأكثرهم من يجتوي [ اجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة].

الحقّ، ويستمرئ الباطل، ويؤثر الدنيا، فإن تبذل المال - يا أمير المؤمنين - تمل إليك أعناق النّاس، وتصف نصيحتهم، وتستخلص ودّهم، صنع اللَّه لك [ والجملة دعائيّة: أي فعل اللَّه لك خيراً، وقدّره لك].

- يا أمير المؤمنين - وكبت عدوّك، وفضّ جمعهم، وأوهن كيدهم، وشتّت اُمورهم، إنّه بما يعملون خبير.

فأجابه عليّ عليه السلام، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: 'أمّا ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل، فإنّ اللَّه يقول: 'مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ' [ سورة فصّلت: 46].

وأنا من أن أكون مقصّراً فيما ذكرت أخوف.

وأمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلك، فقد علم اللَّه أنّهم لم يفارقونا من جور، ولم يدعوا إذ فارقونا إلى عدل، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كأن قد فارقوها، وليُسألنّ يوم القيامة: أللدنيا أرادوا أم للَّه عملوا؟!

وأمّا ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنّا لا يسعنا أن نؤتي امرءاً من الفي ء أكثر من حقّه، وقد قال اللَّه وقوله الحقّ: 'كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ' [ سورة البقرة: 249].

وبعث محمّداً صلى الله عليه و آله وحده، فكثّره بعد القلّة، وأعزّ فئته بعد الذلّة، وإن يرد اللَّه أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا صعبه، ويسهّل لنا حزنه، وأنا قابل من رأيك ما كان للَّه رضى، وأنت من آمن أصحابي، وأوثقهم في نفسي، وأنصحهم، وأرآهم [ أرآهم: أي أعقلهم وأصوبهم في النظر والرأي].

عندي. [ الغارات 70:1].

 

امره عمّاله برعاية حقوق بيت المال

في "البحار" عن "الخصال": بسنده عن جعفر بن محمّد عليه السلام أنّه ذكر عن آبائه عليهم السلام: 'أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى عمّاله: أدقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم - من فضولكم - واقصدوا قصد المعاني، وإيّاكم والإكثار، فإنّ أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار'. [ البحار 105:41].

تاكيده فى الصدقات على رعاية حقّ الرعيّة

روى أبو إسحاق الثقفي في "الغارات": بإسناده عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام، قال: بعث عليّ عليه السلام مصدّقاً من الكوفة إلى باديتها، فقال: 'عليك - يا عبد اللَّه - بتقوى اللَّه، ولا تؤثرنّ دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه [ أمنه على كذا وائتمنه: اتّخذه أميناً فيه].

راعياً لحقّ اللَّه حتّى تأتي نادي بني فلان، فإذا قدمت عليهم فانزل بفنائهم من غير أن تخالط أبنيتهم، ثمّ امض إليهم بسكينة ووقار حتّى تقوم بينهم، فتسلّم عليهم، ولا تخدج [ الخدج: النقص].

بالتحيّة لهم'، ثمّ قال: 'فتقول: يا عباد اللَّه، أرسلني إليكم وليّ اللَّه لآخذ منكم حقّ اللَّه، فهل للَّه في أموالكم من حقّ فتؤدّونه إلى وليّه، فإن قال قائل منهم: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك [ أنعم لك: يعني قال: نعم].

منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه، ولا تعده إلا خيراً، حتّى تأتي ماله فلا تدخله إلا بإذنه، فإنّ أكثره له، وقل له: يا عبد اللَّه، أتأن لي في دخول ذلك؟ فإن أنعم فلا تدخله دخول المسلّط عليه فيه، ولا عنيف به، واصدع المال صدعين [ الصدع: الشقّ].

فخيّره أيّ الصدعين شاء، فأيّهما اختار فلا تتعرّض له، واصدع الباقي صدعين، فلا تزال حتّى يبقى حقّ اللَّه في ماله فاقبضه، فإن استقالك فأقله، ثمّ اخلطها، ثمّ اصنع مثل الّذي صنعت حتّى تأخذ حقّ اللَّه في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به إلا ناصحاً مسلماً مشفقاً أميناً حافظاً غير معنف بشي ء منها'، ثمّ قال: 'ثمّ احدر [ أي اسرع].

ما اجتمع عندك من كلّ نادٍ إلينا، نضعه حيث أمر اللَّه به، فإذا انحدر بها رسولك فأوعز إليه أن لا يحولنّ بين ناقة وفصيلها، ولا يفرّقنّ بينهما، ولا يمصر [ لا يكثر من أخذ لبنها].

لبنها فيضرّ ذلك بفصيلها، ولا يجهدنّها ركوباً، وليعدل بينهنّ في ذلك، وليوردها كلّ ماء يمرّ به، ولا يعدل بهنّ عن نبت الأرض إلى جوادّ الطرق في الساعات الّتي تريح وتعنق، وليرفق بهنّ جهده حتّى يأتينا بإذن اللَّه سماناً غير متعبات، ولا مجهدات، فيقسّمن على كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله، فإنّ ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك، فينظر اللَّه إليها وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته، وإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: ما نظر اللَّه إلى وليّ يجهد نفسه لإمامه بالطاعة والنصيحة إلا كان معنا في الرفيق الأعلى'. [ الغارات 126:1، وروى الزمخشري في ربيع الأبرار 77:3 نحوه].

 

نبذة من خطابه إلى عمّاله، وعتابه لهم بما بدر منهم

1- في "نهج البلاغة" من كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامله على أردشير خرّه: [ الظاهر أنّ أردشير خرّة: كورة من كور فارس، والظاهر أنّه ما يسمّى في عصرنا "فيروزآباد"].

'بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلهَكَ، وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ؛ أَ نَّكَ تَقْسِمُ فَيْ ءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَخُيُولُهُمْ، وَأُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ، فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ. فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَئِنْ كَانَ ذلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً، وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً، فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ، وَلَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. أَ لا وَإِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَقِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هذَا الْفَيْ ءِ سَوَاءٌ؛ يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ، وَيَصْدُرُونَ عَنْهُ'. [ نهج البلاغة: الكتاب 43].

2- قد كان عليّ عليه السلام يراقب أعمال ولاته مراقبة شديدة حتّى أنّه لمّا بلغه أنّ واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري قد أجاب دعوة جماعة من أهل البصرة إلى وليمة فيها ألوان الطعام فتناول منها شيئاً، وفي البصرة فقراء محتاجون منعوا من حضورها، أرسل إليه كتاباً. قال توبيخاً له: 'أَمَّا بَعْدُ - يَابْنَ حُنَيْفٍ - فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَ نَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ [ عائلهم: محتاجهم].

مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ [ الفظه: اطرحه].

وَمَا أَيْقَنَتَ بِطِيب وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَ لَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ؛ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ [ الطمر - بالكسر -: الثوب الخلق البالي].

وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَ لَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ. فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً [ التبر - بالكسر فالسكون -: فُتات الذهب والفضّة قبل أن يصاغ].

وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً [ الوفر: المال].

وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، |وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً، وَلَا أَحَذْتُ مِنْهُ إلا كَقُوتِ أَتَانٍ [ الاتان الدبرة: هي الّتي عقر ظهرها فقلّ أكلها].

دَبِرَةٍ، وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَهْوَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ. [ مقرة: مُرّة].

[ ما بين المعقوفتين من شرح ابن أبي الحديد 205:16].

[ نهج البلاغة: الكتاب 45].

وروى في شرح الإحقاق عن "ذخيرة الملوك الهمداني" إنّ عليّاً عليه السلام - بعد إرسال الكتاب إلى عثمان بن حنيف - عزله عن الحكومة. [ الإحقاق 549:8].

امثله ممّا كان من عدله في أقاربه

توبيخه أبا رافع لإعارته بنته عقد لؤلؤ من بيت المال

لقد كان عليّ عليه السلام شديداً في إقامة العدل، فعندما رأى سواراً أو قلادة على ابنته، وكان قد رآها في بيت المال، فاستدعى أبا رافع خازن بيت المال واستفسر منه عن ذلك، فأخبره بأنّها أخذته عارية مضمونة تتزيّن به أيّاماً، فلامَ أبا رافع وعاتب ابنته، وأعلن أنّه لو لم تكن عارية مضمونة لقطعت يدها، وإليك لفظ الحديث:

روى شيخ الطائفة في "التهذيب": بإسناده عن سعيد بن المسيّب، عن عليّ بن أبي رافع، قال: كنت على بيت مال عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكاتبه، وكان في بيت ماله عقد لؤلؤ كان أصابه يوم البصرة، قال: فأرسلت إليَّ بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقالت لي: بلغني أنّ في بيت مال أمير المؤمنين عليه السلام عقد لؤلؤ وهو في يدك، وأنا اُحبّ أن تعيرنيه أتجمّل به في أيّام عيد الأضحى، فأرسلته إليها عارية مضمونة مردودة يا بنت أمير المؤمنين؟

فقالت: نعم عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيّام، فدفعته إليها، وإنّ أمير المؤمنين عليه السلام رآه عليها فعرفه، فقال لها: 'من أين صار إليك هذا العقد؟'. فقالت: استعرته من عليّ بن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين عليه السلام لأتزيّن به في العيد ثمّ أردّه.

قال: فبعث إلَيَّ أمير المؤمنين عليه السلام فجئتُه، فقال لي: 'أتخون المسلمين يابن أبي رافع؟!'. فقلت له: معاذ اللَّه أن أخون المسلمين. فقال: 'كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الّذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم؟'. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّها ابنتك، وسألتني أن اُعيرها إيّاه تتزيّن به، فأعرتها إيّاه عارية مضمونة مردودة، فضمنته في مالي، وعلَيَّ أن أردّه سليماً إلى موضعه، قال: 'فردّه من يومك، وإيّاك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي'.

ثمّ قال: 'أولى لابنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت إذن أوّل هاشميّة قطعت يدها في سرقة'.

قال: فبلغ مقالته ابنته، فقالت له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنتك وبضعة منك، فمن أحقّ بلبسه منّي؟ فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: 'يا بنت عليّ بن أبي طالب، لا تذهبنّ بنفسك عن الحقّ، أكلّ نساء المهاجرين تتزيّن في هذا العيد بمثل هذا؟'.

قال فقبضته منها ورددته إلى موضعه. [ التهذيب 151:10، وسائل الشيعة 521:18، وفي المناقب لابن شهرآشوب 108:2 روى نحوه].

صورة اخرى

روى ابن الأثير في التاريخ: كان أبو رافع مولى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خازناً لعليّ عليه السلام على بيت المال، فدخل عليّ يوماً وقد زُيّنت ابنتُه، فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال، فقال: 'من أين لها هذه؟ لأقطعنّ يدها!'، فلمّا رأى أبو رافع جِدَّه في ذلك، قال: أنا واللَّه يا أمير المؤمنين زيّنتُها بها، فقال عليّ عليه السلام: 'لقد تزوّجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها'. [ الكامل في التاريخ 441:2].

وروى الطبري في التاريخ بسنده عن عبّاس بن الفضل، عن أبيه، عن جدّه ابن أبي رافع، نحوه. [ تاريخ الطبري 119:4].

 

توبيخه بعض عمّاله من أقربائه

في نهج البلاغه: من كتاب له عليه السلام إلى بعض عمّاله، ولعلّه ابن عبّاس - كما سيأتي في الكتاب التالي -: 'أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ، إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ، وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ، وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ. بَلَغَنِي أَ نَّكَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ، وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاس ِ، وَالسَّلَامُ'. [ نهج البلاغة: الكتاب 40].

وفيه أيضاً من كتاب له عليه السلام إلى بعض عمّاله: 'أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي [ أشركتك في أمانتي: جعلتك شريكاً فيما قمت فيه من الأمر، أي أمر الولاية، أو المراد به بيت المال الّذي في يده].

وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفَسِي لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ؛ فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاس ِ قَدْ خَزِيَتْ هذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ فَنَكَتْ وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الِْمجَنِّ فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ، وَلَا الْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ. وَكَأَ نَّكَ لَمْ تَكُنِ اللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَ نَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ، فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ'.

إلى أن قال: 'فَاتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْ إِلَى هؤُلَاءِ الْقَوْمِ امَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّهِ فِيكَ، وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلا دَخَلَ النَّارَ!'.

ثمّ قال عليه السلام: 'وَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عليهماالسلام فعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلَا ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَةٍ، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي، أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي؛ فَضَحِّ رُوَيْداً، فَكَأَ نَّكَ قَدْ بَلَغَتَ الْمَدَى، وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى، وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالَْمحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى، الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، 'وَلَاتَ حِينَ مَنَاص ٍ!'. [ نهج البلاغة: الكتاب 41].

أقول: وقد اختلف النّاس في مَن هو المخاطب في هذا الكتاب، والّذي قبله؟ فقيل: إنّه عبيداللَّه بن عبّاس عامله عليه السلام على اليمن، والّذي لحق في نهاية الأمر بمعاوية. وقيل: إنّه عبداللَّه بن عبّاس عامله على البصرة والأهواز وفارس، وملازمه في أكثر ملاحمه وحروبه، والّذي يشهد لهذا القول التعبيرات الواردة في الكتاب من قوله عليه السلام: 'أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفَسِي'، وقوله: 'قَلَبْتَ لابْنِ عَمِّكَ'، وقوله: 'فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ'، وغير ذلك من التعبيرات في الكتاب.

وروى الكشّي في عبداللَّه بن عبّاس بسنده عن الزهري، قال: سمعت الحارث يقول: استعمل عليّ عليه السلام على البصرة عبداللَّه بن عبّاس، فحمل كلّ مال في بيت المال بالبصرة ولحق بمكّة وترك عليّاً عليه السلام، وكان مبلغه ألفي ألف درهم، فصعد عليّ عليه السلام المنبر حين بلغه ذلك فبكى فقال: 'هذا ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في علمه وقدره يفعل مثل هذا، فكيف يؤمن مَن كان دونه، اللّهمّ إنّى قد مللتهم فأرحني منهم، واقبضني إليك غير عاجز ولا ملول'.

قال الكشّي: قال شيخٌ من أهل اليمامة يذكر عن معلّى بن هلال، عن الشعبي، قال: لمّا احتمل عبداللَّه بن عبّاس بيت مال البصرة وذهب به إلى الحجاز، كتب إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وذكر قريباً من الكتاب الّذي مرّ عن "نهج البلاغة".

ثمّ قال: فكتب إليه عبداللَّه بن عبّاس: أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تعظم علَيَّ إصابة المال الّذي أخذته من بيت مال البصرة، ولعمري إنّ لي في بيت مال اللَّه أكثر ممّا أخذت، والسلام.

قال: فكتب إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام: 'أمّا بعد، فالعجب كلّ العجب من تزيين نفسك أنّ لك في بيت مال اللَّه أكثر ممّا أخذت، وأكثر ممّا لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنّيك الباطل ادّعاؤك مالاً يكون ينجيك من الإثم ويحلّ لك ما حرّم اللَّه عليك، عمرك اللَّه إنّك لأنت العبد المهتدي إذن فقد بلغني أنّك اتّخذت مكّة وطناً، وضربت بها عطناً، تشتري مولّدات مكّة والطائف تختارهنّ على عينك، وتعطي فيهنّ مال غيرك، وإنّي لاُقسم باللَّه ربّي وربّك ربّ العزّة ما يسّرني أنّ ما أخذت من أموالهم لي حلال أدعه لعقبي ميراثاً، فلا غرور أشدّ باغتباطك بأكله، رويداً رويداً فكأنّ قد بلغت المدى، وعرضت على ربّك والمحلّ الّذي تتمنّى الرجعة، والمضيّع للتوبة كذلك، وما ذلك ولات حين مناص، والسلام'.

قال: فكتب إليه عبداللَّه بن عبّاس: أمّا بعد، فقد أكثرتَ عَلَيَّ، فواللَّه! لئن ألقى اللَّه بجميع ما في الأرض من ذهبها وعقيانها أحبّ إلَيَّ من أن ألقى اللَّه بدم رجل مسلم. [ اختيار معرفة الرجال المعروف ب 'رجال الكشي': 60].

هذا ولكن قال الاُستاذ المحقّق الفقيه آية اللَّه المنتظري في دراساته ما ملخّصه: ليس المقام مقام تحقيق هذه المسألة وبيان صحّتها وسقمها، وربّما يخطر في الذهن أنّ ابن عبّاس حبر الاُمّة وعالمها، وعرف حاله في المحبّة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام، والنصر له، والذبّ عنه في المواقف الخطيرة، كيف يمكن أن تصدر عنه هذه الخيانة؟!

وكلّ من يقرأ التواريخ يظهر له ثناؤه الدائم لأمير المؤمنين عليه السلام، وخصامه لمعاوية حتّى بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، وقد كان معاوية يستميل الأشخاص ويجتذبهم بالأموال كما اجتذب عبيداللَّه أخاه، ولم يسمع ميل عبداللَّه إلى ساحته أبداً، فيعلم بذلك طهارة ذيله وكذب القصّة هذه.

ولكن ما حكاه السيّد الرضي في "نهج البلاغة" قد أطبقت الرواة على روايته، وذكر في كتب السير كما في شرح ابن أبي الحديد [ شرح ابن أبي الحديد 168:16].

ويشكل حمله على أخيه عبيداللَّه مع ما فيه من القرائن الّتي مرّت.

ثمّ قال الاُستاذ الفقيه "دامت بركاته": والّذي يسهّل الخطب أنّ ابن عبّاس مع جلالته وعظم قدره لم يكن عندنا معصوماً، ولعلّه بعد ما أيس من دوام الحكومة العادلة الحقّه، واطمأنّ بأنّ الحكومة سوف تقع في أيدي الأعداء، وقد علم سجيّة بني اُميّة وشيمتهم، وأنّهم لا محالة منتقمون يوماً من بني هاشم، ويمنعونهم حقوقهم، ويضيّقون الأمر عليهم، قد فكّر في ادّخار بيت المال ليوم الشدّة والمآل، والنفس أمّارة بالسوء إلا من رحم اللَّه، ومن شأنها دائماً التوجيه والتبرير، وقد "كفى المرء نبلاً أن تعدّ معايبه"، كما قيل، ولكن بعد الّتي واللّتيا يشكل الجزم بكون المخاطب في الخطبتين هو عبداللَّه بن عبّاس، وليس لتعقيب الموضوع أثر عملي شرعي، واللَّه العالم بالاُمور. [ دراسات في ولاية الفقيه 678:2].

تهديده عقيل أخيه

في "المناقب" لابن شهرآشوب: وقدم عليه عليه السلام عقيل فقال |عليّ عليه السلام| للحسن: 'اكس عمّك'، فكساه قميصاً من أقمصته، ورداً من أرديته، فلمّا حضر العشاء فإذا هو خبز وملح، فقال عقيل: ليس ما أرى. فقال: 'أوَليس هذا من نعمة اللَّه؟ فله الحمد كثيراً'، فقال: أعطني ما أقضي به ديني، وعجّل سراحي حتّى أرحل عنك. قال: 'فكم دينك، يا أبا يزيد'. [ أبا يزيد كنية عقيل، قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا أبا يزيد، إنّي اُحبّك حبّين: حبّاً لقرابتك منّي، وحبّاً لما كنت أعلم من حبّ عمّي إيّاك'. راجع: شرح ابن أبي الحديد 250:11].

قال: مائة ألف درهم. قال: 'واللَّه! ما هي عندي ولا أملكها، ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فاُواسيكه، ولولا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه'.

فقال عقيل: بيت المال في يدك، وأنت تسوّفني إلى عطائك، وكم عطاؤك وما عسى يكون ولو أعطيتنيه كلّه؟ فقال: 'ما أنا وأنت فيه إلا بمنزلة رجل من المسلمين'، وكانا يتكلّمان فوق قصر الإمارة مشرفين على صناديق أهل السوق، فقال له عليّ عليه السلام: 'إن أبيت - يا أبا يزيد - ما أقول، فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه؟'، فقال: وما في هذه الصناديق؟ قال: 'فيها أموال التجّار'.

قال: أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكّلوا على اللَّه وجعلوا فيها أموالهم؟! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فاُعطيك أموالهم وقد توكّلوا على اللَّه وأقفلوا عليها؟ وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعاً إلى الحيرة، فإنّ بها تجّاراً مياسير، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله'، فقال: أوَسارق جئت؟ قال: 'تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً'، قال له: أفتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟ فقال له: 'قد أذنت لك'، قال: فاعنّي على سفري هذا، قال: 'يا حسن، أعط عمّك أربعمائة درهم'، فخرج عقيل وهو يقول:

سيغنيني الّذي أغناك عَنّي*** ويَقضي ديننا ربّ قريب

وذكر عمرو بن العاص أنّ عقيلاً لمّا سأل عطاءه من بيت المال، قال له أمير المؤمنين عليه السلام: 'تقيم إلى يوم الجمعة'، فأقام، فلمّا صلّى أمير المؤمنين عليه السلام الجمعة قال لعقيل: 'ما تقول فيمن خان هؤلاء جميعاً؟'. قال: بئس الرجل ذاك. قال: 'فأنت تأمرني أن أخون هؤلاء وأعطيك'. [ المناقب لابن شهرآشوب 108:2].

 

قصة اُخرى مع أخيه عقيل

وفي نهج البلاغة وغيره من كتاب السير والتاريخ: أنّ عقيلاً عندما طلب من أخيه عليّ عليه السلام أن يزيد في عطائه من بيت المال، أحمى حديدة وقرّبها منه، ومن أجل أن يُفهم أخاه أنّه يرفض الظلم والجور قال: 'واللَّه! لأن أبيت على حَسِك [ الحسك: الشوك].

السَّعدان [ السعدان: نبت ترعاه الإبل له شوك].

مُسهّداً [ المسهّد من سهده: إذا أسهره].

واُجرّ في الأغلال مُصَفّداً [ المصفّد: المقيّد].

أحبُّ إليَّ من ألقى اللَّه ورسولهُ يوم القيامةِ ظالماً لبعض العباد، وغاصِباً لشي ءٍ من الحُطام، وكَيفَ أظلم أحداً لنفسٍ يُسرِعُ إلى البلى قُفولها [ قفولها: رجوعها].

ويطول في الثرى حلولها؟'.

ثمّ قال عليه السلام: 'واللَّه! لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتّى استماحني [ استماحني: استعطاني].

من بُرّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شُعث [ شُعث: جمع أشعث، وهو من الشعر المتلبّد بالوسخ].

الشُّعور، غُبر [ الغبر: جمع أغبر، متغيّر اللون شاحبه].

الألوان من فَقرِهم، كأنّما سُودّت وجوهُهُم بالعِظلم [ العظلم - كزبرج -: سواد يصبغ به].

وعاوَدني موكَّداً، وكرّر علَيَّ القول مُردّداً، فأصغيتُ إليه سمعي، فظنّ أنّي أبيعُه دِيني، وأتّبع قياده [ القياد: ما يقاد به كالزمام].

مُفارِقاً طريقي، فأحميت له حديدةً ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجَّ ضجيج ذي دنفٍ [ الدنف: المرض].

من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها. [ الميسم: المكواة. من ميسمها: من أثرها في يده].

فقلت له: ثكلتك الثواكل [ الثواكل: النساء].

- يا عقيل - أتئنّ من حديدة أحماها إنسانُها للعبِه، وتَجرُّني إلى نار سجّرَها جبّارُها لغضبه؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنُّ من لظى. [ لظى: اسم جهنّم].

وساق كلامه عليه السلام إلى أن قال: 'واللَّه! لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللَّه في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ [ جُلب الشعيرة: قشرها].

ما فعلتُه، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جَرادةٍ تَقضَمُها، ما لعليٍّ ولنعيمٍ يفنى، ولذّةٍ لا تبقى، نعوذ باللَّه من سُبات العقل، وقُبحِ الزلل، وبه نستعين'. [ شرح النهج: الخطبة 224، وفي المناقب لابن شهرآشوب 109:2 نحوه].

وسيأتي سؤال معاوية من عقيل عن قصّة الحديدة المحماة.

وصيّة عليّ بقاتله

ومن كتاب له عليه السلام في "نهج البلاغة" في وصيّته للحسن والحسين عليهماالسلام لمّا ضربه ابن مُلجم "لعنه اللَّه" وممّا جاء فيه:

'يا بني عبدالمطّلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قُتِلَ أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقْتلنَّ بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا متُّ من ضربتي هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمَثَّلُ بالرجل، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور'. [ نهج البلاغة: الكتاب 47].

وروى الحديث في الوسائل مع زيادة في ذيله: ثمّ أقبل على ابنه الحسن عليه السلام، فقال: 'يا بنيّ، أنت وليّ الأمر، ووليّ الدم، فإن عفوتَ فلك، وإن قتلتَ فضربة مكان ضربة، ولا تأثم'. [ وسائل الشيعة 96:19].

وروى ابن الصبّاغ المالكي في "الفصول المهمّة": لمّا جي ء بابن ملجم في المسجد نظر إليه عليّ عليه السلام ثمّ قال: 'النفس بالنفس، إن أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمت رأيت رأيي فيه'. [ الفصول المهمّة: 134].

وروى في "الوسائل" عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه رحمه الله: 'أنّ عليّ بن أبي طالب لمّا قتله ابن ملجم قال: احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأحسنوا إساره، فإن عشتُ فأنا أوْلى بما صنع بى، إن شئت استقدت، وإن شئت عفوت، وإن شئت صالحت، إن متُّ فذلك إليكم، فإن بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثّلوا به'. [ وسائل الشيعة 96:19].

 

خلاصة من شرح حال عقيل وقصّته مع معاوية

نذكرها هنا لمناسبتها مع أخيه عليّ عليه السلام وعدالته. روى ابن أبى الحديد في شرحه: عقيل بن أبي طالب أخو أمير المؤمنين عليه السلام لاُمّه وأبيه، وكان بنو أبي طالب أربعة: طالب، وهو أسنّ من عقيل بعشر سنين، وعقيل، وهو أسنّ من جعفر بعشر سنين، وجعفر، وهو أسنّ من عليّ بعشر سنين، وعليّ وهو أصغرهم سِنّاً، وأعظمهم قدراً، بل وأعظم النّاس بعد ابن عمّه قدراً، ثمّ قال و ما ملخّصه: وكان أبو طالب يحبّ عقيلاً أكثر من حبّه سائر بنيه، وكان عقيل يكنّى أبا يزيد؟ اُخرج عقيل إلى بدر مُكرَهاً كما اُخرج العبّاس، فاُسرَ وفُدي وعاد إلى مكّة، ثمّ أقبل مسلماً مهاجراً قبل الحديبية، وشهد غزاة مؤتة مع أخيه جعفر، وتوفّي في خلافة معاوية في سنة خمسين، وعمره ستّ وستّون سنة، وله دار بالمدينة معروفة.

خرج إلى العراق، ثمّ إلى الشام، ثمّ عاد إلى المدينة، ولم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين عليه السلام شيئاً من حروبه أيّام خلافته، وعرض نفسه وولده عليه فأعفاه، ولم يكلّفه حضور الحرب، وكان أنسب قريش، وأعلمهم بأيّامها، كانت له طِنْفِسة تُطرحُ في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيصلّي عليها ويجتمع إليه النّاس في علم النسب وأيّام العرب، وكان حينئذٍ قد ذهب بصرهُ، وكان أسرع النّاس جواباً وأشدّهم عارضةً.

ثمّ قال ابن أبى الحديد: واختلف النّاس في عقيل، هل التحق بمعاوية وأمير المؤمنين حيّ؟ فقال قوم: نعم، ورووا أنّ معاوية قال يوماً وعقيل عنده: هذا أبو يزيد، ولولا علمه أنّي خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي، أسأل اللَّه خاتمة الخير.

وقال قوم: إنّه لم يُعد إلى معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام، واستدلّوا على ذلك بالكتاب الّذي كتبه إليه في آخر خلافته، والجواب الّذي أجابه عليه السلام، فقال ابن أبي الحديد: وهذا القول هو الأظهر عندي.

ثمّ قال: وروى المدائني، قال: قال معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب: هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال: نعم، جارية عُرضت علَيَّ، وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفاً، فأحبّ معاوية أن يمازحه، فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً وأنت أعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهماً؟

قال: أرجو أن أطأها فتلد لي غلاماً إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف، فضحك معاوية، وقال: مازحناك يا أبا يزيد، وأمر فابتيعت له الجارية الّتي أولد منها مسلماً، وساق الكلام إلى أن قال: وقال معاوية لعقيل: يا أبا يزيد، أين يكون عمّك أبو لهب اليوم؟ قال: إذا دخلت جهنّم فاطلبه تجده مضاجعاً لعمّتك اُمّ جميل بنت حرب بن اُميّة. [ شرح ابن أبي الحديد 252 - 250 :11].

اما قصة الحديدة المحماة

و في ذلك المجلس، سأل معاوية عقيلاً عن قصّة الحديدة المحماة المذكورة، فبكى، فقال: نعم أقويت وأصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم تندَ صفاتهُ، فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضرّ ظاهران عليهم، فقال: 'ائتيني عشيّةً لأدفع إليك شيئاً'، فجئته يقودني أحد ولدي، فأمره بالتنحّي، ثمّ قال: 'ألا فدونك'، فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع أظنّها صرّة، فوضعتُ يدي على حديدة تلتهب ناراً، فلمّا قبضتها نبذتها وخُرتُ كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال لي: 'ثكلتك اُمّك، هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا، فكيف بك وبي غداً إن سُلكنا في سلاسل جهنّم!'، ثمّ قرأ: 'إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ' [ سورة غافر: 71].

ثمّ قال: 'ليس لك عندي فوق حقّك الّذي فرضه اللَّه لك إلا ما ترى، فانصرف إلى أهلك'، فجعل معاوية يتعجّب، ويقول: هيهات هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله! [ شرح ابن أبي الحديد 253:11].