خاتمة

إذا أردنا استعراض نماذج لعدالة عليّ عليه السلام لاحتجنا إلى مزيد بحثٍ واستقصاء، وإنّما نقول: إنّ العدالة كانت نصب عينه، وملأت وجوده وكيانه، فقد كان الإمام عليه السلام يرى أنّه 'في العدل صلاح البريّة'. [غرر الحكم 402:4، ح 6491].

وقال عليه السلام: 'في العدل الاقتداء بسنّة اللَّه وثبات الدول'. [ المصدر المتقدّم: 403، ح 6496].

وقال عليه السلام: 'في العدل الإحسان'. [ المصدر المتقدّم: 401، ح6482].

وقال عليه السلام: 'العدل حياة، والجور هلاك'. [ غرر الحكم 64:1 و 57، ح 246 و 216].

لقد كان عليه السلام يسدّ جوعته بكسرة خبز يابسة، ويأتدم الملح، ليكون مستوى معيشته كأضعف النّاس، فإنّه يقول: 'إنّ اللَّه فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس كيلا يَتَبَيَّغَ بالفقير فَقرُهُ'. [ نهج البلاغة: الخطبة 209].

إنّ هذا السلوك لا يمكن أن يصدر من غير عليّ عليه السلام، فهو نتاج تربية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك بأنّ الرسول قد احتضنه طفلاً وربّاه كما في خطبته المعروفة بالقاصعة.

نعم، إنّ عدالة عليّ عليه السلام الّتي نشأت من العدل الإلهي وسعيه لتطبيقها قد أصبحت نموذجاً واضحاً لكلّ القادة وطلاب العدالة على مرّ القرون، ومصداقاً مشرقاً للإنسان المسلم المتكامل الّذي يستطيع أن يكون قدوة في جميع المجالات وخاصّة في مجال الحكومة، ونرى ذلك القدوة العظيمة يعرّف نفسه بقوله: 'إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ، يَسْتَضِي ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا. فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا، وَأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا'. [ نهج البلاغة: الخطبة 187].

وأخيراً اُشير إلى كلمة لجورج جُرداق يقول فيها: 'ما ضرّك أيّتها الأيّام لو جمعت قواك وطاقاتك فأنجبت في كلّ زمان إنساناً كعليّ عليه السلام في عقله وروحه ونفسه، في كلامه وبيانه، وفي قوّته وشجاعته'. [ الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة 49:1].

علي و المساواة أمام القانون

في كتاب له عليه السلام إلى بعض عمّاله حين اختطف بعض ما كان عنده من أموال المسلمين، قال: 'فَاتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْ إِلَى هؤُلَاءِ الْقَوْمِ امَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّهِ فِيكَ، وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلا دَخَلَ النَّارَ'. نهج البلاغة: الكتاب 41

الفرق بين القانون الإسلامي وغيره

امتاز قانون الإسلام عن غيره من القوانين الوضعيّة بأنّه لا يفرّق بين أفراد النوع الإنساني في سريان القوانين الحقوقيّة والجزائيّة عليهم، ولا فرق فيه بين الرئيس والمرؤوس، والراعي والرعيّة، والقويّ والضعيف، والعربي والأعجمي، والأبيض والأسود، والغني والفقير، بل القانون للجميع واحد، والحاكم واحد، والمحكمة أيضاً واحدة. نعم، مَن كان متّقياً ورعاً فإنّه يتمتّع بكرامة وقدسيّه ومنزلة معنويّة، إلا أنّ ذلك لا يؤثّر في سراية القانون عليه، قال اللَّه تعالى: 'إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ'. [ سورة الحجرات: 13].

وفي "تفسير القرطبي": عن أبي نضرة، قال: حدّثني أو حدّثنا مَن شهد خطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمنى في وسط أيّام التشريق، وهو على بعير، فقال: 'يا أيّها النّاس، ألا إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسودٍ على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلّغتُ؟'، قالوا: نعم، قال: 'ليبلّغ الشاهدُ الغائب'. [ تفسير القرطبي 342:16].

نعم، المراكز والمناصب في الإسلام لا تنال إلا بالقابليّات، ولا تمنح جزافاً، وأمّا القوانين فإنّها شاملة لجميع على حدّ سواء، ولا يوجب الاختلاف في النسب أو اللون أو الوطن أو اللغة أو المنصب تفاوتاً في المسؤوليّة أمامها.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'النّاس كأسنان المشط سواء'. [ من لا يحضره الفقيه 379:4، ح 5798].

وعنه أيضاً صلى الله عليه و آله: 'لَن تُقدّس اُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متعتع'. [ شرح نهج البلاغة للفيض: 1012، الكتاب 53. التقديس: التطهير. غير متعتع: أي غيرمضطرب].

وقد جسّد النبيّ صلى الله عليه و آله هذه المساواة حين طبّقها على نفسه في قصّته مع سوادة بن قيس في آخر عمره الشريف صلى الله عليه و آله، كما في الحديث التالي.

روى المحدث القمي في "سفينة البحار": إنّ سوادة بن قيس هو الّذي قال للنبيّ صلى الله عليه و آله في أيّام مرضه صلى الله عليه و آله: يا رسول اللَّه، إنّك لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء، وبيدك القضيب الممشوق، فرفعتَ القضيبت وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبيّ صلى الله عليه و آله أن يقتصّ منه، فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللَّه، فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللَّه من النّار يوم النّار.

فقال صلى الله عليه و آله: 'يا سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتصّ؟'، فقال: بل أعفو يا رسول اللَّه، فقال: 'اللّهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمّد'. [ سفينة البحار 671:1، حرف السين].

وفي صحيح البخاري: في كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحدّ بسنده: عن عروة، عن عائشة: أنّ قريشاً أهمّتهم المرأة المخزوميّة الّتي سَرَقَت، فقالوا: مَن يُكَلِّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وَمَن يجترئ عليه إلا اُسامة حِبُّ [ حِبّ - بكسر الأوّل -: حبيب].

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فكلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال رسول اللَّه: 'أتشفعَ في حدٍّ من حدود اللَّه؟'، ثمّ قام فخطب، قال: 'يا أيّها النّاسُ، إنّما ضلّ مَنْ قَبلَكُم إنّهم كانوا إذا سَرَق الشريف تَركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحدّ، وَأيمُ اللَّه، لو أنّ فاطمة بنت محمّد سَرَقَتْ لقطع محمّدٌ يدها'. [ صحيح البخاري بشرح الكرماني 189:23، ح 6386].

نماذج من مساواته أمام القانون

بعد ما مرّ من المقدّمة في امتياز قانون الإسلام عن سائر الفِرق، نعطف الكلام في ما يظهر من عمل عليّ بن أبي طالب عليه السلام في إجراء القانون، حتّى على نفسه عليه السلام وعلى المقرّبين منه، و قد صرح بذلك في كتاب له الى بعض عماله [ راجع نهج البلاغة: الكتاب 45 الى عثمان بن حنيف].

و في هذا المجال موارد كثيرة، وقد تعرّضنا في فصل: "عليّ عليه السلام والعدل" ما يناسب هذا الفصل أيضاً، ونشير هنا إلى نموذج منها توخّياً للاختصار:

قصة درعه الّذي كان عند النصراني

قال العقّاد في "عبقرية الإمام عليه السلام": انّ عليّاً عليه السلام وَجد دِرعه عند رجلٍ نصرانيّ، فأقبل به إلى شريح - قاضيه - يخاصمه مخاصمة رجل من عامّة رعاياه، وقال: 'إنّها درعي، ولم أبع، ولم أهب'. فسأل شريحُ النصرانيّ: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين عليه السلام؟!

قال النصراني: ما الدرعُ إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى عليّ عليه السلام يسأله: يا أمير المؤمنين، هل من بيّنة؟! فضحك عليّ عليه السلام وقال: 'أصابَ شريح، ما لي بيّنة!'، فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه، إلا أنّ النصراني لم يخط خطوات حتّى عاد يقول: أمّا أنا فأشهدُ أنّ هذه أحكام أنبياء اللَّه، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه يقضي عليه!! أشهد أن إله إلا اللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه، والدرع واللَّه درعك يا أمير المؤمنين، أتبعث الجيشَ وأنتَ منطلق إلى صفّين، فخرجت من بعيرك الأورق، فقال: 'أما إذا أسلمتَ فهي لك'، وشهد النّاس هذا الرجل بعد ذلك وهو من أصدق الجند بلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان. [ عبقرية الإمام: 46، و سيأتي صور القصة في فصل 'سيرته "ع" مع أهل الذمة' و 'اصحابه الكرام'].

قصة النجاشي وشرب الخمر

في تعليقات الغارات، عن عوانة بن الحكم، قال: خرج النجاشي في أوّل يوم من رمضان، فمرّ بأبي سمّاك الأسدي، وهو قاعد بفناء داره، فقال له: أين تريد؟ قال: اُريد الكناسة، قال: هل لك في رؤوس وأليات قد وضعت في التنور من أوّل الليل فأصحبت قد أينعت وتهرّأت، قال: ويحك في أوّل يوم من رمضان؟ قال: دعنا ممّا لا نعرف [ في الغارات 902:2، عن كتاب الشعر والشعراء، قال أبو سماك: ما شهر رمضان وشوّال إلا واحد].

قال: ثمّ مه؟ قال: ثمّ أسقيك من شراب كالورس يطيِّب النفس، ويجري في العرق ويزيد في الطرق، يهظم الطعام ويسهّل للفدم الكلام.

فنزل فتغذّيا، ثمّ أتاه بنبيذٍ فشرباه، فلمّا كان من آخر النهار علت أصواتهما ولهما جارٌ يتشيّع من أصحاب عليّ عليه السلام، فأتى عليّاً عليه السلام فأخبره بقصّتهما، فأرسل إليهما قوماً فأحاطوا بالدار، فأمّا أبو سماك فوثب إلى دور بني أسد فأفلت، وأمّا النجاشي فاُتي به عليّاً عليه السلام، فلمّا أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين، ثمّ زاده عشرين سوطاً. فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا الحدّ فقد عرفته، فما هذه العلاوة الّتي لا تعرف؟

قال عليه السلام: 'لجرأتك على ربّك، وإفطارك في شهر رمضان'. [ الغارات 533:2].

ولمّا حدّ عليّ عليه السلام النجاشي غضب لذلك مَن كان مع عليّ من اليمانيّة، وكان أخصّهم به طارق بن عبداللَّه بن كعب بن اُسامة النهدي، فدخل على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء، حتّى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرتَ صدورنا، وشتّت اُمورنا، وحملتنا على الجادة الّتي كنّا نرى أنّ سبيل مَن ركبها النّار!

فقال عليّ عليه السلام: ''وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ'. [ سورة البقرة: 45].

يا أخا بني نهد، وهل هُو إلا رجلٌ من المسلمين انتهك حرمةً من حُرَم اللَّه، فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارته؟ إنّ اللَّه تعالى يقول: 'وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى'. [ سورة المائدة: 8].

[ الغارات 539:2].

 

اقاد عليّ قنبراً حينما تجاوز عن حدّ اللَّه تعالى

في "الكافي": عن الحسن بن صالح الثوري، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر قنبراً أن يضرب رجلاً حدّاً، فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط، فأقاده عليّ عليه السلام من قنبر ثلاثة أسواط. [ الكافي 260:7].

والأخبار فيما ظهر منه عليه السلام في مساواته النّاس أمام القانون كثيرة، ذكرنا بعضها في فصل: "عليّ عليه السلام والعدل"، منها استعارة بنت عليّ عقد لؤلؤ، واستقراض الحسن بن عليّ رطلاً من العسل، وغير ذلك من هذه الموارد.

سيرة عليّ في بيت المال

قال أبو حيّان التيمي عن مجمع: إنّ عليّاً عليه السلام كان يَكنس بيت المال كلّ يوم جمعة، ثمّ ينضحه بالماء، ثُمّ يصلّي فيه ركعتين، ثمّ يقول: تشهدان لي يوم القيامة'.

الغارات 46:1، والوسائل 83:11

كلمة حول سيرته في بيت المال

لمّا بايع النّاس عليّاً بالخلافة أعلن أن نُسمّيه في عصرنا الحاضر بالثورة الشاملة ضدّ الأوضاع الاجتماعيّة الّتي كانت على عهد عثمان، وعزمه الأكيد على تغيير الأوضاع الجديدة الّتي حيزت فيها الأموال بغير حقّ، والعودة إلى نظام المساواة الّذي قرّره الإسلام، وطبّقه رسول الإسلام صلى الله عليه و آله، ومن كلماته الشهيرة الّتي تُعبّر عن عزمه على ذلك قبل توليّه الخلافة قوله: 'لَو قد اسْتَوَتْ [ استوت قدماي: كناية عن تثبيت حكومته ودفع مخالفيه].

قَدَماي مِن هذِهِ المَدَاحِضِ [ المداحض: المزالق الّتي لا تثبت عليها القدم].

لَغَيَّرْتُ أشياءَ'. [ شرح نهج البلاغة: 1209، الحكمة 264].

هذه واحدة من كلماته عليه السلام الملتهبة بالأسف على الإسلام والمسلمين، حيث حرّفوا مجرى أحكام الدين، وغيّروا الحقائق باتّباع الهوى، أو سبب الجهل بها، وهو يتحرّق لهذا الانحراف والانعطاف الجاهلي الّذي يرجع بالإسلام القهقرى، ويوقف سيره نحو الدرجات العلى، فما لبث رويداً حتّى ظهر بأسهم بينهم، وتفرّقوا مذاهب شتّى.

وفي موقف آخر يبدي سخطه عليه السلام لاحتكار بني اُميّة الثروة الإسلاميّة، ويتوعّدهم قائلاً حين منعه سعيد بن العاص حقّه: 'إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَني [ ليفوقّونني: يعطونني من المال قليلاً كفواق الناقة، وهو الحلبة الواحدة من لبنها].

تُرَاثَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله تَفْوِيقاً، وَاللَّهِ! لَئِنْ بَقِيتُ لُهُمْ لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّام الْوِذَامَ [ الوذام: وهي الحزّة والقطعة من الكرش، أو الكبد، تقع في التراب فتنفض].

التَّرِبَةَ'. [ نهج البلاغة: الخطبة 77].

لقد كانت قطائع وأراضي جعلها عمر ملكاً خاصّاً لبيت المال، ثمّ جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وولاته وأهل بيته، فلمّا جاء عليّ عليه السلام ألغى تصرّفات عثمان هذه، وقرّر ردّها إلى ملكيّة الدول الإسلاميّة وحوزة بيت المال، وقال: 'وَاللَّهِ! لَو وَجَدتُهُ - المال - قَد تُزوِّج به النّساءُ، ومُلِكَ به الإماءُ لَرَدَدتُه، فإنّ في العَدلِ سعةٌ، ومَن ضاقَ عَليهِ العَدلُ فالجورُ عَلَيه أضيَق'. [ المصدر المتقدّم: الخطبة 15].

وفي العطاء أحدث عليه السلام تغييراً ثورياً لعلّه كان من أخطر التغيّرات الثوريّة الّتي قرّرها، والّتي أراد من خلالها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثوريّة الإسلاميّة الاُولى، والعطاء هو نظام قسمة الأموال العامّة بين النّاس، جنوداً كانوا أم غيرهم، وسواء كانوا من أصل عربيّ أو كانوا من الموالى، أو غير ذلك.

ولمّا جاء عمر بن الخطّاب ألغى نظام التسوية بين النّاس في العطاء، ثمّ كان عهد عثمان الّذي أقرّ القانون السابق، ثمّ سار على دربه أشواطاً وأشواطاً، حتّى أصبح الاختلاف الطبقي نظاماً بشعاً، بلغت بشاعته حدّاً جعل النّاس يثورون على عثمان، ثمّ انتهت ثورتهم بقتله وتولية عليّ عليه السلام أميراً على المؤمنين.

ومن هنا كان قرار عليّ عليه السلام بالعدول عن تمييز النّاس في العطاء والعودة إلى نظام المساواة قراراً من أخطر قراراته الثورية، ولذا اعترضوا على موقف عليّ عليه السلام، وكان أوّل مَن اعترض عليه عليه السلام طلحة بين عبداللَّه، والزبير بن العوّام، وعبداللَّه بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ورجال من قريش وغيرها، ولقد بلغوا في معارضتهم لقرار التسوية هذا حدّ نقض بيعتهم لعليّ عليه السلام، وإعلان الحرب عليه تحت ستار الطلب بدم عثمان، مع أنّهم هم الّذين تقدّموا النّاس في الثورة على عثمان؟!

ورغم ذلك فإنّ عليّاً عليه السلام ثبت على موقفه ولم يغيّر ما عزم عليه، ولذا لمّا عاتبه بعض أصحابه على التسوية في العطاء وطلبوا تمييزاً للبعض إرضاءً للخصوم، قال عليه السلام: 'أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ!'. ثمّ قال عليه السلام: 'أَ لَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَلَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ، وَكَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ. فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَأَ لْأَمُ خَدِينٍ'. [ نهج البلاغة: الخطبة 126، وهذا البحث مستفاد من دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة 136:1].

صور من سيرته في حفظ بيت المال

خطبة له في أوّل مبايعة النّاس له

1- روى الكليني في "روضة الكافي": عن محمّد بن جعفر العقبي، رفعه، قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: 'أيّها النّاس، إنّ آدمَ لم يلد عبداً ولا أمة، وإنّ النّاس كلّهم أحرارٌ، ولكنّ اللَّه خوّل بعضكم بعضاً، فمن كان له بلاء فصبر في الخير، فلا يمنّ به على اللَّه عزّ وجلّ، ألا وقد حَضَر شيء ، ونحن مسوّون فيه بين الأسود والأحمر'. فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما. قال: فأعطى كلّ واحدٍ ثلاثة دنانير، وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء غلام أسودٌ فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين، هذا غلام أعتقتُه بالأمس، تجعلني وإيّاه سواءً؟ فقال: 'إنّي نظرتُ في كتاب اللَّه، فلم أجد لولد إسماعيل على وُلد إسحاق فضلاً'. [ روضة الكافي: 57، ح 26].

2- وعنه أيضاً، وفي "الوسائل" وغيرهما: بسند صحيح عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'لمّا وَلي عليٌّ عليه السلام، صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّي واللَّه! لا أرزؤكم من فيئِكُم درهماً ما قام لي عذق بيثرب، فلتُصدّقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟'. قال: فقام إليه عقيلٌ رضى الله عنه، فقال له: واللَّه! لتجعلني وأسود المدينة سواءً؟ فقال عليه السلام: 'اجلس، أما كان هاهنا أحدٌ يتكلّم غيرك؟! وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى'. [ روضة الكافي: 158، ح 204، ووسائل الشيعة 79:11، وفي البحار 131:41].

اذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئاً إلا قسّمه

1- في "الاستيعاب" لابن عبدالبرّ المالكي: وإذا اُورد عليه مال لم يبق منه شيئاً إلا قسّمه، ولا يترك في بيت المال منه إلا ما يعجز عن قسمته في يومه ذلك، ويقول: 'يا دنياي غُرّي غيري'، ولم يكن يستأثر من الفي ء بشي ءٍ، ولا يخصُّ به حميماً ولا قريباً، ولا يخصّ بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات، وإذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه: 'قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ' [ سورة يونس: 57].

'فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ' [ اقتباس من سورة الأنعام: 152].

وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ' [ سورة الأعراف: 85].

'بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ' [ سورة هود: 85 و 86].

إذا أتاك كتابي هذا فاحفظ بما في يديك من عملنا حتّى نبعث إليك من يتسلّمه منك'، ثمّ يرفع طرفه إلى السماء فيقول: 'اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك ولا يترك حقّك'. [ الاستيعاب بهامش الاصابة 48:3].

2- وفي "أمالي الصدوق": بسنده عن أبي حمزة الثمالي، عن الأصبغ بن نباتة، أنّه قال: كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذا اُتي بالمال أدخله بيت مال المسلمين، ثمّ جمع المستحقّين، ثمّ ضرب يده في المال فنثره يمنة ويسرة، وهو يقول: 'يا صفراء يا بيضاء، لا تغرّيني، غُرّي غيري'.

'هذا جناي وخياره فيه*** إذ كلّ جان يده إلى فيه'

ثمّ لا يخرج حتّى يفرّق ما في بيت مال المسلمين ويؤتي كلّ ذي حقٍّ حقّه، ثمّ يأمر أن يكنس ويرشّ ثمّ يُصلّي فيه ركعتين، ثمّ يُطلّق الدنيا ثلاثاً، يقول بعد التسليم: 'يا دُنيا، لا تتعرّضين لي، ولا تتشوّقين [ كذا في المصدر والقياس: 'لا تتعرّضي ولا تتشوّقي'].

ولا تغرّيني، فقد طلّقتُكِ ثلاثاً لا رجعة لي عليك'. [ أمالي الصدوق - المجلس السابع والأربعون: ح 16].

3- وفي "كشف الغمّة" عن كتاب اليواقيت لأبي عمر الزاهد، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام وقد أمر بكنس بيت المال ورشِّه، فقال: 'يا صفراء، غُرّي غيري. يا بيضاء، غُرّي غيري. ثمّ تمثّل شعراً:

'هذا جناي وخياره فيه*** إذ كلّ جان يده إلى فيه'

[ كشف الغمّة - باب المناقب 221:1].

4- وفي "شرح ابن أبي الحديد"، قال: وهو - يعني عليّاً عليه السلام - الّذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلّي فيها، وهو الّذي قال: 'يا صفراء ويا بيضاء، غُرّي غيري'، وهو الّذي لم يخلّف ميراثاً، وكانت الدنيا كلّها بيده إلا ما كان من الشام. [ شرح ابن أبي الحديد 22:1].

5- وفي "الغارات": عن الضحّاك بن مزاحم، عن عليّ عليه السلام، قال: 'كان خليلي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يحبس شيئاً لغد، وكان أبو بكر يفعل، وقد رأى عمر بن الخطّاب في ذلك أن دَوَّن الدواوين وآخّر المال من سنة إلى سنة، وأمّا أنا فأصنع كما صنع خليلي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'.

قال: وكان عليّ عليه السلام يعطيهم من الجمعة إلى الجمعة، وكان يقول:

'هذا جناي وخياره فيه*** إذ كلّ جان يده إلى فيه'

[ الغارات 47:1، وسائل الشيعة 83:11].

6- وفي "الوسائل": عن هلال بن مسلم، عن جدّه، قال: شهدتُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام اُتي بمال عند المساء، فقال: 'أقسموا هذا المال؟'.

فقال: قد أمسينا يا أمير المؤمنين، فأخّره إلى غد، فقال لهم: 'تتقبّلون إنّي أعيش إلى غدٍ؟'. قالوا: وماذا بأيدينا؟ قال: 'فلا تؤخّروه حتّى تقسّموه'.

قال: فاُتي بشمع فقسّموا ذلك المال من غنائمهم. [ وسائل الشيعة 82:11].

7- وفي "الغارات": عن الشعبي [ في البحار وشرح النهج: 'العشفني' على ما في هامش الغارات 54:1].

قال: دخلت الرحبة وأنا غلام في غلمان، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قائماً على صبرتين من ذهب وفضّةٍ ومعه مخفقة [ المخفقة: الدرّة الّتي يُضرب بها].

فجعل يطرد النّاس بمخفقته، ثمّ يرجع إلى المال فيقسمه بين النّاس حتّى لم يبق منه شيء ، ورجع ولم يحمل إلى بيته منه شيئاً، فرجعت إلى أبي فقلت: لقد رأيتُ اليوم خير النّاس أو أحمق النّاس، قال: ومَن هو يا بُنيّ؟ قلت: رأيت أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام، فقصصت عليه الّذي رأيته يصنع، فبكى وقال: يا بُنيّ، بل رأيت خير النّاس. [ الغارات 53:1].

 

عليه خَلَقٌ قطيفة في فصل شتاء

وفي "الكامل في التاريخ"، و "كشف الغمّة": عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: دخلتُ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالخورنق، وهو فصل شتاء، وعليه خَلَقٌ قطيفة. وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ اللَّه قد جعل لكَ ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنتَ تفعل هذا بنفسك؟ فقال: 'واللَّه! ما أرزؤكم شيئاً، وما هي إلا قطيفتي الّتي أخرجتها من المدينة'. [ الكامل لابن الأثير 442:2، وتذكرة الخواص: 108، وفي كشف الغمّة - باب المناقب 230:1 نحوه].

بيعه سيفه ليشتري إزاراً منه

في "تذكرة الخواصّ" و"كشف الغمّة": وخرج عليّ ءعليه السلام يوماً ومعه سيفه ليبيعه، فقال عليه السلام: 'مَن يشتري منّي هذا السيف، فوالّذي فلَق الحبّة، لطال ما كشفت به الكرب عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولو كان عندي ثمن إزارٍ لما بعته'. [ كشف الغمّة 232:1، وتذكرة الخواص: 109].

وفي "الاستيعاب" لابن عبدالبرّ المالكي: روى الحديث بعينه عن أبي حيّان التيمي، عن أبيه، ثمّ زاد في آخره، فقام إليه رجل فقال: نسلفك عن إزار، قال عبدالرزّاق: وكانت بيده الدنيا كلّها، إلا ما كان من الشام. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 50:3].

 

قسّم رغيفاً سبعَ كسر بين المستحقّين

في "الغارات" و"الاستيعاب" لابن عبدالبرّ المالكي: عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: أتى عليّاً عليه السلام مال من أصفهان، فقسّمه سبعة أسباع، ووجد فيه رغيفاً فقسّمه سبع كسر، فجعل على كلّ جزء منه كسرة، ثمّ أقرع بينهم أيّهم يعطي أوّلاً، - وكانت الكوفة يومئذٍ أسباعاً -.

وقال ابن عبدالبرّ: وأخباره في مثل هذا من سيرته لا يحاط بها. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 49:3، والغارات 51:1، والكامل لابن الأثير 399:3، ولفظ الحديث من الاستيعاب].

وفي "الغارات": عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، أنّه قال: كنتُ عند عليّ عليه السلام فجاءه مال من الجبل، فقام وقمنا معه حتّى انتهينا إلى خربندجن [ خربندجن - خربنده: كلمة فارسيّة مركّبة من كلمتي: 'خرة' و 'بنده'، ومعناهما صاحب الحمار ومؤجّره ومكريه، وكلمة 'جن' في آخرها علامة الجمع الفارسي، أي 'خربندگان'].

وجمّالين، فاجتمع النّاس إليه حتّى ازدحموا عليه، فأخذ حبالاً فوصلها بيده، وعقد بعضها إلى بعض، ثمّ أدارها حول المتاع، ثمّ قال: لا أحلّ لأحدٍ أن يجاوز هذا الحبل.

قال: فقعدنا من وراء الحبل، ودخل عليّ عليه السلام فقال: 'أين رؤوس الأسباع؟'، فدخلوا عليه، فجعلوا يَحملون هذا الجوالق [ الجوالق: الأوعية، والمفرد جوالق أيضاً].

إلى هذه الجوالق، وهذا إلى هذا، حتّى قسّموه سبعة أجزاء، قال: فوجد مع المتاع رَغيفاً فكسره سبع كسر، ثمّ وضع على كلِّ جزءٍ كسرة، ثمّ قال:

'هذا جناي وخياره فيه*** إذ كلّ جان يده إلى فيه'

قال: ثمّ أقرع عليها: فجعل كلّ رجل يدعو قومه فيحملون الجوالق. [ الغارات 51:1].

اطعام الأحسن لغيره وأكل الأدون

في الغارات عن بكر بن عيسى، قال: كان عليّ عليه السلام يقول: 'يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجتُ من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن'. وكانت نفقته تأتيه من غلّته بالمدينة من ينبع، وكان يُعطم النّاس الخبز واللحم، ويأكل من الثريد بالزيت ويكلّلها [ وفي نسخة: 'يجلّلها'].

بالتمر من العجوة، وكان ذلك طعامه، وزعموا أنّه كان يقسّم ما في بيت المال فلا يأتي الجمعة وفي بيت المال شيء . ويأمر ببيت المال في كلّ عشيّة خميس، فيُنْضح بالماء، ثمّ يُصلّي فيه ركعتين، وزَعموا أنّه كان يقول، ويضع يده على بطنه: 'والّذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة لا تنطوي ثميلتي [ الثميلة - كسفينة -: البقيّة من الطعام والشراب في البطن].

على قلّة من خيانة، ولأخرجنّ منها خميصاً. [ المخمصة: المجاعة. يقال: خمص، إذا جاع، فهو خميص، مثل قرب فهو قريب].

[ الغارات 68:1].

 

سيرته في الصفراء والبيضاء

في الغارات عن هارون بن عنترة، عن زاذان، قال: انطلتُ مع قنبر إلى عليّ عليه السلام فقال: قُم يا أمير المؤمنين، فقد خبّأت لكَ خبيئة، قال: 'فما هو؟'. قال: قم معي. فقام وانطلق إلى بيته، فإذا باسنة [ الباسنة: جوالق غليظ من مشاق الكتّان].

مملوءة جامات من ذهب وفضّة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّك لا تترك شيئاً إلا قسمته، فادّخرت هذا لك. قال عليّ عليه السلام: 'لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً كثيرة'، فسلّ سيفه فضربها، فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه أو ثلثه، ثمّ قال: 'اقسموه بالحصص'، ففعلوا، فجعل يقول:

'هذا جناي وخياره فيه*** إذ كلّ جان يده إلى فيه

يا بيضاء، غُرّي غيري، ويا صفراء، غُرّي غيري'

قال: وفي البيت مسال [ المسلّة - بكسر الميم -: مخيط كبير، والجمع المسال].

وإبرٌ، فقال: 'اقسموا هذا'، فقالوا: لا حاجة لنا فيه، قال: وكان يأخذ من كلّ عامل ممّا يعمل، فقال: 'والّذي نفسي بيده لنأخذنّ شرّه مع خيره'. [ الغارات 55:1].

وقصّة عقيل مناسبة لهذا البحث، وقد ذكرناها في فصل: "عليّ عليه السلام والعدل"، فراجعها، وكذلك فإنّ كثيراً من قضايا العدل تناسب بحث بيت المال ومرتبطة به.

سيرة عليّ مع معارضيه في الحكومة

قال عليّ بن الحسين عليه السلام: 'دخلتُ على مروان بن الحكم، فقال: ما رأيت أحداً أكرم غلبة من أبيك، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه: لا يقتل مدبر، ولا يذفّف [ لا يذفّف على جريح: أي لا يسارع في قتله].

على جريح'. السنن الكبرى للعلامة البيهقي 181:8

كلمة في سيرته مع معارضيه في الحكومة

كان عليّ عليه السلام يمثّل نموذجاً حيّاً لحكومة العدل الإلهي، في كلّ المجالات، وعلى كلّ الأصعدة والجبهات؛ إذ أنّ مراعاة العدالة لا تنحصر لديه عليه السلام في تقسيم أموال بيت المال وحسب، كما لا تنحصر مع الأصدقاء دون غيرهم من النّاس، بل إنّه كان في الحرب والسلم، مع العدوّ والصديق، يسير بسيرة الرسول صلى الله عليه و آله العادلة.

لم يكن عليّ عليه السلام مستعدّاً لتجنّب مسير الحقّ لأجل هذه الدنيا الفانية حتّى مع ألدّ أعدائه وخصومه، فإنّه كان يقدّم رضى اللَّه جلّ وعلا على كلّ شيء ، ويعمل وفقاً للموازين الإلهيّة العدالة، وكان في تعامله مع معارضيه وأعدائه يأخذ بنظر الاعتبار بقاء الإسلام وديمومته لابقائه هو وحسب، ولو كان يريد البقاء لتعامل مع معارضيه كما تعاملوا هم معه ومع ذرّيّته وأولاده عليهم السلام، ولو كان يريد البقاء لاستأصلهم واستخدم أقصى أساليب القمع والإرهاب ضدّهم من نفي وطرد وإبعاد وسجن، ولخنق أصواتهم أو لأمالهم إليه بالمال والترغيب... أبى عليه السلام أن يعمل ذلك أو غيره وما كان يعمل بهم إلا بما أملته عليه مبادئ الإسلام ولم ينحرف عن صراطه المستقيم قيد أنملة.

في هذا الفصل سنتطرّق إلى موقفه عليه السلام مع معارضيه وأعداء حكومته عليه السلام؛ ذلك الموقف الّذي نوّر صفحات التأريخ ووجه الإسلام، يتجلّى فيه موقف الإسلام من الغير بأبهى صوره.

إنّه عليه السلام قبل أن تشرع حرب الجمل أبدى النصيحة لمخالفي حكومته، وحين لم تنفع معهم، لم يبدأ الحرب حتّى بدؤوه بالقتال، وحين انتصر عليهم عفا عنهم وعن أموالهم، وسيّر رئيسة المعركة المخالفين أعنى عائشة معزّزة مكرّمة إلى المدينة.

ومرّة اُخرى تبرز عظمة عليّ عليه السلام في موقفه مع أعدائه في صفّين حين ملك الماء عليهم وماحرمهم منه في الوقت الّذي كان قادراً على ذلك، ورغم أنّهم حرموه منه قريباً.

وتظهر عظمته عليه السلام مرّة اُخرى في موقفه الرجولي مع أهل النهروان؛ إذ دعاهم إلى الكوفة مراراً، وأبلغ وجاهد في النصيحة لهم، رغم أنّهم قد قتلوا أصحابه ظلماً وعدواناً، كما أنّه لم يقطع عطاءهم من بيت المال، وحينما يواجهونه بالإهانة في مسجد الكوفة كان يبالغ في النصيحة. وحينما تواقفوا للحرب لم يشرع في حربهم حتّى شرعوا في حربه عليه السلام، وأمثال هذه المواقف كثيرة لا يبلغها الإحصاء.

فداك نفسي وأبي واُمّي وولدي يا أبا الحسن.. أين نجد مثلك في العدل والإحسان والحقّ؟.. بل ليت الحكومات الإسلاميّة تطبّق ولو ذرّة من اُسلوبك في الحكومة، ولم يسوّدوا وجه الإسلام الناصع بأعمالهم الشنيعة المخالفة لمبادئه الحقّة.

ما قيل في سيرته مع معارضيه في الحكومة

في هذا الباب سيبدو لنا عليّ عليه السلام في سيرته مع مخالفيه بشكل لم يشهده عالم اليوم ولا في المستقبل، فلنسمع ذلك من غير شيعته ومواليه:

قال ابن أبي الحديد في شرحه

كان عليّ عليه السلام لا يستعمل في حربه إلا ما وافق الكتاب والسنّة، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة، كما يستعمل الكتاب والسنّة، ويستعمل جميعَ المكائد، حلالها وحرامها، يسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى رتبيل [ رتبيل: صاحب الترك].

وعليّ عليه السلام يقول: 'لا تبدؤوهم بالقتال حتّى يبدؤوكم، ولا تتّبعوا مدبراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تفتحوا باباً مغلقاً'، هذه سيرته في ذي الكلاع، وفي أبي الأعور السُّلمي، وفي عمرو بن العاص، وحبيب بن مَسلمَة، وفي جميع الرؤساء، كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسَّفلة وأصحاب الحروب - إلى أن قال: - فعليّ عليه السلام كان مُلجماً بالورع عن جميع القول، إلا ما هو للَّه عزّ وجلّ رضاً، وممنوع اليدين من كلّ بطش، إلا ما هو للَّه رضاً، ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه اللَّه ويحبّه، ولا يرى الرضا إلا فيما دلّ عليه الكتاب والسنّة دون ما يعوّل عليه أصحاب الدهاء والنكراء والمكائد والآراء، الحديث. [ شرح ابن أبي الحديد 228:10].

و قال العلامة أبو منصور التيمي البغدادي

وما قاتل عليّ عليه السلام أصحاب الجمل وأهل صفّين ليسلموا، وإنّما قاتلهم لبغيهم عليه عليه السلام؛ لذلك قال لأصحابه: 'لا تبدؤوهم بقتال حتّى يبدؤوكم'، ونهى عن اتّباع من أدبر منهم، وعن أن يذفّف على جريح منهم. [ اُصول الدين لأبي منصور التيمي البغدادي: 284، نقلاً عن الإحقاق 550:8].

 

وقال القاضي أبو يوسف في كتاب "الخراج"

أنّ الصحيح عندنا من الأخبار عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه لم يقاتل يوماً قطّ من أهل القبلة ممّن خالفه حتّى يدعوهم، وأنّه لم يتعرّض بعد قتالهم وظهوره عليهم لشي ء من مواريثهم ولا لنسائهم ولا لذراريهم، ولم يقتل منهم أسيراً، ولم يذفّف منهم على جريح، ولم يتّبع منهم مدبراً. [ الخراج للقاضي أبي يوسف: 215].

وقال البيهقي في "السنن الكبرى"

بسنده عن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب: أنّ عليّاً عليه السلام لم يقاتل أهل الجمل حتّى دعا النّاس ثلاثاً، حتّى إذا كان اليوم الثالث دخل عليه الحسن والحسين عليهماالسلام وعبداللَّه بن جعفر رحمه الله فقالوا: قد أكثروا فينا الجراح، فقال: 'يابن أخي، واللَّه ما جهلت شيئاً من أمرهم، إلا ما كانوا فيه'، وقال: 'صبّ لي ماء'، فصبّ له ماء فتوضّأ به ثمّ صلّى ركعتين، حتّى إذا فرغ رفع يديه ودعا ربّه، وقال لهم: 'إن ظهرتهم على القوم فلا تطلبوا مدبراً، ولا تجيزوا على جريح، وانظروا ما حضرت به الحرب من آنية [ في نسخة: 'آيته'].

فاقبضوه، وما كان سوى ذلك فهو لورثته'.

وقال: قال الداروردي: أخبرنا جعفر عن أبيه: أنّ عليّاً عليه السلام كان لا يأخذ سلباً، وأنّه يباشر القتال بنفسه، وأنّه كان لا يذفّف على جريح ولا يقتل مدبراً. [ السنن الكبرى 181:8].

 

وقال الطبري بإسناده عن محمّد بن راشد، عن أبيه

قال: كان من سيرة عليّ عليه السلام أن لا يقتل مدبراً، ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف ستراً، ولا يأخذ مالاً، فقال قوم يومئذٍ: ما يُحلّ لنا دماءهم، ويحرّم علينا أموالهم؟ فقال عليه السلام: 'القوم أمثالكم، من صفح عنّا فهو منّا ونحن منه، ومَن لجّ حتّى يصاب فقتاله منّي على الصدر والنحر وأنّ لكم في خمسه لغنى' فيومئذٍ تكلّمت الخوارج. [ تاريخ الطبري 545:3].

وقال جورج جرداق

في كتاب "الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة" في وصف أمير المؤمنين عليه السلام: ومروءة الإمام أندر من أن يكون لها مثل في التأريخ، وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ.

منها: أنّه أبى على جنده - وهم في حال من النقمة والسخط - أن يقتلوا عدوّاً تراجع، وأن يتركوا عدوّاً جريحاً فلا يسعفوه، كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً أو أن يأخذوا مالاً.

ومنها: أنّه صلّى في وقعة الجمل على القتلى من أعدائه وسأل لهم الغفران، وأنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الّذين يتحيّنون الفرص للتخلّص منه، وهم: عبداللَّه بن الزبير، ومروان بن الحكم، و سعيد بن العاص، عفا عنهم وأحسن إليهم، وأبى على أنصاره أن يتعقّبوهم بسوء وهم على ذلك قادرون.

ومن حوادث المروءة أنّ عليّاً عليه السلام ظفر بعمرو بن العاص - وهو لا يقلّ خطراً عليه من معاوية بن أبي سفيان - فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته ويستمرّ في مؤامراته ضدّه؛ لأنّ عَمْراً هذا رجاه على اُسلوب خاصّ [ وهو الكشف عن عورته حينما أجهز عليه أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين].

أن يعفو عنه، وقد أصبح ذو الفقار فوق هامته، ولو قضى عليّ عليه السلام على عمرو آنذاك لكان قضى على المكر والدهاء وجيش معاوية.

وفي معركة صفّين حاول معاوية وجماعته أن يميتوا عليّاً عطشاً، فحالوا بينه وبين الماء زمناً وهم يقولون له: ولا قطرة حتّى تموت عطشاً، ولكن ما كان من أمره وأمر جيش معاوية بعد ذلك، كان أن حمل عليهم الفارس العظيم فأجلاهم عن الماء، ثمّ أتاح لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وهو لو منع عنهم الماء لانتصر عليهم، واضطرّهم على التسليم خشية الموت ظمأً.

وعرف مرّة أنّ رجلين من أنصاره ينالان من عائشة في موقعة الجمل الّتي أدارتها عائشة للقضاء عليه، فأمر بجلدهما مائة جلدة، ثمّ أقبل على عائشة بعد انتصاره في هذه الموقعة وودّعها أكرم وداع، وسار هو نفسه في ركابها أميالاً، ثمّ أوصى بها وأرسل من يخدمها ويخفّف بها ويوصلها إلى المدينة مكرّمة محترمة.

قيل: إنّه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبدالقيس عمّمهنّ بعمائم الرجال، وقلّدهنّ السيوف، فلمّا كانت عائشة ببعض الطريق ذكرت عليّاً بما لا يجوز أن يُذكر به، وتأفّفت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الّذين وكّلهم بي، فلمّا وصلت إلى المدينة ألقى النساء عمائمهنّ، وقلن لها: نحن نسوة. [ الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة 82:1].

 

موارد ما ظهر من سيرته مع مخالفيه

فقد ذكرنا من كتب التواريخ ما يظهر من حسن سيرته مع مخالفيه فى الصلح و الحرب ولكن هنا نذكر بشرح هذه الموارد و تفصيلها مع التوخى عن التطويل الملل.

سيرته مع من محاربيه يوم الجمل

رواية البيهقي عن جويريه

في "السنن الكبرى" للحافظ البيهقي: بإسناده عن يحيى بن سعيد، قال: حدّثني عمّي أو عمّ لي، قال: لمّا تواقفنا يوم الجمل، وقد كان عليّ عليه السلام حين صفّنا نادى في النّاس: لا يرمينّ رجل بسهم، ولا يطعن برمح، ولا يضرب بسيف، ولا تبدؤوا القوم بالقتال، وكلّموهم بألطف الكلام'. وأظنّه قال: 'فإنّ هذا مقام من فلج فيه، فلج [ الفلج - بوزن الفلس -: الفوز والظفر].

يوم القيامة'. [ السنن الكبرى 180:8].

قول القاضي أبي يوسف

وفي "الخراج" لأبي يوسف، قال: حدّثنا بعض المشيخة عن جعفر بن محمّد، عن أبيه: 'أنّ عليّاً عليه السلام أمر مناديه فنادى يوم البصرة: لا يتّبع مدبر، ولا يذفّف على جريح، ولا يُقتل أسير، ومَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، قال: ولم يأخذ من متاعهم شيئاً'. [ الخراج لأبي يوسف: 215].

 

قول ابن أبي الحديد

وقال ابن أبي الحديد في شرحه: وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيف، وشتموه ولعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتّبع مولٍّ، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، ومَن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل، ولكنّه أبى إلا الصفح والعفو، وتقيّل سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة، فإنّه عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تُنس. [ شرح ابن أبي الحديد 23:1].

وفي "مستدرك الوسائل" عن "أمالي المفيد": بسنده عن حبّة العرني، قال في حديث: فلمّا كان يوم الجمل وبرز النّاس بعضهم لبعض - إلى أن قال: - فولّى النّاس منهزمين، فنادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام: 'لا تجيزوا على جريح، ولا تتّبعوا مدبراً، ومَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن'. [ مستدرك الوسائل 251:2].

سيرته مع أسرى يوم الجمل

في "مستدرك الوسائل" عن "دعائم الإسلام"

وإذا انهزم أهل البغي وكانت لهم فئة يلجئون إليها طلبوا، وأجهز على جرحاهم، واتّبعوا وقتل ما أمكن أتباعهم وقتلهم، وكذلك سار أمير المؤمنين عليه السلام في أصحاب صفّين؛ لأنّ معاوية كان وراءهم، وإذا لم يكن لهم فئة لم يطلبوا ولم يجهز على جرحاهم؛ لأنّهم إذا ولّوا تفرّقوا. وكذلك روينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سار في أهل الجمل لمّا قتل طلحة والزبير، وقبض على عائشة، وانهزم أصحاب الجمل، نادى مناديه: لا تُجهزوا على جريح، ولا تتّبعوا مدبراً، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، ثمّ دعا ببغلة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الشهباء فركبها، ثمّ قال: تعال يا فلان، وتعال يا فلان حتّى جمع إليه زهاء ستّين شيخاً كلّهم من همدان، قد أشكو الأترسة، وتقلّدوا السيوف، ولبسوا المغافر، فسار وهم حوله حتّى انتهى إلى دار عظيمة، فاستفتح، ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار، فلمّا نظرن إليه صحن صيحة واحدة، وقلن: هذا قاتل الأحبّه، فلم يقل لهنّ شيئاً، وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها، ودخل وسمع بينهما كلام يشبيه بالمعاذير لا واللَّه، وبلى واللَّه.

ثمّ أنّه صلى الله عليه و آله خرج فنظر إلى امرأة فقال لها: 'إليَّ يا صفيّة'، فأتته مسرعة، فقال عليه السلام: 'ألا تبعدين هؤلاء الكلبيات يزعمن أنّي قاتل الأحبّة، لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَن في هذه الحجرة، ومَن في هذه'، وأومأ بيده إلى ثلاث حجر، فذهبت إليهنّ، فما بقيت في الدار صائحة إلا سكنت، ولا قائمة إلا قعدت.

قال الأصبغ وهو راوى الحديث: وكان في إحدى الحجرات عائشة ومَن معها من خاصّتها، وفي الاُخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش، وفي الاُخرى عبداللَّه بن الزبير وأهله، فقيل للأصبغ: فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء، أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة، فلِمَ استبقيتموهم؟! قال: قد ضربنا بأيدينا إلى قوائم سيوفنا وحدّدنا أبصارنا نحوه عليه السلام لكي يأمرنا فيهم بأمر؟ فما فعل وواسعهم عفواً. [ مستدرك الوسائل 251:2].

 

ما فيه عن شرح الاخبار:

وفي المستدرك أيضاً، عن "شرح الأخبار" لصاحب الدعائم: عن موسى بن طلحة بن عبيداللَّه: وكان فيمن اُسر يوم الجمل وحبس مع مَن حبس من الاُسارى بالبصرة، فقال: كنت في سجن عليّ عليه السلام بالبصرة حتّى سمعت المنادي ينادي: أين موسى بن طلحة بن عبيداللَّه، قال: فاسترجعت واسترجع أهل السجن، وقالوا: يقتلك، فأخرجني إليه، فلمّا وقفت بين يديه، قال لي: 'يا موسى'، قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين، قال: 'قل: استغفر اللَّه'، قلت: استغفر اللَّه وأتوب إليه، ثلاث مرّات. فقال لمن كان معي من رسله: 'خلّوا عنه'. وقال لي: 'اذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع فخذه، واتّق اللَّه فيما تستقبله من أمرك، واجلس في بيتك'، فشكرت وانصرفت، وكان عليّ عليه السلام قد أغنم أصحابه ما أجلب [ اجلب به: أتى به في عسكره].

به أهل البصرة إلى قتاله، ولم يعرض لشي ء غير لورثتهم، وخمّس ما أغنمه ممّا أجلبوا به عليه، فجرت أيضاً بذلك السنّة. [ مستدرك الوسائل 252:2].

 

سيرته مع عائشة يوم الجمل

يشتري جملاً لعائشة لتخرج من البصرة إلى مكّة

في "تاريخ الطبري": بإسناده عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: لمّا فرغوا يوم الجمل أمرني الأشتر، فانطلقت فاشتريت له جملاً بسبعمائة درهم من رجل من مهرة، فقال: انطلق به إلى عائشة فقل لها: بعث به إليك الأشتر مالك بن الحارث؟ وقال: هذا عوض من بعيرك، فانطلقت به إليها، فقلت: مالك يقرئك السلام ويقول: هذا البعير مكان بعيرك، قالت: لا سلم اللَّه عليه؛ إذ قتل يعسوب العرب - تعني ابن طلحة - وصنع بابن اُختي ما صنع، قال: فرددته إلى الأشتر وأعلمته، قال: فأخرج ذراعين شعراوين، وقال: أرادوا قتلي فما أصنع [ تاريخ الطبري 545:3].

وما بعثه الأشتر إلى عائشة إلا كان بإذن مولاه وإمامه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

تجهيز عليّ عائشة من البصرة

وفي "تاريخ الطبري" أيضاً: عن محمّد بن أبي بكر وطلحة، قالا: وجهّز عليّ عليه السلام عائشة بكلّ شيء ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع، وأخرج معها كلّ مَن نجا ممّن خرج معها إلا مَن أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهّز - يا محمّد - فبلّغها، فلمّا كان اليوم الّذي ترتحل فيه جاءها حتّى وقف لها وحضر النّاس فخرجت على النّاس وودّعوها وودّعتهم، وقالت: يا بني تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة، فلا يعتدن أحد منكم على أحد بشي ء بلغه من ذلك، إنّه واللَّه ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنّه عندي على معتبتي من الأخيار.

وقال عليّ عليه السلام: 'أيّها النّاس، صدقت واللَّه وبرّت ما كان بيني وبينها إلا ذلك'.. و خرجت يوم السبت لغرّة رجب سنة 36 و شيَّعها عليٌ عليه السلام أميالاً و سرح بنيه معا يوماً. [ تاريخ الطبري 547:3].

ندامة عائشة بعد مراجعتها عن البصرة

عن العلامة سبط ابن الجوزي في "التذكرة"، قال: قال هشام بن محمّد: فجهّزها - أي عائشة - على أحسن الجهاز، ودفع لها مالاً كثيراً، وبعث معها أخاها عبدالرحمن في ثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من أشراف البصرة وذوات الدين من همدان وعبدالقيس، وألبسهنّ العمائم، وقلّدهنّ السيوف بزيّ الرجال، وقال عليه السلام لهنّ: 'لا تعلمنها إنّكنّ نسوة وتلثمنّ وكنّ حولها، ولا يقربنّها رجل'.

وسرن معها على هذا الوصف، فلمّا وصلت إلى المدينة قيل لها: كيف كان مسيرك؟ فقالت عائشة: بخير - واللَّه - لقد أعطى فأكثر، ولكنّه بعث رجالاً معي أنكرتهم، فبلغ ذلك النسوة، فجئن إليها وعرّفنها أنّهنّ نسوة، فسجدت وقالت: واللَّه - يابن أبي طالب - ما زددت إلا كرماً، وودت أنّي لم أخرج هذا المخرج، وأنّي أصابني كيت وكيت.

قال ابن الكلبي: وكانت إذا ذكرت يوم الجمل بكت، حتّى تبلّ خمارها وتأخذ بحلقها كأنّها تخنق نفسها، وكانت إذا ذكرت اُمّ سلمة تذكر نهيها لها وتبكي. [ وكانت اُمّ سلمة قد نصحت عائشة بعدم الخروج إلى عليّ عليه السلام، فخالفتها].

وقال هشام بن محمّد: إنّما ردّ عليّ عليه السلام عائشة إلى المدينة امتثالاً لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. [ تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 80].

وفيه أيضاً: أشار هشام إلى ما روى أحمد بن حنبل بسنده عن أبي رافع: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: 'سيكون بينك وبين عائشة أمر'، قال: 'فإذن أنا أشقاهم؟'، قال: 'لا، ولكن إذا جرى ذلك فارددها إلى مقامها'. قال هشام: فكانت عائشة تبكي بعد يوم الجمل وتقول: يا ليتني كنت نسياً منسيّاً، أي الحيضة الملقاة. [ تذكرة الخواص: 81].

 

كلامه بالبصرة حين ظهر على القوم

قال الشيخ المفيد رحمه الله في "الإرشاد": ومن كلامه عليه السلام بالبصرة بعد الحمد للَّه والثناء عليه، قال عليه السلام: 'أمّا بعد، فإنّ اللَّه ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة، وعفو جمّ، وعقاب أليم، قضى أنّ رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه، وبرحمته اهتدى المهتدون، وقضى أنّ نقمته وسطواته وعقابه على أهل معصيته من خلقه، وبعد الهدى والبيّنات ما ضلّ الضالّون، فما ظنّكم - يا أهل البصرة - وقد نكثتم بيعتي، وظاهرتم علَيَّ عدوّي'، فقام إليه رجل، فقال: نظنّ خيراً، ونراك قد ظفر وقدرت، فإن عاقبتَ فقد اجترمنا ذلك، وإن عفوت فالعفو أحبّ إلى اللَّه تعالى. فقال: 'قد عفوت عنكم، فإيّاكم والفتنة، فإنّكم أوّل الرعيّة نكث البيعة وشقّ عصا هذه الاُمّة'. قال: ثمّ جلس للنّاس فبايعوه. [ الإرشاد 257:1].

سيرته في صفّين بعد غلبته على الماء مع معاوية وأصحابه

قال عليّ عليه السلام في خطبة له لمّا غلب أصحاب معاوية أصحابه على شريعة الفرات بصفّين، ومنعوهم من الماء: 'قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ [ استطعموكم القتال: كلمة مجازيّة، ومعناها: طلبوا القتال منكم كأنّه جعل القتال شيئاً يستطعم، أي يطلب أكله].

فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ [ فأقرّوا على مذلّة وتأخير محلّة: أي أثبتوا على الذلّ وتأخّر المرتبة والمنزلة].

أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ. أَ لَا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً [ اللّمة - بالتخفيف -: الجماعة القليلة].

مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمْ الْخَبَرَ [ وعمس عليهم الخبر: أي أبهم عليهم الخبر وجعله مظلماً].

حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ [ الأغراض: جمع غرض، وهو الهدف].

الْمَنِيَّةِ'. [ نهج البلاغة: الخطبة 51].

قال ابن أبي الحديد: ولمّا ملك عسكر معاوية عليه الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم عليّ عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا - واللَّه - ولا قطرة حتّى تموت ظمأً كما مات ابن عفّان.

فلمّا رأى عليّ عليه السلام أنّه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملاتٍ كثيفة حتّى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذَريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماءَ لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء - يا أمير المؤمنين - كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب. فقال: 'لا - واللَّه - لا اُكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك'. فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام. [ شرح ابن أبي الحديد 23:1].

و في ذلك رواية عن عمرو عاص حيث قال لمعاوية: لمّا ملك أهل العراق الماء: ما ظنّك - يا معاوية - بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم أمس، أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه! ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوءة. فقال معاوية: دع عنك ما مضى، فما ظنّك بعليّ؟ قال: ظنّي أنّه لا يستحلّ منك ما استحللت منه، وإنّ الّذي جاء له غير الماء. قال: فقال معاوية قولاً أغضبه، فقال عمرو:

أمرتك أمراً فسخّفته*** وخالفني ابن أبي سرحه

[ يريد عبداللَّه بن سعد بن أبي سرح].

وأغمضت في الرأي إغماضةً*** ولم تَرَ في الحرب كالفسحه

فكيف رأيت كباش العراقِ*** ألم ينطحُوا جَمْعَنا نَطْحَه

فإن ينطحونا غداً مثلها*** فكن كالزبيريّ أو طَلحَه

أظنُّ لها اليومَ ما بعدَها*** وميعاد ما بيننا صُبحَه

وإن أخّروها لِما بعدَها*** فقد قَدَّموا الخبطَ والنَّفحَه

وقد شرب القوم ماء الفرات*** وقَلَّدكَ الأشتر الفَضحَه

[ شرح بن أبي الحديد 330:3].

عن نصر بن محمّد بن عبداللَّه، قال: فقال أصحاب عليّ له: امنعهم الماء - يا أميرالمؤمنين - كما منعوك. فقال: 'لا، خلّوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، سنعرض عليهم كتاب اللَّه وندعوهم إلى الهدى، فإن أجابوا وإلا ففي حدّ السيف ما يغني إن شاء اللَّه'. [ شرح بن أبي الحديد 330:3].

قال نصر: فواللَّه! ما أمسى النّاس حتّى رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام ورَواياهم ورَوايا الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسانٌ إنساناً. [ المصدر المتقدّم: 331].

 

سيرته مع اُسارى صفّين

رواية الدولابي عن يزيد بن بلال

كنز العمال و الاحقاق عن "الكنى والألقاب" بالاسناد عن يزيد بن بلال، قال: شهدت مع عليّ عليه السلام صفّين، فكان إذا اُتي بالأسير قال عليه السلام: 'لن أقتلك صبراً، إنّي أخاف اللَّه ربّ العالمين'، وكان إذا أخذ الأسير أخذ سلاحه، وحلّفه أن لا يقاتله، وأعطاه دراهم، ويخلّي سبيله. [ كنز العمّال 345:7، ح 31703؛ الاحقاق 662 / 8].

 

رواية البيهقي عن أبي فاختة

وعن "سنن البيهقي": عن أبي فاختة: أنّ عليّاً عليه السلام اُتي بأسير يوم صفّين، فقال: لا تقتلني صبراً. فقال عليّ عليه السلام: 'لا أقتلنَّك صبراً، إنّي أخاف اللَّه ربّ العالمين'، فخلّى سبيله، ثمّ قال: 'أفيك خير تبايع؟!'.

قال الشافعي: والحرب يوم صفّين قائمة ومعاوية يقاتل جادّاً في أيّامه كلّها منتصفاً أو مستعلياً [ في سنن البيهقي 182:8، قول الشافعي: 'ومعاوية يقاتل جادّاً' معناه أنّه كان يساويه مرّة في القتال ويعلوه اُخرى، قوله: منتصفاً عند نفسه لدعواه أنّه يطلب دم عثمان، ومستعلياً غيره؛ لعلمهم بأن عليّاً عليه السلام كان بريئاً من دم عثمان. راجع السنن الكبرى للبيهقي 182:8].

وعليّ عليه السلام يقول لأسير من أصحاب معاوية: 'لا أقتلك صبراً إنّي أخاف اللَّه ربّ العالمين'. [ السنن الكبرى للبيهقي 182:8].

سيرته مع الخوارج

إنّ بالإمكان الادّعاء بأنّ أيّة فئة لم تؤذ عليّاً عليه السلام بقدر ما آذته فئة الخوارج؛ إذ ملأوا قلبه قيحاً؛ وذلك أنّهم كانوا من شيعته، وعلى جباههم آثار السجود، إلا أنّهم وقفوا بوجه الإمام واتّخذوا التحكيم الّذي أصرّوا على تنفيذه ذريعة للخروج على عليّ عليه السلام...

لقد كان هؤلاء اُناساً متعصّبين في دينهم غير أنّهم جهلاء، فلم يكونوا على اتّصال بالأجانب، غاية ما هناك أنّهم فهموا الاُمور بغير وجهتها الصحيحة، وظنّوا بأفكارهم الساذجة أنّهم يبتغون بهذا الخروج وجه اللَّه تعالى!!

لقد أصرّ هؤلاء على عليّ عليه السلام أن يقرّ بأنّ التحكيم كان ذنباً، وعليه أن يتوب منه، ولم يكن عليّ عليه السلام ليعترف بأنّ هذا ذنب اقترفه، بل كان يراه خطأً سياسيّاً فُرض عليه واُجبر على قبوله في صفّين، ولم يرضَ الخوارج بهذا الرأي، ولذلك كانوا يعرِّضون بعليّ عليه السلام ويُصلّون فرادى في المسجد الّذي كان يُصلّي فيه جماعة.

وكانوا يتحرّكون في المسجد حينما يخطب، ويثيرون الضجّة ليفسدوا مجالسه العلمية، وإذا ما قرأ في الصلاة كانوا ينسبون إليه الكفر والشرك من خلال قراءتهم لبعض آيات القرآن...، غير أنّ عليّاً عليه السلام مثال الحقّ، ووارث علوم الأنبياء، والحاكم بالعدل، كان يصبر أمام هذه الإهانات والتعريضات، ومع أنّ السلطة وقدرتها كانت بيده إلا أنّه لم يبدِ أدنى ردّ فعل ضدّهم طمعاً في أن ينتبه هؤلاء من غفلتهم، ويتركوا طريق الانحراف الّذي اختاروه، ويعودوا إلى الصواب، ولئلا يراق دمٌ نتيجة هذه الأوضاع، ولذلك كان يَعظهم أحياناً، ويُجيبهم على اعتراضاتهم، ويبيّن لهم الحقيقة، ولم يخرجهم من المساجد، ولا قطع عنهم عطاءهم، وكان يقول لهم كما في مستدرك الوسائل عن "دعائم الإسلام": 'لكم عندنا خصال: لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفي ء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتّى تبدؤونا'، الحديث. [ مستدرك الوسائل 254:2].

لكنّ الكلام الحقّ الّذي كان يتفوّه به عليّ عليه السلام لم يُجد نفعاً مع هؤلاء، وبلغ بهم جهلهم وحمقهم أن يخرجوا على عليّ عليه السلام في أربعة آلاف، فاجتمعوا عند النهروان، وشنّوا حرباً غير مدروسة ضدّ عليّ عليه السلام، فاستأصالهم ولم ينجُ منهم إلا تسعة نفر، ولم يُقتل من جيش عليّ عليه السلام إلا تسعة شهداء. [ راجع: نهج البلاغة: الخطبة 59].

فلمّا انتهى الأمر هنا قال عليّ عليه السلام: 'لا تقتلوا الخوارج بعدي...'. [ المصدر المتقدّم: 141، الخطبة 60].

ومن أجل زيادة الإيضاح نورد نماذج من التصرّفات المشينة للخوارج مع عليّ عليه السلام لتتجلّى عظمة عليّ عليه السلام وصبره، وليكون درساً واُسوة للجميع.

مداراته الخوارج حينما اجتمعوا في الكوفة

روى الشارح الخوئي عن كتاب "صفّين": بسنده عن عمر مولى غفرة، قال: لمّا رجع عليّ من صفّين إلى الكوفة، أقام الخوارج حتّى جموا، ثمّ خرجوا إلى صحراء بالكوفة تسمّى حروراء، فتنادوا: لا حكم إلا للَّه ولو كره المشركون، ألا إنّ عليّاً ومعاوية أشركا في حكم اللَّه. فأرسل عليّ عليه السلام إليهم عبداللَّه بن عبّاس، فنظر في أمرهم وكلّمهم ثمّ رجع... وأرسل إليهم: 'ما هذا الّذي أحدثتم وما تريدون؟'. قالوا: نريد أن نخرج نحن وأنت ومن كان معنا بصفّين ثلاث ليال ونتوب إلى اللَّه من أمر الحكمين، ثمّ نسير إلى معاوية فنقاتله حتّى يحكم اللَّه بيننا وبينه؟! فقال عليّ عليه السلام: 'فهلا قلتم حين بعثنا الحكمين وأخذنا منهم العهد وأعطيناهموه ألا قلتم هذا حينئذٍ؟'. قالوا: كنّا قد طالت الحرب علينا، واشتدّ البأس، وكثرت الجراح، وكَلَّ الكراع [ الكراع من الدابّة: قوائمها، وهو اسم لجماعة الخيل أيضاً] والسلاح.

فقال لهم عليه السلام: 'أفحين اشتدّ البأس عليكم عاهدتم، فلمّا وجدتم الجمام [ الجَمَام: الراحة].

قلتم: ننقض العهد؟ إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يفي للمشركين، أفتأمرونني بنقضه؟'. فمكثوا مكانهم لا يزال الواحد منهم يرجع إلى عليّ عليه السلام، ولا يزال الآخر منهم يخرج من عند عليّ عليه السلام، فدخل الواحد منهم على عليّ عليه السلام بالمسجد، والنّاس حوله، فصاح: لا حكم إلا للَّه ولو كره المشركون، فتلفّت النّاس، فقال: لا حكم إلا للَّه ولو كره المتلفّتون، فرفع عليّ عليه السلام رأسه إليه، فقال: 'لا حكم إلا للَّه، ولو كره أبو حسن'، فقال عليه السلام: 'إنّ أبا حسن لا يكره أن يكون الحكم للَّه'، ثمّ قال: 'حكم اللَّه أنتظر فيكم'، فقال النّاس: 'هلا مِلتَ يا أمير المؤمنين على هؤلاء النّاس، فأفنيتهم؟ فقال: 'إنّهم لا يفنون، ا نّهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة'. [ شرح الخوئي 122:4، عن شرح ابن أبي الحديد].

صورة اخرى

نقل ابن أبي الحديد عن الطبري في التاريخ: أنّ عليّاً عليه السلام لمّا دخل الكوفة دخلها معه كثير من الخوارج، وتخلّف منهم بالنخيلة وغيرها خلق كثير لم يدخلوها، فدخل حُرقوص بن زهير السعدي، وزرعة بن البُرج الطائي - وهما من رؤوس الخوارج - على عليّ عليه السلام فقال له حُرقوص: تُبْ من خطيئتك، واخرج بنا إلى معاوية نجاهده. فقال له عليّ عليه السلام: 'إنّي كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم، ثمّ الآن تجعلونها ذنباً؟! أما إنّها ليست بمعصية، ولكنّها عجز من الرأي، وضعف في التدبير، وقد نهيتكم عنه'. فقال زرعة: أما - واللَّه - لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتُلنّك، أطلب بذلك وجه اللَّه ورضوانه؟! فقال له عليّ عليه السلام: 'بؤساً لك ما أشقاك! كأنّي بك قتيلاً تسفي عليك الرياح'. قال زرعة: وددت أنّه كان ذلك. الحديث. [ شرح ابن أبي الحديد 268:2، وراجع تاريخ الطبري 52:4].

صورة ثالثة: روى أبو جعفر الطبري، عن أبي رزين، قال: لمّا وقع التحكيم ورجع عليّ من صفّين رجعوا مباينين له، فلمّا انتهوا إلى النهر أقاموا به، فدخل عليّ في النّاس الكوفة، ونزلوا بحروراء، فبعث إليهم عبداللَّه بن عبّاس ولم يصنع شيئاً، فخرج إليهم عليّ عليه السلام فكلّمهم حتّى وقع الرضا بينه وبينهم، فدخلوا الكوفة، فأتاه رجل فقال: إنّ النّاس قد تحدّثوا أنّك رجعت لهم عن كفرك، فخطب النّاس في صلاة الظهر، فذكر أمرهم فعابه، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلا للَّه، واستقبله رجل منهم "هو ابن الكواء" واضع اصبعه فى اُذنيه، فقال: 'وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ' [ سورة الزُّمر: 65].

فقال عليّ عليه السلام: 'فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ' [ تاريخ الطبري 54:4، والآية من سورة الروم: 60].

فاليك لفظ الحديث:

علي وابن الكوّاء

ففي شرح الخوئي: عن أنس بن عيّاض المدني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليه السلام: 'أنّ عليّاً كان يوماً يؤمّ النّاس وهو يجهر بالقراءة، فجهر ابن الكوّاء من خلفه: 'وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ'، فلمّا جهر ابن الكوّاء من خلفه بها، سكت عليّ عليه السلام، فلمّا أنهاها ابن الكوّاء، أعاد عليّ عليه السلام فأتمّ قراءته، فلمّا شرع عليّ عليه السلام في القراءة أعاد ابن الكوّاء الجهر بتلك الآية، فسكت عليّ عليه السلام، فلم يزالا كذلك يسكت هذا ويقرأ هذا مراراً حتّى قرأ عليّ عليه السلام: 'فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ'. فسكت ابن الكوّاء وعاد عليّ عليه السلام إلى قراءته. [ شرح الخوئي 123:4].

نعوذ باللَّه من حماقة هؤلاء القوم ومن جرأتهم على خليفة المسلمين أمير المؤمنين وصيّ رسول اللَّه وابن عمّه وصهره وحجّة اللَّه على أرضه. اللّهمّ اجعل عاقبة أمرنا خيراً.

سماحته ومداراته لهم لمّا واقفهم بالنهروان

روى ابن أبي الحديد عن ابى العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد في "الكامل"، قال: لمّا واقفهم عليّ عليه السلام بالنهروان، قال: 'لا تبدؤهم بقتال حتّى يبدؤوكم'، فحمل منهم رجل على صفّ عليّ عليه السلام فقتل منهم ثلاثة، ثمّ قال:

اقتلهم ولا أرى عليّاً*** ولو بدا أوجرته الخطِّيا

فخرج إليه عليّ عليه السلام فضربه فقتله، فلمّا خالطه سيفه، قال: يا حبّذا الروحة إلى الجنّة، فقال عبداللَّه بن وهب: واللَّه! ما أدري إلى الجنّة أم إلى النّار؟! فقال رجل منهم من بني سعد: إنّما حضرتُ اغتراراً بهذا الرجل - يعني عبداللَّه - وأراه قد شكّ واعتزل عن الحرب بجماعة من النّاس، ومال ألفٌ منهم إلى جهة أبي أيّوب الأنصاري، وكان على ميمنة عليّ عليه السلام. فقال عليّ عليه السلام لأصحابه: 'احملوا عليهم، فواللَّه! لا يُقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة'، فحمل عليهم فطحنهم طحناً، قُتل من أصحابه عليه السلام ستة، وأفلت من الخوارج ثمانية. [ شرح ابن أبي الحديد 272:2].

وفي "مروج الذهب" في حديث: ثمّ قال عليه السلام: 'سيروا إلى القوم، فواللَّه! لا يفلت منهم إلا عشرة، ولا يُقتل منكم إلا عشرة'، فسار عليّ عليه السلام فأشرف عليهم وقد عسكروا بالموضع المعروف بالرميلة على ما قال لأصحابه.

فلمّا أشرف عليهم، قال: 'اللَّه أكبر، صدق "اللَّه و" رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتصافّ القوم، ووقف عليهم نفسه، فدعاهم إلى الرجوع والتوبة، فأبوا ورموا أصحابه، فقيل له: قد رمونا. فقال: 'كفّوا'، فكرّروا القول عليه ثلاثاً، وهو يأمرهم بالكفّ، حتّى اُتي برجل قتيل متشحّط بدمه، فقال عليّ عليه السلام: 'اللَّه أكبر، الآن حلّ قتالهم، احملوا على القوم'. فحمل رجل من الخوارج على أصحاب عليّ، فخرج فيهم وجعل يغشى كلّ ناحية ويقول:

أضربهم ولو أرى عليّاً*** ألبسته أبيض مشرفيّا

فخرج إليه عليّ عليه السلام وهو يقول:

'يا أيُّهذا المبتغي عليّاً*** إنّي أراك جاهلاً شقيّا

قد كنت عن كفاحه غنيّاً*** هَلُمّ فابرز هاهنا إليّا'

وحمل عليه عليّ عليه السلام، فقتله، الحديث. [ مروج الذهب للمسعودي 416:2].

و غير ذلك من مداراته عليه السلام مع معارضيه و تركناها لرعاية الاختصار و توخياً عن التطويل الممل.

سيرة عليّ مع أهل الذمّة

عن عليّ عليه السلام حين بلغه أنّ الرجل من جيش معاوية كان يدخل على امرأة ذمّيّة وينتزع خلخالها وسوارها أنّه قال: 'فلو أنّ امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً'. شرح نهج البلاغة، الخطبة 27.

سيرته مع أهل الذمّة بميزان الحقّ والعدل

لقد كان عليّ عليه السلام تلميذ دين الإسلام حقّاً، ورضع من ثدي النبوّة علماً، ورُبّي في حجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الولادة إلى آخر حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتعلّم حقائق الإسلام منه صلى الله عليه و آله، وهو وصيّه وخليفته ووارث علمه، فلا يتوقّع منه إلا أن يسير بسيرته صلى الله عليه و آله، وقد كان من سيرته الرفق باليهود والنصارى من أهل الذمّة، ويتعامل معهم كما يتعامل مع المسلمين تحت ظلّ حكومته بميزان الحقّ والعدل، وهذا هو منطق الشرع المبين الأنور، وعلينا وعلى حكّام الإسلام أن يسيروا بسيرته.

نبذة ممّا ظهر من سيرته مع أهل الذمّة

ممّا لا ريب فيه أنّ صفحات التاريخ مشرقة بالحكاية عن مروءة عليّ عليه السلام ورأفته وعفوه الّذي يبديه لمخالفيه ومعارضيه، وحتّى لاُولئك الّذين ناصبوه العداء، وقتلوا أصحابه ومقرّبيه، وجيّشوا الجيوش لمقاتلته، مستهدفين إضعاف حكومته وإسقاطها، إلى الحدّ الّذي أثار اعتراض أصحابه ومؤيّديه، وأذهل أعداءه ومخالفيه، وهو في كلّ ذلك يريد أن يفهم النّاس مبادئ الإسلام المحمّدي الأصيل، وأنّه يقاتل لأجل هداية المجتمع وإصلاح النّاس وليس لطلب السلطة والحكم عليهم، ولهذا فإنّه عليه السلام بلغ في مداراته لأعدائه حدّاً كلّفه التضحية بنفسه، فالمهمّ لديه بقاء الإسلام والعدالة فحسب لا بقاء نفسه، وسنشير أدناه إلى الموارد الظاهرة من سيرته في هذا الخصوص:

حزنه في ظلم جيش معاوية على ذمّيّة

قال عليّ عليه السلام - بعد ما انقضت وقعة صفّين واستولى معاوية على البلاد، وأكثر القتل والغارة في الأطراف -: 'وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ [ الرجل منهم: أي من جيش معاوية].

كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَة المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ [ المعاهدة: الذمّيّة].

فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا [ الحِجل - بالكسر وبالفتح وبالكسرين -: الخلخال].

وَقُلْبَهَا [ القُلب - بضمّتين -: جمع قُلْب - بالضمّ والسكون -: السوار المُصمت].

وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا [ الرعاث: ضرب من الخرز].

ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلا بِالاسْتِرْجَاعِ [ الاسترجاع: ترديد الصوت بالبكاء مع القول: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون].

وَالِاسْتِرْحَامِ. ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ [ الكلم - بالفتح -: الجرح].

وَلَاأُرِيقَ لَهُمْ دَمْ، فَلَوْ أَنْ امْرَءاً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً'. [ نهج البلاغة: الخطبة 27].

قال الشارح المعتزلي: هذه الخطبة من مشاهير خطبه عليه السلام، قد ذكرها كثير من النّاس، ورواها أبو العبّاس المبرّد في أوّل "الكامل"، وأسقط من هذه الرواية ألفاظاً وزاد فيها ألفاظاً، وقال في أوّلها: 'إنّه انتهى إلى عليّ عليه السلام أنّ خيلاً وردت الأنبار لمعاوية، فقتلوا عاملاً له يقال له: حسّان بن حسّان، فخرج عليه السلام مغضباً يجرّ رداءه، حتّى أتى النخيلة. [ النخيلة: اسم موضع خارج الكوفة].

واتّبعه النّاس، فرقى رُباوَة [ الرباوة: اسم لكلّ ما ارتفع من الأرض].

من الأرض، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه صلى الله عليه و آله، ثمّ قال: 'أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللَّه الذّ، وسيم الخسف' الخطبة. [ شرح ابن أبي الحديد 75:2].

 

مصاحبته رجلاً ذمّياً

عن ابن صدقة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ الباقر عليهم السلام، قال: 'إنّ عليّاً صاحب رجلاً ذمّيّاً، فقال له الذمّي: أين تريد يا عبد اللَّه؟ قال عليه السلام: اُريد الكوفة، فلمّا عدل الطريق بالذمّي عدل معه عليّ عليه السلام، فقال له الذمّي: أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال عليه السلام: بلى، فقال له الذمّي: فقد تركت الطريق؟ فقال عليه السلام: قد علمت، فقال له: فلِمَ عدلتَ معي وقد علمتَ ذلك؟ فقال له عليّ عليه السلام: هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيّنا، فقال له: هكذا قال؟ قال عليه السلام: نعم، فقال له الذمّي: لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا اُشهدك أنّي على دينك، فرجع الذمّي مع عليّ عليه السلام، فلمّا عرفه أسلم. [ البحار 53:41].

الانفاق على ذمّي عاجزٍ من بيت المال

في "الوسائل" عن "التهذيب": بسنده عن محمّد بن أبي حمزة، عن رجل بلغ به أمير المؤمنين عليه السلام، قال: مرّ شيخٌ مكفوفٌ كبيرٌ يسأل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'ما هذا؟'. قالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال'. [ وسائل الشيعة 49:11].